باسل رفايعة - «رقة الكائن النائم» عن شجرة لم تهزها ريح

لايزال الجنس في التراث العربي موضوعاً صالحاً للقراءة في إطاره التاريخي والثقافي، وغالباً ما تؤدي العودة له راهناً، ولا سيما في النصوص الشعرية، إلى نتيجة مباشرة تكشف مدى تردد النص العربي الحديث في الخروج عن المتون المحافظة والصارمة التي حفلت بها الكتابة في ظل المؤسسة الرسمية المروّجة والمؤرّخة قديماً ومعاصراً.

في هذا السياق، صدر قبل أيام عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت للكاتب السعودي عبدالله العقيل كتاب «رقة الكائن النائم»، بعنوان فرعي «حكاية الشاعر الذي طرّز فضيحته» في 140 صفحة من القطع المتوسط، ويركز خصوصاً على السيرة الشعرية للشاعر العباسي راشد بن اسحق، المعروف بـ«أبي حُكيمة» الذي عاش أثناء فترتي حكم الأمين والمأمون، وتوفي في العام 240 هجرياً.

تفرد أبوحُكيمة في التراث الأدبي بنصوصه التي تمحورت حول عجزه الجنسي، وعنّته العضوية، وقصائده محققة وموجودة ومتناثرة في غير مرجع، ومن أبرز الكتب التي ضمت قصائده «ديوان أبي حكيمة» الذي صدر في ثلاث طبعات عن منشورات الجمل في المانيا، كان آخرها العام الماضي، وهو من تحقيق محمد حسين الأعرجي.

المختلف في «رقة الكائن النائم» أنه سيرة متخيّلة لحياة الشاعر، يُوحي بها العنوان تماماً، وهي تضع نصه الشعري في قالب سردي، أو في بنية حكائية، تستفيد من أساليب القصّ الكلاسيكية في الأدب العربي، وتقيم علاقة متماسكة ومسوغة فنياً بين النص والجسد، وفي الوقت نفسه لا توفر من فنيّات الحكاية، بشغفها ومتعتها، شيئاً.

أبوحُكيمة في هذا الكتاب يواجه العنّة الجنسية بالنصّ، ولولا ذلك لمرّ إرثه الشعري في تاريخ الأدب العربي مروراً عديم القيمة والأثر، وعكس شاعراً ماجناً، أو ربما شاذاً، أكثر من إنجازه تجربة فيها الكثير من الجرأة في معاندة السائد والرسمي، والكثير من جماليات الكتابة الخاصة بموضوعها قبل تشكيلاتها الشعرية، وبحرصها على المغاير والمختلف في توثيق حياته أو «تطريز فضيحته» كما يصف الكاتب، من دون مبالاة بثقافة تُعلي من شأن الفحولة وتجلياتها الحيوية والثقافية.

يُهدي عبدالله العقيل الكتاب إلى «اليقظة في عليائها، وكأنها صنيعة حلم، أو نتاج هزيمة» معنوناً بابه الأول بـ«فنجان شهوة» الذي يسيطر على معظم صفحات الكتاب، وفيه يقيم حكاية مفترضة، تتأسس على حوار متخيل بين أبي حُكيمة، وجاريته زبيدة، وحبيبته سلمى بنت وهب، يحفل بمشاهد جنسية متكاملة، يقدم من خلالها الشاعر فصولاً من الحزن والفقد والألم، إذ تحضر الروح بكل توقها البشري إلى الشهوة، ويخذلها الجسد بكل تعقيداته العضوية، وفي خضم ذلك رثاء صريح للعنّة، وعجز الذكورة عن بلوغ القوة والسير بالمتعة إلى نهاياتها الطبيعية.

يفترض الكاتب الحوار بين شاعر برتبة ذكر عاجز، وجارية برتبة امرأة ماجنة مأخوذة بالشماتة والسخرية، تمثل سلطة الأنثى ونفوذها الشهواني، وحبيبة ترى في النص عاملاً أشد فتنة من الجسد ومفاعيله القوية، ولكنها، على الرغم من ذكاء هذا الدور، تسعى لحالٍ، يتنادد فيها الجسد والنص، من غير ضعف أو إشفاق، فتحاول أن تشدّ من أزر الشاعر بصناعة دواء من أعشاب وزهور وعطور وغذاء، مما رسخ تاريخياً في الموروث العربي عن العلاقة الأكيدة بين الطعام والجنس.

في هذا الحوار، يرتشف الشاعر مع جاريته وحبيبته «فنجان شهوة» مفقودة ولاذعة، ويحاول من خلاله تأكيد وظيفة الشاعر في رثاء عجزه، والجارية في استفزاز هذا العجز والمكر به، والحبيبة في استباحة الضعف، نشداناً لنقيضه. ومن أجل ذلك جَهِد المؤلف في تحويل نصوص «أبي حكيمة» بطلاً رابعاً في الحكاية، واستطاع توظيفها ضمن مقتضى السياق، باعتبارها مبتدأ القصة وخبرها، لا مجرد فواصل في ثناياها.

يقول عبدالله العقيل على لسان أبي حُكيمة مخاطباً الجارية وهي تدلل جسده المثخن بالحنين إلى ماضٍ بعيد في جلسة تدليك يفتتح بها الحكاية «وما أدراك عن فعل الرياح يا امرأة، هل سمعت عن شجرة لم تهزها ريح» ثم «إنها أرض بيداء يا زبيدة، صحراء لا ماء فيها ولا زرع، وما بين عيني و(جسدي) جبال شاهقة من الألم الحاد، يغرس لعناته في رئتي كل مساء، ليستحيل الهواء دخاناً، والنور ظلاماً».

في أبواب تالية من «رقة الكائن النائم»، يتحدث الكاتب عن حقيقة الضعف الجنسي لدى الشاعر، ويتناول فرضيات مختلفة من مراجع تراثية كثيرة، بعضها ادعى أن الشاعر كتبَ كل ما كتب في رثاء عضوه التناسلي وعجزه الذكوري، ليدفع عنه تهمة اللواط في عصر ساد فيه الغلمان والمجون، ليخلص إلى أن أبا حُكيمة عاش معاناة حقيقية، وعبر عنها بتقنيات لغوية متطورة جداً في عصره، ولغة كاشفة، تعبيراً عن صدق فني، وليس لدرء تهمة أو شبهة. ثم يتناول الكاتب عصر الخليفتين العباسيين الأمين والمأمون، الذي عاش فيه الشاعر، وظهرت في قصائده دلائل على الخلاف السياسي بينهما، ويعرض من مصادر عديدة، شواهد ومشاهد من انتشار المجون والإباحية المفرطة بين رجال الطبقة السياسية الحاكمة والقضاة، وينقل خصوصاً وقائع من الفساد الأخلاقي الذي شاع في السلك القضائي على يد قاضي القضاة آنذاك يحيى بن أكثم.

يختم الكاتب مستشهداً بالمؤرخ المقري التلمساني في كتابه الشهير «نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب» وبما يراه من تشخيص للشخصية العربية على مر العصور، فهو يحذر من قول الصدق عند حدوث ضعف أو اختلال في القوة الجنسية، إذ ينصح التلمساني الرجل بالكتمان والمراوغة، لأن الصدق يعيبه ويقلل من شأنه!

ويبقى أن الكتاب تجربة جديدة وجريئة في إعادة رواية التراث في إطاره الثقافي والسياسي، وتُوحي قراءته بأن كثيراً من سِيَر الماضي الأدبية تنقصها حكاية معاصرة، ربما من أجل أن تمنحها حياة أخرى، أو ربما أجلاً طويلاً.

«حركة الذكورة»
في كتاب «رقة الكائن النائم ...» باب عن «حركة الذكورة» في الأدب العربي، وفيه صنّف شعراء تصدوا لمهمة القوة والفخر بالفحولة والذكورة، وفي مقدمهم أبو نواس، وابن الرومي، وبشار بن برد، والأصمعي، وشعراء استخدموا الذكورة في سياق غرضيّ للتقليل من شأن خصومهم والتحقير والهجاء المقذع، ومن أبرز هؤلاء أبوتمام والبحتري، وجرير والفرزدق.
ووسط ذلك حكايات عن شذوذ الغلمان والجواري، وعدم تردد شاعرات عربيات في ذكر الأعضاء الجنسية في قصائدهن بإيقاع وتكرار.
 
راشد بن إسحاق لم يختلق حكايته ليتكسب منها شعرياً.. وما فعلته هو مسرحة تلك القصائد

لقاء - طامي السميري

في كتاب رقة الكائن النائم يقدم عبدالله العقيل حضوره الأول للمشهد بنكهة تراثية ويتجلى ذلك في رصده لحكاية الشاعر راشد بن إسحاق (أبو حكيمة) الذي طرز حكايته مع العجز بجرأة.والكتاب لا يعد تحقيقا لسيرة الشاعر وقصائده..بل حاول المؤلف مسرحة الحكاية.وفي هذا الحوار ل (ثقافة الرياض) نتعرف على ملامح حكاية "رقة الكائن النائم".

@ في رقة الكائن النائم ترصد حكاية الشاعر راشد ابن إسحاق (أبو حكيمة) الرجل الذي طرز فضيحته..هذا الشاعر هل كان يتكسب شعريا من وراء فضيحته؟

إن كنت تقصد من سؤالك أن الشاعر راشد بن إسحاق "أبو حُكيمة" لم يكن مصابا بالضعف الجنسي في حقيقته، بل اختلق هذه القصة لأغراض أخرى منها أن يتكسب شعرياً حسب رأيك، فهذا تساؤل مشروع، لا يختلف كثيرا عما شكك به بعض الرواة. فقد ذكر الشاعر ابن المعتز أنه سمع من أبي الأسود المكي أنه روى أن أبا عون المديني قال "أبو حكيمة كان يصف نفسه بالعنة والعجز وتوقف ابن المعتز عند هذا الجزم من غير أن يتحقق منه أو يدقق فيه. وهذا بظني رأيته جزما "مائلاً" لا يستند على برهان ساطع أو إثبات مقنع، مع العلم أن ابن المعتز خلق بعد وفاة راشد بن إسحاق بسبع سنين! هناك أيضا رواية مشابهة ذكرها ابن المرزبان، وأوردتها في كتابي، وعلقت عليها طويلا. قال ابن المرزبان يعني راشد بن إسحاق بكلامه "إنما كان يقول ذلك لتهمة لحقته من عبد الله بن طاهر أيام خدمته له في خادم لعبد الله"! وعلى الرغم من ذلك، فأنا أرى أن رواية ابن المرزبان، رواية في غاية الغرابة ولا تستند إلى المنطق! فهل من المعقول كي يهرب شاعر من تهمة لحقته في ذلك المعنى أن يدعي العنة ويفني عمره كاذباً في رثاء عضوه ليزيل عنه تلك التهمة؟بعيدا عن كل هذه الشكوك وافتعال القصص والروايات، فأنا أرى أن أبا حكيمة لم يكن إلا شاعرا صادقا مع نفسه، تمرد من خلال شعره على قيم المجتمع السائدة وتلبس الجرأة والعنفوان بكل معانيه!

@ لاحظت انك حاولت تؤسس لقصائد أبي حكيمة مشهدا سرديا..لكن السرد لم يمثل كل الكتاب..فكانت هناك عناوين فرعية في الداخل صادرت الانسجام بين الشعر والسرد.لماذا كان الاشتغال على عناوين متعددة ولم يتم الاكتفاء بنسج حكاية سردية للشاعر ابي حكيمة؟

ممتعة ومقلقة هذه الالتقاطة في آنٍ واحد. دعني أولا أوضح نقطة صغيرة ربما تكون مهمة. في البداية كانت فكرة الكتاب بعد قراءتي لجميع ما وقع تحت عيني لشعر راشد بن إسحاق، هو أن أقوم بمسرحة هذا الشعر على شكل حوار مأساوي بين امرأة مترعة بكل الرغبات، ورجل عاجز جنسيا، وبذلت كل الجهد كي يعكس هذا الحوار حال قصائد شاعرنا المفعمة بالألم والحسرة ويتناغم معها فنياً وحسياً. والسبب الرئيس في ذلك، أنني لم أنوِ في الأساس جمع هذه القصائد ومن ثم نشرها على شكل ديوان شعري فحسب، فليس هذا من اهتمامي ولا نشاطي. ولكن الذي حدث بعد ذلك -وإجابة على سؤالك- أن هذه الفكرة(أعني فكرة السرد كما أشرت في سؤالك) امتدت بعد ذلك إلى مجال أوسع وأبعد، رأيت أنه من المستحسن الخوض فيه، والسبب هو أن الحالة الفريدة للشاعر راشد بن إسحاق لم أجد لها مثيلا في الثقافة العربية بالمجمل. أقصد بهذه الحالة الفريدة، هي أن يفني شاعر ما، يملك حسا شعريا جميلا ومهارة لغوية كبيرة، جل عمره وأغلب شعره في رثاء عجزه، فاضحاً بهذا الشعر نفسه وخالعا منها رجولته "حسب المفهوم الذكوري" المتعارف عليه في موروثنا الاجتماعي. هذا برأيي يضع القارئ في حيرة وغرابة تامتين حيال هذا الخروج غير المألوف عن السائد الثقافي والاجتماعي آنذاك. هذا بدوره، جعلني أدخل مرغما بوضع حالة هذا الشاعر في مقارنة مع الحالات الشعرية السائدة والمعروفة في الشعر العربي. وما وجدته ويعرفه كل مهتم بالشعر العربي أن جميع الشعراء العرب وظفوا هذه المفردة للأسف في مهمتين أساسيتين لا ثالث لهما، وهما إما الهجاء باستخدام هذا المفردة وسيلة في الاستحقار والاستهزاء والقذف، كما فعل أبو تمام والبحتري وجرير والفرزدق..الخ. أو الافتخار بالرجولة والمقدرة الجنسية المزعومة كما فعل أبو نواس وابن الرومي وبشار...الخ.

@ النماذج الشعرية التي تضمنها الكتاب كلها تطرق الجانب الحسي.كمستوى فني كيف ترى تلك القصائد..وهل تصنف تلك القصائد كهامش للشعراء وغير محسوبة على تجربتهم؟

دعني في البداية اعترف لك بكل صدق أني انصدمت للغاية وتفاجئت كثيرا من فحش وقسوة بعض النماذج الشعرية التي أوردتها واستشهدت بها في الفصل الخامس من الكتاب، خاصة أن هؤلاء الشعراء هم من أضفت عليهم المكتبة العربية هالة أخلاقية كبيرة غير قابلة للطعن أو التشكيك، كأبي تمام والبحتري وجرير على سبيل المثال. فلم أكن أتوقع أن يكتب شعراء فصولنا الدراسية الذين رضعنا شعرهم منذ الصغر هذا النوع المروع من الشعر الفاحش، الموغل في البذاءة والتحقير! ولكني في النهاية اتفق تماما مع ما قاله أبو الفرج الأصفهاني في شعر الهجاء لدى البحتري حيث أورد في كتاب الأغاني ما نصه "وأشباه لهذه الأبيات ومثلها لا يشاكل طبع البحتري ولا تليق بمذهبه وتنبئ بركاكتها وغثاثة ألفاظها عن قلة حظه في الهجاء".

وعلى الرغم من ذلك، وفي رأيي أن شعر الهجاء لدى ما ذكرتهم من شعراء العربية العظام لا يمكن له أن يهز الصورة الجميلة التي نمت وتعلقت في ذاكرتنا، فأبو تمام هو أستاذ الجمال والصور البديعة، والبحتري هو رمز مهم في الحداثة الشعرية واللغة الفاتنة، إن جاز لي التعبير.

@ مع شح المصادر التي أشارت لشخصية الشاعر أبي حكيمة..هل جاءك شعور ما بأن هذه الشخصية المجهولة مختلقة؟

ربما تقصد أن تلك الشخصية مجهولة النسب والأصل، أنا أتفق معك تماماً في هذا الشأن. إنما قد اختلف كثيرا مع القائل أن تلك الشخصية مختلقة، حيث أني لا أظن يا سيدي الكريم أن أكثر من ثلاثين مرجعاً تأريخياً وأدبياً مهماً -استندت أنا عليها في كتابي- أورت نماذج عديدة من شعر راشد بن إسحاق والقيل اليسير من سيرته، يمكن أن يقال أنها مصدر شحيح. عليه، وبعد تحقيقي الطويل في أمهات الكتب حول شخصية راشد بن إسحاق، أجزم بكل تأكيد أن شاعرنا شخصية حقيقة. إنما ولأنه من شعراء الموالي- حسب ظني- لم يهتم أحد من الرواة بنسبه وأصله بالشكل الكبير.

@ المتابع لتجربتك الكتابية كان ينتظر إصداراً شعرياً أو قصصيا..لكنك فأجات الجميع بهذا الكتاب الذي يحمل النكهة التراثية.هذا الإصدار هل هو إعلان لقطيعتك مع السرد والشعر؟

أنا أول من تفاجأ بأني استطعت إهمال نصوص "دجن خفيف" الشعرية والقصصية والتي فرغت من كتابتها منذ زمن طويل، وأيضاً كتاب آخر أنجزته مؤخرا وأسميته "مومأة تنم عن قفر" وهو عبارة عن "أكاذيب رقيقة" تتأرجح بين غواية الشعر وعبث النثر. هاتان المجموعتان تركتهما على الرف رغم جاهزيتهما للطباعة، وانشغلت عوضاً عن ذلك بتأليف كتابي هذا، وهو الذي أخذ مني جهداً ووقتاً كبيرين. أتمنى أن تتجرأ إحدى دور النشر وتطبعهما قريباً.
 
أعلى