محمد نصر الدين محمد عويضة - فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب

(المحبة جنس والعشق نوع:

مسألة: ما الفرق بين المحبة والعشق؟
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
واعلم أن المحبة جنس والعشق نوع فإن الرجل يحب أباه وابنه،
ولا يبعثه ذلك على تلف نفسه بخلاف العاشق.
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن محمد بن يزيد المبرد قال سمعت الجاحظ يقول كل عشق يسمى حبا وليس كل حب يسمى عشقا لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد والجبن اسم لما فضل عن شدة الاحتراس والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة.
(أسباب العشق:

مسألة: ما هو أسباب العشق؟
وبعد أن تبين خطر العشق، وعظيم جنايته، وكثرة الأضرار الناجمة عنه، والمظالم الحاصلة من جرائه، لا بد من الوقوف على الأسباب الحاملة على العشق، والمحركة له؛ ذلك أن العشق ينشأ، ويثور إذا وجدت محركاته ومهيجاته؛ فهناك أسباب تثير العشق، وتبعثه، بل وتسوق إليه سوقاً، وتجر إليه جراً.

(1) التثبت في النظر ومعاودته:

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه وأكثر أسباب المصادفة النظر «ولا يكون ذلك باللمح بل بالتثبت في النظر ومعاودته»، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس ورامت القرب منه ثم تمنت الاستمتاع به فيصير فكرها فيه وتصويرها إياه في الغيبة حاضرا وشغلها كله به فيتجدد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى وكلما قويت الشهوة البدنية قوى الفكر في ذلك.
(2) سماع الغزل والغناء:

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
ومن أسباب العشق سماع الغزل والغناء فإن ذلك يصور في النفوس نقوش صور فتتخمر خميرة صورة موصوفة ثم يصادف النظر مستحسنا فتتعلق النفس بما كانت تطلبه حالة الوصف. أهـ
(3) الإعراض عن الله عز وجل: ذلك أن في الله عوضاً عن كل شيء، وأن من عرف الله عز وجل جمع قلبه عليه، ولم يلتفت إلى محبوب سواه.
(4) الجهل بأضرار العشق: وقد مر شيء من أضراره؛ فمن لم يعرفها أوشك أن يقع في ذلك الداء.
(5) الفراغ: فهو من أعظم الأسباب الحاملة على العشق.
[*] (قال ابن عقيل رحمه الله تعالى: وما كان العشق إلا لأرعنَ بطال، وقلَّ أن يكون في مشغول ولو بصناعة، أو تجارة؛ فكيف بعلوم شرعية، أو حكمية؟ ( 1).
[*] (وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: سئل بعض الحكماء عن العشق فقال: شُغل قلب فارغ ( 2).
وقال أفلاطون: العشق حركة النفس الفارغة ( 3).
وقال أرسطو: العشق جهل عارض، صادف قلباً خالياً لا شغل له من تجارة، ولا صناعة ( 4).
وقال غيره: هو سوء اختيار صادف نفساً فارغة ( 5).
ومن الفراغ أيضاً فراغ القلب من محبة الله عز وجل.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وعشق الصور إنما تبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه، والمتعوضة بغيره عنه؛ فإذا امتلأ القلب من محبة الله، والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور ( 6).

(6) وسائل الإعلام: سواء كانت مسموعة، أو مرئية، أو مقروءة؛ فوسائل الإعلام لها قدرة كبيرة على الإقناع، وصياغة الأفكار، ولها تأثير بالغ في قيادة الناس إلي الهاوية إذا هي انحرفت؛ فالصحافة تسهم في إذكاء نار العشق من خلال ما تعرضه من الصور الفاتنة، ومن خلال احتفائها بأهل العشق، وتتبع أخبارهم وشذوذاتهم.
وقل مثل ذلك في الكتب التي تتحدث عن الجنس صراحة، وتميط اللثام عن الحياء، والدواوين الشعرية المليئة بشعر الغزل الفاضح الصريح، وقل مثل ذلك في الكتب أو المقالات التي تنشر ذكريات أصحابها، وسيرهم الذاتية؛ حيث يذكر بعضهم بكل وقاحة مغامراته العاطفية، ومراهقاته مع معشوقاته دونما حياء أو أنفة، فيظل يستره الله، ويأبى إلا كشف الستر، فإذا كان ممن يشار إليهم بالبنان كان له تأثير لدى بعض الجهلة ممن يحاولون محاكاته، والسير على منوالة.
وقل مثل ذلك في الأجهزة المرئية؛ فهي الترجمان الناطق عملياً لما تتضمنه القصص والروايات الفاجرة ( 1).
(7) التقليد الأعمى: فمن الناس من يقرأ قصص أهل العشق وأخبارهم، أو يستمع إلى الأغاني المشتملة على ذكر العشق والهيام، والصبابة، أو يقرأ القصائد التي تنسج على منوال أهل العشق.
وربما رأى من حوله يبثون الشكاة واللوعة من العشق عبر الشعر أو الكتابة؛ فترى هذا الغِرَّ يتأثر بما يسمع، وما يرى حوله، فيبدأ بمحاكاة أهل العشق، فيزعم أنه قد وقع بما وقعوا فيه، وأن العشق قد أمضه وأضناه، وربما عبر عن ذلك شعراً.
وما هي إلا مدة حتى يتمادى به الأمر، فيقع في العشق، فيعز خلاصه، ويصعب استنقاذه.
ومما ينسب للمأمون قوله في هذا المعنى:
أول العشقِ مزاحٌ وولع ... ثم يزداد فيزداد الطمع
كلُّ مَنْ يهوى وإن عالت به ... رتبة الملك لمن يهوى تبع ( 2)

وقيل:
تولع بالعشق حتى عشق ... فلما استقل به لم يُطِقْ
رأى لُجَّةً ظنها موجةً ... فلما تمكَّن منها غرق
ولما رأى أدمعاً تُستهلُّ ... وأبصر أحشاءه تحترق
تمنى الإفاقة من سكره ... فلم يستطعها ولم يستفق ( 3)

(8) الانحراف في مفهوم الحب والعشق: فمن أعظم أسباب العشق الانحراف في مفهومه؛ حيث يُظن أنْ لا عشق ولا حب إلا ذاك الذي يعمي صاحبه، ويجعله سادراً في غيه، لا يكاد يفيق من سكره.
فيرى أولئك أن الحب هو ذاك فحسب، وأن من وقع فيه نال فضيلة الحب من رقَّةٍ، وظرفٍ، ولطافة، وكرم ونحو ذلك.
ومن لم يعشق ويحب ذلك الحب فهو جامد الطبع، متبلد الإحساس، خالٍ من العواطف، متجرد من الفضائل، كما قال قائلهم:
إذا أنت لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى ... فكن حجرا من جامد الصخر جلمدا ( 1)

وكما قال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعَيْر في الفلاة سواء ( 2)

وكما قال الآخر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فمالك في طيب الحياة نصيب ( 3)

ولا ريب أن المتجرد من عواطف الحب بليد الطبع، قاسي القلب، متجرد من أسمى الفضائل.
ولكنَّ حصرَ الحبِّ والعشق في زاوية حب الصور المحرمة جهل وانحراف؛ ذلك أن مفهوم الحب أوسع، ودائرته أعم، وصوره أشمل.
وما عشق الصور المحرمة إلا زاوية ضيقة من زوايا الحب، بل هي أضيقها، وأضرها؛ فلقد غاب عن هؤلاء أن هذا العشق نقطة في بحر الحب، وغاب عنهم حب الوالدين، وحب الأولاد، وحب المساكين، وحب الزوجة، وحب الفضائل، والمكارم، وحب المعالي والمروءات، وحب الطهر، والعفة، والشجاعة، وحب الصداقة، وغاب عنهم حب اللذات العقلية وهي أرقى وأسمى وألذ من اللذات الجسدية، وألذها لذة العلم، وما يتفرع عنه.
بل لقد غاب عنهم أعظم الحب، وأشرفه، وأنفعه، وأجمله، وأجله، وأكمله، وأبهاه، وهو حب الله عز وجل فهو أصل المحاب المحمودة، بل وكل محبة محمودة إنما هي متفرعة عن ذلك.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن الله تعالى أو تنقصها؛ فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق.
فمحبة الله عز وجل أصل المحاب، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
و المحبة مع الله أصل الشرك، والمحابِّ المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها ( 4).

(وقال في موضع آخر متحدثاً عن فضل محبة الله عز وجل: ولهذا كان أعظم صلاح العبد أن يصرف قوى حبه كلها لله تعالى وحده، بحيث يحب الله بكل قلبه، وروحه وجوارحه؛ فيوحِّد محبوبه، ويوحِّد حبه.
فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه، وتوحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقيةُ حبٍّ حتى يبذلها له؛ فهذا الحب وإن سمي عشقاً فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله؛ فلا يحب إلا لله ( 1).
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث أنس في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله و أن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: فأخبر أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان إلا بأن يكون الله أحب إليه مما سواه، ومحبةُ رسوله هي من محبته، ومحبةُ المرء إن كانت لله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي مُنقصة لمحبة الله، مُضعفة لها، وتَصْدُقُ هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه وهو الكفر بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد.
ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يُقَدِّم على محبة نفسه وحياته شيئاً، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خيِّر بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر_كان الله أحبَّ إليه من نفسه.
وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة، كما لا مثل لمن تعلق به، وهي محبةٌ تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل، والخضوع، والتعظيم، والطاعة، والانقياد ظاهراً وباطناً.
وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان ( 2).
(وقال: والعشق إذا تعلق بما يحبه الله ورسوله كان عشقاً ممدوحاً مثاباً عليه، وذلك أنواع:
أحدها: محبة القرآن؛ بحيث يَغْنى بسماعه عن سماع غيره، ويهيم قلبه في معانيه، ومرادِ المتكلم سبحانه منه.

وعلى قدر محبة الله تكون محبة كلامه؛ فمن أحب محبوباً أحب كلامه ( 1).
(وقال: وكذلك محبة ذكره سبحانه وتعالى من علامة محبته؛ فإن المحب لا يشبع من ذكر محبوبه، بل لا ينساه؛ فيحتاج إلى من يذكِّره.
وكذلك يحب سماع أوصافه وأفعاله وأحكامه؛ فعشق ذلك كله من أنفع العشق، وهو غاية سعادة العاشق.
وكذلك عشق العلم النافع، وعشق أوصاف الكمال من الجود، والعفة، والشجاعة، والصبر، ومكارم الأخلاق.
ولو صور العلم صورة لكان أجمل من صورة الشمس والقمر.
ولكن عشق هذه الصفات إنما يناسب الأنفس الشريفة الزكية، كما أن محبة الله ورسوله وكلامه ودينه إنما تناسب الأرواح العلوية السماوية الزكية، لا الأرواح الأرضية الدنية.
فإذا أردت أن تعرف قيمة العبد وقدره فانظر إلى محبوبه ومراده، واعلم أن العشق المحمود لا يعرض فيه شيء من الآفات المذكورة ( 2).
وصدق من قال:
ونفاسة الأشياء في غاياتها ... فاحمد رماءك إن أصبت نفيسا ( 3)

(9) الاغترار ببعض الأقوال التي تبيح العشق: فبعض الناس قد يستهين بشأن العشق، بحجة إباحته، وترخُّص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق وذكر قصصهم وأخبارهم، أو بحجة أن بعض أهل الفضل قد وقع في أشراك العشق، أو بحجة أن للعشق بعض الفضائل حيث ذكر بعضهم أنه يزيد في رقة الطبع، وترويح النفس، وخفتها، ورياضتها، وحملها على مكارم الأخلاق من نحو الشجاعة، والكرم، والمروءة، ورقة الحاشية، وغير ذلك مما ذكر ( 4).
ومن ثم يقع في العشق من يقع، ثم يلاقي ويلاته ومراراته.
والجواب على ما مضى أن تلك الإيرادات والأقوال لا تقوم بها حجة؛ فالقول بإباحته، ونقل ذلك عن السلف قول غير مقبول؛ لأن الناقلين ذلك عنهم اتكأوا على نقولٍ لا تصح، أو نقولٍ لا تدل على ما ذهبوا إليه.
[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شأن تلك النقول: وشبههم التي ذكروها دائرة بين ثلاثة أقسام، أحدها: نقول صحيحة لا حجة لكم فيها.
والثاني: نُقولٌ كاذبة عمن نسبت إليه من وضع الفساق الفجار كما سنبينه.
الثالث: نُقولٌ مجملة محتملة لخلاف ما ذهبوا إليه ( 5).
ثم شرع رحمه الله في تفصيل ذلك.
وقد سئل أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني مسألة عن العشق، وحكم مواصلة العاشق للمعشوق، وكان السؤال شعراً مكتوباً في رقعة، فأجابه أبو الخطاب قائلاً:

يا أيها الشيخ الأديب الذي ... قد فاق أهل العصر في شعره

ثم قال:
من قارف الفتنة ثم ادعى الـ ... ـعصمة قد نافق في أمره
ولايجيز الشرعُ أسباب ما ... يورِّط المسلمَ في حظره
فانج ودع عنك صداع الهوى ... عساك أن تسلم من شره
هذا جواب الكلوذانيِّ قد ... جاءك يرجو الله في أجره ( 1)

وسئل ابن الجوزي بأبيات عن جواز العشق مطلعها:
يا أيها العالم ماذا ترى ... في عاشق ذاب من الوجد

فأجابه ابن الجوزي قائلاً:
يا ذا الذي ذاب من الوجد ... وظلَّ في ضر وفي جهد
اسمع فدتك النفسُ من ناصحٍ ... بنصحه يهدي إلى الرشد

إلى أن قال:
وكل ما تذكر مستفتياً ... حرَّمه الله على العبد
إلا لما حلَّله ربنا ... في الشرع بالإبرام والعقد
فَعَدِّ من طُرْق الهوى معرضاً ... وقف بباب الواحد الفرد
وسَلْهُ يشفيك ولا يبتلي ... قلبك بالتعذيب والصد
وعف في العشق ولا تبده ... واصبر وكاتم غاية الجهد
فإن تمت محتسباً صابراً ... تَفُزْ غداً في جنة الخلد ( 2)

وأما من احتج على جواز العشق بترخص بعض العلماء بذكر أقوال العشاق، وذكر قصصهم وأخبارهم فيقال له: إنما كان ذلك منهم من باب الاستشهاد، وتصوير الحال، ثم بعد ذلك يوقفون القارىء على الحكم في هذه المسألة، كما في صنيع ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه (ذم الهوى) وابن القيم رحمه الله تعالى في (الجواب الكافي)، و (روضة المحبين) وغيرها من كتبه.
بل إن ابن حزم رحمه الله تعالى لما ألف كتابه (طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف) وذكر فيه طرائق أهل العشق قال في آخره: وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتب الملكان، ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه استغفارَ مَنْ يعلم أن كلامه من عمله.
ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء فهو إن شاء الله من اللمم المعفو ( 3).
وقال رحمه الله تعالى على سبيل الوعظ:
رأيت الهوى سهل المبادي لذيذَها ... وعقباه مر الطعم ضنك المسالك
ومن عرف الرحمن لم يعصِ أمرَه ... ولو أنه يعطي جميع الممالك ( 4)

وأما من ابتلي بالعشق من أهل الفضل فغاية أمره أن يكون ذلك من سعيه المعفو المغفور، لا من سعيه المبرور المشكور.
وإن كان لم يكتم في عشقه كان ذلك منقصة في حقه؛ إذ أعان بذلك على أن يتسلط الناس على عرضه، ويشمتون به ( 5).

وليس في ذلك حجة لمن أراد أن يقتدي به، وإن كان لأحد رغبة في الاقتداء بذلك الفاضل فليكن في أي جانب من جوانب فضله، لا في الجانب الذي يعد زراية به.
وأما القول بأن للعشق فضائل كما ذكر قبل قليل فيقال: بأن هذه الفضائل تحصل في العشق بمفهومه الشامل كما ذكر في فقرة سابقة.
ولو فرض أن هذه المنافع تحصل بالعشق المعهود لما أَرْبَتْ على مفاسده ومضاره، وما كان ضرره أكثر من نفعه فالمتعين تحريمه، وتركه، وتجنب السبل المفضية إليه.
وقد يستدل بعضهم على جواز العشق وإباحته بحديث: من عشق، فعف، وكتم، وصبر، ثم مات كان شهيداً.
وهذا الحديث باطل موضوع كما بين ذلك العلماء ( 1).




* الكتاب: فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب
المؤلف: محمد نصر الدين محمد عويضة
 
(10) التهتك والتبرج والسفور: فذلك من أعظم محركات العشق؛ فهو سبب للنظرات الغادرة، التي تعمل عملها في القلب.
(11) المعاكسات الهاتفية: فهي من أعظم ما يجر إلى العشق؛ فقد تكون الفتاة حَصَاناً رزاناً لا تُزْنُّ بريبة، ولا تحوم حولها شبهة، وهي من بيت طهر وفضيلة، قد جلله العفاف، وأُسْدل عليه الستر.
فما هي إلا أن تتساهل في شأن الهاتف، وتسترسل في محادثة العابثين حتى تقع فيما لا تحمد عقباه؛ فربما وافقت صفيقاً يغْتَرُّها بمعسول الكلام، فَتَعْلَقُه، وتقع في أشراكه؛ ولا يخفى أن الأذن تعشق قبل العين أحياناً.
وربما زاد الأمر عن ذلك، فاستجر الفتاة حتى إذا وافق غرتها مكر بها، وتركها بعد أن يلبسها عارها.
وربما كانت المبادرة من بعض الفتيات؛ حيث تمسك بسماعة الهاتف وتتصل بأحد من الناس إما أن يكون مقصوداً بعينه، وإما أن يكون الاتصال خبط عشواء؛ فتبدأ بالخضوع له بالقول، وإيقاعه في حبائلها.
والحامل على المعاكسات في الغالب تساهل كثير من الناس في شأن الهاتف، أو الجهل بعواقب المعاكسات، أو من باب التقليد الأعمى، أو حب الاستطلاع، أو غير ذلك من الأمور التي يجمعها الجهل، وعدم النظر في العواقب، وقلة المراقبة لله_تعالى_.
والحديث عن المعاكسات الهاتفية وما تجره من فساد يطول ذكره، وليس هذا مجال بسطه.
والمقصود من ذلك الإشارةُ إلى أن المعاكسات الهاتفية من أعظم الأسباب التي تقود إلى العشق والتعلق؛ فَسَدُّ هذا الباب واجب متعين.
هذه على سبيل الإجمال هي الأسباب الحاملة على العشق.
(ذم العشق:

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
اختلف الناس في العشق هل هو ممدوح أو مذموم.
فقال قوم هو ممدوح لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع ولا يقع عند جامد الطبع حبيسه ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ طبعه.
فهو يجلو العقول ويصفي الأذهان ما لم يفرط.
فإذا أفرط عاد سما قاتلا.
وقال آخرون بل هو مذموم لأنه يستأمر العاشق ويجعله في مقام المستعبد.
قلت: وفصل الحكم في هذا الفصل أن نقول أما المحبة والود والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا يذم ولا يعدم ذلك إلا الحبيس من الأشخاص.
فأما العشق الذي يزيد على حد الميل والمحبة فيملك العقل ويصرف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم ويتحاشى من مثله الحكماء.
(أما القسم الأول فقد وقع فيه خلق كثير من الأكابر ولم يكن عيبا في حقهم.

قال الشعبي: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعير بالفلاة سواء.
(وأما القسم الثاني من العشق: فمذموم لا شك فيه وبيان ذمه أن
الشيء إنما يعرف ممدوحا أو مذموما بتأمل ذاته وفوائده وعواقبه وذات العشق لهج بصورة وهذا ليس فيه فضيلة فيمدح ولا فائدة في العشق للنفس الناطقة وإنما هو أثر غلبة النفس الشهوانية لأنها لما قويت أحبت ما يليق بها ألا ترى أن الصبيان يحبون التماثيل واللعب أكثر من محبتهم للناس لضعف نفوسهم وكونها مماثلة للصور لخلوها عن رياضة فإذا ارتاضت نفوسهم ارتفعت هممهم إلى ما هو أعلى وهو حب الصور الناطقة فإذا ارتاضت نفوسهم بالعلوم والمعارف ارتفعت عن حب الذوات ذوات اللحم والدم إلى ما هو أشرف منها.
وأتم أحوال النفس الشهوانية وجودها مع شهواتها من غير منغص وأتم أحوال النفس الحيوانية وجود غرضها من القهر والرياسة وأتم أحوال النفس الناطقة وجودها مدركة لحقائق الأشياء بالعلم والمعرفة ويتمكن الأنس فيصير بالإدمان شغفا وما عشق قط إلا فارغ فهو من علل البطالين وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر وطلب الحقائق المستدل بها على عظم الخالق ولهذا قل ما تراه إلا في الرعن البطرى وأرباب الخلاعة النوكى «وما عشق حكيم قط» لأن قلوب الحكماء أشد تمنعا عن أن تقفها صورة من صور الكون مع شدة تطلبها فهي أبدا تلحظ وتخطف ولا تقف وَقَلَ أن يحصل عشق من لمحة وَقَلَ أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة فإنه مار في طلب المعاني ومن كان طالبا لمعرفة الله لا تقفه صورة عن الطلب لأنها تحجبه عن المصور، وحوشيت قلوب الحكماء الطالبين فضلا عن الواصلين العارفين من أن تحبسهم الصور أو تفتنهم الأشكال عن الترقي في معارج مقاصدهم أو تحطهم عن مراكزهم إلى محل الأثقال الراسية بل هم أبدا في الترقي هاتكون للحجب والأستار بقوة النظر.
العشاق قد جاوزوا حد البهائم في عدم ملكة النفس في الانقياد إلى الشهوات:
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
واعلم أن العشاق قد جاوزوا حد البهائم في عدم ملكة النفس في الانقياد إلى الشهوات لأنهم لم يرضوا أن يصيبوا شهوة الوطء وهي أقبح الشهوات عند النفس الناطقة من أي موضع كان حتى أرادوها من شخص بعينه فضموا شهوة إلى شهوة وذلوا للهوى ذلا على ذل، والبهيمة إنما تقصد دفع الأذى عنها فحسب وهؤلاء استخدموا عقولهم في تدبير نيل شهواتهم.

و العشق مسلك خطر، وموطىء زلق، غوائله لا تؤمن، وضحاياه لا تحصى، وأضراره لا يحاط بها.
وأهل العشق من أشقى الناس، وأذلِّهم، وأشغلهم، وأبعدهم عن ربهم.
[*] (قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: فإن الذي يورثه العشق من نقص العقل والعلم، وفساد الدين والخلق، والاشتغال عن مصالح الدين والدنيا أضعاف ما يتضمنه من جنس المحمود.
وأصدقُ شاهدٍ على ذلك ما يعرف من أحوال الأمم، وسماع أخبار الناس في ذلك؛ فهو يغني عن معاينة ذلك وتجربته، ومن جرب ذلك أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية؛ فلم يوجد قط عشق إلا وضرره أعظم من منفعته ( 1).
(وقال أيضاً: وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى؛ فدوام تعلق القلب بها أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب، ويزول أثره من قلبه.
وهؤلاء يُشَبَّهون بالسكارى والمجانين كما قيل:
سُكْران: سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقةُ من به سكرانِ

وقيل:
قالو: جننت بمن تهوى فقلت لهم: ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهرَ صاحبُه ... وإنما يُصْرَعُ المجنونُ في حين ( 2)

(وقال أيضاً متحدثاً عن حقيقة العشق: قيل: العشق هو فساد الإدراك، والتخيل والمعرفة؛ فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به، حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق.
ولو أدركه على الوجه الصحيح لم يبلغ إلى حد العشق وإن حصل له محبة وعلاقة ( 3).
(وقال أيضاً: وقيل: إن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القصد الواجب؛ فإذا أفرط فيه كان مذموماً فاسداً مفسداً للقلب والجسم ( 4).
ولقد تظاهرت أقوال أهل العلم، والشعراء، والأدباء، ومن وقعوا في العشق في بيان خطورته، وعظيم ضرره.
قالوا: وإذا اقتحم العبد بحر العشق، ولعبت به أمواجه فهو إلى الهلاك أدنى منه إلى السلامة ( 5).
[*] (وقال بعض الحكماء: الجنون فنون، والعشق من فنونه ( 6).
وقالوا: وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله، وعرضه، ونفسه، وضيع أهله ومصالح دينه ودنياه( 7).

(وقالوا: والعشق هو الداء الدوي الذي تذوب معه الأرواح، ولا يقع معه الارتياح، بل هو بحر من ركبه غرق؛ فإنه لا ساحل له، ولا نجاة منه ( 1).
قال أحدهم:
العشق مشغلة عن كل صالحة ... وسكرة العشق تنفي لذة الوسن ( 2)

وقال أبو تمام:
أما الهوى فهو العذاب فإن جرت ... فيه النوى فأليم كل عذاب ( 3)

وقال ابن أبي حصينة مبيناً ضرر العشق، غابطاً من لم يقع في أشراكه:
والعشق يجتذب النفوس إلى الردى ... بالطبع واحسدي لمن لم يَعْشَق ( 4)

وقال عبد المحسن الصوري:
ما الحب إلا مسلكٌ خَطرٌ ... عسر النجاة وموطىء زلق ( 5)

قالوا: والعشق يترك الملك مملوكاً، والسلطان عبداً ( 6).
قالوا: ورأينا الداخل فيه يتمنى منه الخلاص، ولات حين مناص، قال الخرائطي: أنشدني أبو جعفر العبدي:
إنِ اللهُ نجاني من الحب لم أعد ... إليه ولم أقبل مقالة عاذلي
ومن لي بمنجاة من الحب بعد ما ... رمتني دواعي الحب بين الحبائل ( 7)

وقال منصور النمري:
وإنَّ امرءاً أودى الغرامُ بُلُبِّه ... لعريان من ثوب الفلاح سليب ( 8)

[*] (وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
ومن مكايده ومصايده: ما فتن به عشاق الصور:
وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى والبلية العظمى التي استعبدت النفوس لغير خلاقها. وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد. فصيرت القلب للهوى أسيرا وجعلته عليه حاكما وأميرا. فأوسعت القلوب محنة. وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها. وصرفتها عن طريق قصدها.
ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالي من غرف الجنان، فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس، الذي ألمهُا به أضعاف لذتها، ونَيْله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها، فما أوشكه حبيباً يستحيل عدواً عن قريب. ويتبرأ منه محبه لو أمكنه حتى كأنه لم يكن له بحبيب. وإن تمتع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين. لاسيما إذا صار الأخِلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين.

فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تبعتها وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة، وبقيت الشّقوة، وزالت النشوة، وبقيت الحسرة، فوا رحمتاه لِصَبٍّ جمع له بين الحسرتين، حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب في العذاب الأليم. فهناك يعلم المخدوع أي بضاعة أضاع، وأن من كان مالك رقه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع، فأي مصيبة أعظم من مصيبة ملك أنزل عن سرير ملكه، وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا، وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا. فلو رأيت قلبه وهو في يد محبوبه لرأيته: كعُصْفُورَةٍ في يد طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى، وَالطِّفْلُ يلْهُو وَيَلْعَبُ، ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت: وَمَا في الأرْضِ أشْقَى مِنْ مُحِبٍ وَإنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ، تَرَاهُ بَاكِياً في كُلِّ حِينٍ مَخَافَةَ فُرْقَةٍ، أَوْ لاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا، شَوْقاً إِلَيْهِمْ وَيَبْكِى إنْ دنَوْا، حَذَرَ الْفِرَاقِ ولو شاهدت نومه وراحته، لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليسا يلتقيان ولو شاهدت فيض مدامعه، ولهيب النار في أحشائه لقلت: سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ، مُتْقِنِ صُنْعِهِ وَمُؤَلِّفِ الأَضْدَادِ دُونَ تَعاَنُد
قَطْرٌ تَوَلّدَ عَنْ لَهِيبٍ في الْحَشَا مَاءٌ وَنَارٌ في مَحَلٍّ واحِدِ
ولو شاهدت مسلك الحب في القلب وتغلغه فيه، لعلمت: أن الحب ألطف مسلكا فيه من الأرواح في أبدانها.
فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب، ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذي لا غناء له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب؟ فالمحب بمن أحبه قتيل. وهو له عبد خاضع ذليل. إن دعاه لباه. وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، لا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه، فحقيقٌ به أن لا يملك رقه إلا لأجلِّ حبيب. وأن لا يبيع نصيبه منه بأخس نصيب. أهـ
(إذا تبين هذا فالحي العالم الناصح لنفسه لا يؤثر محبة ما يضره ويشقى به ويتألم به، ولا يقع ذلك إلا من «فساد تصوره ومعرفته»، أو من «فساد قصده وإرادته».
فالأول: جهل، والثاني ظلم: والإنسان خلق في الأصل ظلوماً جهولا، ولا ينفك عن الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد به الخير علمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه، فخرج به عن الظلم، ومتى لم يرد به خيرا أبقاه على أصل الخلقة، وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:"إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ، ثُمَّ ألْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فمَنْ أصَابَهُ ذلِكَ النُّورُ اُهْتَدَى، وَمَنْ أخْطأَهُ ضَلَّ".
فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها، لجهلها بمضرته لها تارة، ولفساد قصدها تارة، ولمجموعهما تارة، وقد ذم الله تعالى في كتابه من أجاب داعي الجهل والظلم، فقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهَمْ وَمَنْ أَضَلُّ مَّمِنِ اتبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظّالمِين} [القصص: 50] وقال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} [النجم: 23].
(فأصل كل خير: هو العلم والعدل.
(وأصل كل شر: هو الجهل والظلم.
وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدا، فمن تجاوزه كان ظالما معتديا، وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه، الذي خرج به عن العدل، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
قال فيمن ابتغى سوى زوجته أو ملك يمينه:
{فَمَن اُبْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولِئكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وقال {وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].
والمقصود: أن محبة الظلم والعدوان سببها «فساد العلم أو فساد القصد»، أو فسادهما جميعا.
(إذا تبين هذا، «فالعبد أحوج شيء إلى معرفة ما يضره ليجتنبه، وما ينفعه ليحرص عليه ويفعله»، فيحب النافع: ويبغض الضار، فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته، وهذا من لوازم العبودية والمحبة، ومتى خرج عن ذلك أحب ما يسخطه ربه وكره ما يحبه، فنقصت عبوديته بحسب ذلك.

فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل، فإنها معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين، من إعفاف الرجل نفسه وأهله، فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام، ويعفها، فلا تطمح نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل، قال تعالى: {هُوَ الّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةَ وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
(حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة). فقلت: من الرجال؟ فقال: (أبوها). قلت: ثم من؟ قال: (عمر بن الخطاب). فعد رجالا.
(ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول، إذا حدث عنها: "حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، المبَّرأة من فوق سبع سماوات".
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح النسائي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة.
فلا عيب على الرجل في محبته لأهله، وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله، بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة. وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة، ولذلك كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يحب الشراب البارد الحلو، ويحب الحلواء والعسل، ويحب الخيل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه.
فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يُثَبْ ولم يعاقب. وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله.
[*] (فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع:
(محبة الله:
(ومحبة في الله:

(ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.
[*] (والمحبة الضارة ثلاثة أنواع:
(المحبة مع الله:
(ومحبة ما يبغضه الله تعالى:
(ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها.
فهذه ستة أنواع، عليها مدار محاب الخلق:
فمحبة الله عز وجل أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان
والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها.
ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيدا، كان أبعد من عشق الصور، «ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق، لشركها. ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه»، قال تعالى: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا. فالمخلص قد خلص حبه لله، فخلصه الله من فتنة عشق الصور. والمشرك قلبه متعلق بغير الله، لم يخلص توحيده وحبه لله عز وجل.
(وقال في موضع آخر: وهذا داء أعيا الأطباء دواؤه، وعزَّ عليهم شفاؤه، وهو ـ لعمر الله ـ الداء العضال، والسم القتال الذي ما علق بقلب إلا وعز على الورى استنقاذه من إساره، ولا اشتعلت ناره إلا وصعب على الخلق تخليصها من ناره.
وهو أقسام؛ تارة يكون كفراً، كمن اتخذ معشوقه ندَّاً يحبه كما يحب الله؛ فكيف إذا كانت محبته أعظم من محبة الله في قلبه؟ فهذا عشق لا يغفر لصاحبه؛ فإنه من أعظم الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإنما يغفر بالتوبة الماحية ما دون ذلك.
وعلامة العشق الشركي الكفري أن يقدم رضا معشوقه على رضى ربه، وإذا تعارض عنده حقُّ معشوقه وحظُّه، وحق ربه وطاعته قدَّم حق معشوقه على حق ربه، وآثر رضاه على رضاه، وبذل لمعشوقه أنفس ما يقدر عليه، وبذل لربه_ إن بذل _ أردأ ما عنده، واستفرغ وسعه في مرضاة معشوقه وطاعته والتقرب إليه، وجعل لربه_ إن أطاعه_ الفَضْلَة التي تَفْضُل عن معشوقه من ساعاته؛ فتأمل حال أكثر عشاق الصور تجدها مطابقة لذلك، ثم ضع حالهم في كفة، وتوحيدهم وإيمانهم في كفة، ثم زن وزناً يرضي الله ورسوله ويطابق العدل ( 1).

(وقال أيضاً متحدثاً عن أضرار العشق: قالوا: وكم أكبَّت فتنة العشق رؤوساً على مناخرها في الجحيم، وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرعتهم بين أطباق النار كؤوس الحميم، وكم أخرجت من شاء الله من العلم والدين كخروج الشعرة من العجين، وكم أزالت من نعمة، وأحلَّت من نقمة، وكم أنزلت من معْقل عزِّهِ عزيزاً فإذا هو في الأذلين، ووضعت من شريف رفيع القدر والمنصب فإذا هو في أسفل سافلين، وكم كشفت من عورة، وأحدثت من روعة، وأعقبت من ألم، وأحلت من ندم، وكم أضرمت من نار حسرات أحرقت فيها الأكباد، وأذهبت قدراً كان للعبد عند الله وفي قلوب العباد، وكم جلبت من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء؛ فقلَّ أن يفارقها زوال نعمة، أو فجاءة نقمة، أو تحويل عافية، أو طُروق بلية، أو حدوث رزية؛ فلو سألت النِّعَم ما الذي أزالك؟ والنِّقم ما الذي أدالك؟ والهمومَ والأحزان ما الذي جلبك؟ والعافية ما الذي أبعدك وجنَّبك؟ والستر ما الذي كشفك؟ والوجه ما الذي أذهب نورك وكسفك؟ والحياة ما الذي كدَّرك؟ وشمس الإيمان ما الذي كوَّرك؟ وعزة النفس ما الذي أذلَّك؟ وبالهوان بعد الأكرام بدَّلك _ لأجابتك بلسان الحال اعتباراً إن لم تجب بالمقال حواراً.
هذه والله بعض جنايات العشق على أصحابه لو كانوا يعقلون، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون ( 1).
(ومن الأضرار الناجمة عن العشق الظلم؛ فإن الظلم في هذا الباب من أعظم أنواع الظلم، وربما كان أعظم ضرراً على المعشوق وأهله من ظلمه في ماله؛ فإنه يعرض المعشوق بهتكه في عشقه إلى وقوع الناس فيه، وانقسامهم إلى مصدق ومكذب، وأكثر الناس يصدق في هذا الباب بأدنى شبهة، وإذا قيل: فلان فعل بفلان أو فلانة كذَّبه واحد، وصدقه تسعمائة وتسعة وتسعون ( 2).
ومن أنواع الظلم في هذا الباب أيضاً: أن في إظهار المبتلى عشقَ من لا يحل له الاتصال به من ظلمه وأذاه ما هو عدوان عليه وعلى أهله، وتعريض لتصديق كثير من الناس ظنونهم فيه.

فإن استعان عليه بمن يستميله إليه إما برغبة أو رهبة تعدى الظلم، وانتشر، وصار ذلك الواسطة ديوثاً ظالماً، وكفى بالدياثة إثماً، فيتساعد العاشق والديوث على ظلم المعشوق، وظلم غيره ممن يتوقف حصول غرضه على ظلمه في نفس، أو مال، أو عرض؛ فكثيراً ما يتوقف المطلوب فيه على قتل نفس تكون حياتها مانعة من غرضه، وكم من قتيل أُهْدِرَ دمه بهذا السبب من زوج، وسيد، وقريب، وكم أُفْسِدَت امرأة على بعلها؛ فإذا كان للمعشوق زوج تضاعف الأذى وازداد؛ فظلم الزوج بإفساد حبيبه، والجناية على فراشه أعظم من ظلمه بأخذ ماله كله؛ ولهذا يؤذيه ذلك أعظم مما يؤذيه أخذ ماله، ولا يعدل ذلك عنده حتى سفك دمه.
فإن كان ذلك حقاً لغازٍ في سبيل الله وُقِفَ له الجاني الفاعل يوم القيامة، وقيل له: خذ من حسناته.
كما أخبر بذلك رسول الله"ثم قال رسول الله": =فما ظنكم؟.
(حديث بريدة الثابت في صحيح مسلم) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: حُرْمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم و ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وُقِفَ له يوم القيامة يأخذُ من عمله ما شاء فما ظنكم؟
أي فما تظنون يبقي له من حسناته؟
فإن انضاف إلى ذلك أن يكون المظلوم جاراً، أو ذا رحم مُحرَّم_تعدد الظلم، فصار ظلماً مؤكداً لقطيعة الرحم، وأذى الجار.
فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين من الجن إما بسحر، أو استخدام، أو نحو ذلك ضَمَّ إلى الشرك والظلم كفر السحر.
فإن لم يفعله هو، ورضي به كان راضياً بالكفر، غير كاره لحصول مقصده به، وهذا ليس ببعيد عن الكفر.
والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان.
وفي العشق من ظلم كل واحد من العاشق والمعشوق لصاحبه بمعاونته على الفاحشة، وظلمه لنفسه ما فيه، وكل منهما ظالم لنفسه وصاحبه، وظلمهما متعد إلى غيرهما كما تقدم.
ثم إن المعشوق قد يُعَرِّض العاشق للتلف؛ حيث يطمعه في نفسه، ويتزين له، ويستميله بكل طريق؛ حتى يستخرج منه ماله، ونفعه.
والعاشق ربما قتل معشوقه؛ ليشفي نفسه منه، ولا سيما إذا جاد بالوصال لغيره.
فكم للعشق من قتيل من الجانبين، وكم أزال من نعمة، وأفقر من غنى، وأسقط من مرتبة، وشتت من شمل.

وكم أفسد من أهل للرجل وولده؛ فإن المرأة إذا رأت زوجها عاشقاً لغيرها ربما قادها ذلك إلى اتخاذ معشوق لها؛ فيصير الرجل متردداً بين خراب بيته بالطلاق وبين أن يرضى بالدياثة والخنا في أهله ( 1).
[*] (يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: وكم مصونِ الستر، مسبل القناع، مسدول الغطاء، قد كشف الحبُّ ستره، وأباح حريمه، وأهمل حماه، فصار بعد الصيانة عَلَماً، وبعد السكون مثلاً ( 2).
فكل هذه الآفات، وأضعاف أضعافها تنشأ من عشق الصور، وتحمل على الكفر الصريح؛ فقد تضمن العشق أنواع الظلم كلها.
(العشق بَيِّنُ الضرر في الدين والدنيا.

[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
العشق بَيِّنُ الضرر في الدين والدنيا.
أما في الدين فإن العشق أولا يشغل القلب عن الفكر فيما خلق له من معرفة الإله والخوف منه والقرب إليه ثم بقدر ما ينال من موافقة غرضه المحرم يكون خسران آخرته وتعرضه لعقوبة خالقه فكلما قرب من هواه بعد من مولاه ولا يكاد العشق يقع في الحلال المقدور عليه فإن وقع فيا سرعان زواله قال الحكماء كل مملوك مملول وقال الشاعر.
وزادني شغفا بالحب أن منعت ... وحب شيء إلى الإنسان ما منعا.
فإذا كان المعشوق لا يباح اشتد القلق والطلب له فإن نيل منه غرض فالعذاب الشديد في مقابلته على أن بلوغ الغرض يزيده ألما فتربي مرارة الفراق على لذة الوصال كما قال قائلهم.
كل شيء ربحته في التلاقي ... والتداني خسرته في الفراق وإن منعه خوف الله تعالى عن نيل غرض فالامتناع عذاب شديد فهو معذب في كل حال.
 
(ضرر العشق في الدنيا:
[*] (قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
وأما ضرر العشق في الدنيا فإنه يورث الهم الدائم والفكر اللازم والوسواس والأرق وقلة المطعم وكثرة السهر ثم يتسلط على الجوارح فتنشأ الصفرة في البدن والرعدة في الأطراف واللجلجة في اللسان والنحول في الجسد فالرأي عاطل والقلب غائب عن تدبير مصلحته والدموع هواطل والحسرات تتابع والزفرت تتوالى والأنفاس لا تمتد والأحشاء تضطرم فإذا غشى على القلب إغشاء تاما أخرجت إلى الجنون وما أقربه حينئذ من التلف هذا وكم يجني من جناية على العرض ووهن الجاه بين الخلق وربما أوقع في عقوبات البدن وإقامة الحد وقد أنشدوا.

وما عاقل في الناس يحمد أمره ... ويذكر إلا وهو في الحب أحمق.
وما من فتى ذاق بؤس معيشة ... من الناس إلا ذاقها حين يعشق.
قال جالينوس: العشق من فعل النفس وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد وفي الدماغ ثلاثة مساكن مسكن للتخيل وهو في مقدم الرأس ومسكن للفكر وهو في وسطه ومسكن للذكر وهو في مؤخره ولا يسمى عاشقا إلا من إذا فارق معشوقة لم يخل من تخيله فيمتنع عن الطعام والشراب عن باشتغال الكبد ومن النوم باشتغال الدماغ بالتخيل والفكر والذكر فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به.
ولقد وصف الحكماء قبح ما فيه العشاق فأبلغوا وكانت تأتي على عقلاء العشاق أحيانا إفاقة فيصفون قبح ما هم فيه.
[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن الجاحظ قال ذكر لي عن بعض حكماء الهند أنه قال إذا ظهر العشق عندنا في رجل أو أمرأة غدونا على أهله بالتعزية قال الجاحظ وبلغني أن عاشقا مات بالهند عشقا فبعث ملك الهند إلى المعشوق يقتله به.
(وقال أبو الفضل الربعي: قال رجل من الهند إذا ظهر العشق عندنا في أحد غدونا عليه بالتعزية.
وهاك أشعار قيلت في ذم العشق ذكرها الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى:
(قال الأصمعي: سئل أعرابي عن الحب فقال وما الحب وما عسى أن يكون هل هو إلا سحر أو جنون ثم أنشأ يقول.
هل الحب إلا زفرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع من جفوني كلما ... بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو

(وقال الصيدلاني:
قالت جننت على رأسي فقلت لها ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين

أهـ
(قد يكون العشق أعظم إثماً من الزنا بالفرج والعياذ بالله:

[*] (قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان:
والزنا بالفرج ـ وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة، كالنظرة والقبلة واللمس ـ لكن إصرار العاشق على محبة الفعل، وتوابعه، ولوازمه، وتمنيه له، وحديث نفسه به: أنه لا يتركه، واشتغال قلبه بالمعشوق، قد يكون أعظم ضررا من فعل الفاحشة مرة بشيء كثير. فإن الإصرار على الصغيرة قد يساوى إثمه إثم الكبيرة، أو يربى عليها.
وأيضاً، فإن تعبد القلب للمعشوق شرك، وفعل الفاحشة معصية، ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية.
وأيضاً، فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه التخلص منه، كما قال القائل:

تَاللهِ مَا أ سَرَتْ لَوَاحِظُكِ امْرَأً إلا وَعَزّ عَلَى الوَرَى استنقَاذُهُ
بل يصير تعبدا لازما للقلب لا ينفك عنه، ومعلوم أن هذا أعظم ضررا وفسادا من فاحشة يرتكبها مع كراهيته لها، وقلبه غير معبد لمن ارتكبها منه.
وقد أخبر الله سبحانه أن سلطان الشيطان إنما هو: {عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100].
وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين، والغي اتباع الهوى والشهوات، كما أن الضلال اتباع الظنون والشبهات.
وأصل الغي من الحب لغير الله، فإنه يضعف الإخلاص به، ويقوى الشرك بقوته، فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولى الشيطان والإشراك به بقدر ذلك، لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق، متيما فيه. يصرخ في حضوره ومغيبه: أنه عبده، فهو أعظم ذكرا له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهدا بذلك على نفسه: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14 - 15].
فلو خير بين رضاه ورضا الله، لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقة وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته، وكان عنده قليل من الإيمان، صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها، وأهمل أمر الله تعالى، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله ـ إن جعل له ـ كل رذيلة وخسيس، فَلِمَعْشُوقِه لبه وقلبه، وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة، قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسيا، إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجى معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق. ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها، ناصحا له فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها.
ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله.

وعشقهم يجمع المحرمات الأربع: من الفواحش الظاهرة، والباطنة، والإثم، والبغي بغير الحق، والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا، والقول على الله ما لا يعلمون، فإن هذا من لوازم الشرك، فكل مشرك يقول على الله ما لا يعلم. فكثيرا ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر الأصغر، ومن قتل النفوس، تغايرا على المعشوق، وأخذ أموال الناس بالباطل ليصرفها في رضا المعشوق، ومن الفاحشة والكذب والظلم مالا خفاء به.
وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتشريك بينه وبين غيره في المحبة، ومن محبة ما يحب لغير الله، فيقوم ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقة اتباع الهوى. وفى الأثر. "مَا تحْتَ أدِيمِ السَّماءِ إلهٌ يْعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعُ".
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللهُ عَلَى عْلِمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةَ فَمَنَ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].



* الكتاب: فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب
المؤلف: محمد نصر الدين محمد عويضة
 
(ذكر من ألقى به العشق في الهاوية:

[*] (أورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى أن عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله رأى امرأة من تيم الرباب يقال لها قطام وكانت من أجمل النساء ترى رأى الخوارج قد قتل قومها على هذا الرأي يوم النهروان فلما أبصرها عشقها فخطبها فقالت لا أتزوجك إلا على ثلاثة آلاف وقتل علي بن أبي طالب فتزوجها على ذلك فلما بنى بها قالت له يا هذا قد فرغت فافرغ فخرج متلبسا سلاحه وخرجت قطام فضربت له قبة في المسجد وخرج علي يقول الصلاة الصلاة فأتبعه عبد الرحمن فضربه بالسيف على قرن رأسه فقال الشاعر.
لم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام بيننا غير معجم
ثلاثة آلاف وعبدٍ وقينة ... وقتل علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا ... ولافتك إلا دون فتك ابن ملجم

[*] (وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى أن رجل من العرب كان تحته ابنة عم له وكان لها عاشقا وكانت امرأة جميلة وكان من عشقه لها أنه كان يقعد في دهليزه مع ندمائه ثم يدخل ساعة بعد ساعة ينظر إليها ثم يرجع إلى أصحابه عشقا لها فطبن لها ابن عم لها فاكترى دارا إلى جنبه ثم لم يزل يراسلها حتى أجابته إلى ما أراد فاحتالت وتدلت إليه ودخل الزوج كعادته لينظر إليها فلم يرها فقال لأمها أين فلانة فقالت تقضي حاجة فطلبها في الموضع فلم يجدها فإذا هي قد تدلت وهو ينظر إليها فقال لها ما وراءك والله لتصدقني قالت والله لأصدقنك من الأمر كيت وكيت فأقرت له فسل السيف فضرب عنقها ثم قتل أمها وهرب وأنشأ يقول.
يا طلعة طلع الحمام عليها ... وجنت لها ثمر الردى بيديها
رويت من دمها الثرى ولربما ... روى الهوى شفتي من شفتيها

[*] (وأورد الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه ذم الهوى عن عكرمة قال إنا لَمَعَ عبد الله بن عباس عشية عرفة إذ أقبل فتية يحملون فتى من بني عذرة قد بلى بدنه وكانت له حلاوة وجمال حتى وقفوه بين يديه ثم قالوا استشف لهذا يا بن عم رسول الله.
فقال وما به فترنم الفتى بصوت ضعيف لا يتبين وهو يقول.
بنا من جوى الأحزان والحب لوعة ... تكاد لها نفس الشفيق تذوب
ولكنما أبقى حشاشة معول ... على ما به عود هناك صليب
وما عجب موت المحبين في الهوى ... ولكن بقاء العاشقين عجيب

ثم شهق شهقة فمات.
قال عكرمة فما زال ابن عباس بقية يومه يتعوذ بالله من الحب.
(كيفية التوبة من العشق:

وبعد أن تبين فيما مضى خطورة العشق وعظيم جنايته نصل إلى بيت القصيد في هذه المسألة، ألا وهي التوبة من العشق، وكيفية ذلك.
فعلى من وقع في العشق أن يتوب إلى الله عز وجل سواء كان عاشقاً، أو معشوقاً، أو معيناً على ذلك.
فتوبة العاشق تكون بترك العشق، والعزم والمجاهدة على ذلك، وبألا يُظْهر أمرَه، ولا من ابتلي بعشقه؛ فلا يذكره، ولا يشبب به، ولا يسير إليه، ولا يمد طرفه إليه، وأن يقطع الصلاتِ المُذَكِّرةَ به، وأن يأخذ بالأسباب المعينة على ذلك، وأن يصبر على ما يلاقيه خصوصاً في بداية أمره.
وعلى المعشوق أن يتوب إلى الله إن كان مشاركاً، أو متسبباً في غواية العاشق، فيتوب إلى الله من استمالة المعشوق والتزين له، والتحبب إليه، واللقاء به، ومحادثته، ومراسلته.

وعلى من أعان على العشق بالتقريب بين العاشقين بالباطل أن يتوب إلى الله، وأن يَدَعَ ما كان يقوم به، وأن يعلم أن ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، وأنه بذلك يذكي أوار العشق، ويسعر نيرانه؛ فهو يفسد أكثر مما يصلح، وسعيه مأزور غير مشكور؛ فعمله ليس من عمل الخير، ولا من ارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما.
بل إن هذه المفسدة تجر إلى هلاك القلب، وفساد الدين، وأي مفسدة أعظم من هذه؟
وغاية ما يقدَّر من مفسدة الإمساك عن ذلك سقم الجسد أو الموت؛ تفادياً عن التعرض للمحرم ( 1).
وإلا فالغالب أن العاقبة تكون نجاة وسلامة.
(الأسباب المعينة على ترك العشق:

فمع عظم شأن العشق، وصعوبة الخلاص منه إلا أن ذلك ليس متعذراً ولا مستحيلاً؛ فلكل داء دواء، ولكن الدواء لا ينفع إلا إذا صادف محلاً قابلاً؛ فإذا رام المبتلى بهذا الداءِ الشفاءَ، وسعى إليه سعيه وفق لما يريد، وأعين على بلوغ المقصود.
وإلا استمر على بلائه، بل ربما زاد شقاؤه.
[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: إنما يوصف الدواء لمن يقبل؛ فأما المخلِّط فإن الدواء يضيع عنده ( 2).
وفيما يلي ذكر لبعض الأسباب المعينة على ترك العشق على سبيل الإجمال، أما التفصيل في ذلك فستجده في الباب الثاني من هذا الكتاب ضمن الأمور المعينة على التوبة عموماً.
فمن تلك الأسباب ما يلي: ( 3)
(أ) الدعاء: والتضرع إلى الله عز وجل وصدق اللجأ إليه، والإخلاص له، وسؤاله السلوَّ؛ فإن المبتلى بهذا الداء مضطر، والله يجيب المضطر إذا دعاه.
(ب) غض البصر:
[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: والواجب على من وقع بصره على مستحسن، فوجد لذةَ تلك النظرة في قلبه أن يصرف بصره؛ فمتى ما تَثَبَّت في تلك النظرة أو عاود وقع في اللوم شرعاً وعقلاً.
فإن قيل: فإن وقع العشق بأول نظرة فأي لوم على الناظر؟
فالجواب: أنه إذا كانت النظرة لمحة لم تكد توجب عشقاً، إنما يوجبه جمود العين على المنظور بقدر ما تثبت فيه، وذلك ممنوع منه، ولو قدَّرنا وجوده باللمحة؛ فأثَّر محبةً سَهُلَ قمعُ ما حصل ( 4).
إلى أن قال: فإن قيل: فما علاج العشق إذا وقع بأول لمحة؟

قيل: علاجه الإعراض عن النظر؛ فإن النظر مثل الحبة تلقى في الأرض؛ فإذا لم يلتفت إليها يبست، وإن سقيت نبتت؛ فكذلك النظرة إذا ألحقت بمثلها ( 1).
وقال: فإن جرى تفريط بإتْباع نظرة لنظرة فإن الثانية هي التي تخاف وتحذر؛ فلا ينبغي أن تحقر هذه النظرة؛ فربما أورثت صبابة صبَّت دم الصبِّ ( 2).
[*] (وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فعلى العاقل ألا يحكِّم على نفسه عشق الصور؛ لئلا يؤدِّيه ذلك إلى هذه المفاسد، أو أكثرها، أو بعضها؛ فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه، المغرور بها؛ فإذا هلكت فهو الذي أهلكها؛ فلولا تكراره النظر إلى وجه معشوقه، وطمعه في وصاله لم يتمكن عشقُه من قلبه ( 3).
فعلى من يريد السلامة لنفسه أن يغض طرفه عما تشتهيه نفسه من الحرام، وليكن له في ذلك الغضِّ نيةٌ يحتسب بها الأجر، ويكتسب بها الفضل، ويدخل في جملة من نهى النفس عن الهوى.
(ج) التفكر والتذكر: وذلك باب واسع جداً، والمقام لا يتسع إلا لأقل القليل؛ فليتفكر العاشق في خطواته إلى لقاء محبوبه، وأنها مع ما فيها من ضم جراح إلى جراح مكتوبة عليه، وهو مطالب بها.
وليتفكر في مكالمته محبوبَه؛ فإنه مسؤول عنها، مع ما فيها من إلهاب نار الحب.
وليتذكرْ هاذم اللذات، وشدة النزع، وليتفكر في حال الموتى الذين حبسوا على أعمال تجاوزوا فيها؛ فليس منهم من يقدر على محو خطيئة؛ ولا على زيادة حسنة؛ فلا تَعْث يا مطلق!.
وليتصور عَرْضَه على ربه، وتخجيله له بمضيض العتاب.
وليتخيل شهادة المكان الذي وقعت فيه المعصية.
وليمثل في نفسه عند بعض زلله كيف يؤمر به إلى النار التي لا طاقة لمخلوق بها.
وليتصور نفاد اللذة، وبقاء العار والعذاب.
وليتذكر أنه لا يرضى لأحد من محارمه أن يكون معشوقاً؛ إذا كان ذا غيرة، فكيف يرضى ذلك المصير لغيره؟
(د) البُعد عن المحبوب: فكل بعيد عن البدن يُؤَثِّر بعده في القلب؛ فليصبر على البعد في بداية الأمر صبر المصاب في بداية مصيبته، ثم إن مَرَّ الأيام يهون الأمر.
فليبتعد عن المحبوب، فلا يراه، ولا يسمع كلامه، ولا يرى ما يذكره به.

(هـ) الاشتغال بما ينفع: فقد مر، قبل قليل أن من أسباب العشق الفراغَ؛ لذلك فكل ما يشغل القلب من المعاش، والصناعات، والقيام على خدمة الأهل، ونحو ذلك فإنه يسلي العاشق؛ لأن العشق شغل الفارغ كما مر فهو يمثل صورة المعشوق في خلوته؛ لشوقه إليها؛ فيكون تمثيله لها إلقاء في باطنه؛ فإذا تشاغل بما يوجب اشتغال القلب بغير المحبوب درس الحبُّ، ودثر العشق، وحصل التناسي.
(و) الزواج: ولو بغير من عشقها؛ فإن في الزواج كفاية وبركة وسلوة، وإن كان متزوجاً فليكثر من الجماع؛ فإنه دواء ووجه كونه دواء أنه يقلل الحرارة التي منها ينتشر العشق.
وإذا ضعفت الحرارة الغريزية حصل الفتور، وبرد القلب؛ فخمد لهب العشق ( 1).
فإن كان المعشوق امرأة يمكن الزواج بها فليفعل؛ فذلك من أنفع الدواء؛ لأن النكاح يزيل العشق، وإن تعسر فليلجأ إلى الله في تسهيله، وليعامله بالصبر على ما نهى عنه، فربما عجل مراده.
وإن عجز عن ذلك، أو كان المعشوق لا سبيل إلى تحصيله كذات الزوج فليلازم الصبر؛ وليسأل الله السلو.
(ز) عيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وزيارة القبور، والنظر إلى الموتى، والتفكر في الموت وما بعده؛ فإن ذلك يطفىء نيران الهوى كما أن سماع الغناء واللهو يقويه؛ فما هو كالضد يضعفه.
(ح) مواصلة مجالس الذكر: ومجالسةُ الزهاد، وسماع أخبار الصالحين.
ط_قطع الطمع باليأس، وقوةُ العزم على قهر الهوى: فإن أول أسباب العشق الاستحسان، سواء تولَّد عن نظر، أو سماع، فإن لم يقارنه طمع في الوصال، وقارنه الإياس من ذلك_لم يحدث له العشق.
فإن اقترن به الطمع، فصرفه عن فكره، ولم يشتغل قلبه به لم يحدث له ذلك.
فإن أطال مع ذلك الفكرَ في محاسن المعشوق، وقارنه خوفُ ما هو أكبر عنده من لذة وصاله، إما خوف من دخول النار، وغضب الجبار، وادخار الأوزار، وغلب هذا الخوف على هذا الطمع_لم يحدث له العشق.
فإن فاته هذا الخوفُ، فقارنه خوف دنيوي كخوف إتلاف نفسه، أو ماله، أو ذهاب جاهه، وسقوط مرتبته عند الناس، وسقوطه من عين من يعز عليه، وغلب هذا الخوف لداعي العشق دفعه.
وكذلك إذا خاف من فوات محبوب هو أحب إليه، وأنفع من ذلك المعشوق، وقدم محبته على محبة ذلك المعشوق اندفع عنه العشق.
(ي) المحافظة على الصلاة: وإعطاؤها حقها من الخشوع، والتكميل لها ظاهراً وباطناً.
قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]

[*] (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فإن الصلاة فيها دفع مكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل محبوب وهو ذكر الله ( 1).
(ك) زجر الهمة الأبية: عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل؛ فمن لم تكن له همة أبية لم يكد يتخلص من هذه البلية؛ فإن ذا الهمة يأنف أن يملك رقَّه شيء، وما زال الهوى يذل أهل العز.
وهذا الذل لا يحتمله ذو أنفة؛ فإن أهل الأنفة حملهم طلب علو القدر على قتل النفوس، وإجهاد الأبدان في طلب المعالي، ونحن نرى طالب العلم يسهر ويهجر اللذات؛ أنفة من أن يقال له: جاهل، والمسافر يركب الأخطار؛ لينال ما يرفع قدره من المال؛ حتى إن رُذالة الخَلْق ربما حملوا كثيراً من المشاق؛ ليصير لهم قدر؛ وهذا القائل يقول:
وكل امرىء قاتلٌ نفسَه ... على أن يقال له: إنه ( 2)

فأما من لا يأنف الذل، وينقاد لموافقة هواه_فذاك خارج عن نطاق المتميزين.
(ل) التفكر في عيوب المحبوب: فمحبوبك ليس كما في نفسك؛ فأعمل فكرك في عيوبه تَسْلُ.
[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: فإن الآدمي محشو بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يصور له الهوى عيباً؛ لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر، يغطي المعايب فيرى العاشقُ القبيحَ من معشوقه حسناً ( 3).
(وقال أيضاً: وقال الحكماء: عين الهوى عوراء.
وبهذا السبب يعرض الإنسان عن زوجته، ويؤثر عليها الأجنبية، وقد تكون الزوجة أحسن.
والسبب في ذلك أن عيوب الأجنبية لم تَبِنْ له، وقد تكشفها المخالطة.
ولهذا إذا خالط هذه المحبوبة الجديدة، وكشفت له المخالطة ما كان مستوراً ملَّ، وطلب أخرى إلى ما لا نهاية له ( 4).
(وقال أيضاً: فاستعمال الفكر في بدن الآدمي، وما يحوي من القذارة، وما تستر الثياب من المستقبح يهون العشق؛ ولهذا قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة فليذكر مناتنها.
وقال بعض الحكماء: من وجد ريحاً كريهة من محبوبه سلاه، وكفى بالفكر في هذا الأمر دفعاً للعشق ( 5).
قال أبو نصر بن نباتة:
ما كنت أعرف عيبَ من أحببتُه ... حتى سلوت فصرت لا أشتاق
وإذا أفاق الوجد واندمل الهوى ... رأت القلوب ولم تر الأحداق ( 6)

ولهذا تجد العاشق يغالي في المعشوق، ويُصَوِّر له في قلبه ما يصور؛ لأن عقله شبه غائب، مع أن أقرب الناس للمعشوق، وأعرفهم به لا يرون له ذلك الشأن؛ بل ربما رأوه أقل من ذلك بكثير، بل ربما لم يروا له فضلاً البتة.
(م) تَصَوُّر فقدِ المحبوب: إما بموته، أو بفراق يحدث عن غير اختيار، أو بنوع ملل، فيزول ما أوجب المحن الزائدة على الحد التي خسر بها المحب جاه الدنيا والدين.
(ن) النظر في العاقبة: أفترى يوسف_عليه السلام_لو زلَّ من كان يكون؟.
فالعاقل إذاً هو من وزن ما يحتوي عليه العشق من لذة ونُغْصَة؛ فنُغَصُهُ كثيرة، وأذاه شديد، وغالب لذاته محرم، ثم هي مشوبة بالغموم، والهموم، وخوف الفراق، وفضيحة الدنيا، وحسرات الآخرة؛ فيعلم الموازنُ بين الأمرين، الناظرُ في العاقبة أن اللذة مغمورة في جنب الأذى.
وأفضل الناس من لم يرتكب سبباً ... حتى يفكر ما تجني عواقبه ( 1)

(س) أن يعلم المبتلى أن الابتلاء سبب لظهور جواهر الرجال: فربما ابتلي الإنسان بذلك، فإن صبر ظهر فضله، وكمل سؤدده، ونقل إلى مرتبة أعلى، وربما نال محبة خالقه تلك المحبة التي تملأ قلبه، وتغنيه عن كل محبة.
(ف) النظر فيما يُفَوتُه التشاغل بالعشق من الفضائل: فإن أرباب اليقظة عشقُهم للفضائل من العلوم، والعفة، والصيانة، والكرم، وغير ذلك من الخلال المحمودة أوفى من ميلهم إلى شهوات الحس؛ لأن شهوات الحس حظ النفس، وتلك الخلال حظ العقلِ والنفسُ الناطقة الفاضلة إلى ما يُؤْثر العقلُ أميلُ، وإن جرَّها الطبع إلى الشهوات الحسية.
هذه بعض الأسباب المعينة على علاج العشق، الواقية_بإذن الله_لمن لم يقع فيه.
فحري بمن أخذ بها أن يُعان، ويوفَّق؛ فإن جاهد، وصابر، ثم بقي بعد ذلك في قلبه ما بقي فإنه لا يلام عليه.
[*] (يقول الجنيد رحمه الله تعالى: الإنسان لا يعاب بما في طبعه، إنما يعاب إذا فعل بما في طبعه ( 2).
[*] (قال ابن حزم رحمه الله تعالى: =لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل، ما لم يظهره بقول أو فعل.
بل يكاد يكون أحمدَ ممن أعان طبعه على الفضائل.
ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل ( 3).

[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى بعد إيراده عدداً من الأدوية النافعة لداء العشق: فإن قال قائل: فما تقول فيمن صبر عن حبيبه، وبالغ في استعمال الصبر، غير أن خيال الحبيب في القلب لا يزول، ووسواس النفس به لا ينقطع؟.
فالجواب: أنه إذا كففت جوارحك فقد قطعت موادَّ الماء الجاري، وسنيضب ما حصل في الوادي مع الزمان، خصوصاً إذا طلعت عليه شمسُ صيف الخوف، ومرت به سَمُومُ المراقبة لمن يرى الباطن فما أعجل ذهابه.
ثم استغث بمن صَبَرْتَ لأجله، وقل: إلهي! فعلتُ ما أطقتُ؛ فاحفظ لي ما لا طاقة لي بحفظه ( 1).
[*] (وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في معرض حديث له عن العشق، وعلاجه: وميلُ النفس إلى النساء عام في طبع جميع بني آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران كالمردان، وإن لم يكن بفعل الفاحشة الكبرى كان بما هو دون ذلك من المباشرة، وإن لم تكن كان بالنظر، ويحصل للنفس بذلك ما هو معروف عند الناس.
وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه؛ فإذا ابتلي المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه في طاعة الله_تعالى_وهو مأمور بهذا الجهاد، وليس هو أمراً حرَّمه على نفسه؛ فيكون في طاعة نفسه وهواه.
بل هو أمر حرَّمه الله ورسوله، ولا حيلة فيه؛ فتكون المجاهدة للنفس في طاعة الله ورسوله ( 2).
وقال في موضع آخر: وليتخذ ورداً من الأذكار في النهار، ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف؛ فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه، ويكتب الإيمان في قلبه.
وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس، باطنة وظاهرة؛ فإنها عمود الدين.
وليكن هِجِّيراه لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال ( 3).
وقال: فأما إذا ابتلي بالعشق وعف وصبر فإنه يثاب على تقوى الله.
وقد روي في الحديث أن =من عشق فعف، وكتم، وصبر، ثم مات كان شهيداً ( 4).
وهو معروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً، وفيه نظر، ولا يحتج بهذا.
لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظراً، وقولاً، وعملاً، وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم: إما شكوى إلى المخلوق، وإما إظهار فاحشة، وإما نوع طلب للمعشوق.

وصبَرَ على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى ما في قلبه من ألم العشق كما يصبر المصاب عن ألم ( 1) المصيبة فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر ( 2).
وقال في موضع آخر: فإن الله أمر بالتقوى والصبر؛ فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرم الله، من نظر بعين، ومن لَفْظ بلسان، ومن حركة برجل.
والصبر أن يصبر عن شكوى ما به إلى غير الله؛ فإن هذا هو الصبر الجميل.
(وأما الكتمان فيراد به شيئان:
أحدهما: أن يكتم بثَّه وألمه، ولا يشكو إلى غير الله؛ فمتى شكى إلى غير الله نقص صبره.
وهذا أعلى الكتمانين، ولكن هذا لا يصبر عليه كلُّ أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين: فإن شكى إلى طبيب يعرف طبَّ النفوس؛ ليعالج نفسه بعلاج الإيمان؛ فهو بمنزلة المستفتي، وهذا حسن.
وإن شكى إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام، وإن شكى إلى غيره؛ لما في الشكوى من الراحة_كما أن المصاب يشكو مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلُّم ما ينفعه، ولا الاستعانة على معصيته فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً إلا إذا اقترن به ما يحرم، كالمصاب الذي يتسخط.
والثاني: أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما في ذلك من إظهار السوء والفحشاء؛ فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت، وتشهَّت، وتمنت، وتتيمت.
والإنسان متى رأى، أو سمع، أو تخيَّل من يفعل ما يشتهيه كان ذلك داعياً إلى الفعل ( 3).
هذا وسيأتي مزيد حديث عن العشق في الباب الثاني_إن شاء الله_.
 
أعلى