من قصص السودان القديم - الملكة النوبيــــة كنــداكة وذو القرنين..

قال الراوي:
لما استولى الاسكندر الاكبرعلى مصر بعث رسالة إلى كنداكة ملك السودان يقول فيها :
( لقد علمنا انكم حكمتم مصر قبل مجيئنا إليها وانكم لما خرجتم منها استوليتم على كنوزالذهب والزبرجد وغيرهما من المعادن النفيسة التي توجد في أقصى جنوب مصر وبما أن مصر صارت الآن من أملاكنا فإني أطالبكم بإعادة كل ما استوليتم عليه من تلك الكنوز)

كانت كنداكة سيدة واسعة العلم معروفة بالحكمة والعدل وحسن التصرف ولما جاءتها رسالة الأسكندر جمعت الملأ من قومها للشورى في الامر على عادتها وعادة ملوك السودان القديم قبلها فاستوثقت من تصميمهم على الحفاظ على أرض المعدن التي لا يشكون قط أنها من الاملاك السودانية وأنهم لن يتهاونوا في مواجهة الأسكندر إن حدثته نفسه بالتقدم بجنوده إليها ثم طرحت عليهم رأيها فوافقوها على أن ترسل إليه رداً مهذباً وقاطعاً ترفض ما ادعاه وترد طلبه ، فكتبت إلى الأسكندر رسالة تقول فيها : ( إن كنوز الذهب والزبرجد وسائر المعادن النفيسة ليست هي في أقصى جنوب مصر كما حسبته أو صوره لك بعضهم لكنها في أقصى شمال السودان, انها أملاك سودانية لا يسعني التنازل عنها وتسليمها لك)
ثم أن كنداكة بعثت إلى الأسكندر مع تلك الرسالة بهدية ثمينة ودست بين سفرائها إليه رجلاً موهوباً في فن الرسم وطلبت منه أن يرسم لها صورة للاسكندر مطابقة لصفته على أن لا يطلع على تلك الصورة أحدا كائنا من كان حتى يأتي بها إليها ويسلمها إليها هي شخصياً يداً بيد

ثم لما وصل سفراء كنداكة إلى بلاط الاسكندر واطلعوه على ردها وسلمه هديتها رد الهدية وأظهر الغضب الشديد لرفضها طلبه بتسليم أرض المعدن وظن أن الفرصة قد حانت ليبدأها بالحرب فيستولي على ما أراد وفوق ما أراد فكتب رسالة شديد اللهجة يقول فيها أنا الأسكندر الأكبر ذو القرنين ملك الدنيا من مشرقها إلى مغربها فاتح بلاد فارس ، وقاتل ملكها العظيم (دارا) وفاتح بلاد الهند، وقاتل ملكها المحنك القوي (فور) واعلمي أنه لا يحول بيني وبين ما أريد أحد من الخلق مهما كانت قوته ولا تقوم بحربي امرأة مثلك أو تمتنع على بلاد كبلادك فأذنوا إن لم تسلموا إليّ تلك الكنوز بحرب لا تجنون منها إلا الذلة والصغار)

ثم انطلق مع سفراء كنداكة سفراء ذي القرنين حاملين إليها رده العنيد، الناطق بالتهديد والوعيد وكان رَجُلها الموهوب في الرسم قد أعد في تلك الأثاء صورة تطابق صفة الأسكندر التي رآها وتدبرها جيداً حين وقف أمامه وطوي الرجل الصورة وأخفاها حتى على زملائه في الوفد فلما عادوا إليها سلمها يدا بيد فدستها في خزانتها الخاصة ثم اطلعت على رد الاسكندر فلما رأته لا يريد إلا الحرب كتبت إليه تقول : (لسنا كما تظن ، نحن أعظم من ( دارا) على ما وصفت من عظمته وأكبر قوة وحنكة من ( فور ) ملك الهند على ما رأيت من قوته وحنكه ولا تحسب إني حين بعثت اليك بتلك الهدية كنت خائفة من سطوتك أو طامعة فيما عندك لكني رأيت أن الرفق أوفق الحالين وأن السلم أحسن عاقبة فان ابيت الا الحرب فهلم الينا فانك لن تجد منا الا بأسا شديدا ولن تجني من حربنا الا الخسارة عليك)

ثم خرجت كنداكة بكامل جنودها في أثر السفراء الحاملين ردها الأخير حتى ضربت معسكرها في الاطراف الشمالية لبلادها تأهبا لملاقاة ذي القرنين ان حدثته نفسه بغزوها
واتفق في تلك الاثناء ان ابنها الاصغر خرج مع زوجه في معسكره في رحلة الصيد يروح بها عن نفسه فداهمه جماعة من قطاع الطرق وأخذوه على غرة فاستولوا على جميع ما معه وأخذوا زوجه ونساء حاشيته سبايا أما الامير نفسه فجلبوه ليباع في أسواق الرقيق بمصر
تعرف بعض جند الاسكندر على الامير الصغير ابن كنداكة المعروض للبيع في سوق النخاسة فاخذوه وجاءوا به الى القصر الذي كان ينزل فيه الاسكندر مع اكابر قواده واتفق حين وصولهم بالامير الى القصر أن كان الاسكندر نائماً فاطلعوا نائبه وكبير قواده بطليموس به واستجوبه واستيقن أنه ابن كنداكة حقيقة وتاكد من صدق روايته بان قطاع الطريق اخذوه على حين غرة وجلبوه الى مصر
ابقى بطليموس الامير عنده حتى اذا استيقظ الاسكندر قام ودخل عليه وقال : ( ان ابن كنداكة ملكة السودان التي تريد حربها يامولاي قد وقع اسيراً في قبضتنا) وقص عليه الخبر بتمامه عند ذلك صرف الاسكندر كل من كان في حضرته واغلق على نفسه باب غرفته واخذ يفكر بقية يومه ذاك و كل ليله كيف يستفيد من هذا الامير في مواجهة امه
فلما كان من الغد دعا ذو القرنين بطليموس وأمره أن يتنكر في ثيابه هو وان يضع التاج على راسه ثم اجلسه على العرش مكانه أما ذو القرنين فانه تنكر في زي بطليموس ووقف خلف العرش مع سائر القادة كأنه واحد منهم ثم امر بادخال الامير المأسور

دخل الامير فهاله أن يرى القائد الذي استجوبه بالامس جالسا على العرش فخر راكعا بالتحية ثم رفع راسه مخاطبا بطليموس المتنكر في زي ذي القرنين وقال: أعذرني يا مولاي فقد ظننت امس انك بطليموس القائد ولو كنت اعلم انك ذو القرنين لضاعفت من اكبارك وقابلتك بما يليق من التحية والتجلة
فقال بطليموس المتنكر في زي الاسكندر مخاطبا الامير الصغير( لا عليك ولعلك من حسن الصدف ان تقابلني البارحة في زي القادة فلا تعرفني حتى تنبسط في الحديث الي دون خشية أما وقد عرفت قصتك كاملة وتحققت من صدق ما اخبرتني به من امرك فلعله يسعدك ان تطلع على ما قد قررته بشأنك نحن معشر الملوك على اختلاف بلادنا واحوالنا ينبغي ان نتعامل في رعاية المكانة والحق والحصانة كما لو كنا اسرة واحدة , عليه وان كنا على حافة الحرب ان اعيدك الى وطنك سالماً مكرماً ولا ينبغي في من هو في مثل مقامي ان يرى اميرا مثلك مسلوباً من قبل اللصوص والمارقين مهما كانت الحال فرأيت الا اعيدك الى ديارك الا بعد ان اخذ لك حقك من قطاع الطريق وان ارد اليك زوجك وسائر ما اخذوه منك)

عقب هذا الكلام التفت بطليموس المتنكر في زي ذي القرنين الى القواد الواقفين حول العرش وقال: اريد ان انتدب احدكم للاضطلاع بمهمة رد هذا الامير الى بلده في سلام بعد ما ياخذ له كامل حقه من قطاع الطريق,انها لمهمة دقيقة وعسيرة فمن لها؟؟
عند ذلك قال ذو القرنين المتنكر في زي بطليموس القائد ( انا لها يا مولاي ان اردت ان تبعثني وتأذن لي بان اختار بنفسي ألف فارس مغوار اقتحم بها الصحراء في مواجهة الخوارج قطاع الطريق فاسترد للامير حقه ثم اقوم معهم على حراسته حتى نعيده الى ارضه سالماً)
فقال بطليموس المتنكر في زي دي القرنين ( لك ذلك ايها الفارس فاختر جنودك بنفسك) انتخب ذو القرنين التنكر في زي بطليموس ألفا من اكفأ جنوده الاغريق وبني امره على ان يدخل بهم مدينة كنداكة مع ابنها ثم يستولى عليها من الداخل فسار في ملاحقة الخوارج اولاً وما كاد يصلهم حتى هربوا اجمعين من وجهه تاركين وراءهم كل ما اخذوه من الامير بعد ذلك توجه ذو القرنين المتنكر في زي القائد بطليموس في صحبة فرسانه مع الامير وحاشيته حتى دخلت بهم مدينة كنداكة حيث كانت تضرب معسكرها استعداداً لحربه
وكان الامير قد بعث بالبشارة بخلاصه الى امه فخرجت وخرج امراؤها واكابر دولتها وسائر قومها لملاقات الامير فرحة بقدومه سالماً ، وضربت الطبول واقبلت الام على ولدها تعانقه واقبل الامراء اليه يهنئونه بالسلامة وذو القرنين قائم بينهم متنكراً لا يحسون به ولا يخافون منه بأساً فخاطبهم الامير قائلاً : لا تشغلكم الفرحة بقدومي سالماً عن مقابلة هذا البطل الاغريقي بما يستحقه من الكرامة فانه ندب نفسه دون قواد ذي القرنين لمناصرتي واسترد لي حقي وعاد بي سالماً اليكم )
فاقبلت كنداكة على ذي القرنين المتنكر شاكرة حامدة له حسن صنيعه ووعدته بالمكافأة واقبل عليه امراؤها شاكرين مقدرين بطولته وشهامته ثم امرت كنداكة بإنزاله هو وجنوده في منازل الضيافة كل حسب مقامه وان يبالغ في اكرامهم
في صبيحة اليوم التالي ظهرت كنداكة في افخر ثيابها واضعة التاج على رأسها فجلست على عرشها ومن حولها أمراؤها واكابر دولتها وسائر حاشيتها ثم دعت بالقائد الاغريقي لتقابله مقابلة رسمية تشكر له فيها حسن صنيعه ولتبعث رسالة معه الى ذي القرنين سيده تشكره على رد ابنها اليها سالماً وان كانا متخاصمين
ما كان ذو القرنين المتنكر في زي بطليموس يرى كنداكة في تلك الأبهة حتى راعه جلالها ووقارها وتذكر بها امه الملكة (هيلين ) فلم يتمالك ان بكى وكاد يفضح امر نفسه لولا ان تنبه على صوت كنداكة تسأله (ما بك ايها القائد؟ ما يبكيك ؟؟)
فقال : دموع فرحة يا مولاتي انها لسعادة ما بعدها سعادة ان اقف هنا تكرمني من هي في مثل جلالك وامتع طرفي بالنظر الى وجهك الكريم واطلع من حسن طلعتك و هيبة وقارك ما لو رآه ذو القرنين نفسه لاغتبط به أشد الغبطة )

فسرت بذلك الجواب منه سروراً بالغاً ثم امرت الملا من قومها ان ينصرفوا اجمعين وامرت بابواب القاعة ان تغلق حتى اذا لم يبق أحد يراهما أو يسمعهما بادرته قائلة : ( يا ذا القرنين !!أنا كنداكة !! )
فقال: ( مولاتي ، لست ذا القرنين انما انا عبد من عبيده وقائد من جملة قواده) فجعلت كنداكة تضحك ملء شدقيها ، فقال في أدب شديد ( هل تطلعني مولاتي على سر ضحكتها؟؟) فأجابته كنداكة : (يا ذا القرنين هل تظن أنك خدعتني منذ اليوم؟ ) وأخرجت له الصورة التي كان قد رسمها لها فنانها قائلة : (لقد عرفتك متنكرا لأول لحظة رأيتك فيها ) فأسقط في يد ذي القرنين ولم يدر ما ذا يقول وأحس مرارة الاخفاق حين علم انه استدرج بحيلته
فتابعت كنداكة كلامها قائلة : ( ما رأيك الآن أنت الاسكندر الأكبر ذو القرنين مالك الدنيا من مشرقها إلى مغربها فاتح بلاد فارس ،وقاتل ملكها العظيم (دارا) وفاتح بلاد الهند، وقاتل ملكها المحنك القوي (فور) قد صرت في قبضتي أنا ، قبضة امرأة! واعجب ما في الامر انك سعيت الى اسرك بقدميك وأُخذت بذكائك
لقد كنت اتابع تدابيرك وادرس مكيدتك في كل حرب خضتها قرأيتك تركن إلى لطف الحيلة واحكام المكيدة في كسب النصر و الظفر بعدوك بالدهاء قبل المخاطرة بدفع الجند في ميدان القتال , ولكم تمنيت متعة نزالك في ميادين التخطيط وسياسة الحرب ,
انا التي زينت لولدي الخروج الى الصيد وانا التي اوعزت الى رجال البوادي لياخذوه على غرة ويجلبوه الى مصر تحسبا لمثل هذا الموقف ومن قبل بعثت المصور وأمرته باعداد صورتك التي لم يطلع عليها احد سواي)
اخذ الاسكندر حين قامت كنداكة تلقي على مسامعه ذلك الكلام يضرب جبهته بقبضته ويعض على شفته في غيظ شديد فقالت له كنداكة : ما كل هذا الغيظ والأسف؟؟) فقال لها : إني إنما الآن آسف على شيء واحد) قالت : ما هو ؟؟ قال: إن سيفي ليس معي الساعة, قالت : ما كنت تصنع به ؟؟ فقال : اقتلك به أولاً ثم اقتل نفسي قالت : وماذا تفيد من ازهاق نفسي ونفسك ؟هذه ايضاً ذلة محسوبة عليك أما أنا فبمقدوري الآن أن اصفق بيدي فيدخل رجالي وفي ايديهم السيوف القواطع ثم هي كلمة مني وأنت في عداد الموتى لكن لن افعل بك هذا لقد احسنت بي إذ رددت إلي ولدي سالماً) فقال لها : كفى تهكماً تعلمين الآن ومن قبل إني ما جئت اليك بولدك الا مكيدة ارمي بها الى قهرك فتجيبه كنداكة (إني لا اتهكم أنت قائد كبير وملك عظيم سأرسلك حراً لتعود الى مملكتك مع فرسانك المغاوير وسوف لن افشي سرك للرعية أجل سأعطيك الحرية والأمان بشرط واحد)
ذوالقرنين : ( أنت الرأس المتوج الوحيد الذي غلبني في الدهاء فما شرطك؟؟)
كنداكة : ( أن تكتب بيننا عهداً تقر فيه بسيادتنا على كامل أرض المعدن)
ذو القرنين : ( قد قبلت )


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أُخذت عن النسخة الأثيوبية لكتاب سيرة الأسكندر ذي القرنين ومغازيه منقولة للاهمية

** الملكة النوبيـــــــــــة( كنــــــــــــــــداكــــــة)
هذه القصة أُخذت عن النسخة الحبشية لكتاب سيرة الأسكندر ذي القرنين ومغازيه، أوردها الدكتور /جعفر ميرغني في مجلة بلادي - العدد الثالث عشر مايو 1997 تحت عنوان : من قصص السودان القديم ( كنداكة وذو القرنين)
دعوني أقف قليلاً مع إسم (كنداكة)
كنداكة: لقب نوبي كان يطلق على الملكة في مروي ، وهو من مقطعين أصله : قَندِ آقا-Gendi a`aga قندِ : لها عدة معاني: الكمال، حسن، طيب، اعتدال،استواء أما (آقا) فتعني: الجالسة ، الباقية
وإليكم بعض الأمثلة للتقريب: قندِ نوق : امش بطريقة صحيحةً..
قندِ تيب: قف معتدلاً..
قندِ تيق: اجلس جلسة صحيحة،
وتجد المفردة (آق) هذه في التحية الدنقلاوية للسؤال عن الحال(سرين آق مي ) ،
وكذلك في اسم الملك النوبي( طهراقا ) (طهر آقا) فالترجمة الحرفية لـ كنداكة (قَندِ آقا) : الجالسة جلسة صحيحة ، وتعني ضمنياً : المتمكنة على العرش
 
أعلى