علي خضر الساعدي - رحلة ابن بطوطة الرابعة في عالم النساء!!

عبر رحلاته الثلاث وخلالها عاش ابن بطوطة رحلة رابعة في عالم رحب ومثير ، وهو عالم المرأة التي كانت حاضرة ابداً لديه . وفي البداية ينبغي ان نوضح اننا لم نقصد بهذا العنوان الادعاء بأننا اكتشفنا لابن بطوطة رحلة رابعة جديدة فهذا الرحالة المغربي الشهير الذي عاش في القرن الثامن الهجري - الرابع عشر للميلاد - لم يقم الا برحلات ثلاث ، هي التي املى اخبارها الممتعة على ( محمد بن جزي الكلبي ) . كاتب السلطان ابي عنان المريني ، وصارت هذه الرحلات في مجموعها تعرف برحلة ابن بطوطة . وبما ان لها ارتباطا وثيقا بالتاريخ الاسلامي واحداثه وتطوره ، مثل : مصر والشام والعراق . توجب علينا توثيق ذلك .
ابن بطوطة ، هو محمد بن عبد الله بن محمد بن ابراهيم اللواتي الطنجي ، ولد في طنجة سنة 703 هـ ( 1304 م ) اي في اوائل القرن الثامن الهجري ، الرابع عشر الميلادي ، وقد قام بثلاث رحلات جاب فيها العديد من بلدان العالم القديم بقاراته الثلاث ، افريقيا وآسيا واوربا . ولا شك ان اهم هذه الرحلات كانت رحلته الاولى التي بدأها سنة ( 725 هـ - 1325 م ) وقضى فيها اكثر من ( 24 ) سنة حج خلالها اربع مرات وبين كل حجة واخرى طاف بعديد من البلدان . ففي طريقه للحج اول مرة ، سلك طريق مراكش وتونس وطرابلس الغرب ومصر والشام ، وبين الحجتين الاولى والثانية طاف العراق وبلاد العجم - وبعد الحجة الثانية زار اليمن وشرق افريقيا وعمان والخليج والبحرين . وفيما بين الحجتين الثالثة والرابعة عاد مرة اخرى الى مصر ، ثم سافر الى بلاد الترك ، فطاف بمدن آسيا الصغرى ، ومنها انتقل الى القرم وبلاد القفجان شمالي البحر الاسود ، والى ارض البلغار ، وزار القسطنطينية .
ثم اتجه الى الهند ، ماراً بخوارزم وخراسان وتركستان وافغانستان والسند ، ثم اتجه الى ارض عمان ، وزار العراق والشام ، قبل ان يقصد مكة لاداء فريضة الحج للمرة الرابعة . وعندئذ غلب عليه الحنين الى وطنه ، فقفل راجعاً الى المغرب ، ووصل فاس سنة ( 750 هـ -1339 م ) بعد غيبة طويلة استمرت قرابة ربع قرن . وهي من اطول رحلاته واكثرها متعة . وعند عودته من هذه الرحلة الاخيرة ، عكف على املاء اخبار رحلاته على كاتب السلطان ابن جزي ، وكان الفراغ من تدوينها سنة ( 756 هـ ) . وقضى ابن بطوطة السنوات الاخيرة من حياته في كنف السلطان ابي عنان المريني ، الى ان توفى سنة ( 779 هـ - 1377 م ) .
*ابن بطوطة والمرأة :
ان الجانب الذي لم ينتبه اليه الكاتب او يتعرض له باحث حتى اليوم هو موقف ابن بطوطة من المرأة خلال اسفاره الطويلة ، نظرته اليها ، موقفه منها ، وعلاقته بها ، هل قضى تلك السنوات الطويلة اعزب زاهداً ، او انه لم ينس نصيبه من الدنيا . لقد غادر ابن بطوطة بلاده في المغرب مستهلاً اولى رحلاته وهو في شرخ شبابه في الثانية والعشرين من عمره . وعاد منها الى مسقط راسه ، وهو على ابواب الشيخوخة وقد قارب الخمسين من عمره . اي انه قضى زهرة شبابه بعيداً عن بيته وبلده . وانه جاب في رحلاته بلدان عدة ، وزار شعوباً متعددة متفاوتة العادات والتقاليد ، للمرأة في كل منها وضع خاص . فأنه لم يشر من قريب او بعيد - الى وضعه الاجتماعي عندما غادر طنجة ، هل كان متزوجاً عندئذ وترك وراءه زوجة ، او بعض الابناء والبنات ؟ كل ما ذكره في مستهل رحلته الاولى انه حزم امره ( على هجر الاحباب من الاناث والذكور ) . وفي ختام رحلته عاد الى بلاده بعد غيبة طويلة ، فلم يشر الى بيت يحن اليه ، ولا الى زوجة او ابناء طال غيابه عنهم ، وانما عاد الى طنجة بعد غيبة ربع قرن ليبحث عن قبر والدته وان يتجه الى زيارته فوراً . على انه اذا كان قد غادر بلاده - على ما نرجح - عزباً فانه لم يستطع مواصلة حياة العزوبة طويلاً . اي انه بعد شهور على مغادرته طنجة حتى عقد بصفاقس على بنت لبعض امناء تونس ، وعاش معها في طرابلس الغرب . ويقول انه غادر طرابلس ومعه اهله ، اي زوجته - وهذه اول اشارة ترد في رحلته الى زوجة له ، وان هذه التجربة لم تدم طويلاً ، فقد فارقها ، لمشاجرة بينه وصهره ، لكنه ظل يميل الى مصاحبة ووجود شريكة له يأنس الى جانبها في سفره تخفف عنه متاعب الطريق . وكثيراً ما كان يمل صحبتهن حتى يفارقهن بالمعروف ، او ان بعضهن كن لا يستطعن مغادرة بلادهن ومواصلة الرحلة معه الى بلاد اخرى كونه دائم السفر والترحال . وهكذا يبدو ان ابن بطوطة عاد في نهاية رحلته الى بلاده ومسقط رأسه وحيداً ، مثلما غادرها وحيداً . وعند وصوله الى الاسكندرية . حن وفضل ان يتزوج من ( بنت لبعض طلبة فاس ) من المرافقين له في الرحلة . والغريب انه لم يشر في رحلاته ابداً الى حياته الخاصة ، وما يتعلق بأمور الزواج وعلاقته بالمرأة او النظرة اليها ، طوال السنوات التي طاف فيها بلاد مصر والشام والحجاز والعراق واليمن وعمان والبحرين والبلاد العربية .. وظل ملتزماً الصمت في ذلك حتى دخل بلاد الترك سنة 732 هـ . ففي بلاد الترك تأثر بجمال المرأة التركية ، فدخلت المرأة حياته مرة ثانية ، ولكن من باب الجواري والحريم ، مثل الجركس والتركمان ، ويروي ابن بطوطة انه عندما غادر بخارى كانت عنده جارية قد قاربت الولادة ، وكان يريد حملها الى سمرقند لتلد بها ، ولكنها ولدت بالطريق ، وكان اسفه شديداً على وفاتها بعد وصوله الى الهند بشهرين . ومضى ابن بطوطة في حياته الخاصة محاطاً بالجواري اثناء اقامته بالهند قرابة عامين - مع ذلك ان وزير سلطان دهلي اهداه عشر جوار من سبي الكفار : حيث يقول : ( فأعطيت الذي جاء بهن واحدة منهن ، فما رضي بذلك . واخذ اصحابي ثلاثاً صغاراً منهن ، وبا قيهن لا اعرف ما اتفق لهن ) .
*اربع زوجات في ذيبة المهل :
على ان ابن بطوطة لم يلبث ان تزوج في جزائر ذيبة المهل - في جنوب آسيا - اثناء طريقه من الهند الى الصين . وانهم كلهم مسلمون ، وان الزواج عندهم سهل لمن يريد ان يتزوج من القادمين فاذا حان السفر طلق المرأة . لانهن لا يخرجن من بلادهن . ومما شجع ابن بطوطة على الزواج في تلك الجزر ، اقامته فيها فترة ليست بالقصيرة ، تولى فيها القضاء ، وايضاً ما اتصف به نساء تلك الجزر من جمال فائق ، فضلا عن الزينة وحسن المعاشرة ، فقد وصفهن بأنهن لا يغطين رؤوسهن ، وانهن يمشطن شعورهن ، ويتطيبن ، وقمصانهن قصار الاكمام ، وحليهن كثيرة تملأ ما بين الكوع والمرفق ، عدا الخلاخيل وقلائد الذهب المدلات على الصدور . ولم ار في الدنيا احسن معاشرة منهن .. ولعل هذه الصفات هي التي اغرته الى الزواج من اربع نساء في تلك الجزر بعضهن من اكابر القوم والحكام ثم انه عزم الرحيل عن تلك الجزر ، فارسل اليه الوزير رسالة نصها ( اعط صداقات النساء ، وديون الناس ، وانصرف اذا شئت ) . فطلق ابن بطوطة اثنتين من زوجاته الاربع ، وكانت الثالثة حاملاً منه فجعل لها اجلاً تسعة اشهر ان عاد فيها , والا فامرها بيدها اما الزوجة الرابعة فقد اصرت على صحبته والسفر معه ، رغم التقاليد السائدة من عدم خروج المرأة من البلاد في صحبة زوجها الوافد . ولم يستطع منعها ، فأصطحبها معه . لكنها لم تلبث ان مرضت في الطريق واحبت الرجوع فطلقها وتركها . وكانت الاشهر التسعة قد مرت فطلق غيابياً الزوجة التي كان قد تركها حاملاً وضرب لها الاجل ، ولا يدري سوى الله مصير الجنين الذي كان في احشائها ، فقد تكون لأبن بطوطة ذرية تعيش اليوم في جنوب القارة الآسيوية . وهكذا تحرر ابن بطوطة من زوجاته الاربع بنفس السرعة التي عاشها معهن . وكان ان عاد ابن بطوطة مرة اخرى الى معاشرة الجواري والقيان ، وكما يقول : ( وارسلت الى جارية ، حسنة الطلعة كنت احبها ،وسرت في تلك الجزائر من اقليم الى اقليم) ويلاحظ انه استخدم مصطلح الحب في تلك المرحلة وهو في الاربعين من عمره وفي رحلته الى الجزائر جنوب آسيا ذات الخضرة والجمال والماء والنساء ، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يستخدم فيها هذا المصطلح , في تلك المرحلة وتلك الجزر الخلابة . كما ذكر ان احدى زوجاته ، كانت احبهن اليه ، وقد املى ابن بطوطة كل هذا بعد نحو عشر سنوات وقد جاوز الخمسين من عمره ، دليل على ان عقله الباطن كان يختزن قدراً من الذكريات ، وان قلبه كان يحتوي قدراً من العواطف والاحاسيس الجياشة نحو النساء اللائي احبهن ..
*نظرته الى الحب ... والزواج :
سبق لابن بطوطة الزواج مرتين في مستهل رحلته ، مرة من تونسية والاخرى من مغربية ، ولكنه لم يستخدم مصطلح الحب مطلقاً في علاقته مع هاتين الزوجتين ، كذلك دأب على اصطحاب بعض الجواري معه منذ ان دخل بلاد الترك ، ولم يشر الى ان علاقته معهن قامت على اساس حب واقعي . فأنه لم يعرف هذا النوع من الحب الا في جزر جنوب آسيا . فهل هذا يكمن في طبيعة المرأة وجمالها الفائق في تلك المنطقة من العالم ؟ او الى اكتمال عواطف الرجل النفسية ، وقد بلغ الاربعين من العمر ، كما اشار هو الى نفسه في مذكراته . ومهما يكن من امر ، فأنه عند انصرافه من جزائر ( ذيبة المهل ) لم تكن في صحبته فقط تلك الجارية التي احبها ، وانما صحبته جارية اخرى . وعند عودته من الصين الى الهند ، مر بجزيرة سومطرة ، فوجد السلطان الملك الظاهر " قد عاد من غزوة وبصحبته سبي كثير فبعث الابن بطوطة بجاريتين ، ومنذ ذلك الوقت صمت عن ذكر جواريه حتى عودته الى مسقط رأسه في طنجة . كذلك انه لم يحاول الزواج ولم يقتن جارية بعد ذلك ، كل ما في الامر انه اشترى "خادم معلمه" من بلدة "تكدا" في طريق عودته عبر الصحراء الغربية من السودان الى بلاده . وقد ذكر ان من عادات اهل الشام ان البنت يجهزها ابوها قبل الزواج ، وان نساء زبيد للغريب عندهن مزية ولا يمتنعن عن تزوجه فاذا اراد السفر خرجت معه وودعته ، اما في بلاد المسلمين غير العربية في جنوب اسيا حيت كانت المرأة "مالكة امر نفسها" في الزواج وهي من حقها اختيار شريك حياتهاولا يستطيع ابوها اجبارها على الزواج من رجل لا ترغبه .. اما عن المرأة في المجتمعات غير الاسلامية التي زارها ابن بطوطة فان اهم ماجاء عنها في مذكراته يتعلق بالعادة التي تفشت بين نساء كفار الهنود من ان المرأة تحرق نفسها مع زوجها اذا توفى مستهجنا عن هذه البدعة وهذه الظلالة ، وعدها محرمة وغير واردة في الشريعة الاسلامية.
*توليه القضاء .. ومعاشرة النساء:
يبدو ان وضع ابن بطوطة كفقيه ، زاول القضاء بين الناس في بعض البلدان الاسلامية التي طاف بانحائها ثم مكث بعض الوقت ، وهذا لم يحل بينه وبين النظر الى المراة في تلك البلدان نظرة الفاحص المدقق المستقصي للوقوف على صورتها الحقيقية الانثوية كاملة ووضعها الاجتماعي بدقة . بل ان عمله قاضيا في بعض البلدان اتاح له فرصة طيبة لتردد كثيرات عليه للشكوى ، او في الاحتكام اليه وقد ولي ابن بطوطة القضاء في تلك البلاد التي مكث فيها وقتا مناسبا فقد ذكر انه بذل جهده في قطع وترك عادة كشف الرؤوس وتمشيط الشعر بالنسبة الى النساء ، وان يلبسن الفوطة وان يسترن اجسادهن وان لا تدخل عليه منهن امرأة في خصومة الا مسترة الجسد ، وكذلك انه امر ان تبقى النساء المطلقات في ديار المطلقين ، فكانت المرأة تظل في دار مطلقها حتى تتزوج غيره ، وقد قاوم القاضي ابن بطوطة هذه العادة بحزم ، وقد جاء اليه بنحو خمسة وعشرين رجلا ممن فعلوا ، ذلك فضربهم وشهربهم بالاسواق واخرجت النساء عنهم . كما انه نهى عن ما سمع من ان الجواري يدخلن الحمام مع الرجال مهددا بالتشهير خوف الفساد ، كما انه نهى عن ضرب الاولاد والغلمان ممن يؤدون الخدمة لدى السلاطين في البلدان غير الاسلامية التي زارها كما انه نهى وقضى على ظاهرة ان الخدم والجواري والبنات الصغار حيث كن يظهرن للناس عريا وعده نوعا من الفحشاء..
واخيراً ، فأن ابن بطوطة ، هو الرجل الذي اتصف بواقع ما شاهده وذكره لنا بسلامة الحس وحسن الذوق ، كانت له نظرته الفاحصة في المرأة ، ولديه رؤية صادقة ، حيث انه اجاد واشاد بجمال النساء في كثير من البلدان التي تردد بين جوانبها ودروبها ، وانه تفنن بوصفهن وصف الخبير المعجب بقوامهن خاصة الانوف والحواجب ، حيث تضع نساء بعض قبائل المغرب حلق الذهب في انفها . حيث اثر نساء قومه على سائر نساء البلدان التي زارها ومكث فيها ..
ونستخلص من رحلة ابن بطوطة الاثيرة والممتعة ، ان المرأة في كثير من البلدان الاسلامية كان لها دور كبير في شتى الوان النشاط الاجتماعي وكانت كلمة مسموعة بين قومها في حرية الرأي واختيار الحياة .. وهكذا نستطيع ان نخرج من بين ثنايا رحلته بمعلومات طريفة مهمة عن النساء في عصره في البلاد التي طاف بها ، ولعلنا غير مبالغين اذا قلنا انها تشكل رحلة رابعة لابن بطوطة في عالم رحب مثير ، ومحبوب ، الا وهو عالم النساء ..




المصادر والمراجع
1-ابن بطوطة في عالم المرأة / د . سعيد عبد الفتاح عاشور / مصر / 1985م .
2-القاضي الرحالة ابن بطوطة / د . خاشع مجيد المانع / كويت / 1982 م .
3-كتاب ( رحلة ابن بطوطة ) دار الكتب والوثائق / بغداد .
 
أعلى