هيفاء بيطار - إلى متى يبقى جسد المرأة تابعاً للرجل؟

ظل موضوع الجسد محل تجاهل النظريات الفلسفية والسياسية والثقافية حتى عهد قريب، فهناك تهميش للجسد، وكان ديكارت أكثر من همّش الجسد حين افترض أنه يمكننا اكتساب المعرفة من خلال الاقتصار على تأمل العالم، لكن جاء بعده هايدغر الذي نقض تصورات ديكارت وبيّن أنه لا يمكن الحصول على المعرفة الحقيقية، إلا من خلال تعامل الجسد مع المحيط حوله، لذا فإن هايدغر أدخل الجسد ضمن نطاق الفكر الفلسفي. إذاً معظم النظريات الفلسفية ركـّزت على العقل الإنساني واعتبرته أهم بكثير من الجسد.
إلى أن أتى العالم الفرنسي الشهير ميشيل فوكو (1926- 1984) المؤسس الحقيقي لسوسيولوجيا الجسد الذي درس البشر بوصفهم أشخاصاً متجسدين في أجسام، وبيّن أن الفروق بين الرجال والنساء لا يمكن تفسيرها من خلال فروق فيزيولوجية فقط، وبأن الأفكار السائدة اجتماعياً وثقافياً حول الرجولة والأنوثة هي صور نمطية وليس لها علاقة دقيقة بالواقع.
الموضوع الحساس والفائق الأهمية الذي تتناوله الباحثة مها محمد حسين في كتابها الجديد «العذرية والثقافة» (الصادر عن «دال للنشر والتوزيع») هو موضوع العذرية التي تحتل قيمة اجتماعية عالية في مجتمعنا العربي، لارتباطها بقيم أخرى داعمة لها مثل الشرف والفضيلة والعفة والحياء... الخ.
معايير
ورغم أن العذرية في معناها البيولوجي تعني الحفاظ على غشاء البكارة، إلا أن الباحثة ميّزت بين العذرية البيولوجية والعذرية السلوكية (العفـّة). وقبل أن نغوص في مفهوم العذرية، لا بد من الانتباه إلى أن الجسد الإنساني يخضع لعمليات تنشئة اجتماعية من رقابة وضبط تجعل الإنسان يقوم بتضبيط جسده وحركاته وتعبيراته وفقاً لمعايير التنشئة التي يتلقاها، والتي غالباً ما تتفق مع ثقافة أسرته، أي إن الإنسان يستخدم جسده بطريقة تتطابق مع المعايير الاجتماعية والثقافية لمجتمعه، وهذا ما يسمى Bodily order أي أن الجسد يصبح – بشكل عام – ليس ملكاً للشخص نفسه، بل مُلكاً لغيره، سواء أفراد من الأسرة أو المجتمع. وأكثر ما ينطبق ذلك على المرأة، فهي مخلوق لغيره لا لذاته، ولا تزال المرأة مستعبدة لمفاهيم الأنوثة الخاطئة، وأحد أكثر أشكال هذه المظاهر هي عملية الختان للإناث، كأحد أهم آليات ضبط الجسد الأنثوي وواحدة من صور المحافظة على عفة وعذرية الأنثى، وأن وضع المرأة في المجتمع هو المرآة العاكسة الحقيقية لهذا المجتمع.
وببراعة تحلل مها حسين رواية أليس واكر «امتلاك سر الفرح»، وهي رواية عن امرأة افريقية تنضم إلى الثوار الذين يقاتلون من أجل الاستقلال، ورغم نضالها ووعيها فإنها تُخضع نفسها لعملية الختان الفرعوني وهي في سن العشرين، رغم إدراكها أن هذه العملية قد شوهت والدتها مدى الحياة، وأدت إلى موت أختها بالنزيف، لكنها أقدمت على هذه العملية إذ تقول «أردتُ أن تنظر القبيلة إليّ كامرأة حقيقية»، فالمرأة التي تحترمها القبيلة هي المختونة.
عادة الختان
إن بتر بعض الأعضاء التناسلية للمرأة هو الذي يجعلها مُقدّرة ومحترمة! وفي الصين توضع أقدام الفتيات في قوالب صغيرة كي تبقى الأقدام صغيرة، وهذا أحد أشكال استلاب الجسد الأنثوي واستعباده وفق مفاهيم معينة. وتشرح الباحثة الآثار النفسية المدمرة للختان الجسدي، وتبين أن الأكثر أذى وخطورة هو الختان النفسي والفكري.
وتجري دراسة إحصائية واسعة على عادة الختان، وهي عادة ليست إسلامية والدين منها براء، فأصل الختان يرجع إلى منطقة وسط أفريقيا وقبل ظهور الديانات السماوية بآلاف السنين، وكانت القبائل البدائية تمارس ختان الفتيات، ثم انتشرت هذه العادة في دول الجوار مثل الصومال والحبشة، وبالتالي في دول حوض النيل مثل السودان ومصر، وهناك دول إسلامية عديدة لا يجري فيها الختان مثل السعودية وإيران وغيرها، فأعلى نسبة ختان هي في مصر.
أما عن علاقة الختان بالعفة، فلا توجد على الإطلاق، لأن العفة الحقيقية لا تبدأ من الجسد، بل من العقل والإرادة والروح، وقد أثبتت التجربة أن ختان البنات لا يؤدي إلى الهدف الذي تم من أجله، أي الحفاظ على شرف الفتاة وعذريتها، وهو لا يمنع المختونات من الانفلات وإقامة علاقات جنسية، وهو لا يقضي تماماً على الرغبة الجنسية، لأن الرغبة هي عقلية وعاطفية في الأساس، لكن الختان يجعل العملية الجنسية عند المرأة في غاية الصعوبة، إضافة إلى الآثار النفسية المدمرة.
إن النص القرآني تعامل مع الجسد البشري باحترام وتقديس، وهناك العديد من الآيات التي تدل على قدسية جسد الإنسان «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»، «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله».
إن الجرم النفسي الملازم لعملية الختان هو أشد أذى من الجرم الجسدي، فمعظم هؤلاء النساء مصابات بالبرود الجنسي، وبمشاكل صحية، واحتقان دائم في الحوض، وغالباً ما يؤدي ذلك إلى حصول الطلاق. كما أن ربط مفهوم وقيمة الشرف بالعذرية ما عاد مقبولاً، فكم من الفتيات يمارسن الفاحشة ويحرصن على الحفاظ على غشاء البكارة، ويكفي أن ننتبه إلى العدد المخيف لعمليات إعادة العذرية كي ندرك زيف هذه العفة.
هل يُعقل أن تُختزل العفة والشرف والأخلاق بغشاء بكارة؟! إن ثقافة العذرية يجب أن تتغير، فالمهم هو العذرية السلوكية والأخلاقية... الشرف والعفة هما سلوك أساساً، وليسا مجرد غشاء بكارة. لا مجال لذكر عشرات الأمثلة والحالات التي استفاضت الباحثة في تحليلها، وكلها تدل على تراجع قيمي لثقافة العذرية، وبأن مفهوم جسد المرأة، والعذرية والختان، مفاهيم تابعة للتنشئة الاجتماعية وعقلية المجتمع وقيمه المتوارثة جيلاً بعد جيل...
يبدو الكتاب سهلاً ومعروفاً، وكأنه لا يأتي بجديد، فكل مواطن عربي تنفس مفهوم العذرية وارتباط الشرف بجسد المرأة، وربما الكثير من الناس يؤيدون الختان، ولا تزال جرائم الشرف تسجل معدلات مخجلة في عالمنا العربي... لكن الباحثة مها محمد الحسين تقودنا بيسر وسلاسة عبر صفحات كتابها إلى تأمل حقيقة عيشنا وتضيء عقولنا لندرك أي خزي نحس به ونحن لا نزال نفكر في جسد المرأة كما لو أنه تابع للرجل، المرأة لا تملك جسدها، بل يملكه الرجل بما يمثل من قيم ثقافية وفكرية متوارثة، وبما يـُزج الدين في ممارسات ومفاهيم هو منها براء... إن هذه الدراسة التي اعتمدت أكثر من مئتي مرجع عربي وأجنبي تستحق كل الاهتمام من القارئ العربي، ليعيد النظر في مُسلمات ومفاهيم تنفسَها وآمن بها من دون أن يناقشها... لم تعد تلك المفاهيم عن العذرية والختان والشرف مقبولة في عصر العلم والمعرفة والحرية، حرية العقل، وحرية الجسد، وحرية امتلاك الإنسان لجسده... وبعد، أستعير عبارة رائعة على لسان البطلة في رواية أليس واكر، إذ تقول البطلة الأفريقية: المقاومة هي سر الفرح.


هيفاء بيطار

المصدر: السفير
 
أعلى