عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي - من غاب عنه المطرب

الباب الرابع
الغزل وما يجانسه

فصل
الغزل

يقال: أغزل بيت للعرب قول جرير:
إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ ... قتلْننا ثم لم يحيينَ قتلانا
يصرعْنَ ذا اللبّ حتى لا حراكَ به ... وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانا
وقال هارون بن علي بن يحيى المنجم: أغزل بيت قول الشاعر:
أنا والله أشتهي سحرَ عينيكِ ... وأخشى مصارعَ العشاقِ
وقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: أغزل بيت قول الموصلي:
إذا مرضْنا أتيناكمْ نعودُكُمُ ... وتذنبونَ فنأتيكمْ فنعتذرُ
وقال أبو هفان: قول أبي الشيص أغزلها:
وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي ... متأخَّرٌ عنهُ ولا مُتَقَدَّمُ
أجد الملامةَ في هواك لذيذةً ... حباً لذكركِ فليلمْني اللُوَّمُ
أشبهتِ أعدائي فصرتُ أَحبهم ... إذا كانَ حظي منكِ حظي منهُمُ
وأهنِتني فأهنتُ نفسيَ صاغراً ... ما مَنْ يهونُ عليكِ ممنْ يُكْرَمُ
وكان البحتري يقول: أغزل الناس العباس بن الأحنف وأغزل شعره قوله:
أحرمُ منكمْ بما أقولُ وقد ... نال به العاشقونَ منْ عَشقوا
صرتُ كأني ذبالةٌ نُصِبَتْ ... تضيءُ للناسِ وهْيَ تحترقُ
وحكى أبو القاسم الآمدي قال: سمعت بعض الشيوخ النقدة للشعر تقول: غزل بيت قول العباس بن الأحنف:
وصالكُمُ هجر وحُبُّكُمُ قِلىً ... وعطفكمُ صَدٌّ وسِلمكُمُ حربُ
فقال: هذا والله أحسن من تقسيمات إقليدس.
وبلغني أن الصاحب كان يستحسن جداً قول المتنبي:
وما شَرَقي بالماءِ إلا تذكراً ... لماءٍ به أهلُ الحبيب نزولُ
وكان أبو بكر الخوارزمي يقول: أغزل البصريين السري الرفاء في قوله:
قسمت قلبيَ بين الهَمّ والكمدِ ... ومقلتي بين فيضِ الدمع والسهدِ
ورحت في الحبّ أشكالاً مقسمةً ... بين الهلالِ وبين الغصن والعقدِ
أرينني مَطَراً ينهلُّ ساكبُه ... بين الجفونِ وبرقاً لاحَ مِنَ بَرَدِ
ووجنةً لا يروِّي ماؤُها ظمأي ... بخلاً وقد لذعتْ نيرانُها كَبِدي
وكيف أبقي على ماءِ الشؤون وما ... أبقى الغرامُ على صَبري ولا جَلَدي
وقال مؤلف الكتاب في صباه:
قلبي وجداً مشتغلْ ... على الهمومِ مشتعلْ
وقد كساني في الهوى ... ملابسَ الصَّبِّ الغَزِلْ
إذا زنتْ عيني به ... فبالدموع تغتسلْ

فصل
الشّعْر

من أحسن ما قيل في
الشعر قول بكر بن النطاح:
بيضاء تسحبُ من قيامٍ فرعَها ... وتضلُّ فيه وهو جثلٌ أسْحَمُ
وكأنها فيه نهارٌ ساطعٌ ... وكأنه ليلٌ عليها مظلِمُ
وأحسن ما سمعت في شعورهن، مع وصف عيونهن، وحسن مشيهن قول المطراني الشاشي، وهو ما استحسنه الصاحب من شعره لما حمل ديوانه إلى حضرته:
ظباءَ أعارتها المها حسنَ مشيها ... كما قدْ أعارتها العيونَ الجآذرُ
فمن حسن حال المشي جاءتْ فقَبلتْ ... مواطىء من أقدامِهَنَّ الضفائرُ
ومن وسائط المتنبي قوله:
نشرتْ ثلاثَ ذوائبٍ من شعرها ... في ليلةٍ فأرتْ لياليَ أربعا

فصل
العيون

قال عدي بن الرقاع عفا الله عنه:
وكأنّها بين النساءِ أعارَها ... عينيه أحورُ من جآذرِ جاسمِ
وسنانُ أقصدَه النعاسُ فرنَّقَتْ ... في عينهِ سِنةٌ وليسَ بنائمِ
وأحسن ذو الرمة حيث قال:
لها بَشرٌ مثلُ الحرير ومنطقٌ ... رخيمُ الحواشي لا هراءٌ ولا نزرُ
توهمتُها ألوى بأجفانِها الكرى ... كرى النومِ أو مالتْ بأعطافِها الخمرُ
وقد ملح كشاجم في قوله:
يا منْ لأجفان قريحَهْ ... سهرتْ لأجفانٍ مليحَهْ
لم تتركِ المقلُ المريضةُ فيَّ جارحةً صحيحَهْ
ومن مطربات السري قوله:
بنفسي من أجودُ له بنفسي ... ويبخلُ بالتحيةِ والسلامِ
وحتفي كامنٌ في مقلتيه ... كمونَ الموتِ في حَدِّ الحسامِ
ولا مزيد على قول الوزير المهلبي:
ربّ يومٍ قطعتُ فيه خُماري ... بغزالٍ كأنني مخمورُ

فصل
الثغر

من مطربات هذا الفصل قول المخزومي:
وقبَّلتُ أفواهاً عِذاباً كأنها ... ينابيعُ خمرٍ حُصّنَتْ لؤلؤَ البحرِ
وقول العلوي الحماني:
ذاتُ خدين ناعمين ضنينين بما فيهما منَ التفاحِ
وثنايا وريقةٍ من مدامٍ ... كعبيرٍ وروضةٍ منْ أقاحي
وأحسن كشاجم حيث قال:
واحَرَبا من أوجهٍ ملاحِ ... ومن ثغورٍ تشبهُ الأقاحي
مملوءةٍ من بَرَدٍ وراحِ ... وحدقٍ مريضةٍ صحاحِ
هنَّ اللواتي أيأستْ صلاحي ... وتركتْ ليلي بلا صَباحِ
وله أيضاً:
في فمها مسكٌ ومشمولةٌ ... صِرفٌ ومنظومٌ من الدُّرِّ
فالمسكُ للنكهةِ والخمرُ للريقةِ واللؤلؤُ للثَّغْرِ
ومن مطربات الصابي قوله:
قبَّلتُ منه فماً مجاجتُه ... تجمعُ بين المدامِ والشَّهدِ
كأن مجرى سِواكه بَرَدٌ ... وريقُهُ ذوبُ ذلك البَرَدِ
وأحسن من ذلك كله وأدعى للطرب قول أبي العشائر:
للعبد مسألةٌ لديكَ جوابُها ... إن كنتَ تذكرُه فهذا وقتُهُ
ما بال ريقِك ليسَ ملحاً طعمُه ... ويزيدني عَطشاً إذا ما ذقتُهُ
وقال مؤلف الكتاب:
ثغرٌ كلمح البرقِ حسنُ بريقه ... يشفي غليلَ المستهامِ بريقِهِ
قد بتُّ ألثمُهُ وارتشفُ المنى ... من دُرِّهِ وعَقيقِه ورَحيقِهِ

فصل
جميع الأوصاف وسائر التشبيهات

في البيتين والبيت
قال ابن المعتز وأبدع:
ليلٌ وبدرٌ وغصنٌ ... شعرٌ ووجهٌ وَقَدُّ
خمرٌ ودرٌّ ووَرْدٌ ... ريقٌ وثغرٌ وخَدُّ
وقال ابن سكرة:
في وجه إنسانة كلفْتُ بها ... أربعةٌ ما اجتمعنَ في أحدِ
الخدُّ وردٌ والصُّدْغُ غاليةٌ ... والريقُ خمرٌ والثغرُ من بَرَدِ
في كل جزء من حسنها بِدَعٌ ... تُودِعُ قلبي ودائعَ الكمدِ
ولأبي نواس أربع تشبيهات:
يا قمراً أبصرتُ في مأتمٍ ... يندبُ شجواً بين أترابِ
يبكي فيذري الدُرَّ من نرجسٍ ... ويلطمُ الوردَ بعنَّابِ
وأحسن الوأواء الدمشقي حيث قال:
وأمطرَتْ لؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ ... ورداً وعضَّتْ على العنَّابِ بالبَرَدِ

فصل
وصف الثدي

قد أحسن فيه ابن أبي السمط حيث قال:
كأن الثَّدِيَّ إذا ما بَدَتْ ... وزانَ العقودُ بهنَّ النحورا
حِقاقٌ من العاجِ مكنونةٌ ... يسعنَ من الدُّرِّ شيئاً كثيرا
وقول ابن الرومي نهاية في الحسن والظرف:
صدورٌ فوقهنَّ حقاقُ عاجِ ... ودْرٌّ زانه حسنُ اتساقِ
يقولُ القائلونَ إذا رأوْها ... أهذا الحلْيُ من هذي الحقاقِ
ومن مطربات هذا الباب قول ابن المهدي:
خلتها في المعصفرات القواني ... وردة في شقائق النعمان
أنتِ تفاحتي وفيكِ مع التفاحِ رمانتانِ في غصنِ بانِ
وإذا كنتِ لي وفيكِ الذي أهوى فما حاجتي إلى البستانِ؟
ولم أسمع في لطافة الكشح أحسن من قول ابن الرومي:
شهدت لنا كبدٌ ترقُّ كما ... شهدتْ بذاك لطافةُ الكشْحِ
ولا في حسن الحديث كقوله:
وحديثها السحرُ الحلال لو أنّه ... لم يجنِ قتلَ العاشِق المتحرزِ
إن طالَ لم يُملَلْ وإن هي أوجزتْ ... وَدَّ المحدَّثُ أنها لم توجزِ
شَرَكُ العقولِ ونزهةٌ ما مثلها ... للمطمئنِّ وعقلةُ المستوفزِ

فصل
غرر من ألفاظ البلغاء
في أوصاف النساء نثراً

هي روضة الحسن، ونضرة الشمس، وبدر الأرض كأنها فلقة قمر على قضيب فضة. بدر التم يفتر تحت نقابها، وغصن يهتز تحت ثيابها. قد أثمر صدرها ثمر الشباب، وأثمر خدها التفاح وصدرها الرمان. مطلع الشمس من وجهها، ومنبت الدر من فيها، وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، ومد الليل من شعرها، ومغرس الغصن في قدها، ومهيل الرمل في ردفها.

فصل
غرر من ألفاظهم في أوصاف المرد

قد زاد جماله وأقمر هلاله، وقد استوفى وصف الغصن، وترقرق في وجهه ماء الحسن. غلام تأخذه
العين، ويقبل عليه القلب، وترتاح له الروح، وتكاد العيون تأكله، والقلب يشربه. صورته تجلو الأبصار وتخجل الأقمار، غزلات طرفه تحت ظرفه، ومنطقه ينطق بوصفه. كأن قده سكران من خمر طرفه، والأزهار مسروقة من حسنه وظرفه. قد ملك أزمة القلوب، وأظهر حجة الذنوب. السحر من ألحاظه، والشهد من ألفاظه. كأنما خادم الولدان في الجنان هرب من رضوان. ما هو إلا خال في خد الظرف، وطراز على علم الحسن، ووردة في غصن الدهر، وخاتم في خنصر الملك، وشمس في فلك اللطف.

فصل
التغزل بغلمان مختلفي الأحوال
والأفعال والأوصاف

من أحسن ما سمعت في غلام صغير قول ابن لنكك:
قالوا عشقتَ صغيراً قلت أرتعُ في ... روضِ المحاسنِ حتى يُدرَكَ الثمرُ
ربيع حسنٍ دعاني لافتتاحِ هوىً ... لما تفتح فيها النَّوْرُ والزَهَرُ
وأبدع منه قول عثمان الخالدي:
صغيرٌ صرفتُ إليه الهوى ... وهل خاتمٌ في سوى خنصرِ
فإن شئت فاعذر ولا تلحني ... وإن شئت فآلحُ ولا تعذرِ
وأحسن الصنوبري في غلام يصلي:
جاء يسعى إلى الصلاةِ بوجهٍ ... يخجِلُ البدرَ في بروجِ السعودِ
فتمنيت أن وجهيَ أرضٌ ... حين أومى بوجهه للسجودِ
وفي غلام إمام قول أبي نواس:
ولم أنس ما أبصرتُه في جماله ... وقد زرت في بعض الليالي مصلاهُ
ويقرأُ في المحرابِ والناسُ خلفه ... " ولا تقتلوا النفسَ التي حَرَّمِ اللهُ "
فقلتُ: تأملْ ما تقول فإنها ... فعالكَ يا من تقتلُ الناسَ عيناه
وفي غلام حاج قول أبي محمد بن عبد الباقي:
أيا زائرَ البيتِ العتيق وتاركي ... قتيلَ الورى لو زرتَني كان أجدرا
تحجُّ احتساباً ثم تقتلُ مسلماً ... فليتكَ لم تحججْ ولا تقتل الورى
وفي غلام يدور في الماء ورد قول ابن المعتز:
يا هلالاً يدورُ في فلكِ الما ... وَرْدِ رفقاً بأعين نظارَهْ
قفْ لنا في الطريقِ إن لم تزرنا ... وقفةٌ في الطريق نصفُ الزيارَهْ
وفي غلام يحمل مطرداً قول أبي البغل:
قد أقبلَ البدر في قراطِقه ... يقتلُ بالدَّلِّ قلبَ عاشقِه
يسطو علينا بسيفِ مقلته ... لا بالذي شُدَّ في مناطِقه
ولابن المعتز في غلام لابس أزرق:
وبنفسجيِّ الثوبِ قلبُ محبِّه من رائِه
الآن صرتَ البدرَ حين لبستَ ثوبَ سمائِه
وقول الصاحب في غلام لابس أحمر:
قد قلت لما مرَّ يخطرُ ماشياً ... والناسُ بين معوِّذٍ أو وامقِ
لم يكف ما صنعتْ شقائقُ خده ... حتى تلبسَ حلةً بشقائقِ
وفي غلام عاشق قوله:
بدا لنا والشمسُ في شروقِه ... يشكو غلاماً لجَّ في عقوقِه
واعجباً والدهرُ في طروقه ... من عاشق أحسن من معشوقِه
وفي غلام دخل الحمام قول الحسين الضحاك:
جردهُ الحمامُ كالفضَّهْ ... أبانَ منه عُكَناً بضَّهْ
كأنما الرشحُ بأطرافه ... قطرٌ على سوسَنةٍ غضَّهْ
فليتَ لي من فمه قبلةً ... وليتَ لي من خدّه عَضَّهْ
وفي غلام يبيع الفراني:
قلت للقلبِ ما دهاك أجبني ... قال لي بائعُ الفراني فراني
ناظراهُ فيما جنى ناظِراه ... أوْ دعاني أمتْ بما أوْدعاني
وفي غلام بيده غصن عليه نَوْر قول ابن سكرة:
غصن بانٍ أتى وفي اليد منه ... غُصُنٌ فيه لؤلؤٌ منظومُ
فتحيرتُ بين غصنين في ذا ... قمرٌ طالعٌ وفي ذا نجومُ
وفي غلام ينفخ في مجمرة قول الصنوبري:
يا نافخَ الجمرةِ مستعجلاً ... ليزكيَ الجَمرَ فأزكاهُ
مهيئاً فاه لها مثلما ... هَيَّأ إذ قبلني فاهُ
لست أريدُ الطيبَ رياك قد ... أغنتْ عن الطيبِ ورياهُ
وفي غلام يشتكي ضرسه قول أبي سعيد بن خلف الهمداني:
عجباً لضرسِك كيف تشكو علةً ... وبجنبها من ريقِك الترياقُ
هلاَّ وقاكَ سقامُ ناظركَ الذي ... عافاكَ وابتليَتْ به العشاقُ
أو عقربا صدغيكَ إذ لذَعا الورى ... وحماكَ من حماتِها الخلاّقُ
وفي غلام مريض قول الوأواء الدمشقي:
ابيضَّ واصفر لاعتلالٍ ... فصارَ كالنرجسِ المُضَعَّفْ
كأنَّ نسرينَ وجنتيهِ ... بشعرِ أصداغهِ مغلَّفْ
يرشحُ منه الجبينُ ماءً ... كأنه لؤلؤٌ منَصَّفْ
وفي غلام مسافر قول مؤلف الكتاب:
فديتُ مسافراً ركبَ الفيافي ... وأثَّرَ في محاسنِه السفارُ
فَمَسَّك وردَ خديه السوافي ... وعنبرَ مسكَ صدغيه الغبارُ

فصل
الصدغ والشارب والعذار واللحظ

من أحسن ما سمعت في الصدغ قول ابن المعتز:
ظبيٌ يتيه بحسن صورتِه ... عبثَ الدلالُ بلحظ مقلتهِ
وكأن عقربَ صدغِه احترقتْ ... لما بدتْ من نارِ وجنتِهِ
ومن مطربات ابن المعتز قوله:
قد صادَ قلبي قمرُ ... يسحرُ منه النظرُ
بوجنة يكاد أنْ ... يقدحَ منها الشررُ
وشاربٍ قد عَمّ إذ ... نمَّ عليه الشَّعَرُ
وقول السري:
وريمٍ إذا رمتُ حثَّ الكؤو ... سِ قَطَّبَ للتيهِ واستكبرا
ترى وردَ وجنتهِ أحمراً ... وريحانَ شاربِه أخضرا
ومن الغرر المطربة قول أبي الفتح كشاجم وقد أملح فيه:
مَنْ عذيري من عِذاريْ قمر ... عَرَّضَ القلبَ لأسباب التلفْ
علِمَ الشعرُ الذي عارضَه ... أنه جارَ عليه فوقفْ
وقال الصاحب:
إن كنتَ تنكرُه فالشمسُ تعرفه ... أو كنتَ تظلمه فالحسن يُنصفُهُ
ما جاءه الشعرُ كي يمحو محاسنَه ... وإنما جاءَه غِمداً يغلّفُهُ
وقد أطرب ابن هندو حيث قال:
عابوه لما التحى فقلنا ... عبتمْ وغبتم عن الجمالِ
هذا غزالٌ ولا عجيبٌ ... تَوَلُّدُ المسْكِ من غزالِ

الباب الخامس
الخمريات وما يتصل بها

فصل
مدح النبيذ

قال كسرى: النبيذ صابون الهم.
وقال جالينوس: الراح صديق الروح.
وقال أرسطاطاليس: الراح كيميا الفرح.
وقال
عبد الملك بن صالح الهاشمي: ما جمشت الدنيا بأظرف من النبيذ، وكان ابن الرومي يقول: قد أفلح شارب النبيذ لأنه يقيه الشح، وقال الله تعالى: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ".
وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
أعاذل إنَّ شربَ الراحِ رشدٌ ... لأن الراحَ يأمرُ بالسماحِ
يقينا شحَّ أنفسِنا وذاكم ... إذا ذُكِرَ الفلاحُ من الفلاحِ

فصل
وصف الخمر من كلام البلغاء

مدامة تورد ريح الورد، وتحكي نار إبراهيم في اللين والبرد. راحاً كالنور والنار. راحاً أحسن من الدنيا المقبلة. وهي من نعم الله المكملة. راحاً أرق من الصبا وعهد الصبى. وألذ من الشماتة بالأعدا. ساقٍ كأن الراح من خده معصورة، وملاحة الصورة عليه مقصورة.

فصل
مدح السماع

قال بعض الفلاسفة: أمهات لذَّاتِ الدنيا أربع. لذة الطعام، ولذة الشراب، ولذة النكاح، ولذة السماع فاللذات الثلاث الأول لا يوصل إلى واحدة منها إلا بحركة وتعب ومشقة، ولها مضار إذا استكثر منها. ولذة السماع صافية من التعب خالصة من الضرر.
وكان بعض المتكلمين يقول: قد اختلف الناس في السماع فأباحه قوم، وحظره آخرون. وأنا أخالف الفريقين. فأقول بوجوبه لكثرة منافعه ومرافقه، وحاجة النفوس إليه، وحسن أثر استمتاعه به.
وقال بعض الخلفاء: إني لأجد للسماع أريحية، لو سئلت عندها الخلافة لأعطيتها، وسمع معاوية عند عبد الله بن جعفر الغناء، فحرك رأسه ورجليه، وصفق بيديه ثم ثاب إليه رأيه فقال كالمعتذر من فعله: إن الكريم طروب ولا خير فيمن لا يطرب.
وقال يحيى بن خالد: خير الغناء ما أشجاك وأبكاك وأطربك وألهاك.

ومن المطربات
قول أبي محمد الحمامي:
قمْ فاسقني بين خفقِ الناي والعودِ ... ولا تبعْ طيبَ موجودٍ بمفقودِ
نحن الشهودُ وخفقُ العود خاطبُنا ... نزوِّجُ ابنَ سحابٍ بنتَ عنقودِ
ومن أحسن ما قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
إن آن عيدٌ فهذا يومُ تعييدِ ... فاشربْ على الأخوينِ الناي والعودِ
كأساً تَسوغُ فتجري من لطافتها ... في باطن الجسم جريَ الماءِ في العودِ
ولأبي عثمان الناجم:
شدْوُ ألذُّ من ابتدا ... ءِ العين في إغفائِها
أشهى وأحلى من منى ... نفسي ونيل رجائها

فصل
أوصاف الندماء

وصف المأمون ثمامة بن أشرس فقال: كان والله أعلى الناس في الجد وأحلاهم في الهزل. وكان يتصرف مع القلوب تصرف السحاب مع الجنوب.
وذكر المهلبي الوزير أبا القاسم التنوخي فقال: هو ريحاننا في القدح، وذريعتنا إلى الفرح. ووصف الصاحب بعض بني المنجم فقال: عشرته ألطف من نسيم الشمال على أديم الماء الزلال. ومن أحسن ما جاء في وصف الظرف واللباقة قول أبي خلاد المصري في مولى لأبي أحمد بن طولون، يسمى ريحاناً فقال:
ريحان ريحانتي إذا مُلِىءَ الكأسُ ومنه يُؤَدَّبُ الأدبُ
تشربهُ الكأسُ ليس يشربُها ... يطربُ من حسنِ وجهه الطَرَبُ

فصل
الاستظهار بالراح
على الزمان ودفع الأحزان

كان المأمون وهو ملك ملوك الزمان يستعين بها على الزمان. قال أبو نواس:
أما ترى الأرضَ ما تفنى عجائبُها ... والدهرُ يخلطُ ميسوراً بمعسورِ
وليس للهمّ إلا كُلُّ صافيةٍ ... كأنها دمعةٌ في عينِ مهجورِ
وقال أيضاً رحمه الله:
إذا ما أتتْ دون اللهاةِ من الفتى ... دعا هَمُّه من صدرِه برحيلِ
ومن ملحِ أحاسن ابن المعتز قوله:
سَلِّطْ على الأحزان بنت الدنانْ ... وارحل إلى السكر برطل وثانْ
نعمَ قِرى السمعِ على شربها ... صوتُ المزامير وعَزْفُ القيانْ
ومن مطربات الصاحب قوله:
رَقّ الزجاجُ وراقتِ الخمرُ ... فتشابها فتشاكلَ الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ ... وكأنما قدحٌ ولا خمرُ
ومن مطربات ابن المعتز قوله:
وندمانٍ سقتني الراحَ صرفاً ... وأفقُ الليل منسدلُ السجوفِ
صفتْ وصفتْ زجاجتُها عليها ... كمعنى دَقَّ في معنىً لطيفِ
وقول مؤلف الكتاب:
يا واصفَ الكأسِ بتشبيهها ... دونَكَ وصفاً عاليَ القَدْرِ
كأنَّ عينَ الشمسِ قد أُفْرِغَتْ ... في قالبٍ صيغَ من الدُّرِ
ومن مطربات السري قوله:
وبكر شربناها على الروضِ بكرةً ... فكانت لنا وِرداً إلى ضحوةِ الغدِ
إذا قام مبيضُ اللباسِ يُديرُها ... توهمته يسعى بكمٍّ مورَّدِ
وأحسن من هذا كله قول أبي الحسن الجوهري الجرجاني:
جنحَ الظلامُ فبادري بمدامةٍ ... بسطتْ إليَّ من العقيقِ جناحا
صهباءُ لو مرّت بها قمريةٌ ... أذكى عليك بريقُها مصباحا
رعتِ الزمانَ ربيعَه وخريفَهُ ... فأتتْكَ تهدي الوردَ والتفاحا

فصل
سائر الأجناس من مطربات أوصافها

قول أبي نواس:
اسقِنا إن يومَنا يومُ رامِ ... ولرامس فضلٌ على الأيامِ
من شرابٍ ألذَّ من نظرِ المعشوقِ ... في وجهِ عاشقٍ بابتسامِ
لا غليظٍ تنبو الطبيعةُ عنه ... نبوةَ السمعِ عن شنيعِ الكلامِ
وقول السري:
اشربْ فقد شرَّدَ ضوءُ الصبح عنا الظُلَما
وصَوَّبَ الإِبريقُ في الكأس مُداماً عَنْدَما
كأنه إذ مَجَّهُ ... مقهقهٌ يبكي الدما
وقول الخالدي:
قامَ مثلَ الغُصُنِ الميادِ من لينِ الشبابِ
يمزجُ الخمرَ لنا بالصفوِ من ماءِ السحابِ
فكأنّ الراحَ لما ... ضحكتْ تحتَ الحبابِ
وجنةٌ حمراءُ لاحت ... لكَ من تحتِ النقابِ
وقول ابن المعتز:
وأمطرَ الكأسُ ماءً من أبارقِه ... فأنبت الدُرَّ في أرضٍ من الذهبِ
وسَبَّحَ القومُ لما أن رأواْ عجباً ... نوراً من الماءِ في نارٍ من العِنَبِ
وقال أبو الفتح البستي:
إذا خمدتْ أنوار نفسك فاعتمد ... لإِشعالِها خمساً غَدَتْ خير أعوانِ
ولا تعتمد إلا بهنَّ فإنها ... لمن يعتريه الهَمُّ أوثقُ أركانِ
براحٍ وريحانٍ وساقٍ مهفهفٍ ... ونغمةِ ألحانٍ ولطعةِ إخوانِ

فصل
الساقي

من أحسن ما قيل في وصفه قول البحتري يصف الشراب وهو في غاية الإطراب:
سقاني كأسَه شَزْراً ... وولّى وهْوَ غضبانُ
وفي القهوةِ أشكالٌ ... من الساقي وألوانُ
حبابٌ مثل ما يضحكُ عنه وهو جذلانُ
وسكرٌ مثل ما أسكر طرفٌ منهُ وسنانُ
وطعمُ الريقِ إذ جادَ به والصبُّ هيمانُ
لنا من كفه راحٌ ... ومن ريّاه رَيْحانُ
وأحسن منه قول ابن المعتز:
قد حثَّني بالكأس أوَّلَ فجرهِ ... ساقٍ علامةُ دِينهِ في خَصْرِهِ
فكأنَّ حمرةَ لونها في خدِّه ... وكأن طيبَ نسيمها من نشرِهِ
حتى إذا صُبَّ المزاجُ تبسمتْ ... عن ثغرِها فحسبتهُ منْ ثغرِهِ
وأحسن منه قوله أيضاً:
تدورُ علينا الكأسُ من كفِّ شادنٍ ... له لحظُ عينٍ يشتكي السقمَ مدنَفُ
كأن سلافَ الراحِ من كأسِ خدِّهِ ... وعنقودَها من شعرِه الجعدِ يُقْطَفُ
ومن مطربات الخالدي قوله:
أهلاً بشمسِ مدامٍ من يدي قمرٍ ... تكاملَ الحسنُ فيه فهْوَ تيّاهُ
كأن خمرتَه إذ قامَ يمزجُها ... من خدّه عُصرَتْ أو مِنْ ثناياهُ
إذا سقتكَ من الممزوجِ راحتُه ... كأساً سقتك كؤوسَ الصرفِ عيناهُ
في وجههِ كلُّ ريحانٍ تراحُ به ... منا قلوبٌ وأبصارٌ وتهواهُ
النرجسُ الغضُّ عيناه وطُرَّتُه ... بنفسجٌ وذكيُّ الوردِ رَيّاهُ



كتاب: من غاب عنه المطرب
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (المتوفى: 429 هـ)

.

.

صورة مفقودة
 
أعلى