إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، أبو إسحاق الحصري - نور الطرف ونور الظرف

فقال إبراهيم: أمرت أصلحك الله بسداد، وحضضت على رشاد، ولست عائد لما يثلم قدري عندك، ويسقطني من عينك، ويخرجني من مقدار الواجب إلى الاعتذار، فها أنا ذا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه، باخع بجرمه، لأن الغضب لا يزال يستفز بمواده، فيردني مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندك وعندنا منك، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد جعلت حقي في هذا العقار ليختيشوع، فليت ذلك يكون وافياً بأرش الجناية عليه، ولم يتلف مال أفاد موعظة، وبالله التوفيق.
وفضل إبراهيم بن المهدي أشهر من أن يذكر، وكانت أخته عليه تعدل بكثير من أفاضل الرجال، في فضل العقل وحسن المقال، ولها شعر رائق وغناء رائع، وهي القائلة:
اشرب على ذكر الغزا ... ل الأغيد الحلو الدلال
اشرب عليه وقل له ... يا غل ألباب الرجال
أبقيت جسمي ناحلاً ... وسكنت في ظل الحجال
وبلغت مني غاية ... لم أدر فيها ما احتيالي

وقالت، ولها فيه لحن:
يا عاذلي قد كنت قبلك عاذلاً ... حتى بليت فصرت صباً ذاهلاً
الحب أول ما يكون جهالة ... فإذا تفرع صار شغلاً شاغلا

وقالت:
وضع الحب على الجور فلو ... أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستحسن في وصف الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج
وقليل الحب صرفاً خالصاً ... لك خير من كثير قد مزج

كأنها ذهبت في البيت الأول إلى قول العباس بن الأحنف:
وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب

وزاد منصور بن سلمة النمري في هذا فقال:

راحتي في ملامة العذال ... وشفائي سؤالهم عن حالي
لا يطيب الهوى ولا يحسن الح? ... ب لخلق إلا بخمس خصال
بسماع الأذى وعذل نصيح ... وعتاب وهجرة وتقال

وأنشد كشاجم لابن الرومي:

لولا اطراد الصيد لم تك لذة ... فتطاردي لي بالوصال قليلا
هذاالشراب أخو الحياة وماله ... من لذة حتى يصيب غليلا

وأنشد الأصمعي:

لا خير في الحب وقفاً لا تحركه ... عوارض اليأس أو يرتاحه الطمع
لو كان لي قلبها أو عندها جزعي ... لكنت أملك ما آتي وما أدع
إذا دعا باسمها داع ليحزنني ... كادت له شعبة في مهجتي تقع
لا أحمل اللوم فيها والغرام بها ... ما حمل الله نفساً فوق ما تسع

وسمعت أم جعفر، زبيدة بنت جعفر، علية تغني في شعر العباس بن الأحنف:

عندي مثالك لعبة عاجية ... لو كان يقنع بالشبيه متيم
فإذا فقدتك ساعة كلمتها ... لكنها خرساء لا تتكلم
وإذا بكيت حسبتها تبكي معي ... وإذا ضحكت حسبتها تتبسم
فأمرت أم جعفر فصنعت لها لعبة من عاج، وكتبت على صدرها أبيات العباس، وأهدتها إلى الرشيد، فما زال يشرب عليها بقية ليلته، فلما أصبح سألها عن القصة، فأخبرته، فأحضر علية فغنته بالشعر فجدد صبوحاً، ولم يمر له يوماً أطيب من يومه.

وخرج الرشيد إلى الري ومعه علية، فلما صرا بالمرج عملت شعراً وغنته وهو:

ومغترب بالمرج يبكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون على الحب
إذا ما أتاه الركب منن نحو أرضه ... تنشق يستشفي برائحة الركب
فلما سمع الصوت بكى ورق لها، وعلم أنها اشتاقت إلى بغداد، فأمر بردها.

قال إسحاق الموصلي: كانت علية إذا طهرت لزمت المحراب، وقرأت القرآن، وإذا لم تصل غنت، وكانت قليلة الشغف بالشراب، إلا أنها تتناول منه، وكانت تكاتب بالأشعار خادمين يقال لأحدهما: طلا، وتكني عنه بظل، والآخر رشأ، وتكني عنه بزينب على أنهما جاريتان.
فمن شعرها في طل:

يا رب إني غرضت بحبها ... فإليك أشكو ذاك يا رباه
ظل ولكني حرمت نعيمه ... وهواءه إن لم يغثني الله

وأقامت أياماً فلم تره، فمشت على ميزاب حتى رأته وحدثته وقالت له:

قد كان ما كلفته زمناً ... يا ظل من وجدي بكم يكفي
حتى أتيتك زائراً عجلاً ... أمشي إلى حتفي على حتفي
فبلغ ذلك الرشيد، فحلف عليها ألا تكلم طلاً ولا تذكر اسمه، فدخل عليها على غفلة، وهي تقرأ في المصحف: {فإن لم يصبها وابل..} فما نهى عنه أمير المؤمنين، فضحك وقبل رأسها، وقال: ولا كل هذا، وقد وهبت لك طلاً.

وقيل: أنه كان قتله.
وحجب طل عنها عند أول ما أحس الرشيد بما بينهما فقالت:

أيا سروة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل إليك سبيل
متى يلتقي من ليس يرجى خروجه ... وليس لمن يهوى إليه دخول

ومن قولها في رشأ:

وجد الفؤاد بزينبا ... وجداً شديداً متعبا
أصبحت من وجدي بها ... أدعى شقياً منصبا
ولقد كنيت عن اسمها ... عمداً لكي لا تغضبا
وجعلت زينب سترة ... وكتمت أمراً معجبا

قالت: وقد عز والوصا ... ل ولم أجد لي مذهبا
والله لا نلت المود ... ة أو تنال الكوكبا

وقالت: لأكنين عنه كناية خفية فقالت:

القلب مشتاق إلى ريب ... يا رب ما هذا من العيب
قد تيمت قلبي فلم أستطع ... إلا البكا يا عالم الغيب
خبأت في شعري ذكر الذي ... أحببته كالخبء في الجيب

[لأن في قولها في آخر القسم الأول وأول الثاني: "ريب يا" تصحيف رشأ] ولها في الأمين وغنته:

أطلت عاذلتي لومي وتفنيدي ... فأنت جاهلة شوقي وتسهيدي
لا تشرب الراح بين المسمعات وزر ... ظبياً غريراً نقي الخد والجيد
قد رنحته شمول فهو منجدل ... يحكي بوجنته ماء العناقيد
قام الأمين فأغنى الناس كلهم ... فما فقير على حال بموجود

دخل يوماً إسماعيل بن الهادي على المأمون طائش العقل، فقال له المأمون: ما لك؟ قال: يا أمير المؤمنين كنت أكذب بأرغن الروم بأنه يقتل طرباً، وقد صدقت الآن بذلك، قال: وما تدري ما هو؟ قال: لا والله، [قال] : هذه عمتك علية تلقي على عمك إبراهيم صوتاً من شعرها، وهو:

ودعت من أهوى ورحت بحسرة ... عجباً لقلبي كيف لم يتصدعا
لا وجد إلا دون وجد نالني ... يوم الفراق وقد خرجت مشيعا
فإذا الأحبة قد تولت عيسهم ... وبقيت فرداً والهاً متفجعا

من شعرها:

طالت علي ليالي الصوم واتصلت ... حتى لقد خلتها أربت على العدد
شوقاً إلى مجلس يزهى بساحته ... أعيذه بجلال الواحد الصمد

كتب أبو الفضل محمد بن أحمد بن الحسين بن العميد إلى أبي عبد الله الطبري: سألتني عمن شفني وجدي به، وشغفني حبي له، وزعمت أني لو شئت لذهلت عنه، واعتضت منه، زعماً، لعمرو أبيك، ليس بمزعم، كيف أسلو عنه، وأنا أراه، وأنساه وهو لي تجاه، هيهات هو أغلب علي، وأقرب إلي، من أن يرخي لي عناني، أو أن يخليني واختياري، بعد اختلاطي بملكه، وانخراطي في سلكه، وبعد أن ناط حبه بقلبي نائط وشاطه بدمي شائط، فهو جار مجرى الروح في الأعضاء، متنسم تنسم روح الهواء، إن ذهبت عنه رجعت إليه، وإن هربت منه وقعت عليه، وما أحب السلو عنه مع هناته، ولا الخلو منه مع ملاته، وهذا على أني إن قابلني لم يهنني إقباله، وإن أعرض عني لم يطرقني خياله، يبعد علي مناله، ويقرب من غيري نواله، ويرد عيني خاسئة، ويدي خالية، وصله ينذر بصده، وقربه يؤذن ببعده، يدنو عندما ينزح، ويأسو مثلما يجرح، مخالته أحوال، وخلته خلال، وحكمه سجال والحسن في عوارفه والجمال في معاطفه والبهاء في فضوله وصفاته، والسناء من نعوته وسماته، اسمه مطابق لمعناه، وفحواه موافق لنجواه، يتشابه قطراه، وتتضارع حالات، من حيث تلقاه يستنير، ومن حيث تنساه يستدير.
وكتب إليه وصل كتابك فصادفني قريب عهد بانطلاق، من حيث عنت الوثاق، ووافقني مستريح الجوانح والأعضاء من حر الاشتياق، فإن الدهر جرى على حكمه المألوف في تحويل الأحوال، ورسمه المعروف في تبديل الأبدال، وأعتقني من مخالبك عتقاً لا تستحق معه ولاء، وابرأني من عهدة مودتك براءة لا تستوجب معها دركاً ولا استثناء، ونزع من عنقي ربقة الذل من إخائك، بيدي جفائك، ورش [على] ما كان يحتدم في ضميري من نيران الشوق ماء السلو، وشن على ما كان يتلهب في صدري من الوجد روح اليأس ومسح أعشار قلبي فلأم فطورها بجميل الصبر، وشعب أفلاذ كبدي فلاحم صدوعها بحسن العزاء، وتغلغل في مسالك أنفاسي، فعوضني من النزاع إليك نزوعاً عنك، ومن الذهاب فيك رجوعاً دونك، وكشف عن عيني ضبابات ما ألقاه الهوى على بصري، ورفع عنها غيابات ما سدله الشك دون نظري، حتى حدر النقاب عن صفحات طريقتك وسفر عن وجوه خليقتك، فلم أجد إلا منكراً، ولم ألق إلا مستكبراً، فوليت منهما فراراً، وملئت منهما رعباً، فاذهب فقد ألقيت على غاربك حبلك، ورددت إليك ذميماً عهدك.
وفي فصل من هذه الرسالة: وأما عذرك الذي رمت بسطه فانقبض، وحاولت تمهيده وتقريره فاستوفز [وأعرض] ، ورفعت بضبعه فانخفض، فقد ورد فلقيته بوجه من يؤثر قبوله على رده، وتزكيته على جرحه، فلم يف بما يذله لك عن نفسه، ولم يقم عند ظنك به، أنى؟ وقد غطى التذمم وجهه فلم يقدر على إيقافه، ومضى [يعثر] في فضول ما تغشاه من كذب حتى سقط، فقلنا: لليدين وللفم.

وقوله هذا محلول من عقود نظمه إذ يقول:

وسألتك العتبى فلم ترني لها ... أهلاً فجدت بعذرة شوهاء
وردت مموهة فلم يرفع لها ... طرف ولم ترزق من الإصغاء
وأعار منطقها التذمم سكتة ... فتراجعت تمشي على استحياء
لم تشف من كمد ولم تبرد على ... كبد ولم تمسح جوانب داء

سئل إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن المجيدين من المغنين فقال: من لطف معناه في اختلاسه، وتمكن في أنفاسه، وتفرع في أجناسه، فكاد يعلم ضمائر معاشرين، وشهوات مجالسيه، فقرع كل واحد منهم بالنوع الذي يطابق هواه، ويوافق معناه، فأطرب جميعهم، وأخذ بقلب كافتهم، حتى اتفقت عليه أهواؤهم، واجتمعت على تفضيله كلمتهم، والتأمت على مدحه ألسنتهم.
قال جعفر بن مهلهل: فحدثت بهذا الحديث إبراهيم بن المهدي وعجبته منه، فقال: أيجوز هذا عليك!.. ابن الموصلي في قدره وصناعته ومحله من الخلفاء قد علم أنه مسؤول عن هذا، فتقدم في إعداد الجواب.

وقال كشاجم:

وجارية مثل شمس النهار ... أو البدر إذ لاح بين الدراري
أتتك تميس بقد القضيب ... وترنو بعين مهاة القفار
وترفل في مصمت أبيض ... تلون من خدها جلناري
وتحمل عوداً فصيح اللسان ... يشارك أرواحنا في المجاري
له عنق كذراع الفتاة ... ودستانة بمكان السوار

فجارت عليه وجادت له ... بعسف اليمين ولطف اليسار
ولا أمهلته ولا نهنهته ... من الظهر حتى تقضى نهاري
فلما تغنت غناء الوداع ... بكيت وقلت لبعض الجواري:
لئن عاشت عند هزار اللقاء ... لقد مت عند هزار الإزار
قال ثمامة بن أشري: كنت عند المأمون في مجلس أنس إذ جاءه الحاجب يستأذن لعمير المأموني، فكرهت ذلك، فقال: يا ثمامة ما بك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إذا غنى عمير كرت مواطن الإبل وكثبان الرمل، وإذا غنتنا عريب انبسط أملي، وقوي جذلي، وذكرت الجنان والولدان، كم بين يا أمير المؤمنين أن تغني غادة كأنها غصن بان ترنو بمقلة وسنان، كأنما خرطت من ياقوتة، أو صورت من فضة، بشعر عكاشة العمي حيث تقول:

من كف جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرفت عنابا
كأن يمناها إذا ضربن بها ... تلقى على يدها لشمال حسابا
وبين أن يغنيك رجل ملتف اللحية، غليظ الصابع، ششن الكف بشعر ورقاء ابن زهير العبسي:
رأيت زهيراً تحت كلكل خالدٍ ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
فضحك وقال: إن الرق لبين، يا غلام لا تأذن له!.. وأحضر قيانه، فظللنا في أطيب يوم.

وكان ابن الرومي يقول: "لو أدركت ملحن ها الشعر قتلته، وهو:

كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم
.. ما الذي يشبه من معاطاة الندمان، ومؤانسة الخلان من ذكر الدم والقتل؟! ... " وذكر أحمد بن الطيب السرخسي أن النعمان بن المنذر أهدى إلى كسرة جارية تغني غناء العرب، اشتراها [له] بمائة ألف درهم، فغنته شعر عنترة العبسي:

فشككت بالرمح الطويل إهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
ففسر له ما يقول فقال: الحرب بلية، والندام مسرة، وما معنى ذكر البلية مع حصول المسرة؟ ولم يسمعها بعد.
قلت أنا: وليت شعري إذا كان الغناء داعية الأنس، وعشيق النفس، الذي يفكها إذا أسرها الهم، ويبسطها إذا قبضها الغم، وهو المستأذن على القلب، والمنقذ من الكرب، الداخل عليه بغير بعث، والوالج إليه بغير نصب، ما باله لا تستخرج له الأشعار الرقيقة، ذات المعاني الأنيقة، والألفاظ الناعمة الشكلة، في اللطائف الظريفة الغزلة، التي تطرب بالتكلم قبل الترنم، ويتجنب ما كان من صفات الجيوش والمقانب، وذكر الغارات والكتائب، ووصف الأحزان والمصائب، فلأن يسمع من كان ثملاً جذلاً:

سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
وما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني بل شمائله
ألوى بصبري أصداغ لوين له ... وغل صدري ما تحوي غلائله
أحب إليه من أن يسمع:

أسمعاني الصياح بالإمليس ... وصياح العيرانة العيطموس
ودعاني من قرع مزهر ريا ... واختلاف الكؤوس بالخندريس
عزفت [عن] تلكم اللبانات نفسي=وسمعت نحو غير ذاك حدوسي أو يسمع:

ما تغطي عساكر الليل مني ... ما تجلي مضاحك الصبح عني
جسم سيف في جوف غمد ثياب ... صدر أنس من تحته قلب جني
ما ينال الكرى سويداه إلا ... حسوة الطائر الذي لا يثني
كم ظلامٍ جعلته طيلساني ... صاحبي همتي وقلبي مجني
إلا أن يكون كالمهلهل، وربيعة بن مكدم، وعتيبة بن الحارث بن شهاب.
ولأبي عثمان الناجم في وصف الغناء قطع مستملحة، بكل طريقة موشحة، كقوله:

لقد جاد من عاتب ضربها ... وزاد كما جاد تغريدها
إذا نوت الصوت قبل الغناء ... أنشدنا شعرها عودها

وله:

تأتي أغاني عاتب ... أبداً بأفراح النفوس
تشدو فنزمر بالكؤو ... س لها ويرقص بالرؤوس
وهذا كقوله:

سلامة بن سعيد ... يجيد حث الراح
إذا تغنى زمرنا ... عليه بالأقداح
وقال:

ما صدحت عاتب ومزهرها ... إلا وثقنا باللهو الفرح
لها غناء كالبرء في جسد ... أضناه طول السقام والترح
تعبده الراح فهي ما صدحت ... إبريقنا ساجد إلى القدح
وقال:

ما حضرتنا قتول إلا ... أذكت بنظراتها جوانا
تصدع بالصوت قبل تأتي ... كأن في نايها لسانا
وقال:

إذا أنت ميزت بين الغنا ... ء ميزتها الأحذق الأطيبا
تهز القريض بألحانها ... كما هزت الغصن ريح الصبا
وقال:

ما تغنت إلا تقشع هم ... عن الفؤاد وأقلعت أحزان
تفضل المسمعين طيباً وحذقاً ... مثلما يفضل السماع العيان
وقال:

ما نطقت عاتب ومزهرها ... إلا ظللنا للراح نعملها
تطلب أوتارها الهموم بأو ... تار تستفيق تقتلها
وقال:

شدو ألذ من ابتدا ... ء العين في لإغفائها
أشهى وأحلى من منى ... نفس وصدق رجائها
وقال أيضاً:

لها غناء مطرب معجب ... يفعل ما لا تفعل الخمرة
تشوق الأذن إلى شدوها ... تشوق العين إلى الحضرة
كأنما بهجة من زارها ... بهجة من طارت له القمرة
لو أن إسحاق شدا بعدها ... لخلت من يسمع في سخرة
مندرة في كل ألحانها ... لا كالتي تحسن في الندرة
وقال:

لقد برعت في الغناء ... وزادت وأربت على البارع
يسبح سامعها معجباً ... فأصواتها سبحة السامع
[وقال أيضاً:

يا صاحبي قم فقد أطلنا ... أنحن طول المدى هجود؟
فقال لي: لن نقوم منها ... ما دام من فوقنا الصعيد
تذكر كم ليلة نعمنا ... في ظلها والزمان عيد
ظل كأن لم يكن تقضى ... وشره حاضر عتيد]
وقال يرثي عجائب جارية ابن مروان:

أضحى الثرى بجوارها ... عطر المسالك والمسارب
حلت حفيرتها حلو ... ل المسك في سرر الكواعب
يا درة كانت تضي ... ء لناظر من كل جانب
تبع فيه أستاذه ابن الرومي، يرثي جارية أم علي بنت الرسي:

واهاً لذاك الفناء من طبق ... على جميع الأنام مقتدر
أضحت من الساكني حفائرهم ... سكنى الغوالي مداهن السرر
يا مشرباً كان لي بلا كدر ... يا سمراً كان لي بلا سهر
أصبحت بالترب غير راجحة ... عنه وقد ترجحين بالبدر
ومن ألفاظ أهل العصر في الغناء والمغنين: غناؤه كالغنى بعد الفقر، وهو عذر للسكر، غناء يبسط أسرة الوجه، ويرفع حجاب الأذن، ويأخذ بمجامع القلب، ويمتزج بأجزاء النفس، غناء يحرك النفوس ويرقص الرؤوس، ويحرض [على الكؤوس] ، فلان طبيب القلوب والأسماع، ومحيي الخواطر والطباع، يطعم الآذان سروراً، ويقدح في القلب نوراً، القلوب من غنائه على خطر، فكيف الجيوب! السكر على صوته شهادة، نعمة نغمته تطرب وضروب ضربه لا تضطرب.
ولهم في ضد هذا: يغني فيتعب ولا يطرب، إذا غنى عنى، وإذا أدى أذى، يميت الطرب، ويحيي الكرب، ضربه يوجب ضربه، من عجائب غنائه أنه يورد الشتاء في الصيف، [ولا يقدر على سماعه الضيف] .
وقال كشاجم:

ومغن بارد النغم ... ة مختل اليدين
ما رآه أحد في ... دار قوم مرتين
قربه أقطع للذا ... ت من صبحة بين
وقال أيضاً يذم عوادة:

جاءت بعود مثلها نافر ... كأنه نقنق الضفدع
مضطرب الأوتار منقوصها ... مستقبح المبدإ والمقطع
يود من يسمع أصواته ... لو فقد السمع ولم يسمع
فأقبلت تضرب غير الذي ... تحسب والنغمة لم تتبع
كأنما قسمة تأليها ... مثلث مختلف الأضلع
وهذا ضد قوله لبعض إخوانه:

عندي معتقة كودك صافية ... ونديمك الدمث الرقيق الحاشية
إذا كربت إلى السماع ترنمت ... بيضاء زاهية تسمى زاهية
تصل الغناء يمينها بشمالها ... كمثلث أضلاعه متساوية
وله في هذا المعنى:

صحت مقادر ضربها وحسابها ... وغنائها وتوازنت في الأنفس
فكأن أشكال المثلث إنما ... يؤخذن عنها ليس عن إقليدس
وقال أبو فراس الحمداني: كان سيف الدولة لا يشرب النبيذ ولا يسمع القيان، ويحظرهما علي، فوافت من بغداد ظلوم الشهرامية، وكانت من المحسنات، وكان بحضرته ابن المنجم، فاضل [أهل] زمانه. فتاقت نفسي إلى سماعها، فسألنه أن يحضرهما، فوعدني بذلك في يومنا، فانصرفت عنه، وأنا غير واثق [به] ، لعلمي بضعف نيته في ذلك، ووجهت إلى ظلوم وابن المنجم فحصلتهما، وأقمت أنتظر رسوله إلى غروب الشمس فكتبت له:

محلك الجوزاء بل ارفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع
وقلبك القلب الذي لم يزل ... للجد والهزل به موضع
رفه بقرع العود سمعاً غداً ... قرع العوالي جل ما يسمع

فبلغت الأبيات الوزير أبا محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلبي، فأمر بها فلحنت، وغني بها، فلم يزل يشرب عليها بقية يومه.
وكان أبو فراس حسن الشعر جيد النمط، لقوله من الحلاوة، وعليه من الطلاوة ما يشهد به ما أنشد له: وكان أبو القاسم الصاحب يقول: بدئ الشعر بملك، وختم بملك، بدئ بامرئ القيس وختم بأبي فراس.
كتب إلى سيف الدولة وقد قفل من غزاة: كتابي أطال الله بقاء مولاي الأمير من منزلي وقد وردته ورود السالم الغانم موقر الظهر والظهر وقراً وشكراً. فاستحسن سيف الدولة بلاغته، فقال أبو فراس:

هل للسماحة والفصا ... حة والعلا عني محيد
إذ كنت والدي الذي ... خرجتني وأبي سعيد
في كل يوم أستفي? ... د من العلاء وأستعيد
ويزيد فيّ إذا رأي? ... تك في الندى خلق جديد
وقال: ?لنا بيت على طنب الثريا=بعيد مذاهب الأكناف سام

تظلله الفوارس بالعوالي ... وتفرشه الولائد بالطعام
وقال:

ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني ... ليست مؤاخذة الخلان من شاني
يجني الصديق فأستحلي جنايته ... حتى أدل على عفوي وإحساني
ويتبع الذنب ذنباً حين يعرفني ... عمداً فأتبع غفراناً بغفران
يجني علي فأحنو صافحاً أبداً ... لا شيء أحسن من حانٍ على جانِ
وقال:

فوالله ما أضمرت في الحب سلوة ... ووالله ما حدثت نفسي بالصبر
وإنك في عيني لأبهى من الغنى ... وإنك في قلبي لأحلى من النصر
فيا حكمي المأمول ملت مع الهوى ... ويا ثقتي المأمون خنت مع الدهر
وقال:

لبسنا رداء الليل والليل راضع ... إلى أن تردى رأسه بمشيب
وبتنا كغصني بانة عطفتهما ... مع الصبح ريحا شمأل وجنوب
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... مبادي نصول في عذار خضيب
فيا ليل قد فارقت غير مذمم ... ويا صبح قد أقبلت غير حبيب
وقال:

لا غرو إن فتنتك باللح ... ظات فاترة الجفون
فمصارع العشاق ما ... بين الفتور إلى الفتون
فاصبر فمن شيم الهوى ... صبر الضنين على الظنين
كتب شمس المعالي إلى وكيل له بالري يعرف بأبي الفرج عبد السلام بن محمد كتاباً دعاه الإعجاب به إلى أن أوقف عليه كافي الكفاة وتاج الولاة أبا القاسم بن إسماعيل بن عباد الصاحب، فأطنب الصاحب في وصفه وتقريظه، فكتب عبد السلام إلى شمس المعالي بذلك فأجاب: أما إعجاب الفاضل بالفصول التي عرضتها عليه، ورفعتها إليه، فلم يكن ذلك مما يحسبه إلا لخلة واحدة، وهي أنه وجد فناً في غير أهله فاستبدعه، وفرعاً في غير أصله فاستشنعه، فقد يستعذب الشريب من منبع الزعاق ويستطاب النحيب من مخرج النهاق، ولكنك فيما أقدمت عليه، من بسط اللسان بحضرته وإرخاء العنان بمشهده، كمن حاسن بقباحته القمر، وخاشن بوقاحته الحجر، ولا كلام فيما مضى، ولا عتب فيما اتفق وجرى.
فأجاب الصاحب: قرأت الفصل الذي تجشمه جامع هزة العرب إلى عزة العجم، وناظم صليل السيف إلى صرير القلم، فحرت في محاسن خط، لا البرد الوشيع معتلق ذيلها، ولا الروض المريع نائل نيلها، وعقائل لفظ إن نعتها فقد غبنتها، وإن وصفتها فما أنصفتها، والله يمتعه بالفضل الذي استعلى على عاتقه وغاربه، واستولى على مشارقه ومغاربه، ولم يكن استحساني مما رأيت، وإعجابي بما رويت، استغراباً لمنبعه، ولا استبداعاً لمطلعه، بل لأنه شريف في جنسه، نفيس في نفسه، وقد حفظت ذلك الفضل، حيث سواد الناظر وأعز، وبسويداء القلب وأحرز، وعسى أن ينجز الدهر وعداً، فيعود التعارف وداً، فقد سمعت بالبعيد القريب، وفرحة الأديب بالأديب، وما إلى ذلك على الله بعزيز.

فأجاب شمس المعالي وكيله عن هذا الجواب: قد أهديت إلي أعزك الله محاسن الدنيا مجموعة في ورقة، ومباهج الحلل والحلي محصورة في طبقة، وهو ما خطه ذلك الفاضل بيده، وباشره بقلمه [و] ما كنت أحسب أن جماع البديع يأخذ منه، ولا نور الربيع يفتر عنه، حتى عاينته فسميته لرقته برد الشراب، ولإعجابي به من دقته برد الشباب، ولفتوني بطلعته محير الألباب، ولوقوفي عند جزالته معيار الكتاب، فرصانة الطبع والعذوبة من جنى روضته، ومتانة المعنى والبراعة في ضمان قبضته، وأظنه لو جعل دعاء يدعى به النيران لأقبلا إلى الأرض منخفضين، أو حول حداء يحدى به الجبلان لمشيا مسرعين، أو صير جلاء يجلى به الناظران لأبصرا ما بين الخافقين، فمن لاطم أمواج بحره مساجلاً أصبح صريع صدماتها، ومن زاحم أفواج فكره مكاثراً أمسى أسير حملاتها، فلله جامع أفراد هذه الفضائل، وناظم آحاد هذه العقائل، فقد حاز من العلم الذرى والغوارب، وخلف لغيره الشوى والمخالب، وكذا النجيب إذا جرى لم يشق غباره، والشهاب إذا سرى لم تلحق آثاره، وأنا أرى قضاء حقه بالاعتراف بفضله، دون الإغراق في وصف فعله، فلذلك وقفت حيث بلغت، وأمسكت حيث انتهيت.
وكتب الصاحب إلى أبي القاسم علي بن القاسم من قاشان: إذا أقبلت عقد البعد تتحلل، وبدت وجوه القرب تتهلل، وطويت من مسافة البين أرض، وقطع من جادة الفراق بعض، ترجح كوكب الوحشة للأفول وتزحزح موكب الأنس للقفول.
وهذه حالي، فإني لما وردت موضع كذا [وكذا] خلفت ورائيب أرضاً كانت تبعد عن مولاي رحلي، ووطئت أخرى طالما قربت منه ربعي، طارت دواعي المسرة من نفسي، وانتشرت بواعث الغبطة في صدري، وولى الهم مفلولاً عني وأقبل الارتياح مستأمناً نحوي، ونادى الالتقاء بأن هذا صدر أمل إليَّ ينتهي وينتظم، وبي يستكمل ويختتم، فقلت: لبيك إلفاً، وكأن قد ...
وله يمازح بعض إخوانه: خبر سيدي عندي وإن كتمه عني، واستأثر به دوني، فقد عرفت أمره في أمسه من شربه وأنسه، وغناء الضيف الطارق وعرسه، وكان ما كان مما لست أذكره وجرى [ما جرى مما] لست أنشره، وأقول أن مولاي امتطى الأشهب، فكيف عاين ظهره؟ وركب الطائر، فكيف شاهد جريه؟ هل سلم من حزونة الطريق؟ وكيف تصرف: أفي سعة أم [في] ضيق؟ وهل أفرد الحج أم تمتع بالعمرة؟ وهل قال في الحملة بالكرة؟ ليتفضل مولاي بتعريفي الخبر، فما ينفعه الإنكار، ولا يغني عنه إلا الإقرار، وأرجو أن يساعدنا الشيخ أبو مرة، كما ساعده مرة، فنصلي إلى القبلة التي صلى إليها، ونتمكن من الدرجة التي خطب عليها، وله فضل السبق إلى ذلك الميدان، الكثير الفرسان.
وله أيضاً: تصفحت أوطار النفوس، فلم أعتز بأكرم من قربه، وتأملت أشخاص الخطوب، فلم أرع بأقطع من بعده، محاسنه أنوار لم تحتجب بسجوف ومناقبه شموس لم تتصل بكسوف، وألفاظه تذكرني بلباس الشباب وريعانه، بل بأفنان الصبا وفينانه، أيام من عود النوى خور، وليالي من باع الدجى قصر، ولولا أن عادتي أن أطأطئ [ناظري] للصديق تسليماً، وأصبر له على الملام [وإن كان] مليماً لقلت في ظلمه، وقد تظلم، قولاً على غرة الدهر، ويشدخ في جبهة الشمس والبدر إذ لم يرضى بحقي أن يلويه، حتى عطف على عهدي يستبطئه، ولكن أقول: يا نفس صبراً، فما كل طالب حق يعطاه، ولا كل شائم برق يسقاه، وأعود فأسأل الله أن يعيد:

عيشاً لنا بالأبرقين تأبدت ... أيامه وتجددت ذكراه
والعيش ما فارقته فذكرته ... لهفاً وليس العيش ما تنساه
وهذا كقول الحسن بن سهل: حد الطرب ما بقي سروره يتخيل في النفس، ويتردد في الفكر.
ومن شعر الصاحب:

لقد صدقوا والراقصات إلى منى ... بأن مودات العدا ليس تنفع
ولو أنني داريت دهري حية ... إذا استمكنت يوماً من اللسع تلسع
وقال [أيضاً] :

وقائلة: لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت: ذريني لما أشتكي ... فإن الهموم بقدر الهمم
وقال [أيضاً] :

دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاء يكرر في كل ساعة
فلولا وحقك عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعاً وطاعة
هذا من قول إبراهيم بن المهدي، وتمثل به إسماعيل بن إسحاق القاضي، [وقد كان] رأى غلاماً جميلاً:

لولا الحياء وأنني مشهور ... والعيب يعلق بالكبير كبير


لحللك منزلك الذي تحتله ... ولكان منزلنا هو المهجور
وقال الصاحب:

قال لي: إن رقيبي ... سيء الخلق فداره
قلت: دعني، وجهك الج ... نة حفت بالمكاره
وقال ابن الرومي في حسن الحبيب، وقبح الرقيب، [فأحسن] :

ما بالها قد حسنت ورقيبها ... مستقبح، لا كانت الرقباء
ما ذاك إلا لأنها شمس الضحى ... أبداً يكون رقيبها الحرباء
وقال الصاحب أيضاً، وكان من الغلاة في الاعتزال:

ولما تناءت بالحبيب دياره ... وصيرت منه في عياني على وهم
تمكن مني الشوق غير مخالس ... كمعتزلي قد تمكن من خصم
وقال:

كنت دهراً أقول بالاستطاعة ... وأرى الجبر ضلة وشناعة
ففقدت استطاعتي من هوى ظبي ... فسمعاً للمجبرين وطاعة
أخذه من قول سعيد بن حميد:

قالت: أكتم هواي وأكن عن اسمي ... بالعزيز المهيمن الجبار
قلت: لا أستطيع ذلك قالت: ... صرت بعدي تقول بالإجبار
وتخليت عن مقالة بشر ب? ... ن غياث لمذهب النجار
وقال الصاحب لغلام تركي قبل يده:

أبا شجاع يا شجاع الورى ... ومن لنا في وجهه قبله
قبل فمي إن كنت آثرتني ... فاليد لا تعرف ما القبلة




* كتاب: نور الطرف ونور الظرف
إبراهيم بن علي بن تميم الأنصاري، أبو إسحاق الحصري (المتوفى: 453هـ)


صورة مفقودة
 
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال رجل من [بني] فزارة لرجل من [بني] عذرة: تعدون موتكم في الحب مزية، وإنما ذلك من ضعف البنية، ووهن العقل، وعجز الروية. فقال العذري: أما إنكم لو رأيتم المحاجر البلج، ترشق بالأعين الدعج، من فوقها الحواجب الزج، والشفاه السمر، تفتر عن الثنايا الغر، كأنها سرد الدر، لجعلتموها اللات والعزى ورفضتم الإسلام وراء ظهوركم.
وقال أعرابي: دخلت بغداد فرأيت بها عيوناً دعجاً، وحوجب زجاً، يسحبن الثياب، ويسلبن الألباب.
وقال أعرابي في امرأة ودعها:" والله ما رأيت دمعة ترقرق من عين بإثمد على ديباجة خد، أحسن من عبرة أمطرتها عينها، فأعشب لها قلبي.
وذكر أعرابي امرأة فقال: تلك شمس باهت الأرض بها شمس سمائها، وليس لي شفيع إلى اقتضائها، ولي نفس كتوم لدائها، ولكنها تفيض على امتلائها أخذه [أبو تمام] الطائي فقال:

شكوت وما الشكوى لمثلي بعادة ... ولكن تفيض النفس عند امتلائها
ووصف أعرابي نساء فقال: ظعائن في سوالفهن طول، غير قبيحات العطول، إذا مشين انتعلن الذيول، وإذا ركبن أثقلن الحمول.
وقال أبو العباس بن الحسن العلوي:

صادتك من عين القصور ... بيض أوانس في الخدور
حور تحور إلى صبا ... ك لأعين منهن حور
وكأنما برضابه ... ن جنى الرحيق من الخمور
يصبغن تفاح الخدو ... د بماء رمان النحور
وقال بعض البغداديين:

لو ذقت صيد ظباء القصور ... لأنسيت صيد ظباء الفلاة
ظباء مراتعها في القلوب ... ومشربها من لذيذ الحياة
وقال ابن الرومي:

تعنت بالمسواك أبيض صافياً ... تكاد عذارى الدر منه تحدر
وما سر عيدان الراك بريقها ... تأودها في أيكها تتهصر
لئن عدمت سقيا الثرى إن ريقها ... لأعذب من هاتيك سقياً وأخصر
وما ذقته إلا بشيم ابتسامها ... وكم مخبر يبديه للعين منظر
بدا لي وميض شاهد أن صوبه ... غريض وما عندي سوى ذاك مخبر
ولا عيب فيها غير أن ضجيعها ... إن لم تصبه الساهرية يسهر
تذود الكرى عنه بنشر كأنما ... تضوعه مسك ذكي وعنبر
وما تعتريها آفة بشرية ... من النوم إلا أنها تتحير
وغير عجيب طيب أنفاس روضة ... منورة باتت تراح وتمطر
كذلك أنفاس الرياض بسحرة ... تطيب وأنفاس الورى تتغير
وقال:

ألا ربما سؤت الغيور وساءني ... وبات كلانا من أخيه على وحر
وقبلت أفواهاً عذاباً كأنها ... ينابيع خمر حصبت لؤلؤ النحر
وقال أيضاً

تعلك ريقاً يطرد النوم برده ... ويشفي القلوب الحائمات الصواديا
وهل ثغب حصباؤه مثل ثغرها ... يصادف إلا طيب الطعم صافيا
وقال ابن المعتز بالله:

بأبي خليلاً كنت أعهده ... [لي] واصلاً فأزور جانبه
عبق الكلام بمسكةٍ نفحت ... من فيه ترضي من يعاتبه
وقال ابن الرومي:

يا رب ريق بات بدر الدجى ... يمجه بين ثناياكا
يروي ولا ينهاك عن شربه ... والماء يرويك وينهاكا
وقال ابن وكيع:

ريق إذا ما ازددت من شربه ... رياً ثناني الري ظمآنا
كالخمر أروى ما يكون الفتى ... من شربها أعطش ما كانا
وقال ابن الرومي يصف نساء:

إذا لبسن خلاخلاً ... أكذبن أسماء الخلاخل
تأبى تخلخلهن سو ... ق مرجحنات خوادل
وقال غيره:

استكتمت خلخالها ومشت ... تحت الظلام به فما نطقا
حتى إذا ريح الصبا نسمت ... ملأ العبير بسرها الطرقا
وأنشد أبو الحسين أحمد بن فارس في مثل هذا [المعنى] :

رب قول من سعاد لنا ... قد حفظناه وقد نفعا
أملي لا تأت في قمر ... لحديث وراقب الدرعا
وتوق الطيب ليلتنا ... إنه واش إذا سطعا
وقال ابن الرومي:
صدورهن فوقهن حقاق عاج ... ودر زانه حسن اتساق
يقول القائلون إذا رأوها ... أهذا الدر من هذي الحقاق
[وما تلك الحقاق سوى ثدي ... قدرن من الحقاق على وفاق]
[نواهد لا يعد لهن عيب ... سوى بعد المحب من العناق]
أخذه من قول عبد الله بن أبي السمط:
كأن الثدي إذا ما بدت ... وزان العقود بهن النحورا
حقاق من العاج مكنونة ... حملن من الدر شيئاً يسيرا
ولأهل العصر في أوصاف النساء: هي روضة الحسن، وضرة الشمس، وبدر الأرض، بدر التم يضيء تحت نقابها، وغصن البان يهتز تحت ثيابها، لها ثغر كالدر يجمع الضريب والضرب. أعلاها كالغصن ميال، وأسفلها كالدعص منهال، لها عنق كإبريق اللجين، وسرة كمدهن العاج. نطاقها مجدب، وإزارها مخصب، مطلع الشمس من وجهها، [ومنبت الدر من فيها، وملتقط الورد من خدها] ، ومنبع السحر من طرفها، ومبادئ الليل من شعرها، ومغرس الغصن في قدها، ومهيل الرمل في ردفها.
وكتب الأمير عبيد الله بن أحمد الميكالي إلى أبي القاسم الداودي جواباً عن كتاب ورد عليه، منه:

وقفت على ما أتحفني به الشيخ: من نظمه الرائق البديع، وخطه المزري بزهر الربيع، موشحاً بغرر ألفاظه التي لو أعيرت حليها لعطلت قلائد النحور، وأبكار معانيه التي لو قسمت حلاوتها لأعذبت موارد البحور، فسرحت طرفي منها في رياض جلتها سحائب العلوم والحكم، وهب عليها نسيم الفضل والكرم، وابتسمت عنها ثغور المعالي والهمم، ولم أدر وقد حيرتني أصنافها، وبهرتني نعومتها وأوصافها، حتى كستني اهتزازاً وإعجاباً، فأنشأت بيني وبني التماسك ستراً وحجاباً، أدهتني بها نشوة راح؟ أم ازدهتني لها نخوة ارتياح؟ وانتظم عندي منها عقد ثناء وقريض؟ أم قرع سمعي بها غناء "معبد" و"غريض" وكيفما كان فقد حوى رتبة الإعجاز والإبداع، وأصبح نزهة القلوب والأسماع، فما من جارحة [إلا] وهي تود لو كانت أذناً تلتقط درره وجواهره، أو عيناً تجتلي مطالعه ومناظره أو لساناً يدرس محاسنه ومفاخره.
وله إلى أبي منصور بن عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي كتابي وأنا أشكو إليك شوقاً لو عالجه الأعرابي لما صبا إلى رمل عالج، أو كابده الخلي لانثنى على كبد ذات حرق ولواعج، وأذم زماناً يفرق فلا يحسن جمعاً، ويخرق ولا ينوي رقعاً، ويوجع القلوب بتفريق شمل ذوي الوداد، ثم يبخل عليها بما يشفي غليل الصدر والأكباد، قاسي القلب فلا يلين لاستعطاف، جائر الحكم فلا يميل إلى إنصاف، وكم استعدي على صرفه وأستنجد، وأتلظى غيظاً عليه وانشد:

متى وعسى يثني الزمان عنانه ... بعثرة حال والزمان عثور
فتدرك آمال وتقضي مآرب ... وتحدث من بعد الأمور أمور
وكلا، فما على الدهر عتب، ولا له إلى أهله ذنب، وإنما هي أقدار تجري كما شاء مجريها، وتنفذ كالسهام إلى مراميها، فهي تدور بالمكروه والمحبوب، على الحكم المقدور [و] المكتوب، لا على شهوات النفوس، وإرادات القلوب، وإذا أراد الله تعالى أذن في تقريب النازح وتسهيل الصعب الجامح، فيعود الأنس بلقاء الإخوان كأتم ما لم يزل معهوداً، ويجدد للمذاكرة والمؤانسة رسوماً وعهوداً، إنه لقادر عليه، والملي به.
وزار أبا منصور الثعالبي، فكتب إليه أبو منصور بقوله:

لا زال مجدك للسماك رسيلاً ... وعلو جدك بالخلود كفيلا
يا غرة الزمن البهيم إذا غدا ... هذا الورى لزمانهم تحجيلا
يا زائراً مدت بدائع فضله ... ظلاً علي من الجمال ظليلا
وأتت بصوب جواهر من لفظه ... حتى انتظمن لمفرقي إكليلا
بأبي وغير أبي هلال نوره ... يستعجل التسبيح والتهليلا
نقشت حوافر طرفه في عرصتي ... نقشاً محوت رسومه تقبيلا
ولو استطعت فرشت مسقط خطوه ... بعيون عين لا ترى التكحيلا
ونثرت روحي بعد ما ملكت يدي ... وخررت بين يدي هواه قتيلا
وأبو منصور قريع دهره، وفريد عصره، وله مصنفات كتب في العلم والأدب، تشهد له بأعلى الرتب، وكل ما أحكيه من ألفاظ أهل العصر غير منسوب إلى قائله، فمستخرج من تأليفه، مأخوذ من تصنيفه، وفيه يقول [أبوالفتح] البستي:

قلبي رهين بنيسابور عند أخ ... ما مثله حين تستقرى البلاد أخ
له صحائف أخلاق مهذبة ... منها الحجى والعلا والظرف ينتسخ
ومن مليح شعر [أبي الفضل] الميكالي قوله:

أقول لشادن في الحسن فرد ... يصيد بلحظه قلب الكمي
ملكت الحسن أجمع في نظام ... فأد زكاة منظرك البهي
وذلك أن تجود لمستهام ... برشف من مقبلك الشهي
فقال أبو حنيفة لي إمام ... وعندي لا زكاة على الصبي
[فإن تك مالكي الرأي أو من ... يرى رأي الإمام الشافعي]
[فلا تك طالباً مني زكاة ... فإخراج الزكاة على الولي]
ومن أشعاره الفقهية قوله:

بنفسي غزال صار للحسن قبلة ... تحج من الفج العميق وتقصد
دعاني الهوى فيه فلبيت طائعاً ... وأهللت بالإخلاص والسعي يشهد
فطرفي بالتسهيد والدمع قارن ... وقلبي فيه بالصبابة مفرد
وقال أبو الفتح كشاجم:

فديت زائرة في العيد واصلة ... والهجر في غفلة عن ذلك الخبر
فلم يزل خدها ركناً أطوف به ... والخال في خدها في موضع الحجر






 
أعلى