دانييل خارمس - الشئ.. ت: إبراهيم فضل الله

iCAKVCK2D.jpg


جلس الأب والأم مع شغالتهم ناتاشا ،حول المائدة يحتسون شراباً .
كان الأب ثملاً بلا شك ، لدرجة أن الأم كانت ترمقه بتعال . ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون شخصاً طيباً . كان يضحك بأريحية ويتأرجح على مقعده .

أما ناتشا الشغالة ، بتسريحتها ومريلتها ، فكانت طوال الوقت تضحك بصورة غير معقولة . الأب كان يقوم بتسلية الجميع بينما يداعب لحيته ، إلا أن الشغالة ناتاشا كانت تسبل عينيها في إرتباك ، معبرة عن خجلها . أما الأم ، فكانت إمرأة طويلة ذات تسريحة باذخة ، وتتحدث بصوت يشبه صهيل الحصان ، حين يدوي صوتها في غرفة الضيوف ، يتردد صداه عبر الفناء و الغرف الأخرى. بعد إحتساء الكأس الأولى ، صمت الجميع وهم يتناولون النقانق ، لبرهة وجيزة ،ثم إستأنفوا حديثهم مجدداً .وفجأة ، وعلى غير توقع من أحد ، تنامى طرق بالباب . لم يكن لدى أي من الأب أو الأم أو الشغالة فكرة عمن عسى أن يكون الطارق .قال الأب ، ما أغرب هذا ، من عسى أن يكون بالباب ؟رسمت الأم على وجهها تعاطفاً مفتعلاً ، وفي غيرما إنتظار لدورها صبت لنفسها قدحاً ثانية ، كرعتها ، ثم قالت :غريبة .
لم يتلفظ الأب بأية ألفاظ سيئة ، وإكتفى بصب قدح بدوره، تجرعها ثم نهض من خلف المائدة .لم يكن الأب طويل القامة . على عكس الأم . فهي كانت إمرأة طويلة وممتلئة ولها صوت كالصهيل ، أما الأب فكان زوجها فحسب .فضلاً عن أنه كان منمش الوجه.وصل الأب إلى الباب في خطوة واحدة وسأل :من هناك ؟أجاب صوت من وراء الباب : أنا ،عندها فتح الباب ودخلت الشغالة ناتاشا ، مضطربة من رأسها إلى قدميها ومتوردة . مثل الوردة.
مثل الوردة .
جلس الأب .تجرعت الأم كأساً مرة أخرى .أما الشغالة ناتاشا والأخرى ، التي مثل الوردة ،فقد احمرتا خجلاً . نظر الأب إليهما ولم يتفوه بشئ ، ولكنه تجرع كأساً ، تماماً كما فعلت الأم .ولإطفاء الحرقة الكريهة في الحلق ، قام الأب بفتح علبة معجون سلطعون . وكان الجميع سعداء وظلوا يأكلون حتى الصباح. لكن الأم كانت صامتة وهي جالسة في مكانها . كان هذا نذير سوء .وفي اللحظة التي تأهب فيها الأب لأن يصدح بأحدى الأغنيات، طرقت النافذة .وثبت الأم مذعورة وقالت صارخة بأنها شاهدت شخص ما يتلصص من الشارع عبر النافذة .فطفق الباقون يؤكدون للأم إستحالة هذا الأمر ، لأن الشقة تقع على الطابق الثالث ، ولا يمكن لأي شخص من الشارع أن يتلصص عبر النافذة ، إلا أن يكون عملاقاً أو مارداً .إلا أن الأم كانت قد على قناعة راسخة. ولا يوجد في الكون ما يمكن أن يقنعها ، بأنه لم يتلصص أحد من النافذة .وحتى يتم تهدئة الأم ، صبوا لها قدحاً أخرى. فشربته .قام الأب بدوره بصب قدح لنفسه وشربها.أما ناتاشا الشغالة وشبيهة الوردة ، فجلستا تطرفان بأعينهما من شدة الحرج. - صرخت الأم قائلة ، لا أستطيع أن أكون في مزاج مرح ، عندما يكون هنالك من يتلصص علينا من الشارع عبر النافذة. كان الأب مضطرباً ومحبطاً ، لا يعلم كيف يهدئ من روع الأم. حتى أنه ركض نازلاً إلى فناء المبنى ، محاولاً أن ينظر ولو عبر نوافذ الطابق الثاني. بالطبع تقاصرت قامته عن ذلك . ولكن حتى هذا العمل لم يفد ولو قليلا في إقناع الأم . رغم أنها لم ترى كيف أن ا لأب لم يتمكن من النظر حتى من نوافذ الطابق الثاني.وعندما شعر الأب بأحباط كامل من كل هذا الأمر ، هب في خفة إعصار نحو غرفة الطعام وإزدرد قدحين بنفس واحد ، وكذلك عبأ للأم قدحاً ، تجرعته الأم ، لكنها قالت ، بأنها تشرب فقط للتدليل على قناعتها التامة، بأن شخص ما قد تلصص من النافذة. أسدل الأب ذراعيه، وقال للأم : أنظري، وهو يتقدم نحو النافذة ، فاتحاً لها على مصراعيها .في تلك اللحظة حاول شخص ما بياقة متسخة وسكين في يده، الولوج عبر النافذة. عند رؤيته قام الأب بصفق دلفتي النافذة سريعاً ، وقال :لا أحد هناك.مع ذلك ، فإن الشخص ذو الياقة المتسخة كان يقف خلف النافذة ناظراً إلى الغرفة ، ليس فحسب ، بل أنه فتح النافذة وتسلل داخلاً.أصيبت الأم بذعر شديد، وتملكتها نوبة هستيرية ،إلا ، أنها هدأت قليلاً ، بعد أن تجرعت الشراب القليل الذي قدمه الأب ، وأكلت بعض الفطر.وسرعان ما إسترجع الأب رباطة جأشه . وجلس الجميع مجدداً حول المائدة ، وواصلوا الشراب .تناول الأب الجريدة ، وظل يدورها في يديه طويلاً ، بحثاً عن وضعية القراءة ، لكن باءت جميع محاولاته بالفشل ، لذلك أزاح الصحيفة جانباً ، وتجرع لنفسه قدحاً . قال الأب : حسناً ، ولكن الخيار لا يكفي. صهلت الأم بصورة غير لائقة ، الأمر الذي جعل الشغالتين تشعران بحرج بالغ ، مما جعلهما تشغلان النظر بتتبع خطوط التطريز على حواف غطاء المائدة.شرب الأب قدحاً ، وفجأة حمل الأم وأجلسها على البوفيه، فتبعثرت تسريحتها الباذخة، وظهرت على وجهها بقع حمراء ، بإختصار ، وجهها كان متهيجاً .شد الأب بنطاله إلى الأعلى وتهيأ لإعلان نخب . في تلك اللحظة تحرك غطاء المجاري بأرضية الغرفة وخرج من تحته كاهن .

تجاوز حرج الشغالتين أي حد متصور ، إلى درجة أن إحداهما بدأت في الإستفراغ . بينما قامت ناتاشا بإسناد جبين الأخرى ، محاولة إخفاء تلك الفوضى.أما الكاهن ، الذي خرج للتو من تحت الأرض ، فأشار بقبضته نحو أذن الأب ، ويا لها من قعقعة!صفق الأب المقعد جالسا ، دون أن يكمل نخبه.عندها قام الكاهن بالتقدم نحوالأم ، ولكزها بطريقة ما من الأسفل ، ليس بيده ولا بقدمه.فطفقت الأم تصرخ طالبة النجدة .بعدها أمسك الكاهن بتلابيب الشغالتين وطوح بهما في الهواء ، ثم أطلقهما.ثم قام هذا الكاهن غير المرئي لأي أحد ، بالإختفاء مرة أخرى تحت الأرض ، مغلقاً فتحة المجاري وراءه.مضى وقت طويل دون أن يتمكن أي من الأم أو الأب أو الشغالتين من إستعادة أنفاسه.لكن بعد أن هدأوا قليلاً ،وأصلحوا هيئاتهم ، شرب كل منهم قدحاً،وإجتمعوا حول المائدة يتناولون شرائح الكرنب.
وبعد تناول قدح أخرى ، جلس الجميع يتآنسون في دعة.لكن فجأة إحمر الأب وبدأ في الصراخ .قال صارخاً : ماذا! ماذا! ، أ تعتبرونني شخصاً حقيراً !أنتم تظنوني فاشلاً ! أنا لست متطفل عليكم ! بل أنتم أوغاد !

عندها هرعت الأم والشغالة ناتاشا من صالة الطعام وإغلقتا نفسيهما في المطبخ همست الأم في ذعر مثل ذعر ناتاشا التي بلغ بها الحرج غايته : إلى الجحيم ، أيها السكير ! إلى الجحيم يا ذا الحوافر الأربعة. وجلس الأب في صالة الطعام يواصل صراخه حتى الصبح ، لم يتوقف إلا عندما قام لحمل حقيبته ، ولبس كاسكيتته البيضاء، مغادراً إلى عمله في سكينة ووقار.



-------------------------------------------
خارمس
31 مايو 1929
 
*دانييل خارمس
الشيء
ت: خليل الرز




الماما، والبابا والخادمة، التي تُدعى ناتاشا، كانوا جالسين إلى الطاولة يتناولون المشروب.
البابا كان سكّيراً دون شك. حتى الماما كانت تنظر إليه نظرة متعالية. لكن ذلك لم يمنع البابا من أن يكون إنساناً طيباً جداً. كان يضحك بقلب صافٍ جداً، ويتأرجح على الكرسي.
وكانت الخادمة ناتاشا، بدانتيل تسريحتها ومريولها، تضحك طيلة الوقت بصورة لا تُحتمل. كان البابا يُسلّي الجميع بلحيته، لكن الخادمة كانت تُسبل عينيها في حياء، معبّرةً بذلك عن خجلها.
الماما، وهي امرأة طويلة القامة وذات تسريحة ضخمة، كانت تتحدث بصوت كصوت الفرس. كان صوت الماما يدوّي في غرفة الطعام كالبوق، ويتردد صداه في الفناء وفي بقية الغرف.
بعد أن شرب كل منهم القدح الأول صمت الجميع لثانية واحدة وأكلوا المرتديلاّ. وبعد مضي وقت قصير عادوا يتكلمون من جديد.
بغتةً قرع أحدهم الباب بصورة مفاجئة تماماً. لم يكن لا البابا ولا الماما ولا الخادمة ناتاشا قادرين على تخمين من يكون طارق الباب.
– يا له من أمر غريب- قال البابا- من يمكن أن يكون طارق الباب هناك؟
رسمت الماما على وجهها ملامح الإشفاق، وصبّت لنفسها القدح الثاني بشكل انفرادي، شربته، ثم قالت:
– شيء غريب.
لم يقل البابا شيئاً سيئاً، لكنه صبّ قدحاً، هو الآخر، وشربه، ثم نهض من وراء الطاولة.
لم يكن البابا طويل القامة. على خلاف الماما. كانت الماما امرأة طويلة القامة وبدينة وصوتها كصوت الفرس، وكان البابا زوجها لا أكثر. وفوق ذلك كله كان البابا مغطىً بالنمش.
بخطوة واحدة اقترب من الباب، ثم سأل:
– من هناك؟
– أنا- قال صوت من وراء الباب. وفي الحال انفتح الباب ودخلت الخادمة ناتاشا مضطربةً، كلّها، وورديّة اللون. كالوردة.
جلس البابا.
شربت الماما من جديد.
كانت الخادمة ناتاشا، وكذلك الأخرى، كالوردة، تتورّدان من شدة الخجل. نظر إليهما البابا، ولم يقل شيئاً سيئاً، إنما شرب كالماما.
ولكي يطفئ اللهيبَ غيرَ المفهوم في فمه فتح البابا علبة من معجون القواقع المحفوظة. وكان الجميع في غاية الحبور، وظلوا يأكلون حتى الصباح.
لكن الماما كانت جالسة على الكرسي، وصامتة. وكان هذا مزعجاً جداً.
وعندما تهيّأ البابا لغناء شيءٍ ما نُقِرت النافذة. قفزت الماما من مكانها مذعورةً، وصرخت قائلةً إنها رأت بوضوح كيف نظر في النافذة شخص من الشارع. الآخرون أكّدوا للماما أن ذلك مستحيل لأن الشقة في الطابق الثالث، وليس بمقدور أحد في الشارع أن ينظر في النافذة، ولكي يتمكّن من ذلك يجب أن يكون عملاقاً أو جالوت (عملاق ورد ذكره في العهد القديم/ م م). غير أن الفكرة التي خطرت للماما كانت راسخة، وما كان شيء على وجه الأرض ليستطيع إقناعها بأن أحداً لم ينظر في النافذة.
ولتهدئة الماما صبّوا لها قدحاً آخر. شربت الماما القدح. والبابا صب لنفسه، وشرب هو أيضاً.
كانت ناتاشا والخادمة كالوردة جالستين بعيون مُسبَلة من الخجل.
– لا أستطيع أن أكون بمزاج طيب عندما ينظرون إلينا من الشارع من خلال النافذة- صاحت الماما.
كان البابا يائساً إذ لم يعرف كيف يهدئ الماما، فهرع إلى الفناء محاولاً النظر من هناك في نافذة الطابق الثاني على الأقل. طبعاً لم يكن قادراً على أن يطالها بعينيه لينظر فيها. لكن ذلك لم يغيّر ذرة واحدة من قناعة الماما. بل إنها لم ترَ كيف لم يستطع البابا أن يطال حتى نافذة الطابق الثاني.
وبسبب ذلك كله انزعج البابا انزعاجاً شديداً، فطار عائداً بسرعة إعصار إلى غرفة الطعام، وشرب قدحين، كلٌّ منهما بجرعة واحدة، كما صبّ قدحاً للماما أيضاً. شربت الماما القدح، لكنها قالت إنها تشرب فقط تأكيداً على قناعتها بأن أحدهم قد نظر في النافذة.
باعد البابا بين كفّيه متحيّراً.
– انظري- قال للماما، وهو يقترب من النافذة. ثم فتح إطاريها إلى الآخر.
كان في النافذة رجل بياقة قذرة يحمل خنجراً بيده ويحاول التسلل إلى الداخل. وما إن رآه البابا حتى أغلق الإطارين، وقال:
– لا يوجد أحد هناك.
مع ذلك ظلّ الرجل ذو الياقة القذرة واقفاً وراء النافذة ينظر إلى الغرفة، حتى فتح النافذة ودخل.
كانت الماما مذعورة جداً. أُصيبت بالهيستيريا. لكنها، بعد أن شربت جرعة قليلة قدمها لها البابا ومزّتْ بشيء من الفطر، أصبحت هادئة.
وسرعان ما تمالك البابا نفسه أيضاً. جلسوا جميعاً من جديد إلى الطاولة، وتابعوا شربهم.
تناول البابا صحيفة وقلّبها طويلاً بين يديه، باحثاً عن أعلاها وعن أسفلها. غير أنه، برغم بحثه الطويل، لم يتوصّل إلى نتيجة، ولذلك نحّى الصحيفة جانباً، وشرب قدحاً.
– جيد- قال البابا- لكنْ ينقصنا الخِيار.
صهلت الماما بصورة غير لبقة، ما جعل الخادمتين تشعران بالخجل الشديد، فَشَرَعَتَا بالنظر إلى زخارف غطاء الطاولة.
شرب البابا من جديد، ثم أمسك بالماما فجأة، وأجلسها فوق خزانة الأواني.
تشعّثت تسريحة الماما الكثّة الشيباء، وطفحت على وجهها بقع حمراء، وبالعموم كانت سحنتها مُستَثارةً.
سحب البابا بنطلونه إلى الأعلى، وشرع يرفع نخباً.
وهنا انفتحت في أرض الغرفة ثغرة خرج منها راهب.
وكانت الخادمتان قد بلغ بهما الشعور بالخجل حَدّاً جعل إحداهما تنخرط بالبكاء. صارت ناتاشا تمسك صديقتها من جبينها في محاولةٍ منها لستر الفضيحة.
أمسك الراهب، الذي خرج من تحت الأرض، بقبضته بأذن البابا، وفركها بقوة.
هوى البابا فوق الكرسي، دون أن يكمل رفع نخبه. وعندئذٍ اقترب الراهب من الماما، وصار يضربها، بصورةٍ ما، من الأسفل، فلا تميّز أبيده كان يفعل ذلك أم بقدمه.
صارت الماما تصرخ وتستغيث.
ثم أمسك الراهب بتلابيب الخادمتين، كلتيهما، لوّح بهما في الهواء، ثم رمى بهما. بعد ذلك اختفى الراهب تحت الأرض، دون أن يلاحظه أحد، مغلقاً الثغرة وراءه.
لم يستطع لا البابا ولا الماما ولا الخادمة ناتاشا أن يعودوا إلى رشدهم قبل مضيّ فترة طويلة جداً. لكنهم، بعد أن عادوا يتنفسون بشكل منتظم، رتّبوا أنفسهم، وشرب كل منهم قدحاً، وجلسوا إلى الطاولة يمزّون بالملفوف المفروم.
وإذ شرب كل منهم قدحاً آخر جعلوا يتبادلون أطراف الحديث في وئام.
فجأة أصبح لون البابا أرجوانياً، وبدأ يصرخ:
– ما بكم؟ ما بكم؟- صرخ البابا- إنكم تحسبونني إنساناً تافهاً! إنكم تنظرون إلي كما تنظرون إلى شخص فاشل! لست عالةً عليكم! فأنتم السفلة!
هربت الماما والخادمة ناتاشا من غرفة الطعام، وقفلتا الباب عليهما بالمفتاح.
– إنقلع أيها السكّير! إنقلع أيها الحافر الشيطاني!- همست الماما مذعورة لناتاشا الخجولة الآن بصورة نهائية.
أما البابا فقد ظل جالساً في غرفة الطعام حتى الصباح، ومستمراً بالصراخ إلى أن تناول إضبارة الدعاوى، وارتدى عمرته البيضاء، وذهب إلى وظيفته بوداعة.
 
أعلى