علي بن ظافر بن حسين الأزدي الخزرجي، أبو الحسن جمال الدين - بدائع البدائه

قال أبو عبد الله بن شرف
واستخلانا المعز يوماً وقال: أريد أن تصنعا شعراً تمدحان به الشعر الرقيق الخفيف الذي يكون على سوق بعض النساء، فإني أستحسنته، وقد عاب بعض الضرائر بعضاً به، وكلهن قارئات كاتبات، فأحب أن أريهن هذا، وأدعي أنه قديم لأحتج به على من عابه، وأسر به من عيب عليه؛ فانفرد كل منا، وصنع في الوقت؛ فكان الذي قلت:
وبلقيسيةٍ زينت بشعرٍ ... يسيرٍ مثلما يهب الشحيح
رقيق في خدلجةٍ رداحٍ ... خفيف مثل جسم فيه روح
حكى زغب الخدود كل خد ... به زغب فمعشوق مليح
فإن يك صرح بلقيسٍ زجاجاً ... فمن حدق العيون لها صروح
وكان الذي قال ابن رشيق:
يعيبون بلقيسية أن رأوا بها ... كما قد رأى من تلك من نصب الصرحا
وقد زادها التزغيب ملحاً كمثل ما ... يزيد خدود الغيد تزغيبها ملحا
فنتقد المعز على ابن رشيق قوله: يعيبون، وقال: قد أجدت لخصمها حجة بأن بعض الناس عابه. وهذا نقد ما كنت فطنت له.

وروى ابن بسام في كتاب الذخيرة
وهو روايتي عنه بالإسناد المتقدم قال: حكى أبو صفوان العتكي قال: كان أو إسحاق الحصري يختلف إلى بعض المشيخة من القيروان، وكان ذلك الشيخ كلفاً بالمعذرين، وهو القائل فيهم:
ومعذرين كأن نبت عذارهم ... أقلام مسك تستمد خلوقا
قرنوا البنفسج الشقيق ونظموا ... تحت الزبرجد لؤلؤا وعقيقا
قال وكان يختلف إليه غلام من أبناء أعيان أهل القيروان وكان به كلفاً فبينا هو يوماً والحصري جالس عنده
وقد أخذ في الحديث إذا أقبل الغلام:
في صورةٍ كملت تخال بأنها ... بدر السماء لستةٍ وثمان
يعشى العيون ضياؤها فكأنها ... شمس الضحى تعشى بها العينان
فقال له الشيخ: يا أبا إسحاق، ما تقول فيمن هام، في هذا الغلام، وصبا لهذا القد والقوام؟ فقال الحصري: الهيمان به والله غاية الظرف، والصبوة إليه من تمام اللطف؛ لا سيما وقد شاب كافور خده هذا المسك الفتيت، وهجم على صبحه هذا الليل البهيم، والله ما خلت بياضه في سواده إلا بياض الإيمان في سواد الكفر، أو غيهب الظلماء في منير الفجر؛ فقال: صفه يا حصري، فقال: من ملك رق القول حتى ذلت له صعابه، وانقاد له جموحه وسطع له شهابه، أقعد مني بوصفه؛ فقال: صفه فإني معمل فكري في ذلك. ثم أطرق كل منهما لحظة؛ فكان الذي صنعه الحصري:
أورد قلبي الردى ... لام عذارٍ بدا
أسود كالكفر في ... أبيض مثل الهدى
فقال الشيخ: أتراك اطلعت على ضميري، أم خضت بين جوانحي! فقال له: ولم ذلك
أيها الشيخ؟ قال: لأني قلت:
حرك قلبي فطار ... صولج لام العذار
أسود كالليل في ... أبيض مثل النهار




* كتاب: بدائع البدائه
المؤلف: علي بن ظافر بن حسين الأزدي الخزرجي، أبو الحسن جمال الدين (المتوفى: 613هـ)
طبعة: مصر سنة 1861 م



.


17021404_1703877769628220_3972746190097280227_n.jpg
 
وذكر أبو حفص عمر بن علي المطوعي
في كتاب درك الغرر ودرج الدرر في محاسن نظم الأمير أبي الفضل الميكالي، قال: سمعت الأمير أبا الفضل يقول: سمعت أبا القاسم الكرخي يقول: كنت ليلة عند الصاحب بن عباد، ومعنا أبو العباس الضبي، وقد وقف على رءوسنا غلام كأنه فلقة قمر، فقال الصاحب مرتجلاً:
أين ذاك الظبي أينه
فقال أبو العباس الضبي:
شادن في زي قينة
فقال الصاحب:
بلسان الدمع تشكو ... أبداً عيناي عينيه
فقال أبو القاسم:
لي دين في هواه ... ليته أنجز دينه
فزاد الأمير أبو الفضل عند إنشاد أبي القاسم فقال:
لا قضى الله ببينٍ ... أبداً بيني وبينه
وأخبرت أن الأمير أبا الفتح بن أبي حصينة السلمي وأبا محمد عبد الله بن محمد بن سعد الخفاجي الحلبي
اجتمعنا عند الأمير سديد الملك أبي الحسين علي بن المقلد بن نصر بن منقذ الكناني، فتفاوضوا في فنون الأدب، فقال ابن أبي حصينة:
قمر إن غاب عن بصري
فقال الخفاجي:
ففؤادي حد مطلعه
فقال ابن أبي حصينة:
لست أنسى أدمعي ولهاً
فقال الخفاجي:
خلطت في فيض أدمعه
فقال سديد الملك:
قلت زرني قال مبتسماً ... طمع في غير موضعه
قال علي بن ظافر
أخبرني من أثق به بما معناه، قال: خرج الوزير أبو بكر بن عمار والوزير أبو الوليد بن زيدون، ومعهما الوزير ابن خلدون من إشبيلية إلى منظرةٍ لبني عباد بموضع يقال له الغيث، تحف به مروج مشرقة الأنوار، منتسمة النجود والأغوار، مبتسمة عن ثغور النوار، في زمن ربيع سقت السحب الأرض فيه بوسميها ووليها، وجلتها في زاهر ملبسها وباهر حليها وأرداف الربا قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها، وأجياد الجداول قد نظم النور قلائده حول لباتها ومجامر الزهر تعطر أردية النسيم عند هباتها، وهناك من البهار ما يزري بمداهن النضار ومن النرجس الريان ما يهزأ بنواعس الأجفان، وقد نووا الانفراد باللهو والطرب، والتنزه في روضتي النبات والأدب، وبعثوا صاحباً لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم، ونظام مسرتهم ليأتيهم بشراب يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجه، ويرمونه منه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه، وجلسوا لانتظاره، وترقب عوده على آثاره. فلما بصروا به مقبلاً من الفج بادروا إلى لقائه، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه. واتفق أن فارساً من الجند ركض فرسه فصدمه، ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه، وكسر قمعل الشراب الذي كان معه، وفرق من شملهم ما كان الدهر قد جمعه، ومضى على غلوائه راكضاً، حتى خفى عن العين خائضاً، وحين وصل الوزراء إليه، تأسفوا عليه، وأقاضوا في ذكر الزمن وعدوانه، والخطب وألوانه، ودخوله بطوام المضرات على توام المسرات، وتكديره الأوقات المنعمات، بالآفات المؤلمات، فقال ابن زيدون:
أنلهو والحتوف بنا مطيفة ... ونأمن والمنون لنا مخيفة
وقال ابن خلدون:
وفي يومٍ وما أدراك يوم ... مضى قمعا لنا ومضى خليفه
وقال ابن عمار:
هما فخارتا راحٍ وروحٍ ... تكسرتا فشقفات وجيفه
وأخبرني الشريف فخر الدين أبو البركات العباس بن عبد الله المقدم ذكره
قال: أخبرني الشيخ تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، قال: أخبرني بن الدهان القرطبي، قال: مضيت أنا وأبو الفضل البغدادي وابن صلاح إلى دار أمين الدولة أبي الحسن هبة الله بن صاعد، ابن التلميذ، فأساء لنا حاجبه قنبر، وأفرط في منعنا من الدخول إليه، فقال أبو الفضل:
قد بلينا في دار أس ... عد خلقٍ بمدبر
فقلت:
بقصيرٍ مطولٍ ... مستطيلٍ مقصر
فقال ابن الصلاح:
كم تقولون قنبر! ... قطعوا رأس قنبر
ثم أذن لنا، فدخلنا نضحك، فسألنا عن سبب ضحكنا فأخبرناه بالسبب، فقال: أنشدوني الأبيات جملة أميز لكم قول كل واحد منكم، فأنشدناه الأول، فقال: هذا لأبي الفضل لأنه شاعركم، ثم أنشدناه الثاني، فقال: هذا لك لأن فيه شيئاً من ألفاظ المهندسين، وأنت رجل مهندس، ثم قال: والثالث لابن الصلاح لأنه مخضرم.
قال علي بن ظافر
مضيت أنا وشهاب الدين المقدم ذكره والقاضي الأعز بن المؤيد - رحمه الله - في جماعة من أصحابنا إلى الدير المعروف بالقصير، إيثاراً لنظر تلك الآثار، فلما تنزهنا في حسن منظره، وقضينا الوطر من نظره، تعاطينا القول فيه جريا على عادة الخلعاء والبلغاء، وظرفاء الأدباء ومجان الشعراء، الذين نبذوا الوقار بالعراء، فقطعوا طريق الأعمار، بطروق الأغمار، وضيعوا العين والعقار في تحصيل العين والعقار، فقال الشهاب:
سقى الله يومي بدار القصير ... قصير العزالى طويل الذيول
محل إذا لاح لي لم أقف ... بصحبي على حوملٍ فالدخول
فقلت:
فكم فيه من قمرٍ في دجىً ... على غصنٍ في كثيب مهيل
بلحظٍ صحيحٍ وطرف سقيمٍ ... وروحٍ خفيفٍ وردف ثقيل
فقال الأعز:
قطعت به العيش مع فتيةٍ ... صباح الوجوه كرام الأصول
بكل كريم قصير المرا ... ء حاز المعالي بباعٍ طويل
فقال الشهاب:
إذا فمه سل سيف المدام ... فكم من سليبٍ وكم من قتيل
فقال الأعز:
وكم من خليعٍ كريم الفعال ... يجدد بالجود غيظ البخيل
فقلت:
نوافيه ذا ذهب جامدٍ ... فيفنيه في ذائب للشمول
ثم صنع الشهاب فيه على غير هذا الروي والوزن، فقال:
على عمر القصير قصرت عمري ... وصنت خلاعتي وأزلت وقري
فقال الأعز:
ولم أسمع لعمري قول زيدٍ ... إذا ما لامني أو قول عمرو
فقلت:
ظفرنا فيه من شفةٍ وكأسٍ ... بمشروبين من ريقٍ وخمر
فقال الشهاب:
ودافعنا يقين الدين فيه ... بمظنونين من خمرٍ وخصر
فقال الأعز:
كسوت به كئوس البيض حمراً ... من القمص اشتريناها بصفر
فقلت:
وظلت بمارق للهو أتلو ... بهز البيض فيه عناق سمر
قال علي بن ظافر
وجلسنا يوماً في روضٍ قد ماست قدوده، واخضرت بروده، وخجل ورده من عيون نرجسه فاحمرت خدوده، والروض يهدي إلى الآفاق طيب عرفه، والنسيم يركض في ميادين الأزهار بطرفه، فقلت:
بعث النسيم إلى الرياض رسولا ... يوحي إليه بكرةً وأصيلا
فقال الأعز:
يدعو إلى شرب المدام فليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا
فقال الشهاب:
ياويلتا ذهب الشباب فليتني ... لم أتخذ فيه العفاف خليلا
ومما روي في مثل هذا إلا أنه روي عن قوم مجاهيل
فأخرنا ذكره، حتى انتهى الترتيب، ولم نر إخلاء الكتاب من ذكره؛ لأنه يجري مجرى الملح، ما روي أن ثلاثة من الكتاب خرجوا إلى متنزه، فبينما هم يأكلون طعاما كان معهم، إذا بمتطفل جلس إليهم، وابتدأ في تلقف ما في الطبق مما بين أيديهم، فقالوا له: هل عرفت منا أحداً؟ قال نعم، هذا - وأشار إلى الطعام - فتعاطوا صفتهم، فقال أحدهم:
لم أر مثل جذبه ومطه
فقال الآخر:
والأكل من دجاجه وبطه
فقال الثالث:
كأن جالينوس تحت إبطه
فقال: أما نحن فوصفنا من شدة أكله ما عايناه، فما معنى كون جالينوس من تحت إبطه؟ فقال: يلقمه جوارش الكمون لئلا يتخم.
ومن التمليط الواقع بين أربعة شعراء:
ما روى الأصبهاني بسندٍ يتصل بإسحاق الموصلي عن رجاله
أن عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزوميين وأبا ربيعة المصطلقي ورجلاً من بني مخزوم - وهو ابن أخت الحارث - خرجوا يشيعون بعض خلفاء بني أمية، فلما انصرفوا نزلوا بسرف، فلاح لهم برق، فقال الحارث: كلنا شعراء، فهلموا نصف البرق، فقال أبو ربيعة:
أرقت لبرق في دجى الليل لامعٍ ... جرى من سناه ذو الربا فمتالع
فقال الحارث:
أرقت له ليل التمام ودونه ... مهامه موماة وأرض بلاقع
فقال ابن أخته:
يضيء عضاه الشوك حتى كأنه ... مصابيح أو فجر من الصبح ساطع
فقال عمر بن أبي ربيعة:
أيا رب لا آلو المودة جاهداً ... لأسماء فاصنع بي الذي أنت صانع
ثم قال: مالي وللبرق والشوك!
 
أعلى