صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي - نصرة الثائر على المثل السائر

مناقشة رسالة لابن الأثير من عاشق إلى معشوق
قال: ومن ذلك وقعة كلفني بعض أصدقائي إملاءها عليه، وهي رقة من عاشق إلى معشوق ثم أخذ ف سردها وهي طويلة افتتحها بقول القائل:
وإذا قيل من تحبّ تخطا ... ك لساني وأنت في القلب ذاكا
فلما رأيته قد صدر الرسالة ببيت أبي تمام قلت: لعل هذا البارق تكون وراءه سقيا، ويتمسك بهذه الطليعة في اللطف على عادة مخاطبة العشاق وخضوعهم وذل سؤالهم في طلب الوصال أو شكوى الهجر أو رقة العتاب في إخلاف الوعد أو الميل إلى الضد، فإنه إن كانت الرقة واللطافة والاستكانة خلقت لشيء، فما أرى أحدا أولى بها من العشاق في هذه المقامات وما أحلى قول القائل:
يدير من كفّه مداما ... ألذ من غفلة الرقيب
كأنها إذ صفت وزفّت ... شكوى محبّ إلى حبيب
فما كان إلا أن قال بعد ذلك البيت: يا من لا أسميه ولا أكنيه، وأذكر غيره وهو الذي أعنيه لا تكن ممن أوتي ملك الملاحة فلم ينظر إلى زواله، وعرف مكانه من القلوب فجار في إدلاله، ولا تغتر بقول من رأى الحسن للإساءة ماحيا، واعلم أن اللاحي يقول: كفى بالتذلل لاحيا، وكثيرا ما يزول العشق بجنايات الصدود، والزيادة في الحد نقص في المحدود. وقد قيل: إن الحسن عليه زكاة كزكاة المال، وليست زكاته عند علماء المحبة إلا عبارة عن الوصال، وهذه صدقة تقسم على أربابها، ولا ينتظر أن يحول الحول في إيجابها، فهي مستمرة على تجدد الأيام، والمستحقون لها قسم واحد ولا يقال إنهم ثمانية أقسام، وهؤلاء هم المخصوصون بفك الرقاب، ورقبة العشق أشد أسرا من رقبة تتحرر بالكتاب. فاخرج يا مولاي من هذا الحق الواجب، وإلا فتأت لطالب منىً وأي مطالب، ولا تقل هذا غريم أكثر عد الليالي في مطله، وأعده والمواعيد زاد لمثله، فهذه سلعة قد عاملتني بها مرة ساخرا ومرة ساحرا، ومن الأقوال السائرة إن الغر تجعله التجربة ماهرا، ولعمري إن ممارسة الحب تجدد لصاحبه علما، وتبصرةً وإن كان كما يقال أعمى، وقد كذب القائل:
عرّصن للذي تحبّ بحب ... ثم دعه يروضه إبليس
فإن كانت الرياضة كما قيل لإبليس فما أراه صنعا في الذي صنع، وأراك استعصيت عليه استعصاء القارح وأنت جذع، ولا شك أنك تهدم ما يشيده من البناء، وأنك مستثنى في جملة من دخل في حكم الاستثناء، وأنا الآن له عائب، وعليه عاتب. فأين نفاثاته التي هي أخدع من الحبائل، وأين قوله لآتينهم عن الأيمان والشمائل، وأين جنوده المسترقة ما في السماء، التي تجري منهم مجرى الدماء. وكل هذا قد بطل عندي خبره، كما بطل عندي أثره، فإن أدركته النخوة بأني استهزأت بتصديق أفعاله، فليحلل معقول حاجتي هذه حتى أعلم أنه قادر على حل عقاله، وإلا فليخف راسه، وليمح وسواسه، وإن كان له عرش على البحر فليقوض من عرشه، وليعلم أن السحر ليس في عقده ونفثه ولكنه في الأصفر ونقشه، وها أنذا قد بعثت بما يجعل العزم محلولا والود مبذولا، وما أقول إلا أني بعثت معشوقا إلى معشوق، وكلاهما محله من القلب بل القلب من حبها مخلوق، وما أكرمه وهو وسيلة إلى مثله، وحسنه من حسنه وإن لم يكن شكله من شكله، وما وصفه واصف إلا كان ما رآه منه فوق ما رواه، ومن أغرب أوصفاه وأحسنها أنه لم ير ذو وجهين وجيها سواه، ولا جرم أنه إذا سفر في أمر تلطف في فتح أبوابه، وتناول وعره فبدله بسهمه وبعده فبدله باقترابه، ولو بعثت غيره لخفت أن لا يكون في سفارته صادقا، وأنه كان يمضي سفيرا ويعود عاشقا، فليس على الحسن أمانه، وفي مثله تعذر الخيانة، ولا لوم على العقول إذا نسيت هناك عزيمة رشدها، ورأت ما لا يحتمله كاهل جهدها، ومن ذا الذي يقوى درعه على تلك السهام، أو يروم النجاة منها وقد حيل بينه وبين المرام، وهذا الذي منعني إلا أن أرسل كيسا أو كتابا، فأحدهما يكون في السفارة محسنا والآخر على السر حجابا، والسلام إن شاء الله تعالى.
أقول: إنه لما فرغ من هذه الرسالة، أخذ على العادة في تفريط كلامه لما ابتدعه من ذكر الزكاة ووصف الدينار بمعنى الحديث، وأن الذي اتفق له لم يظفر به الحريري ولا سبق إليه وأقول: إنني ما سمعت ولا رأيت ولا أسمع ولا أرى بمن راسل محبوبه بمثل هذه الأشياء، وتهدد بأن العشق يزول بالصدود، والزيادة في الحد نقص في المحدود، وأن الوصال زكاة تجب عليك ولا تقل إنها في العام بل في كل وقت، فأخرج من هذا الحق الواجب عليك، ولا تقل إني غريم هين الطلب، فكم تسخر بي، فما أنا كما كنت والتجربة تجعل الغر ماهرا، ولكن المحب أعمى ثم أخذ في ذم إبليس وتأنيبه وتوبيخه، وأنه ليس بصاحب الوسوسة والإغواء والسحر إنما هو للدينار، وها أنا قد جهزت شيئاً من ذلك، وما بقي بعد أن أجهز المعشوق إلى المعشوق شيء. ثم أخذ يصف الدينار.
نعم هذه العبارة والتهديد تصلح أن تكون في حق عدو خرج من الصداقة إلى العداوة أو متول أكثر الظلم والفساد في البلاد والعباد، ولم يفده الإنذار ولا التحذير، أو عبد خرج عن طاعة مولاه ولم يخف سلطانه.
وما أظن هذا المعشوق إلا أنه كان قد عزم على زيارة هذا العاشق، فعارضه في الطريق الرسول بهذا الكتاب والدينار، فلما وقف عليها ورأى هذا الإنعام والمانة به عليه، كر راجعا بعد إن سب الرسول ومزق ثيابه، ونتف ذقنه وبصق في وجهه ولعن من أرسله، ومزق الرقعة شذر ومذر، وداس فتات الرقعة برجليه وقال ما عنده من العجر والبجر، وتفضل في حق كاتب الرسالة بما يستحقه، ورمى بالدينار الذي أرسله في الهواء. على أنه يكون في ذلك مختصرا، وأنه سكت عن ظلمه ولم يكن منتصرا.
أما وقف هذا على شعر المتيمين من العرب الذين خاطبوا أحبابهم وتوسلوا في طلب الوصال، وتلطفوا في طلب الرضا والمساعدة على الهوى. أكذا قال قيس بن ذريح وعبد الله بن العجلان النهدي وعروة بن حزام وأبو ذؤيب وقيس المجنون وجميل بثينه وكثير عزة. أكذا تغزل عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد والعباس بن الأحنف. أما سمع قول أبي الطيب:
زيدي أذىً مهجتي أزدك هوى ... فاجهل الناس عاشقٌ حاقد
وقول أبي فراس:
أساء فزادته الإساءة حظوةً ... حبيبٌ على ما كان منه حبيب
يعدّ عليّ الواشيان ذنوبه ... ومن أين للوجه الجميل ذنوب
وقول الآخر.
لئن ساءني أن نلتني بمساءةٍ ... لقد سرّني أني خطرت ببالك
وقول الآخر:
ويدلّ هجركم على ... أني خطرت ببالكم
أما سمع قول المعري:
لغيري زكاةٌ من جمالٍ فإن تكن ... زكاة جمالٍ فاذكري ابن سبيل
ما أحلى قول: فاذكري ابن سبيل إن أخرجت زكاة جمالك، لم يأمرها بصرفها إليه ولا أوجبها عليها بل قال: إن كان شيء، فاذكري ابن السبيل المستحق.
ومن هذا قول كثير عزة:
لئن كان يهدى برد أنيابها العلى ... لأفقر مني إنني لفقير
على أن معناه مشكل إذا تأملته حتى التأمل، وليس هذا مكان الكلام عليه. وما ألطف ابن سناء الملك في قوله:
وغانيةٍ لم تعد عشرين حجةً ... أقول لها قولا لديه صواب
عليك زكاةٌ فاجعليها وصالنا ... فعمرك في العشرين وهي نصاب
وقول ناصر الدين بن النقيب:
لقد وجبت عليك زكاة حسنٍ ... وفيه كمثل ما في المال حق
فلا تعدل به عني فاني ... لمصرفه الفقير المستحق
أما سمع بقول جميل بن معمر العذري.
لا خير في الحب وقفا لا تحركه ... عوارض اليأس أو يعتاده الطمع
لو كان صبرها أو عندها جزعي ... لكنت أعرف ما آتي وما أدع
وقول أبي الطيب:
وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ... وفي الهجر، فهو الدهر يخشى ويتّقي
وقول كشاجم:
لولا اطراد الصيد لم تك لذةٌ ... فتطاردي لي بالوصال قليلا
هذا الشراب أخو الحياة وما له ... من لذةٍ حتى يصيب غليلا
وقول العباس بن الأحنف:
وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروّع بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخطٌ ولا رضىً ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
وقول علية بنت المهدي:
وضع الحب على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج
أما سمع بقول محمد بن بشير الخارجي:
ولقد أردت الصبر عنك فعاقني ... علقٌ بقلبي من هواك قديم
يبقى على ريب الزمان وصرفه ... وعلى جفائك إنه لكريم
وما أحسن قول العباس بن الأحنف حين عنف أحبابه على المطل بالوصل:
كأن لم يكن بيني وبينكم هوى ... ولم يك موصولا بحبلكم حبلي
وإني لأستحيي لكم من محدّثٍ ... يحدث عنكم بالملالة والمطل
حكى الشبلي رحمه الله تعالى قال: رأيت يوم جمعة معتوها عند جامع الرصافة قائما عريان وهو يقول: أنا مجنون الله، أنا مجنون الله، فقلت: لم لا تدخل الجامع وتتوارى وتصلي؟ فأنشد يقول:
يقولون زرنا واقض واجب حقنا ... وقد أسقطت حالي حقوقهم عني
إذا أبصروا حالي ولم يأنفوا لها ... ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني
قلت أنا: وهذا نوع آخر غير هذا الذي نحن فيه، وطرق الجد غير طرق المزاح ومما قلت أنا:
وإذا تهتّك في الهوى سري غدا ... وتحدثت بصبابتي السمّار
أو قيل ذا المسكين أصل جنونه ... سحر العيون وما له أنصار
أيحل في شرع الهوى هذا ومن ... أفتى بأنّ دم المحب جبار
وعلمت أن هواك أصل بليّتي ... فعلى صدودك لا عليّ العار
أما سمع بما قنع به المحبون مثل جميل حيث يقول:
وإني لراضٍ منك يا بثن بالذي ... لو أيقنه الواشي لقرّت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد ماطله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله
وجحدر حيث يقول:
أليس الليل يجمع أمّ عمروٍ ... وإيانا فذاك بنا تدان
وتنظر للهلال كما أراه ... ويعلوهها النهار كما علاني
والآخر حيث يقول:
إلى الطائر النسر انظري كل ليلةٍ ... فإني إليه بالعشية ناظر
عسى يلتقي طرفي وطرفك عنده ... فنشكو جميعاً ما تجنّ الضمائر
وأبي العلاء المعري حيث يقول:
لاقاك في العام الذي ولّى ولم ... يسألك إلا قبلةً في القابل
إن البخيل إذا تمد له المدى ... في الجود هان عليه بذل النائل
وأما ذكره إبليس واستصراخه به وحثه على وسواسه وتزيين الباطل له، فإنه من الغريب أتراه ما علم أن المحب إذا قال لمحبوبه: ما يدعك تزورني وتحنو علي إلا إبليس بوسواسه أن المعشوق يمثل ذلك بين عينيه ويقول: إن هذه الأمور من فعل إبليس ومطاوعة الشيطان في إتباع المحرمات المحظورة، فيرجع إلى الهجران، ويتقمص شعار الجفا والصد والإعراض ويكون في ذلك كالنائم الذي أيقظه غيره من الغفلة.
قال بعضهم: كان لي صديق، وكان لا يحتشمني ولا أحتشمه، فقال لي يوماً: يا أخي قد علمت حبي لفلانه ولم أقدر منها على شيء قط وقد زارتني اليوم، وأحب أن تكون عندنا فإني لا أحتشمك. فأجبته إلى ذلك. فلما صرت إلى مكانه، وأخذت عيني الجارية فرأيت أحسن النساء. ثم إنا أفضنا في الأكل والشرب والحديث، وسألني صاحبي الغناء وكنت مجيدا فيه. وكأن الله تعالى أنساني جميع ما أحفظه إلا هذا الصوت:
من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا
فلما سمعته الجارية قالت: أحسنت والله أعده يا أخي فأعدته، فوثبت قائمة وقالت: أنا إلى الله تائبة، والله ما كنت لأفضح أخي وأرفع شنار أبي. فجهد الفتى في رجوعها فلم تفعل وخرجت. فقال لي: ويحك، ما حملك على ما صنعت؟ فقلت: والله ما هو شيء اعتمدته، ولكنه ألقي على لساني.
فانظر إلى فائدة ما ذكرته. والأنسب في طلب الوصال أن يقول: اسأل الله أن يعطف قلبك علي، ويلهمك اغتنام الأجر فيّ ويرزقك رحمتي لتدخل في الجنة كما غالط القائل محبوبه في قوله:
تجنّيت لي ذنبي ولم أك مذنبا ... وحمّلتني في الحب ما لا أطيقه
وما طلبي للوصل حرصٌ على البقا ... ولكنه أجرٌ إليك أسوقه
وكما غالط الآخر حيث قال:
قم بنا تفديك روحي ... نجعل الشك يقينا
فإلى كم يا حبيبي ... يأثم القائل فينا
وقد وقفت على بعض رسالة من كلام ابن سناء الملك وهو: وأنا والله في أمرك مغلوب والسبب أني أنا المحب وأنت المحبوب، ولا أتجالد عليك فأغرك، ولا أخون حبك ولا أقعقع عليك فأغشك وأغم قلبك، اعمل ما شئت فأنا الصابر، واقتل كيف شئت فأنا الشاكر، وقل لي فلي سمع يعشق قولك، والتفت تر آمالي ترفرف حولك، وافعل فأنت المعذور، واستطل فما أنا المضرور بل المسرور، وارجع إلى الود الذي بيننا فكل ذنب لك مغفور انتهى.
قلت: ولله الوزير أبو الوليد بن زيدون حيث يقول:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سرٌ إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعا حظّه مني، ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أنك إن حمّلت قلبي ما ... لا تستطيع قلوب الناس يستطع
ته أحتمل واستطل أصبر وعزّ أهن ... وولّ أقبل وقل أسمع ومر أطع
والآخر حيث قال:
هيهات لا جذب السّلوّ بمقودي ... أبدا ولا ظفر الملام بسلوتي
إقطع وصل أوصدّ عني عامدا ... طبع الغرام على هواك سجيّتي
ومحاسن الشوا حيث يقول:
أدين فما يندني أفيء فما يفي ... أكف فما يكفي أجود فما يجدي
تهنوا أهن جوروا أجر أوعدو أعد ... تسلوا أسل صولوا أصل هددوا أهدي
وحيث يقول أيضاً:
فديتك يا من تجنّى وصالا ... وأحرمني في هواه الوصالا
فللحسن فيك معانٍ بها ... تضل النساء وتلهي الرجالا
تروع تراعى تحابي تحبّ ... تعادي تعاد تولي توالى
يا من وقفت على فرط الضنى جسدي ... فيه، وقلبي على التعذيب والعنت
بن أدن قاطع أصل بح أخف شح أجد ... خن أوف جر أعدل اسخط أرض عش أمت
والوزير أبو شجاع فاتك حيث قال
يا ممرضا بتجنّيه وجفوته ... قلبي، ويا تاركي لحما على وضم
كن كيف شئت فإني لست أكره ما ... ترضى، ولو أن ما يرضيك سفك دمي
أعرض وعرض وجر واهجر وصدّ وصل ... واخشن ولن وارض واغضب واعف وانتقم
في كل حالٍ أنا الجاني المسىء وأن ... ت المحسن الحسن الأخلاق والشيم
وابن رواحة الحموي:
إن كان يحلو لديك قتلي ... فزد من الهجر في عذابي
عسى يطيل الوقوف بيني ... وبينك الله في الحساب
وهذا أكثر وأشهر من أن يستشهد له.
وأما إضافة السحر وعقده إلى إبليس، فإنه من العجب، والسحر والعقد إنما هما للآدميين ليستخدموا إبليس وجنوده، فالسحر للإنسان لا للشيطان.
وما أحلى قول.... حين استصرخ بإبليس تظرفا منه:
الخمر يا إبليس إن لم تقم ... وتوسع الحيلة في ردّها
لانفقت سوق المعاصي ولا ... أفلحت يا إبليس من بعدها
وأما دعواه في وصف الدينار بذي الوجهين وأنه لم يسبق إليه، فأول ما وصفه الحريري بذلك، فقال في مقاماته:
تبا له من خادعٍ مماذق ... أصفر ذي وجهين كالمنافق
يبدو بوضعين لعين الرامق ... زينة معشوق ولون عاشق
وقد جاء ذكر الدينار في مقامات البديع الهمذاني فقال: فاستصحب لي عدوا في بردة صديق، من نجار الصفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظفر، كدارة العين يحط ثقل الدين، وينافق بوجهين.
وما أحسن قول ناصر الدين بن النقيب ملغزا في الدينار:
أيّ شيءٍ تصبو الناس إليه ... صبوة العاشقين للمعشوق
ضربوه وعلقوه ولكن ... زاد عزا بالضرب والتعليق
وأما قوله: يمضي سفيرا ويعود عاشقا وليس على الحسن أمانة، فمأخوذ من قول أبي الطيب:
ما لنا كلنا جوٍ يا رسول ... أنا أهوى وقلبك المتبول
كلما عاد من بعثت إليها ... غار مني وخان فيما يقول
أفسدت بيننا الأمانات عينا ... ها وخانت قلوبهن العقول
ومن هنا أخذ الأرجائي أيضاً حيث قال:
قسماً لقد رجع النسيم عليلاً ... لما سرى مني إليك رسولا
فأتى لبرح هواك وهو مردد ... نفساً يسارقه الأنام طويلا
ورأى لحبك أنه قدخانني ... فغدا يجر من الحياء ذيولا
ومن هنا أخذ قول ابن سناء الملك أيضاً:
راح رسولا وجاءني عاشق ... وعاقه عن رسالتي عائق
وعادلا بالجواب بل بجوىً ... أخرسه والهوى به ناطق
ولكن الأرجاني تستر في سرقته.
قال في تعزية بزوجة توفيت ثم توفي ولدها،: أشجي التعازي ما أتبع فيه المفقود بمفقود، لا سيما إذا جمع بين سعد الأخبية وسعد السعود ثم قال ولم يوفهما حقهما من بكى ولا من ندب، ولا من شعر ولا من كتب، وليت فدي أحدهما بصاحبه فعاش درهما المفدي بالذهب ...
ثم ساق باقي الرسالة وهي طويلة غثه سمجة، إلا أنه بعد الفراغ منها أخذ يطنطن ويدندن في قول سعد الأخبية وسعد السعود وأنهما منزلتان من منازل القمر، ويعجب من هذا الاتفاق.



* نصرة الثائر على المثل السائر
المؤلف: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (المتوفى: 764هـ)


.

صورة مفقودة
 
أعلى