منقول - نتحدث كثيراً عن المعشوقات في التاريخ العربي... ماذا عن الرجال؟

ليلى وعبلة، وعزّة ولبنى وخولة، وعشرات غيرهن ممن لم تُذكر أسماؤهن... كثيرة هي صور المعشوقات في التراث العربي، تغنى بهنّ عشاقهنّ بأشعار خلدتهنّ، إن كنّ تخيلاً أو ترميزاً أو حقيقة، ارتبطت فكرة العشق بأسمائهن في المخيلة الشعبية العربية. ولكن ماذا عن الرجال؟ نعرفهم كعاشقين، فماذا نعرف عنهم كمعشوقين؟

بعيداً عن مفاهيم العشق التي تغيّرت بالتدريج من الحب "الطبيعي"، إلى "العقلي" إلى "الإلهي"، نغوص هنا في الذاكرة الشعبية العربية من أشعار وقصص حب، لنرى إن كان للرجال نصيب منها.

عن العشق والجمال

الجمال والحب والسعادة والدين، كلها مفاهيم مرتبطة مع بعضها بشكل وثيق في الثقافة الإسلامية. فالحديث النبوي "إن الله جميل يحبُّ الجمال" يوسّع مفوم الجمال ليشمل كل شيء.

ومع أن الجمال هو من الصفات التي يستحضرها الشعراء في وصف محبوباتهن، إلا أنه ليس بالضرورة أساساً لقصص الوله والعشق. فمثلاً، في قصيدة يتغنى بها عمرو بن معد يكرب بحبه للميس، التي يصفها بأنها "بدرً تبدى" في السماء، يقول في افتتاحيتها إن الجمال ليس ما تراه العين، ولا ما يكتسيه الجسد:

ليس الجمال بمئزر = فاعلم وإن رديت بردا
إن الجمال معادن = ومناقبَ أورثن حمدا

فالمعشوقات الأشهر في التراث العربي، لا ترتبط صورهن بالجمال، على الأقل ليس بشكلٍ مباشر، أو كسببٍ أساسي للوله الذي يلهمنه في قلوب عشّاقهن. إلا أنه من المثير، في الأمثلة القليلة التي بين يدينا، أنّ العشق عندما يرتبط بالرجال، يتماهى بسرعة مع جمالهم.

ونجد تماهي الجمال والعشق كذلك في أشعار "الغزل"، خاصة عند المتصوفة والذين انتقلت بهم معانيه من فكرة "الحب" و"المحبة" إلى "العشق"، وفي كل منها يأخذ المعشوق رمزية خاصة.
معايير الجمال عند الرجال

يخبرنا الثعالبي (1038 م) بأن "الماء" هي توصيف لكل ما هو جميل. وذلك مستمدٌ من سورة الأنبياء، في الآية القرآنية "وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ". لذا تكثر في الأدب العربي تعابير مثل: ماء الوجه، وماء الصبا، وأيضاً ماء الحياة وماء الجمال، وماء الشعر (أي رونقه وطلاوته). ويستخدم تعبير "ماء الشباب" كثيراً في الشعر ليعني الصّبا، وغالباً ما يرتبط ذكره بصورة القمر المنير، أو شعلة النار في الخدين، وهما من معالم الجمال.

وصلتنا العديد من الأشعار التي تتغنى بالمعشوق "الشاب" أو "الغلام"، وتصف خصل شعره الأسود المجعد التي تزين وجهه المستدير، الذي يضيء مثل "الشمس" أو "القمر"، وعينينه السوداوين ورموشه الطويلة، وأما فمه فهو كحبة ياقوت يصبّ اللؤلؤ أو السكر ليشفي قلب العاشق المتيم. يقول أبو نواس، وهو أشهر من تغزل بصراحة:

ومعشوق الشمائل والدلائل = كقرن الشمس في قدّ الغزال.
تأزر بالملاحة وارتداها = وسربل بالكمال والجمال.

درجات الجمال عند الرجال ليست كلها مرتبطة بمظهرهم وجمالهم الجسدي، فهناك "الظريف" و"المليح" و"الحلو" و"الجميل"، وهذا ما نستشفه من حكاية عن خالد بن صفوان التميمي (752 م)، الذي كان من أهمّ خطباء العرب، عاش في العصر العباسي الأول ولقِّبَ بـ"فصيح العرب".

يحكى بأن امرأة قالت له "إنّك جميلٌ"، ولكنه استنكر ذلك، فجاوبها بسؤال بلاغيّ: "كيف تقولين هذا؟ فوالله ما فيّ عمود الجمال، ولا رداؤه، ولا برنُسُهُ". حين سألته عن معنى ذلك، قال لها، عمود الجمال الطول، ورداؤه البياض، وأما برنسه، فهو الشعر الأسود، "وأنا أصلع آدم قصير". قولي لي أني "ظريفٌ" أو "مليح"، وفي رواية أخرى "حلو".

يبدو في القصة وكأن المرأة لا تعرف أي شيء عن معايير الجمال التي يضطر خالد أن يشرحها لها بالتفصيل. فهل كان للنساء معايير مختلفة في نظرتهنّ لجمال الرجال؟

في التراث العربي، نعرف الرجال كعاشقين، ولكن ماذا نعرف عنهم كمعشوقين؟

حجاب الرجال والعمامة

مع أن الشعراء تغنوا بجمال محبوباتهم وعشيقاتهم، إلا أنّ التغزل بجمال الرجال فاق ذلك بكثير في الشعر العربي. وكان يقترن جمال الرجال ليس فقط بفتنتهم، ولكن أيضاً بالخوف عليهم من الحسد.

فيقال بأن الرجال الذين عرفوا بجمالهم، كانوا إذا خالطوا الناس يغطون وجوههم ليحموا جمالهم من عيون النساء. ولأن من عادة العرب أن يطلقوا عمداً على الشيء عكسه، فكانوا يطلقون على الرجل الجميل لقب "الشيطان" كنوع من الحماية.

شاعت قصص عن شخصية شاعر من قبيلة كندة اليمنية، لقّبت بـ"المقنع الكندي". ليس لدينا الكثير من التفاصيل عن حياته، ولكن كان يقال إنه عُرف بكرمه وأخلاقه، وبأنّه اشتهر بجماله الرائع، إذ تُجمعُ الروايات على أنه كان طويل القامة (يقال بأنه كان 13 شبراً، ولكن يقال أيضاً بأنه عاش 150 عاماً)، وكان جماله يُتيِّمُ قلوبَ النساء، وكل من ينظر إليه.

ولأن العيون كانت تترقب بلهفة فرصة رؤيته، كان إذا أسفر عن وجهه أصيب بالحسد (بالعين) ومرضَ، ولذلك لم يكن يخرج إلا مقنعاً، فغلب لقب المقنّع على اسمه، وأصبح معروفاً به.

وهناك قصص مشابهة عن شاعرين آخرين هما وضّاح الكندي وأبو زبيد الطائي، اللذان كانا إذا ما نزلا "المواسم"، أي الأسواق، احتجبا خوفاً على جمالهم. وأما الزبريقان بن بدر من بني تميم، وهو من الصحابة، لقبّ بالزبرقان وهو قمر نجد لشدة جماله، وكان إذا ما جاء مكّة، دخلها "متعمماً" لئلا يغري النساء.

وقد اشتهر عدد من الشعراء والصحابة بالجمال، فهناك الكثير من الألقاب التي نعرفها دون أن ندرك أنّ أصلها جاء من جمال أصحابها. فأبو لهب مثلاً، سمي كذلك لشدة جماله. وشاعر الأندلس يحيى بن الحكم (864 م) كان يكنّى بالغزال، ومن اشتهر بالجمال عمر بن ربيعة، الذي كان يصف نفسه بأنه "معشوقٌ"، وليس عاشقاً فقط.

هو من قال عندما سأله المروانيون لمَ لا يمدحهم، "أنا لا أمدح إلا النساء"! عرف عمر بشعره وبافتتانه بجماله. يعتبر رائداً لمدرسة شعرية في الغزل الصريح المتسم ببساطة الأسلوب والجرأة في التصريح عن مشاعر الحب والجنس أيضاً، وهي مدرسة استمرت عبر تاريخ الشعر العربي، وكان آخر ممثليها في العصر الحديث نزار قباني. في مقطع شهير لعمر بن ربيعة، يتحدث عن لقائه بثلاث صبايا، تعرّفن عليه لشهرته وجماله:

قالت الكبرى أتعرفن الفتى؟ قالت الوسطى نعم هذا عمر.
قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر.

لأن القصص التي وصلتنا عن المعشوقين من الرجال بأغلبها تدور حول الشعراء أو الصحابة، يبدو واضحاً أن العرب اعتبروا الثقافة والمعرفة شرطاً لتقدير الجمال، وهي فكرة أول من اقترحها هو الباحث الشهير روزنتال.

يمكن أن نضيف إلى ذلك نسب النبوة، إذ ارتبط وصف أحفاد الرسول ونسلهم بالجمال والنور، خاصة الحسن بن علي، حفيد الرسول، الذي يحكى أنّ طلته كانت بهيّة وكأنها نور، وكذلك علي الرضا، ثامن الأئمة، الذي خاف المأمون "فتنته" للناس يوم دعاه للصلاة فيهم لحسنه ومكانته.

كذلك لعبت "السلطة" إلى حدّ ما دوراً في تصوير الخلفاء على أنهم من أجمل الناس، فمثلاً هارون الرشيد كان يشتهر بجماله، وكذلك الخليفة الأندلسي عبد الرحمن الناصر لدين الله، الذي يصفه ابن عبد ربه في العقد بـ"القمر الأزهر، سيّد الخلفاء". كما يحكى عن أول الخلفاء الأمويين معاوية، بأنه حين يكتحل ويضع عمامته السوداء، كان من أجمل رجال عصره.
جبرائيل في هيئة صحابيّ جميل

الصحابيّ دحية بن خليفة الكلبي، وهو ابن حفيد امرئ القيس، كان ممن عرف بالجمال الأخاذ. أرسله الرسول كسفير إلى هرقل، وكان يقال بأنه يشبّه بجبريل، وفي سياق آخر، كان يشبّه بالنبي.

في حديث نبوي نقله ابن عمر، أنّ النبي قال: "كان جبريل يأتي النبي في صورة دحية الكلبي". ويتفق على ذلك النسائي في سننه، وابن حجر والطبراني، الذي يذكره من حديث عن أنس: "كان جبريل يأتيني على صورة دحية الكلبي، وكان دحية رجلاً جميلاً".

وفي قصة عن عائشة زوجة الرسول، أنها قالت: وثب رسول الله وثبةً شديدةً فنظرت فإذا معه رجلٌ واقف على برذون وعليه عمامةٌ بيضاء قد سدل طرفها بين كتفيه ورسول الله، واضعاً يده على معرفة برذونه، فقلت: يا رسول الله لقد راعتني وثبتك، من هذا؟ قال: "ورأيته؟" قلت: "نعم"، قال: "ومن رأيت؟" قلت: "دحية الكلبي"، قال: "ذاك جبريل".
المعشوق المثال

المصادر الأهم لقصص المعشوقين من الرجال هي ما جاء في أشعارهن عن وَلَهِ النساء وتيمهن بهم، أو من المخيلة الشعبية التي ارتبط فيها المعشوقين من الرجال بجمال أخّاذ ألهم في عاشقاتهم ولهاً شديداً وصل أحياناً إلى حد الجنون.

لعل أشهر ما يجسد فكرة العشق والجمال هو أسطورة "أدونيس" الذي عشقته الآلهة عشتار في الميثولوجيا الكنعانية (وأفروديت في المثولوجيا اليونانية، وفينوس في الرومانية)، والذي كان يوصف بأنه رائع الجمال. خلدّت قصيدة شكسيبير "فينوس وأدونيس" محاولات الآلهة لإيقاع أدونيس في حبّها، وهي قصة صاغ فنانون ونحاتون من خلالها تصوراً لرمزية جمال أدونيس كمعشوق.

ومن الثقافة الإسلامية، لدينا قصة النبي يوسف، الذي أثار جماله عاطفة جامحة لدى زليخة ودفعها لسلوك مجنون، فهو صوّر على أنّ جماله كان باهراً لدرجة أنّ النساء عندما رأينه قطّعن أصابعهن ولم يشعرن بالألم، كما ورد في سورة يوسف في القرآن الكريم: "وأعتدت لهنّ مُتكأً وآتت كلّ واحدةٍ منهنّ سكِّيناً وقالت اخرج عليهنّ، فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهنّ، وقلن حاشَ لله ما هذا بشراً إنْ هذا إلا مَلكٌ كريم".

ألهمت قصته أشعاراً ورسومات صوّرته كرمز للجمال الربانيّ والعشق الإلهي، خاصة في كتابات الأتراك والفرس. وفي الأساطير الشعبية العربية، يعتبر النبي يوسف أجمل رجل في التاريخ على الإطلاق وحتى اليوم لايزال نموذجاً للجمال الاستثنائي.

المصادر: "الجمال" في كتاب الغراب والصقر: الشباب مقابل الشيخوخة في الأدب العربي في القرون الوسطى؛ "العشق" في موسوعة الإسلام، الطبعة الثانية؛ عرائس المجالس في قصص الأنبياء للثعالبي؛ دراسات في الشعر العربي المعاصر لشوقي ضيف؛ مقالة "من الحب إلى العشق: تطور الحب عند الصوفية" لجوزيف لومبارد (مجلة الدراسات الإسلامية، 2007).
 
أعلى