أدواردو غاليانو - سبع قصص قصيرة.. ت: بانقا الياس

الدخلاء
داليا وفليبي من هنود التوجوبلال، لم يروا مدينة من قبل. سافروا من قريتهم الوادعة إلى مدربد برفقة أناس طيبين يأكلون ويشربون معهم. وطوال الطريق إالى مدريد لم يسألا عن أي شىء. وبعد ايام في مدريد أشاحا بنظرهما عن مشاهدة تدفق المارة والسيارات في مدريد فقد تيبست أعناقهم من كثرة التحديق إلى أعلى في البنايات العالية الكثيرة.
وعندما حان موعد الرجوع إلى قريتهم تجرأ داليا وفليبي وسألا مرافقيهم : كيف استطعتم أن تسكنوا فوق بعضكم البعض؟ وأين تزرعون الفاصوليا والذرة؟.

أسئلة
في نهاية عام 1949 أحرز هداف أرجواي لويس شالفرت هدفا تاريخيا في مرمى بوينس ايرس. فالهداف الموهوب بإحرازه الأهداف من على البعد سدد ضربة للكرة من بعد ثلاثين مترا. طارت الكرة إلى السحاب البعيد ونزلت مستقيمة في شباك الخصم.
تساءل الصحفي الرياضي كيف فعل الهداف ذلك؟
وماسر تلك الضربة؟
وكيف تسقط الكرة في خط مستقيم من ارتفاع كهذا؟
قال الهداف موضحا: لقد ضربت الكرة ملاكا وتحورت. ولكن لم يفكر أحد منا في فحص الكرة إذا كان عليها أي نقطة دم. لم نهتم حتى بالنظر إلى الكرة، وعليه فقد ضاعت علينا ولو بهذه الطريقة أن نعرف هل الملائكة يشبهوننا أم لا.!!

الأرض
هناك ولدت، وهناك تعلمت قدماها الصغيرتان أول خطوات المشي. عندما عادت رجوبرتا بعد سنوات لم تجد قبيلتها. لم يترك الجند من أثر ولو ذكرى اسم القبيلة. كانوا يسمونها شاميل الصغيرة أي التي حفظت في باطن الأرض. لقد أبادوا كل شىء الناس والقمح والدجاج وما تبقى من هنود هاربين ألجموا أفواه كلابهم حتى لا تدل عليهم في أعماق الغابات.
تجولت رجوبرتا في الضباب على سفوح الجبال والوهاد تبحث عن أنها طفولتها، فالمياه التي اغتسلت فيها قد جفت، أو ربما أحمرت بالدماء وغاضت بعيدا في باطن الأرض.
وتلك الأشجار المعمرة التي كان المرء يظن أنها ستخلد إلى الأبد،باغصانها التي كانت تحميها وجذوعها التي كانت تخبئها، لم يتبقى منها سوى أعواد جافة و سبخة. فيما بعد أخبرها أحدهم لقد استخدمت تلك الأغصان القوية لربط حبال المشانق وتلك الجذوع الضخمة كحوائط للأعدام. وكل الذين يعرفون اسماء اجمل الأشحار وأطولها عمرا قد لقوا حتفهم. وعندما لم تجد الأشجار من يسميها مرة أخرى سلمت نفسها للجفاف. لقد سارت رجوبرتا في خلال الضباب الكثيف نقطة من غير ماء، ورقة من غير غصن. بحثت عن صديقتها زهرة اللوكسين في كل الأماكن التي كانت تتكاثر فيها ولم تجد إلا بقايا جذورها الميتة. زارتها زهور اللوكسين في المنام، كانت مستسرة الخضرة بالأبيض، صفراء الزهرات في المنتصف،وفيما بعد عرفت أن زهر اللوكسن قد تلطخ بدماء من يحبونه فشاخ حزنا عليهم، ممزقا دواخله ونفسها كلها حتى الجذور.

كرامة الفن
لقد أحسنت صنعا عندما بدأ عزمي يوهن إذ تذكرت درسا في كرامة الفن تعلمته منذ سنوات مضت في مسرح أسيس بإيطاليا. ذهبت برفقة هيلينا لمشاهدة عرضا مسرحيا لمسرحية صامتة. ولم يحضر المشاهدون في تلك الليلة و عليه كنا أنا وهيلينا الجمهور بأكمله. وعندما خفضت الأضاءة انضم إلينا الحارس وبائع التذاكر. وبالرغم من ان عدد الممثلين على الخشبة كانوا اكثر من المشاهدين إلا أن الممثلين قد عملوا بجدية كأنهم يتحركون على مسرح مفتوح يعج بالمشاهدين تحت سماء صافية. لقد وضعوا أرواحهم وقلوبهم في أيديهم في لحظات العرض وأبلوا بلاء حسنا. هزَ تصفيقنا أرجاء القاعة فلقد صفقنا حتى تورمت أيادينا. يا ترى لماذا يجعل المسرح الناس سعداء.

المنفى
عاد ليوناردو إلى وطنه من أطراف العالم الشمالية. لم تكن الرحلة من استكهولم إلى منتفيدو مريحة فقد تخللتها بعض مشاكل الانتقال من طائرة ألى أخرى. وصل ليوناردو في ساعة متأخرة من الليل لم يتوقعه فيها أحد. تردد امام باب منزلهم هل يوقظ والديه في ساعة كهذه أم لا. بالرغم من انه كان يعيش في فترة منفى بعديدا عن أسرته طوال سنوات الدكتاتورية العسكرية العمياء، وبالرغم من أنه يتحرق شوقا أن يرى أفراد أسرته، لكنه قرر من الأفضل أن ينتظر.
تمشى في شوارع طفولته وهو واثق من أنها ستلاحظ وقع أقدامه. وامتلأ راسه بالأخبار القديمة والحكايا وبالقفشات الساذجة وبدأ كل شىء طازجا ومرحا. طلع قمر بكامل استدارته ليحييه وليضىء المدينة النائمة. لقد كانت ليلة شتوية قارصة البرودة تدثرت فيها المدينة بعباءة الصقيع، غير أنه تلذذ ببرودة الهواء كأنه يتجول في طقس مداري دافىء.
أستغرق الامر طويلا حتى انتبه ليوناردو أنه يحمل حقيبة تزن أكثر من شاهدة قبر أو ربما مقبرة بحالها. ولهذا ما أن وجد مساحة فارغة حتى وضع الحقيبة وجلس عليها مسندا ظهره على الحائط. لم يدع البرد النوم يتسلل إلى جفونه. وعندما نهض لاحظ على الحائط رسوما وكلمات على سطحه المتسلخ، قلوبا تخترقها سهام وتعهدات بالحب إلى الأبد، وبالانتقام في حالة ضياع الحب بالخيانة أوحتى باهانة بسيطة.
شكرا لضوء القمر فلقد استطاع ليوناردو أيضا أن يتذكر بعض الكلمات التي أوشكت على التلاشي مثل: وعليه أين كنت؟ وماذا كنت تقول؟ ولمن كنت تتحدث؟.

ملابس العمل
شوهد ابراهام لنكولن بعد مائة وخمسة ثلاثين عاما يتجول في شوارع بالتمور، وأنابولس، ومدن أخرى من ولاية ماريلاند. كان لنكولن يدخل اي متجر من المتاجر الضخمة، يلمس حافة قبعته العليا، محدثا أنحناءة خفيفة، ثم يمسح بنظراته الحزينة التى لا تنسى أرجاء المتجر، بينما يقوم بتمسيد لحيته الغبراءمن دون شارب فوقها، وفجاءة يخرج من الجيب الخلفي لعباءته السوداء الصوفية الكثيفة مسدس ماغنوم عيار 357 . وبحذق من لايعرف أن يناور أو يخطىء هدفه يقول لعامل الخزينة الفلوس أو حياتك.
أرتدى كيفن جبسون في خلال شهر مايو عام 2000 زيا مثل الرئيس ابراهام لنكولن وتمكن من نهب احدى عشرة متجرا قبل أن يتم القبض عليه. سيمكث جبسون في السجن سنوات طويلة. غير أنه يتساءل لماذا؟ إن كل ما قام به هو أنه كان يقلد أكثر السياسيين نجاحا في بلاده.

المغنية
في البحث عن فرانز كافكا، تجولت في شوارع براغ. تسكعت في صمت محاطا بصمت بالرغم من جلبة الزحام وضجيج السيارات. لا يهم كيف كانت درجة الضوضاء ولا كم كان عدد الناس هناك، كانت براغ صامتة مثل كافكا، وحيدة وصامتة من اجله.
نهضت أمرأة من مقعدها المتحرك ومزقت صمت الليل بأجمل صوت سمعته في حياتي. عبرت المدينة من أقصاها إلى أقصاها. لقد كانت مظلمة عندما وصلت شارع )كليتنا( وفي ناصيته المطلة على ساحة المدينة شج صمت الليل صوت أمرأة تغني، نهضت من مقعدها المتحرك ومزقت صمت الليل بأجمل صوت سمعته في حياتي. كان الصوت الجميل المجروح جدا مشدودا على وهج الأسفلت الأسود. لقد غنت تلك المرأة الجرح الباكي لكل الناس الوحيدين في العالم.
كنت واجما، قرصت نفسي لأتأكد هل كنت نائما؟ أو كنت أحلم؟ وأي عالم كنت فيه؟ ولكن كان خلفي صبية يسخرون ويقلدون المغنية الكسيحة ويضحكون عاليا. توقفت المغنية عن الغناء ونكست رأسها. وعندها أيقنت، انني لست كنت نائما، بل مستيقظا جدا وفي منتصف هذا العالم تماما.
 
أعلى