عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي - معاهد التنصيص على شواهد التلخيص

وَكَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة فِي حداثته يهوى امْرَأَة من أهل الْحيرَة نائحة لَهَا حسن ودماثة يُقَال لَهَا سعدى وَكَانَ مِمَّن يهواها أَيْضا عبد الله بن معن وَكَانَت مولاة لَهُم وَكَانَت صَاحِبَة حبائب وَكَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة مُولَعا بِالنسَاء فَقَالَ فِيهَا
(أَلا يَا ذَوَات السحق فِي الغرب والشرقِ ... أفقنَ فَإِن النيكَ أشهى من السحق)
(أفقنَ فإنّ الْخبز بِالْأدمِ يشتهَى ... وَلَيْسَ يسوغُ الْخبز بالخبز فِي الْحلق)
(أراكنَّ ترقعنَ الخرُوق بِمِثْلِهَا ... وأيّ لبيبٍ يرقعُ الْخرق بالخرقِ)
(وَهل يصلحُ المهراسُ إِلَّا بعودهِ ... إذَا احتيجَ مِنْهُ ذَاتَ يَوْم إِلَى الدقّ) // الطَّوِيل //
وَقَالَ فِيهَا أَيْضا
(قلتُ للقلب إِذْ طوى وصلَ سُعَدى ... لهواه الْبَعِيدَة الأسبابِ)
(أنتَ مثل الَّذِي يفرُّ من القَطرِ حِذَارَ الندى إِلَى الْمِيزَاب ... ) // الْخَفِيف // فَغَضب ابْن معن لسعدى فَضرب أَبَا الْعَتَاهِيَة مائَة فَقَالَ فِيهِ
(جَلَدَتْنِي بكفها ... بنتُ معن بن زَائِدَة)
(جلدتني بكفها ... بِأبي تِلْكَ جالدهْ)
(وتراها مَعَ الخصيِّ ... على الْبَاب قاعدهْ)
(تتكَنّى كني الرِّجَال ... لعمدٍ مُكايدهْ)
(جَلدَتْنِي وبالغت ... مائَة غير واحده)
(اجلديني اجلدي اجلدي ... إِنَّمَا أنتِ وَالِده) // من مجزوء الْخَفِيف //
وَقَالَ فِي ضربه إِيَّاه أَيْضا
(ضربتني بكفها بنتُ معنٍ ... أوجعت كفها وَمَا أوجعتني)
(ولعمري لَوْلَا أَذَى كفها إِذْ ... ضربتني بِالسَّوْطِ مَا تَرَكتنِي) // الْخَفِيف //
وَحدث أَحْمد بن أبي فنن قَالَ كُنَّا عِنْد ابْن الْأَعرَابِي فَذكر قَول يحيى بن نَوْفَل فِي عبد الْملك بن عُمَيْر القَاضِي وَهُوَ
(إِذا كلمتهُ ذاتُ دَلٍّ لحاجةٍ ... فهمَّ بِأَن يقْضِي تنحنح أَو سعل) // الطَّوِيل //
وَأَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ تركني وَالله وَإِن السعلة لتعرض لي فِي الْخَلَاء فأذكر قَوْله فأهاب أَن أسعل قَالَ فَقلت هَذَا ابْن معن بن زَائِدَة يَقُول لَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَة
(فصُغْ مَا كنت حَلَّيْتَ ... بِهِ سيفكَ خَلخالا)
(فَمَا تصنعُ بالسيفِ ... إِذا لم تَكُ قتالا) // الهزج //
فَقَالَ عبد الله مَا لبست السَّيْف قطّ فلمحني إِنْسَان إِلَّا قلت يحفظ شعر أبي الْعَتَاهِيَة فِي فَينْظر إِلَيّ بِسَبَبِهِ فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي اعجبوا لهَذَا العَبْد يهجو مَوْلَاهُ وَكَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة من موَالِي بني شَيبَان
وَحدث الْمَدَائِنِي قَالَ اجْتمع أَبُو نواس وَأَبُو الشمقمق فِي بَيت ابْن أذين وَجَاء أَبُو الْعَتَاهِيَة وَكَانَ بَينه وَبَين أبي الشمقمق شَرّ فخبأه من أبي الْعَتَاهِيَة فِي بَيت وَدخل أَبُو الْعَتَاهِيَة فَنظر إِلَى غُلَام عِنْدهم فِيهِ تَأْنِيث فَظَنهُ جَارِيَة فَقَالَ لِابْنِ أذين مَتى استظرفت هَذِه الْجَارِيَة قَالَ قَرِيبا يَا أَبَا إِسْحَاق فَقل فِيهَا مَا حضر فَمد أَبُو الْعَتَاهِيَة يَده إِلَيْهِ وَقَالَ
(مددتُ كَفِّي نحوكم سَائِلًا ... مَاذَا تردُّون على السَّائِل) // السَّرِيع //
فَلم يلبث أَبُو الشمقمق حَتَّى ناداه من دَاخل الْبَيْت بِهَذَا الْبَيْت
نرد فِي كفك ذَا فَيْشَةٍ ... يشفي جَوّى فِي استك من دَاخل)
فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة أَبُو الشمقمق وَالله وَقَامَ مغضبا
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة حَبَسَنِي الرشيد لما تركت قَول الشّعْر فأدخلت السجْن وأغلق الْبَاب عَليّ فدهشت كَمَا يدهش مثلي لذَلِك الْحَال فَإِذا أَنا بِرَجُل جَالس فِي جَانب الْحَبْس مُقَيّد فَجعلت أنظر إِلَيْهِ سَاعَة ثمَّ تمثل وَقَالَ
(تعوَّدْتُ مَسَّ الضّر حَتَّى ألفتُهُ ... وأسلمني حسنُ العزاء إِلَى الصَّبْر)
(وصيرني يأسي من النَّاسِ راجياً ... لحسن صَنِيع الله من حَيْثُ لَا أَدْرِي) // الطَّوِيل //
فَقلت لَهُ أعد أعزّك الله هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فَقَالَ لي وَيلك يَا أَبَا الْعَتَاهِيَة مَا أَسْوَأ أدبك وَأَقل عقلك دخلت عَليّ الْحَبْس فَمَا سلمت تَسْلِيم الْمُسلم على الْمُسلم وَلَا سَالَتْ مَسْأَلَة الْحر للْحرّ وَلَا توجعت توجع المبتلي للمبتلي حَتَّى إِذا سَمِعت بَيْتَيْنِ من الشّعْر الَّذِي لَا فضل فِيك غَيره لم تصبر عَن استعادتهما وَلم تقدم قبل مسألتهما عذرا لنَفسك فِي طلبهما فَقلت يَا أخي إِنِّي دهشت لهَذَا الْحَال فَلَا تعذلني واعذرني متفضلاً بذلك فَقَالَ وَالله أَنا أولى بالدهش والحيرة مِنْك لِأَنَّك حبست فِي أَن تَقول الشّعْر الَّذِي بِهِ ارْتَفَعت وَبَلغت مَا بلغت فَإِذا قلت أمنت وَأَنا مَأْخُوذ بِأَن أدل على ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليقْتل أَو أقتل دونه وَوَاللَّه لَا أدل عَلَيْهِ أبدا والساعة يدعى بِي فأقتل فأينا أَحَق بالدهش فَقلت أَنْت وَالله أولى سلمك الله وَكَفاك وَلَو علمت أَن هَذِه حالك مَا سَأَلتك فَقَالَ لَا نبخل عَلَيْك إِذن ثمَّ أعَاد الْبَيْتَيْنِ حَتَّى حفظتهما فَسَأَلته من هُوَ قَالَ أَنا حَاضر دَاعِيَة عِيسَى بن زيد وَابْنه أَحْمد وَلم نَلْبَث أَن سَمِعت صَوت الأقفال فَقَامَ فسكب عَلَيْهِ مَاء كَانَ عِنْده فِي جرة وَلبس ثوبا نظيفاً وَدخل الحرس والجند مَعَهم الشمع فأخرجنا جَمِيعًا وَقدم قبلي إِلَى الرشيد فَسَأَلَهُ عَن أَحْمد بن عِيسَى فَقَالَ لَا تَسْأَلنِي عَنهُ واصنع مَا أَنْت صانع فَلَو أَنه تَحت ثوبي هَذَا مَا كشفت عَنهُ فَأمر بِضَرْب عُنُقه فَضربت ثمَّ قَالَ لي أَظُنك ارتعت يَا إِسْمَاعِيل فَقلت دون مَا رَأَيْته تسيل مِنْهُ النُّفُوس فَقَالَ ردُّوهُ إِلَى محبسه فَرددت وانتحلت الْبَيْتَيْنِ وزدت فيهمَا
(إِذا أَنا لم أقبلْ من الدَّهْر كل مَا ... تَكَرَّهْتُ مِنْهُ طَال عَتْبي على الدَّهْر) // الطَّوِيل //
وَكَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة مشتهراً بحب عتبَة جَارِيَة الْمهْدي وَأكْثر نسيبه فِيهَا فَمن ذَلِك قَوْله وَكتب بِهِ إِلَى الْمهْدي يعرض بهَا
(نَفسِي بِشَيْء من الدُّنْيَا مُعَلَّقَةٌ ... وَالله والقائم المهديُّ يَكفْيها)
(إِنِّي لَا يأس مِنْهَا ثمَّ يُطْمعني ... فِيهَا احتقارك للدنيا وَمَا فِيهَا) // الْبَسِيط //
فهم الْمهْدي بِدفع عتبَة إِلَيْهِ فَخرجت وَقَالَت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَعَ حرمتي وخدمتي أفتدفعني إِلَى قَبِيح المنظر بَائِع جرارٍ ومكتسب بالعشق فأعفاها وَكَانَ قد كتب الْبَيْتَيْنِ على حَوَاشِي ثوب مُطيب وَوَضعه فِي برنية ضخمة فَقَالَ الْمهْدي املأوا لَهُ البرنية مَالا فَقَالَ للْكتاب أَمر لي بِدَنَانِير قَالُوا مَا ندفع إِلَيْك ذَلِك وَلَكِن إِن شِئْت أعطيناك الدَّرَاهِم إِلَى أَن يفصح بِمَا أَرَادَ فَاخْتلف فِي ذَلِك حولا فَقَالَت عتبَة لَو كَانَ عَاشِقًا كَمَا يزْعم لم يكن يخْتَلف مُنْذُ حول فِي التَّمْيِيز بَين الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَقد أضْرب عَن ذكري صفحاً
وَجلسَ أَبُو الْعَتَاهِيَة يَوْمًا يعذل أَبَا نواس ويلومه على اسْتِمَاع الْغناء ومجالسته لأَصْحَابه فَقَالَ أَبُو نواس
(أَترَانِي يَا عتاهي ... تَارِكًا تِلْكَ الملاهي)
(أَترَانِي مُفْسِدا بالنُّسْكِ عِنْد الْقَوْم جاهي) // من مجزوء الرمل //
فَوَثَبَ أَبُو الْعَتَاهِيَة وَقَالَ لَا بَارك الله عَلَيْك وَجعل أَبُو نواس يضْحك
وَحدث مُخَارق قَالَ جَاءَنِي أَبُو الْعَتَاهِيَة يَوْمًا فَقَالَ لي قد عزمت على أَن أتزود مِنْك يَوْمًا تهبه لي فَمَتَى تنشط لذَلِك فَقلت مَتى شِئْت قَالَ أَنا أَخَاف أَن تقطع بِي فَقلت لَا وَالله وَلَو طلبني الْخَلِيفَة فَقَالَ يكون ذَلِك فِي غَد فَقلت افْعَل فَلَمَّا كَانَ من الْغَد باكرني رَسُوله فَجِئْته فَأَدْخلنِي بَيْتا لَهُ نظيفاً فِيهِ فرش نظيف ثمَّ دَعَا بمائدة وَعَلَيْهَا خبز سميد سميذ وخل وبقل وملح وجدي مشوي قَالَ فأكلنا مِنْهَا حَتَّى اكتفينا ثمَّ دَعَا بسمك مشوي فأصبنا مِنْهُ أَيْضا ثمَّ دَعَا بفراخ ودجاج وفراريج مشوية فأكلنا مِنْهَا حَتَّى اكتفينا ثمَّ أتونا بحلواء فأصبنا مِنْهَا وغسلنا أَيْدِينَا ثمَّ جَاءُونَا بفاكهة وَرَيْحَان وألوان من الأنبذة فَقَالَ لي اختر مَا يصلح لَك فاخترت وشربت وصب قدحاً ثمَّ قَالَ غن لي قولي
(أحمدٌ قَالَ لي وَلم يَدْرِ مَا بِي ... أتحبُّ الفتاة عتبَة حَقًا) // الْخَفِيف //
فغنيته فَشرب أقداحاً وَهُوَ يبكي أحر بكاء ثمَّ قَالَ غَنِي فِي قولي
(ليسَ لمن ليستْ لهُ حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصبرِ) // السَّرِيع //
فغنيته وَهُوَ ينتحب ويبكي ثمَّ قَالَ غنني فديتك فِي قولي
(خليلي مَالِي لَا تزَال مُضرتِي ... تكونُ مَعَ الأقدار حَتْماً من الحتمِ) // الطَّوِيل //
فغنيته إِيَّاه وَمَا زَالَ يقترح عَليّ كل صَوت غَنِي بِهِ فِي شعره وَيَقُول غنني بِهِ فأغنيه وَيشْرب ويبكي ثمَّ صَارَت الْعَتَمَة فَقَالَ لي أحب أَن تصبر حَتَّى ترى مَا أصنع فَجَلَست فَأمر ابْنه وَغُلَامه فكسرا كل مَا كَانَ بَين أَيْدِينَا من النَّبِيذ وآلات الملاهي ثمَّ أَمر بِإِخْرَاج كل مَا كَانَ فِي بَيته من النَّبِيذ وآلاته فَمَا زَالَ يكسرهُ وَيصب النَّبِيذ وَهُوَ يبكي حَتَّى لم يبْق من ذَلِك شَيْء ثمَّ نزع ثِيَابه واغتسل وَلبس ثِيَاب بَيَاض من الصُّوف ثمَّ عانقني وَبكى وَقَالَ عَلَيْك السَّلَام يَا حَبِيبِي وفرحي من النَّاس كلهم سَلام الْفِرَاق الَّذِي لَا لِقَاء بعده وَجعل يبكي وَيَقُول هَذَا آخر عَهْدك بِي فِي حَال تعاشر أهل الدُّنْيَا فَظَنَنْت أَنَّهَا بعض حماقاته فَانْصَرَفت فَمَا لَقيته زَمَانا ثمَّ تشوقته قأتيته فاستأذنت عَلَيْهِ فَأذن لي فَدخلت فَإِذا هُوَ قد أَخذ قوصرتين وثقب إِحْدَاهمَا وَأدْخل رَأسه وَيَديه فِيهَا وأقامها مقَام الْقَمِيص وثقب أُخْرَى وَأخرج رجلَيْهِ مِنْهَا وأقامها مقَام السَّرَاوِيل فَلَمَّا رَأَيْته نسيت مَا كَانَ عِنْدِي من الْغم عَلَيْهِ والوحشة لعشرته وضحكت وَالله ضحكاً مَا ضحِكت مثله قطّ فَقَالَ لي من أَي شَيْء تضحك لَا ضحِكت فَقلت اسخن الله عَيْنَيْك أَي شَيْء هُوَ من بلغك عَنهُ أَنه فعل مثل هَذَا من الْأَنْبِيَاء أَو الزهاد أَو الصَّحَابَة أَو التَّابِعين أَو المجانين انْزعْ عَنْك هَذَا يَا سخين الْعين فَكَأَنَّهُ استحيا مني ثمَّ بَلغنِي عَنهُ أَنه جلس حجاماً فجهدت أَن أرَاهُ بِتِلْكَ الْحَالة فَلم أره ثمَّ مرض فبلغني أَنه اشْتهى أَن أغنيه فَأَتَيْته عَائِدًا فَخرج إِلَى رَسُوله يَقُول إِن دخلت جددت لي حزنا وتاقت نَفسِي إِلَى سماعك وَإِلَى مَا قد غلبتها عَلَيْهِ وَأَنا أستودعك الله وأعتذر إِلَيْك من ترك الالتقاء ثمَّ كَانَ آخر عهدي بِهِ
وَقيل لأبي الْعَتَاهِيَة عِنْد الْمَوْت مَا تشْتَهي فَقَالَ أشتهي أَن يَجِيء مُخَارق فَيَضَع فَمه عِنْد أُذُنِي ثمَّ يغنيني
(ستعرضُ عَن ودي وتنسى مودتِي ... ويحدثُ بعدِي للخليل خليلُ)
(إِذا مَا انْقَضتْ عني من الدَّهْر مدّتي ... فإنَّ غَنَاء الباكيات قَلِيل) // الطَّوِيل //
وَحدث مُحَمَّد بن أبي الْعَتَاهِيَة قَالَ آخر شعر قَالَه أبي فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ
(إلهي لَا تعذبني فَإِنِّي ... مقرٌّ بِالَّذِي قد كانَ مني)
(فَمَا ليَ حيلةٌ إِلَّا رجائي ... لعفوكَ إِن عَفَوْت وحُسْنَ ظَنِّي)
(وَكم مِنْ زَلْةٍٍ لي فِي الْخَطَايَا ... وَأَنت عليَّ ذُو فضل ومَنِّ)
(إِذا فكرتُ فِي نَدَمي عَلَيْهَا ... عضضت أناملي وقَرَعْتُ سني)
(أجنُّ بزهرة الدُّنْيَا جنوناً ... وأقطعُ طولَ عمري بالتمني)
(وَلَو أنِّي صدقتُ الزهدَ عَنْهَا ... قلبتُ لأَهْلهَا ظهرَ المجنِّ)
(يظنُّ الناسُ بِي خيرا وَإِنِّي ... لَشَرُّ النَّاس إِن لم تعف عني) // الوافر //
ومحاسنه كَثِيرَة
وَكَانَ الْأَصْمَعِي يستحسن قَوْله
(أنتَ مَا استغنيتَ عَن صَاحبك ... الدهرَ أخوهُ)
(فَإِذا احتجتَ إِلَيْهِ ... سَاعَة مجك فوه) // من مجزوء الرمل //
وَحدث ابْن الْأَنْبَارِي أَبُو بكر قَالَ أرْسلت زبيدة أم الْأمين إِلَى أبي الْعَتَاهِيَة أَن يَقُول على لسانها أبياتاً بعد قتل الْأمين يستعطف بهَا الْمَأْمُون فَأرْسل إِلَيْهَا هَذِه الأبيات
(أَلا إنّ صرف الدَّهْر يُدْنِي ويُبْعِدُ ... ويمتع بالآلاف طوراً ويفقدُ)
(أصَابت بريبِ الدَّهْر مني يَدي يدِي ... فسلمتُ للأقدار واللهَ أَحمدُ)
(وقلتُ لريب الدّهر إنْ هلكَتْ يدٌ ... فقد بقيت والحمدُ لله لي يدُ)
(إذَا بَقِي المأمونُ لي فالرّشيدُ لي ... ولي جعفرٌ لم يفتقد ومحمدُ) // الطَّوِيل //
قَالَ فَلَمَّا قَرَأَهَا الْمَأْمُون استحسنها وَسَأَلَ عَن قَائِلهَا فَقيل لَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَة فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وَعطف على زبيدة وَزَاد فِي تكرمتها وَقضى حوائجها جَمِيعًا
وَحدث عمر بن أبي شيبَة قَالَ مر عَابِد براهب فِي صومعة فَقَالَ لَهُ عظني قَالَ أعظك وَعَلَيْكُم نزل الْقُرْآن ونبيكم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قريب الْعَهْد بكم قلت نعم قَالَ فاتعظ بِبَيْت من شعر شاعركم أبي الْعَتَاهِيَة حَيْثُ يَقُول
(تجرّد من الدُّنيا فَإنَّكَ إِنَّمَا ... وقعْتَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنت مُجَرّد) // الطَّوِيل //
وَمن شعر أبي الْعَتَاهِيَة قَوْله
(بَادر إِلَى اللذّات يَوْمًا أمكنت ... بحلولهنّ بَوَادِر الآفاتِ)
(كم من مُؤَخِّرِ لذةٍ قد أمكنتْ ... لغدٍ وَلَيْسَ غدٌ لهُ بِمُوَاتِ)
(حَتَّى إِذا فَاتَت وفاتَ طلابها ... ذَهبت عَلَيْهَا نفسهُ حسرَاتِ)
(تَأتي المكارهُ حِين تَأتي جملَة ... وَأرى السُّرور يَجِيء فِي الفلتات) // الْكَامِل //
وَمِنْه قَول بَعضهم
(أيُّ شَيْء يكونُ أعجبَ أمرا ... إِن تنكرتَ من صُرُوف الزمانِ)
(عارضاتُ السُّرُور توزنُ فيهِ ... والبلايَا تكال بالقفزان) // الْخَفِيف //
وَمن شعره أَيْضا قَوْله
(وإذَا انْقَضى هَمُّ امْرِئ فقد انْقَضى ... إنّ الهموم أشدُّهنّ الأحدث) // الْكَامِل //
ويومئ إِلَى هَذَا الْمَعْنى قَوْله أَيْضا وَهُوَ عَجِيب فِي مَعْنَاهُ
(إِنَّمَا أنتَ طولَ عمركَ مَا عمرتَ فِي السَّاعَة الَّتِي أَنْت فِيهَا ... ) // الْخَفِيف //
وَمن هَذَا قَول من قَالَ
(وكما تبلىَ وُجوهٌ فِي الثرَى ... فَكَذَا يبلىَ عليهنَّ الحَزَنْ) // الرمل //
وَمن شعره أَيْضا قَوْله
(كأنّ عائبكم يُبْدِي محاسنكمْ ... مِنْكُم فيمدحكمْ عِنْدِي فيغرينِي)
(إِنِّي لأعجبُ من حبِّ يقرِّبني ... مِمَّا يباعدني عَنهُ ويقصيني) // الْبَسِيط //
وَمثل الأول قَول عُرْوَة بن أذينة
(كَأَنَّمَا عائبها جاهداً ... زينها عِنْدِي يتزيين) // السَّرِيع //
وَكَذَا قَول أبي نواس
(كَأَنَّهُمْ أْثَنْوا وَلم يعلَمُوا ... عليكَ عِنْدِي بِالَّذِي عابوا) // السَّرِيع //
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة لابنته رقية فِي علته الَّتِي مَاتَ فِيهَا قومِي يَا بنية فارثي أَبَاك واندبيه بِهَذِهِ الأبيات فَقَامَتْ فندبته بقوله
(لعب البلا بمعالمي ورسومي ... وقُبِرْتُ حَيا تحتَ رَدم همومِي)
(لزمَ البلاَ جسمي فأوهى قوَّتي ... إنَّ البلاَ لموكَّلٌ بلزومي) // الْكَامِل //

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الكتاب: معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (المتوفى: 963هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

1.jpg
 
أعلى