خورخي لويس بورخيس - حديقة الدروب المتشعبه.. ت انجليزية: دونالد ييتس - ت: بلال محمد الدرباشي

كتب الكابتن ليدل هارت في الصفحة الثانية والعشرين من كتابه (تاريخ الحرب العالمية الاولى) ان الهجوم الذي كان من المقرر ان تشنه الفرقة الثالثة عشر البريطانية ، مدعومة بالف واربعمئة قطعة مدفعية،في الرابع والعشرين من يوليو/ تموز عام1916 ضد خط ’ سيري مونتاوبان‘ قد اوجل حتى صباح التاسع والعشرين من ذلك الشهر، وقد علّق هارت بان اعتبار الأمطار الغزيرة سبباً لهذا التأجيل هو امر سخيف بكل تأكيد.

يسلط الاقرار التالي الضوء بما لا يدع مجالا للشك حول مجمل القضية فقد املاه ووقع عليه بعد أن اعاد قرائته الدكتور يو تسن البروفيسور السابق ب ’هوشسكول ‘ . الصفحتان الاوليان من الوثيقة مفقودتان.

” … واغلقت السماعة، وبعدها مباشرة تعرفت الى الصوت الذي اجاب بالألمانية، والذي كان للكابتن ريتشارد مادين ،والذي عنى وجوده في شقة رينبرغ نهاية حالة التوتر التي كنا نحياها، مثلما عنى نهاية حياتنا ايضاً، وهو ما بدا - او كان من المفترض ان يبدو - كأمر ثانوي بالنسبة لي؛ فوجوده في الشقه يعني قتل رينبرغ او اعتقاله، وهو ذات المصير الذي كنت سالقاه قبل غياب شمس ذلك اليوم. كان مادين رجلا عنيدا ،او انه كان قد ارغم على ان يكون كذلك؛ فرجل ايرلندي في خدمة إنجلترا، هو رجل متهم بالاهمال وحتى بالخيانه؛ فكيف سيكون حاله اذا ما استطاع انتهاز فرصة اكتشاف اثنين من عملاء الرايخ الالماني وإلقاء القبض عايهم وحتى امكانية قتلهم ، ومن ثم ينال الشكر على ذلك؟.

صعدت الى غرفتي ، واغلقت الباب على نحو عبثي واستلقيت على السرير الحديدي الضيق، و رايت من النافذه تلك الاسطح المألوفة وشمس الساعة السادسة المغطاة بالغيوم، حيث بدا من غير المعقول ان يكون مثل هذا اليوم الخالي من اي رمزية او تحذير مسبق هو يوم موتي المحتم؛ فهل سأموت الآن رغما عن ابي المتوفي؟ وهل سأموت بالرغم من اني قد كنت طفلا يلهو في حديقة متناسقة في’هاي فينج ‘ ؟، فكرت ملياً في ان كل ما يحدث للمرء يحدث له الآن والآن فقط. قرون وقرون ولكن ما يحدث يحدث في الحاضر فقط، ويحدث فعلا لي انا.

تذكرت وجه مادين الذي لا يحتمل ، ذلك الوجه الشبيه بوجه الفرس، فاختفت كل هذه التأملات، وفي خضم كرهي وخوفي خطر ببالي ان المحاربون السعداء لا يشكون ابدا في أني قد امتلكت سر اسم الموقع الذي تتمركز فيه المدفعية البريطانية الجديدة على نهر ’ آنكر‘ اما الان وبعد ان تمكنت من خداع مادين؛ فان الحديث عن الخوف قد لا يعني لي شيئا وانا انتظر ان تلتف انشوطة المشنقة حول عنقي. وبينما كنت انظر تحيلت وبلا تفكير ان ذلك العصفور الذي اندفع ليقطع السماء هو طائرة وان هذه الطائرة هي سرب من الطائرات المنقضة لتبيد المدفعية بقنابلها العمودية. آه لو ان فمي يستطيع الصراخ بالاسم السري كي يدوي في ارجاء المانيا من قبل ان تخرسه رصاصة. لكن صوتي البشري ضعيف جدا؛ فكيف عساي اوصله الى اذن الزعيم؟ الى اذن الرجل المريض الذي لا يعلم شيئاً عن رينبرغ وعني سوى اننا في ’ ستاتفوردشاير ‘ ، كيف اوصله الى ذلك الرجل الذي ينتظر بلا صبر تقاريرنا في مكتبه الباهت في برلين، متفحصا الصحف بلانهاية. قلت لنفسي بصوت عالٍ:”ينبغي أن أهرب” وقفت في صمت مطبق تحت سخافة الفخر بانعدام امكانياتي حيث وجدت ما علمت اني ساجده: الساعة الامريكية، و السلسلة المعدنية، وقطعة الربع جنيه، وميدالية المفاتيح التي تحوي المفتاح جالب الشبهة وعديم الجدوى لشقة رينبرغ، والمفكرة، ورسالة كنت قد اعتزمت تدميرها ولكني لم افعل، وكراون، وشلنان، وبضع بنسات، وقلم رصاص ملون بالاحمر والازرق، ومحرمة، ومسدس بطلقة واحدة. اخذت المسدس بيدي ووزنته بسخف علّي استلهم منه بعض الشجاعة، و فكرت مشوشا ان تقريرا عن حادثة اطلاق نار قد يصل الى مسافة بعيدة، وفي غضون عشر دقائق اكتملت خطتي؛ ففي دليل الهاتف يوجد اسم الشخص الوحيد الذي يستطيع نقل الرساله، والذي كان يقطن في ضاحية ’ فينتون ‘ على بعد اقل من نصف ساعة في القطار.

اعلن الآن ، و بعد ان انهيت خطة لا يستطيع احد انكار طبيعتها المحفوفة بالمخاطر باني رجل جبان. اعلم بان تنفيذي لهذه الخطة كان امرا بغيضا، لكنني لم انفذها من اجل المانيا، كلا لم افعل؛ فلست مهتما ابدا بدولة همجية فرضت علّي ذلّ كوني جاسوسا، كما اني قد تعرفت الى رجل انجليزي متواضع ، لم يكن بالنسبة لي أقل عظمةً من جوته، كلمته بالكاد لساعة ولكنه كان خلالها جوته بعينه، ولكني نفذت خطتي لاني احسست بان الزعيم يخشى ابناء عرقي، وبانه يخشى اجدادي الكثر الذين اندمجوا في ذاتي. اردت ان اثبت له ان بإمكان رجل من ابناء شعبي ان ينقذ جيوشه، بالاضافة الى انه كان يتوجب عليّ الهرب من الكابتن مادين؛ فصوته ويديه قد يطرقان بابي في اي لحظة. لبست ثيابي بصمت وحيّيت نفسي في المرآة ونزلت الدرج وتفحصت الشارع المهجور ، وانطلقت. لم تكن المحطة تبعد كثيراعن منزلي لكني قدرت انه من الحكمة ان استقل سيارة اجرة، فلعلي اقلل بذلك من احتمالية التعرف علّي، وفي حقيقة الامر فقد احسست في ذاك الشارع الخالي بانني مرئي ومعرض للهجوم. اتذكر باني اخبرت سائق المركبة ان يتوقف على مسافة قصيرة قبل المدخل الرئيسي حيث نزلت ببطء متعمد ومؤلم. كنت متجها الى قرية’ آشقروف ‘ لكني ابتعت تذكرة لمحطة ابعد. اسرعت لان القطار كان سيغادر في غضون بضع دقائق - في تمام الثامنة والخمسين دقيقة – ويليه القطار التالي في التاسعة والنصف. بالكاد وجدت أي شخص على رصيف السكة. مررت عبر العربات واتذكر اني رايت بعض الفلاحين، وامرأة في ثياب الحداد، وفتى صغير يقرأ بحماسة كتاب (الحوليات) لـ’ تاسيتوس ‘، وجنديا جريحا وسعيدا، واخيراً اندفعت العربات الى الأمام ، وركض رجل خلفها عبثا حتى نهاية المنصة، استطعت التعرف عليه فقد كان الكابتن مادين. أنكمشت مرتجفاّ الى الزاوية البعيدة من المقعد مبتعدا عن تلك النافذة المرعبة.

مررت بحالة من السعادة المذلة . اخبرت نفسي بان المبارزة قد بدأت تواً ، واني قد ربحت المواجهة الاولى فيها بإحباط هجوم خصمي، حتى وإن كنت قد ربحت بضربة من الحظ، و لاربعين دقيقة فقط. اقنعت نفسي بان الانتصارات الصغيرة تنبؤ بالنصر الشامل، وبان جبني قد أثبت اني رجل قادر على تنفيذ المغامرة بنجاح، ومن هذا الضعف استقيت القوة التي لم تتخلى عني. تنبأت بأن البشر سيتكيفون بمرور الايام مع اشياء اكثر شرا، وانه قريبا لن يكون هناك سوى اللصوص والمحاربين، ولهم اعطي هذه النصيحة :” إن مبدع أي مشروع شرير ينبغي له ان يتخيل بانه قد انجزه، وبأنه على وشك ان يفرض على نفسه مستقبلا كالماضي لا يمكن ابداً تغييره”، وهكذا تابعت بعيني اللتان كانتا كعيني رجل ميت انتشار الظلام وانقضاء ذلك النهار الذي كان لربما آخر أيامي، وبعد ان مضى القطار بين اشجار الدردار توقف في منتصف الحقول تقريبا من دون ان يعلن احد اسم المحطة. سألت بعض الصبية على المنصة:”آشقروف؟”، وبعدما ردوا بالايجاب نزلت من القطار.

لم تكن وجوه الصبيه واضحة بالرغم من ان قنديلا كان يضئ المنصة، سالني أحدهم ان كنت ذاهبا الى منزل الدكتور ستيفن البرت، ودون ان يسمعوا اجابة مني قال احدهم بان المنزل بعيد من هنا، لكني لن يضيع اذا سرت في الطريق التي اشار اليها ومن ثم اتجهت يسارا عند كل تقاطع يلاقيني. قذفت لهم باخر قطعة نقدية كانت معي ونزلت بعض الدرجات الحجرية، وبدأت مسيري ببطء في تلك الطريق المنعزلة نزولا اسفل التلة، حيث بدا القمر المنخفض وكأنه يرافقني في تلك الطريق الترابية التي علتها أغصان الاشجار المتشابكه.

فكرت لوهلة ان مادين قد اكتشف بطريقة ما خطتي، ولكني ادركت سريعا ان هذا امر مستحيل. ذكرتني إرشادات الصبي بالإتجاه دوما نحو اليسار بتلك الطريقة التي كانت شائعة لاكتشاف مراكز بعض المتاهات. لم تتأتى معرفتي بالمتاهات من فراغ ؛ فأنا الحفيد الاصغر لـ تسو يو بن الذي كان حاكما ذو سلطة واسعة تخلى عنها من اجل كتابة رواية مليئة بالشخصيات ، وانشاء متاهة يضيع فيها كل الرجال . ولكن يد غريب اغتالته بعد ان كرس ثلاثة عشر عاما لهاتان المهمتان المتناقضتان، فكانت النتيجة رواية غير مترابطة، ومتاهة لم يستطع أحد العثور عليها.

تأملت تحت الاشجار الانجليزية في المتاهة الضائعة ، تخيلتها محفوظة على قمة احد الجبال السرية بكمال دون ان تنتهك، تخيلتها مغطاة بحقول الارز او مغمورة تحت المياه، تخيلتها غير محدودة بزمان، وبـأنها لم تعد مبنية من الاكشاك المثمنة والدروب الملتوية، بل من الانهار والممالك ، فكرت بمتاهة المتاهات ، متاهة واحدة ممتدة، تحوي الماضي والمستقبل، وتشمل النجوم بطريقة ما. وفي غمرة هذه التخيلات الواهمة نسيت قدري كرجل مطارد ، وشعرت بنفسي تحت تاثير ذلك الريف الغامض النابض بالحياة وذلك القمر الذي اضاء على بقايا ذلك النهار كمراقب متجرد لهذا العالم؛ ففوق ذلك الدرب المنحدر المتشعب في المرزج المرتبكة زالت اي احتمالية للتعب، وعلى انغام تلك الموسيقى التي اضعفتها المسافة واوراق الشجر متأرجحة مع الريح جيئة وذهابا بدأت افكر بان الرجل قد يكون عدوا للرجال الآخرين او لأزمان الرجال الاخرين، ولكنه لن يكون ابدا عدوا لريف او يراعة او غابة او حديقة او جدول ماء او غروب شمس؛ وهكذا وصلت الى بوابة طويلة صدأة، أبصرت من بين قضبانها الحديدية ايكة من اشجار الحور ومبنى، وفجأة أدركت أمران؛ أولهما سخيف والآخر لا يصدق؛ فقد كانت الموسيقى آتية من ذلك المبنى وقد كانت الموسيقى صينية ولهذا كنت قد تقبلتها بإنفتاح دون أن أعير ذلك أدنى أنتباه. لا أتذكر إذا ما كان قرعت الجرس أو طرقت الباب بيدي، لكن ما اذكره هو استمرار الموسيقى في التألق.

اقترب فانوس ورقي له شكل طبلة ولون القمر من داخل المبنى من جهته الخلفية، مبهرا عيني بضوءه فلم استطع رؤية وجه الرجل الطويل الذي كان يحمله والذي قال بلغتي بعد ان فتح الباب:”ارى بأن المبجل سي بينغ مصمم على ان يقطع عليّ عزلتي. لا شك انك ترغب في رؤية الحديقة؟”.
ميزت اسم احد مستشارينا، واجبت بارتباك: “الحديقة؟!”.
- “حديقة الدروب المتشعبة”.
وعندها تحرك شيء في ذاكرتي وقلت بنوع من الشك:”حديقة جدي تسو يو بن”.
- ” جدك؟ جدك اللامع؟ تفضل بالدخول.”
تعرج الممر الرطب الذي عبرناه كتلك الممرات التي كنت اسلكها في طفولتي ودخلنا الى مكتبة للكتب الشرقية و الغربية، وفيها رأيت عدة مجلدات من الموسوعة الضائعة التي لم تطبع ابدا محزومة بشريط من الحرير الاصفر الى جانب عنقاء برونزية و مزهرية من الخزف الصيني وأخرى أقدم منها بعدة قرون تذكر بالخزف الذي نقله حرفيونا عن صانعي الخزف الفرس.

جلست على اريكة منخفضة، وجلس ستيفن البرت ساندا ظهره الى النافذة ومن خلفه ساعة دائرية كبيرة. توقعت بعد ان نظرت اليها بان مطاردي لن يستطيع الوصول قبل ساعة على الاقل، وبأن رغبتي العارمة تستطيع الأنتظار، نظر البرت نحوي مبتسما بعينيه الرماديتان وشعره الاشيب ومعالم وجهه المميزة واخبرني بانه كان مبشرا قبل ان يطمح الى ان يختص في الثقافة الصينية، ثم قال:
” قدر مذهل ذاك الذي كان ل تسو يو بن فقد كان حاكما لمقاطعته، وعالما بالفلك والتنجيم وتفسيركتب القانون، ولاعب شطرنج، وشاعرا معروفا، وخطاطا ، ولكنه تخلى عن كل هذا من اجل ان يؤلف كتابا وينشىء متاهة. تخلى عن متعة امتلكها من اجل ان يحبس نفسه في معتزله لثلاثة عشر عاما. وعندما مات لم يجد ورثته غير بضع مخطوطات متضاربة، أرادت عائلته أن تحرقها لولا ان احد الرهبان الاوصياء أصرّ على نشرها.

أجبته بأننا أحفاد تسو يو بن نلعن ذلك الراهب لأن نشرها كان عملا غير منطقي؛ فالكتاب الذي كنت قد قرأته مرة، هو مجرد كومة غامضة من المسودات المتناقضة؛ فالبطل يموت في الفصل الثالث، لكنك تجده حيا مجددا في الفصل الرابع. بالاضافة الى تلك المتاهه التي لم يعثر عليها احد.
قال البرت وهو يشير الى منضدة طويلة مصقولة:”هاهي المتاهة.”
هتفت متعجبا:”متاهة عاجية!”
فصححني قائلا:” متاهة من الرموز. متاهة زمنية غير مرئية، فقد اؤتمنت انا الانجليزي الهمجي على افشاء هذا السر الدفين،فبعد اكثر من مئة عام تبدت لي بعض التفاصيل الغامضة، لكن التكهن بما حدث لم يكن أمرا صعبا ؛ فقد قال تسو يو بن مرة أنه سيعتزل ليؤلف كتابا، وقال مرة أخرى أنه سيعتزل لينشئ متاهة؛ فظن الجميع وجود عملين، ولم يخطر ببال أحد أن الكتاب والمتاهة هما الشيء نفسه؛ ولربما أوحى وجود المبنى الذي اعتزل فيه وسط حديقة معقدة كمتاهة، أن متاهته مادية، ولكن أحدا لم يعثرعلى متاهته في أي مكان من مقاطعته الواسعه حتى بعد مرور مئة عام على موته ؛ فبعد ان اوحى لي تشوش الرواية بأنها قد تكون هي المتاهة، اوصلني أمران الى الحل الصحيح لهذه المشكلة؛ أولهما : تلك الاسطورة الغريبة القائلة بانه قد أعتزم خلق متاهة لا نهاية لها إطلاقا، وثانيهما: جزء من رسالة كنت قد إكتشفتها.

أخرج البرت من احد الدروج ورقة كانت قرمزية اللون ذات يوم، ولكنها صارت زهرية ورقيقة ومتداخلة الاقسام. وفوررؤيتها أثبتت سمعة جدي كخطاط نفسها. وبدأت اقرا بحماس وبلا إدراك تلك الكلمات التي كتبها رجل من اقربائي:” اترك لازمنة المستقبل المتعددة (وليس لها كلها) حديقتي ، حديقة الدروب المتشعبة”.
تابع البرت قائلا:” تسائلت قبل أن أكتشف هذه الرسالة كيف يمكن أن يكون الكتاب مطلقا ، ولم أستطع التفكير إلا في كتاب دوري ، كتاب تكون فيه الصفحة الاخيرة مطابقة للصفحة الاولىبحيث يعود القارئ الى نفس الصفحة التي ابتدأ منها تماما كما حدث مع شهرزاد في منتصف حكاية الف ليلة وليلة، وتخيلت ايضا عملا مثاليا متوارثا، يورثه الاب لابنه، حيث يضيف كل فرد فيه فصلا جديدا ، أو يصحح بعناية تامة الصفحات التي كتبها سلفة. جرفتني التوقعات ولكن أيا منها لم يستجب ولو من بعيد لتلك الفصول المتناقضة، وفي غمرة الارتباك وصلتني من أكسفورد تلك المخطوطة التي عاينتها توا. وفكرت مليا في جملة ” أترك لأزمنة المستقبل المتعددة (وليس لها كلها) حديقتي ، حديقة الدروب المتشعبة” وفورا أدركت أن ” حديقة الدروب المتشعبة” هي ذاتها الرواية المتضاربة؛ فقد اوحت لي عبارة ” أزمنة المستقبل المتعددة (وليس لها كلها)” ، أن التشعب هو في الزمان لا في المكان، وبعد قراءة متوسعة للعمل تأكدت من هذه النظرية؛ ففي كل الاعمال الادبية يواجه المرء عدة خيارات ، يختار أحدها ويترك الباقي، ولكن وفي هذا فإن المرء يختارها كلها وفي آن واحد؛ وبتلك الطريقة استطاع تسو يو بن ان يخلق ازمنة مستقبلية متعددة، واوقاتا متعددة تتكاثر وتتفرع ، وهنا يمكن تفسير تناقضات الرواية؛ فعلى سبيل المثال يقف غريب على باب فانغ الذي يخفي سرا ؛ فيعتزم فانغ قتل الغريب ، وبطبيعة الحال فإن هناك عدة نتائج محتملة؛ فقد يقتل فانغ الدخيل، وقد يقتله الدخيل ، وقد ينجو الاثنان ، وقد يموتان معا، وهكذا ، ولكن في رواية تسو يو بن فإن كل الإحتمالات تحدث بحيث تكون كل منهانقطة الانطلاق للاحداث الاخرى ومن الممكن ان تتقارب هذه الدروب فقد تصل انت الى منزلي في احد الازمان كعدو لي وقد تكون صديقي في زمن آخر،وان تقبلت مني ضعف لفظي فاننا سوف نقرأ بعض الصفحات.

قرأ البرت بوجهه العجوز الذي بدا كوجه خالد لا يمكن لشيء تغييره نسختان من الفصل الملحمي نفسه؛ ففي النسخة الاولى يعبر جيش جبالا موحشة ليخوض معركة، لكن الرعب الناجم عن الصخور والظلال يدفع المحاربين الى الاستخفاف بقيمة حياتهم؛ فيجنون بذلك نصرا سهلا، أما في النسخة الثانية، فيعبر الجيش منطقة يقام فيها إحتفال عظيم ؛ فيرى الجنود أن المعركة ليست إلا استمرارية لذلك الاحتفال فيجنون أيضا نصرا سهلا.

استمعت بفخر الى تلك الروايات القديمة التي لم يكن اعجابي بها لذاتها، بل لانها كتبت بيد رجل من اقربائي، وتم استرجاعها عن طريق رجل من امبراطورية بعيدة في خضم مغامرة يائسة على جزيرة بعيدة. اتذكر الكلمات التي تكررت في نهاية كل نسخة كوصية سرية” هكذا قاتل الابطال ، هادئةٌ هي قلوبهم الرائعه، وعنيفة هي سيوفهم، مذعنين لكي يَقتلوا ويموتوا”

شعرت من تلك اللحظة بحشد من حولي وفي داخل جسدي المظلم ، بل كحشد مليء بالاثارة التي يشعر بها المحاربون قبل بدء المعركة.

واصل ستيفن البرت قائلا:” لا أظن ان سلفك العبقري كان يتلاعب بعبثية بالمتناقضات، ولا اعتقد انه قد ضحى بثلاثة عشر عاما من اجل تجربة بلاغية ؛ ففي بلادك تعتبر الرواية نمطا ثانويا من الأدب ، ولكنها في كانت في الماضي شكلا دنيئا من الأدب، وبالرغم من ان تسو يو بن كان روائيا لامعا الا انه لم ينظر الى نفسه كمجرد روائي ؛ فقد اظهرت شهادات معاصرية مثلما اكدت حياته نفسها اهتمامه بالامور التجريدية والروحية؛ وبذلك احتلت المجادلات الفلسفية جزءا كبيرا من روايته، ولكن من بين كل القضاي االتي شغلته؛ فإن اي قضية لم تزعجه او تؤثر فيه بشدة كما فعلت قضية الوقت الازليه، ولكنها كانت في نفس الوقت القضية الوحيدة التي لم تذكر في الحديقة، حتى انه لم يستخدم اي كلمة ترمز الى الوقت ؛ فكيف تفسر مثل هذا الحذف المتعمد؟”
لم تكن ايا من الحلول التي اقترحتها مقبولا فبعد ان ناقشناها كلها قال ستيفن البرت:
” في احجية اجابتها الشطرنج، ما هي الكلمة التي يحظر استعمالها؟”
فكرت برهة واجبت:”كلمة الشطرنج.”
قال ستيفن البرت:”بالظبط، حديقة الدروب المتشعبة هي احجية ضخمة ، او حكاية رمزية فكرتها الرئيسية هي الوقت، ولربما كان حذف هذه الكلمة دائما واللجوء الى استخدام تعبيرات مجازية سخيفة والاطناب الواضح، هي الطريقة الامثل لتأكيد هذه الكلمة تفرعات الرواية التي لا تنتهي؛ فبعد ان قارنت مئات المخطوطات وصححت الأخطاء التي ارتكبها النساخ بإهمالهم ، استطعت ان اتكهن بهدف هذه الفوضى و اعتقد اني قد اعدت بناء التنظيم الأصلي للعمل الذي قمت بترجمته كاملا؛ فوجدت انه لم يستخدم كلمة “الوقت” ولو لمرة واحدة، والتفسير واضح فحديقة الدروب المتشعبة هي صورة غير مكتملة – ولكنها غير خاطئة – للكون كما تخيله تسو يو بن ؛ فخلافا لنيوتن وشوبنهاردلم يؤمن سلفك بزمن ثابت ومنتظم بل آمن بسلسلة من الأزمان المطلقة، في شبكة معقدة ونامية من الازمان التي قد يقترب فيها زمن من آخر او يتفرع منه او ينفصل عنه او حتى يمضي متجاهلا وجوده لقرون عديدة، هذه الشبكة تتضمن كل الاحتمالات الممكنه لأي زمن؛ فنحن لا نوجد في معظم هذه الازمان، وقد توجد انت دوني في بعضها، وقد اوجد انا في احدها واما انت فلا، وقد نوجد كلانا في بعضها، وقد لا يوجد ايا منا في احدها، وفي زمان ما قد تجد جثتي بينما تعبر الحديقة، وفي زمان آخر فإني اتلفظ بهذه الكلمات ولكني مجرد خطأ،مجرد شبح ،اما في زمننا الحالي فإن القدر الجميل قد منحني زيارتك لمنزلي ”
قلت بصوت مرتعش:” ساظل ممتنا ومبجلا لك في كل الازمان لإعادة خلق حديقة تسو يو بن.”
غمغم قائلا بإبتسامة:”ليس فيها جميعا؛ فالزمان يتفرع الى عدة ازمنة مستقبلية لا يمكن حصرها، وفي احدها ساكون عدوك”.

ومرة أخرى شعرت بالحشد الذي تكلمت عنه؛ فقد بدا لي بان الحديقة الرطبة التي تحيط بالمنزل ممتلئة على نحو لانهاية له باشخاص غير مرئيين، هؤلاء كانوا انا والبرت بهيئات مختلفة، منهمكين بشكل منفصل في ابعاد زمنية أخرى. رفعت عيني وانتهى كابوسي؛ ففي الحديقة المظلمة كان هناك رجل واحد يقترب على الدرب ببنيته القوية كانها تمثال، وكان هذا هو الكابتن ريتشارد مادين.
قلت لالبرت:”المستقبل موجود فعلا، ولكني صديقك. هل استطيع ان ارى الرسالة مرة اخرى؟”
نهض البرت وفتح درجا من طاولة طويلة، وللحظة ادار ظهره لي ؛ فهيأت المسدس واطلقت النار بحذر مفرط؛ فسقط مباشرة من دون حتى ان يتذمر، واكاد اقسم ان موته كان فوريا كلمعة برق.

كل ما تبقى امور زائفة وغير مهمة. اقتحم مادين المكان واعتقلني و حكمت بالإعدام شنقا. لقد ربحت على نحو بغيض ؛ فلقد تمكنت من اعلام برلين بالإسم السري للمدينة التي ينبغي مهاجمتها. وقد قصفوها بالأمس. قرأت ذلك في نفس الصحيفة التي قدمت لإنجلترا لغز عالم الحضارة الصينية الذي قتله غريب يدعى يو تسن. تمكن الزعيم من حل اللغز؛ فقد علم بان مهمتي كانت الاشارة في خضم ضوضاء الحرب الى ان المدينة المطلوبة تدعى البرت، واني لم اجد وسيلة اخرى سوى قتل رجل يحمل الاسم نفسه، ولكنه لا يعلم ،كما ان احد لا يعلم بمدى ندمي وضيقي اللذان لا يوصفان.”
 
أعلى