نقد ليرا بوروديتسكي - تأثير اللغة في تفكيرنا

“إن للغات التي نتحدث بها تأثيرا في رؤيتنا للعَالم”

أقف أمام طفلة في الخامسة من عمرها في بلدة تدعى پورمپوروو، تقع على الطرف الغربي من مدينة كيب يورك في شمال أستراليا، تقطنها جماعة من السكان الأصليين للبلاد. أسألها أن تشير إلى الشمال فتفعل ذلك بدقة ومن دون أي تردد. أتأكد من بوصلتي فأعرف أن جوابها صحيح. وعندما أعود إلى قاعة المحاضرات في جامعة ستانفورد، أكرر التجربة هذه المرة على حضور يضم كوكبة من كبار العلماء المتميزين ممن حصلوا على ميداليات في العلوم وجوائز تفوّق ونبوغ، اعتاد بعضهم ولأكثر من أربعين سنة ارتياد هذه القاعة لحضور ما يلقى فيها من محاضرات. أسألهم أن يغمضوا أعينهم (لأتأكد أنهم لايغشون) وأطلب إليهم أن يشيروا إلى جهة الشمال. يرفض العديد منهم ذلك، فهم لايعرفون تحديد الجهة. أما أولئك الذين يستجيبون لطلبي فهم يأخذون وقتهم في التفكير قبل أن يشيروا نحو كل اتجاه ممكن. لقد أَعدتُ هذه التجربة في جامعة هارفارد وبرنستون وكذلك في موسكو ولندن وبكين ولم أحصل سوى على النتائج نفسها.
تستطيع طفلة في الخامسة من عمرها تنتمي إلى مجتمع حضارة معينة أن تنجح وبكل سهولة فيما يعجز عنه كبار علماء مجتمعات حضارية أخرى. إن دل هذا على شيء فهو يدل على فارق كبير في القدرة المعرفية. كيف نعلل ذلك؟ قد نفاجأ بأن الإجابة لربما تكمن، كما يبدو، في مسألة تتعلق بأمر اللغة ذاتها.
تعود الفكرة القائلة إن اللغات المختلفة قد تمنح متحدثيها مهارات معرفية مختلفة إلى مئات السنين. وقد ارتبطت هذه الفكرة منذ ثلاثينات القرن الماضي بعالمين لغويين أمريكيين هما <.E سپير> و<.L .B وورف> اللذين قاما بدراسة الكيفية التي تتباين فيها اللغات، مشيرين إلى فرضية مفادها أن اختلاف الألسن قد يفضي إلى اختلاف في طرق التفكير. ومع أن أفكارهما لقيت حماسا كبيرا في بداية الأمر، فقد ظلت هناك مشكلة صغيرة واحدة: غياب شبه كلي لما يدعم هذه الادعاءات من دلائل. وما إن حلت السبعينات إلا وقد فقد الكثير من العلماء اهتمامهم بفرضية <سپير> – <وورف>، وسرعان ما تخلوا عنها بمجرد ظهور مجموعة جديدة من النظريات فرضت نفسها على المشهد اللغوي تدعم فكرة «عالمية» اللغة والفكر. لكن وبعد عقود عدة برزت أخيرا دلائل ملموسة تعتمد على التجربة، تفيد بأن اللغة تتحكم في طرق التفكير. والدلائل الجديدة هذه تقوض نظرية «العالمية»(1) التي صمدت ولسنين طويلة، بل تقدم رؤى جديدة باهرة تشرح أصول المعرفة وكيفية تَشَكُّل الواقع. ولهذه النتائج وشائج مهمة في مجالات القانون والسياسة والتربية والتعليم.

التأثير في التفكير(**)
يتواصل البشر مع بعضهم بعضاً في جميع أرجاء الأرض مستخدمين حزمة مذهلة من اللغات تناهز السبعة آلاف لغة أو ما يقارب ذلك. ولكل لغة متطلبات مختلفة يتوقع أن يحيط بها مستخدموها. فأنا، على سبيل المثال، إن شئت أن أخبرك بأنني رأيت العم <ڤاني> في الشارع رقم 42 واستخدمت لغة الميان Mian للتعبير عن ذلك، وهي لغة مستخدمة في بابوا غيني الجديدة Papua New Guinea، فالفعل الذي أستخدمه يشير إلى زمن وقوع الحدث فيما إذا جرى الآن أم البارحة، أم في الماضي البعيد. أما الفعل في اللغة الأندونيسية فهو لايفصح عن زمن وقوعه أو يبين إن كان قد حدث مسبقاً أو هو آخذ في الحدوث. ومن جانب آخر، يشير الفعل في الروسية عما إذا كنت ذكراً أم أنثى. وفي اللغة (الصينية) المندرينية، يتعين عليَّ أن أحدد فيما إذا كان لقب «أونكل» يقربني من جهة الأم أو من جهة الأب، وفيما إذا كانت هذه القربى صلة دم أو زواج. فهناك اختلاف في الكلمات المستخدمة للإشارة إلى الأعمام والأخوال حسب فئاتهم المختلفة (فقد تعود الإشارة إلى أخ الأم أي الخال كما تبين الترجمة الصينية بوضوح). أما لغة البِراها Piraha المحكية في الأمازون، فليس بمقدوري إن استخدمتها أن أشير إلى رقم الشارع 42، وذلك لغياب مفردات تشير إلى الأرقام ووجود مفردات تشير فقط إلى «بعض» و «كثير».
عديدة هي الفروقات بين اللغات بحيث يتعذر حصر أوجه اختلافها. غير أن هذا لايعني بالضرورة أن البشر يفكرون بطرق متباينة لمجرد تحدثهم بطرق مختلفة. إذ كيف يتسنى لنا أن نعرف إن كان متحدثو الميانية أو الروسية أو الأندونيسية أو المندرينية أو البراهية يتعاملون مع العالم، متذكرين أو متفكرين فيه، بطرق تختلف عنا بسبب اللغات التي يتحدثون بها؟ لقد كشفت الأبحاث التي أجريتها في مختبري وفي أماكن عدة كيف تؤثر اللغة في التجربة البشرية وحتى في أهم أبعادها: المكان والزمن والسببية والعلاقة بالآخرين.
لنعد إلى پورمپوروو. إن لغة كوك ثايور Kuuk Thaayorre، التي يُتحدث بها أهل البلاد، لا تستخدم، على عكس اللغة الإنكليزية، مصطلحات تشير إلى المكان كالأيسر والأيمن، بل تستخدم مفردات الجهات المطلقة (شمال، جنوب، شرق، غرب). ونحن بالطبع نستخدم بالإنكليزية مثل هذه المفردات «الاتجاهية» غير أننا نخص بها المقاييس المساحية الكبيرة. فلا نقول، على سبيل المثال، إنهم «وضعوا شوكة السلطة جنوب شرق شوكة الطبق الرئيسي» – إن لغة كوك ثايور تستخدم مفردات الاتجاه هذه على نطاق واسع ومن دون تمييز. وهنا قد تجد من قد يخبرك بأن «الفنجان هنا موضوع جنوب شرق الصحن،» أو أن «الصبي الذي يقف جنوبا من <ماري> هو أخوها.» وفي پورمپوروو يترتب على المرء أن يعرف موقعه جيداً كي يتمكن من الحديث بشكل صحيح.
إضافة إلى ذلك، فقد كشفت أبحاث رائدة أجراها كل من <.C .S ليڤستون> [من معهد ماكس پلانك للغويات النفسية(2) في مدينة Nijmegen بهولندا] و<.J .B هاڤيلاند> [من جامعة كاليفورنيا في سانتياگو] في العقدين الماضيين أن الأشخاص الذين يستخدمون لغات تعتمد على الاتجاهات المطلقة يتميزون بشكل استثنائي في تحديد مواقعهم في مناطق غير معروفة لديهم وداخل أبنية جديدة عليهم. بل يقومون بذلك بشكل يفوق أولئك الذين يقطنون في تلك البيئة ولا يتحدثون مثل هذه اللغات، بل بما يفوق في الواقع توقعات العلماء حول قدرات الإنسان. فمتطلبات لغاتهم هي ما يشحذ ويدرب هذه القدرة المعرفية.
وكما يبدو، فالأشخاص الذين يفكرون بالمكان بشكل مختلف يفعلون الشيء نفسه بالنسبة إلى الزمن. ودلالة ذلك ماقمتُ به مع زميلتي <.A گابي> [من جامعة كاليفورنيا ببيركلي] من إعطاء متحدثي لغة كوك ثايور مجموعة من الصور ترصد تطوراً زمنياً – فمن رجل يهرم، إلى تمساح ينمو، إلى موزة تؤكل، وطلبنا إليهم وضع الصور على الأرض بترتيب زمني صحيح. وقد قمنا باختبار كل فرد مرتين بحيث جعلناه يقابل اتجاهاً مختلفاً في كل مرة. فقام متحدثو اللغة الإنكليزية ممن طلب إليهم تنفيذ هذه المهمة، بترتيب البطاقات من اليسار إلى اليمين. أما متحدثو اللغة العبرية فقد نضدوها من اليمين إلى اليسار. وهذا يعني أن الاتجاه المستخدم في الكتابة في لغة ما يؤثر في ترتيبنا للزمن. ومع ذلك، فإن متحدثي لغة كوك ثايور لم يرتبوا البطاقات لا من اليسار إلى اليمين ولا بالعكس، من اليمين إلى اليسار بل نضدوها من الشرق إلى الغرب. أي إنهم لدى جلوسهم ناحية الجنوب رتبوا البطاقات من اليسار إلى اليمين. أما لدى مواجهتهم الشمال، فقد رتبوها من اليمين إلى اليسار؛ ولدى مواجهة الشرق، اتجهت البطاقات نحو أجسادهم، وهكذا؛ مع أننا لم نخبر أياً منهم عن الوجهة التي كان يقابلها – فمتحدثو لغة كوك ثايور كانوا يدركون ذلك بأنفسهم ويستخدمون مواقعهم لتحديد تمثيلهم للزمن.
كذلك فتمثيل الزمن كثيرا ما يختلف من مكان إلى آخر على الكرة الأرضية. فمتحدثو الإنكليزية مثلا يعتبرون أن المستقبل «أمامهم»، والماضي «وراءهم». وفي عام 2010 لاحظ <.L مايلز> وزملاؤه [من جامعة أبيردين في اسكتلندا] أن متحدثي الإنكليزية يميلون بأجسادهم، وبشكل عفوي، نحو الأمام لدى الإشارة إلى المستقبل، وإلى الخلف لدى الإشارة إلى الماضي. ويختلف الأمر في لغة الأيمارا Aymara، وهي اللغة المستخدمة في منطقة جبال الأنديز، حيث يشار إلى الماضي على أنه في «الأمام»، والمستقبل في «الخلف.» كذلك تتناغم لغة جسد متحدثي الأيمارا مع طريقة تحدثهم: ففي عام 2006، لاحظ <.R نونيز> [من جامعة كاليفورنيا في سانتياگو] و<.E سويتسر> [من جامعة كاليفورنيا في بيركلي] أن متحدثي الأيمارا يشيرون إلى الأمام عندما يتحدثون عن الماضي وإلى الخلف لدى الحديث عن المستقبل.

تذكَّر من هو الفاعل(***)
يتباين متحدثو اللغات المختلفة أيضا في وصفهم للأحداث، ومن ثم في دقة تذكرهم لمن قام بها. إن الأحداث، حتى تلك التي لا يستغرق حدوثها أكثر من رمشة عين، هي أمور معقدة وتتطلب منا تفسيراً وتعليلاً. خذ على سبيل المثال الحادث الذي تعرض له نائب الرئيس الأمريكي السابق <ديك تشيني> أثناء رحلة صيد طيور السُّمان، والتي أصاب بها <.H ويتنگتون> خطأ. فيمكننا لدى رواية الحدث أن نقول إن «<تشيني> أطلق النار على <ويتنگتون>» (أي إن <تشيني> هو المتسبب المباشر في الحادث)، أو أن <ويتنگتون> أصيب بطلق ناري من <تشيني>» (مبعدين بذلك الحدث عن <تشيني>)، أو أن «<ويتنگتون> أُمطر بالرصاص» (مقصين <تشيني> نهائياً عن الحدث). لقد تحدث <تشيني> بنفسه عن الأمر قائلاً: «في نهاية الأمر، إنني الشخص الذي ضغط على الزناد وتسبب في الطلقة التي أصابت <ويتنگتون>» (مقحماً سلسلة طويلة من الأحداث بينه وبين نتيجة الحدث). أما تعليق الرئيس <بوش> فقد كان أكثر براعة في تبريره للحادث عندما وصف <تشيني> بأنه «سمع طائراً يطير جفلاً، فاستدار وضغط على الزناد ليشاهد صديقه وقد جرح»، محولاً <تشيني> بهذا القول من مسؤول رئيسي عن الحادث إلى شاهد عليه، كل ذلك في أقل من جملة واحدة.
نادراً ما تترك هذه المناورات اللغوية أثراً عظيماً في الجمهور الأمريكي؛ ذلك أن لغة التملص تبدو مراوغة بالإنكليزية، فهي حكر على مملكة المتملصين من الذنوب والأخطاء من أطفال وساسة. ذلك أن متحدثي الإنكليزية يميلون إلى صياغة جملهم بما يشير إلى القيام بالفعل مفضلين الأفعال المتعدية حتى في حالات الحوادث الطارئة كما في: «كسر جون المزهرية.» وعلى عكس ذلك، يندر أن يشير اليابانيون والإسبان إلى مسبب الحادث. فقد يقول أحدهم بالإسبانية “Se rompio el florero”: «انكسرت المزهرية» أو «كَسرت المزهرية نفسها.»
لقد اكتشفتُ مع إحدى طالباتي <.C .M فوسي> أن مثل هذه الاختلافات اللغوية تؤثر في تفسير الأشخاص للحدث وما يترتب على ذلك من نتائج أثناء الإدلاء بشهادة وتَذكُّر ما جرى. لقد قمنا بدراسات، نشرت عام 2010، شاهدَ فيها أشخاص يتحدثون الإنكليزية والإسبانية واليابانية أفلام فيديو يقوم فيها شخصان بتفجير بالونات وكسر بيض ودلق مشروبات، إما عمداً أو خطأً. وبعد ذلك أعطينا المشاهدين اختبار ذاكرة مفاجئاً طلبنا فيه إلى كل واحد أن يتعرف (كما في تعرف المجرمين في مخافر الشرطة) كل حدث وتحديد من قام به. وبعد ذلك قامت مجموعة أخرى من متحدثي الإنكليزية والإسبانية واليابانية بوصف الأفعال نفسها. وعندما تفحصنا البيانات المعتمدة على الذاكرة وجدنا الاختلافات ذاتها التي جرى التنبؤ بها على ضوء الأنماط اللغوية. فقد قام متحدثو اللغات الثلاث بوصف الأفعال المتعمدة بعزوها إلى من قام بالفعل كما في: «هو فجّر البالون» وبالتساوي كان من السهل لهم جميعاً أن يتذكروا الفاعل. أما عندما كان الأمر يتعلق بالحوادث العرضية غير المتعمدة، فقد ظهرت فروقات ذات دلالة. حيث نحا الإسبان واليابانيون بدرجة أكبر من نظرائهم الإنكليز، إلى عدم عزو الفعل إلى فاعله. كذلك، فقد كان تذكرهم للفاعل أقل دقة. ولم يكن هذا بسبب ذاكرة أضعف يمتلكونها – فهم تذكروا جيداً أصحاب الحوادث المتعمدة (التي تسمح لهم لغاتهم بالإشارة إلى مرتكبيها) تماماً كما فعل المشاهدون الإنكليز.
لا تؤثر اللغات فيما نتذكره فحسب ولكن التركيبات اللغوية يمكن أن تجعل تعلم أشياء جديدة أسهل أو أصعب. فعلى سبيل الممثال، هناك كلمات دالة على أرقام في بعض اللغات تظهر فيها البنى العشرية (التي تعتمد على أساس رقم 10) أكثر جلاء مما هي عليه في اللغة الإنكليزية (فليست هناك أرقام صعبة في لغة المندرين مثل 11 و13 الإنكليزية، التي لا يظهر في تركيبتها اللغوية الرقم عشرة). لذلك، فإن الأطفال الذين يتعلمون هذه اللغات يستطيعون تعلم الكلمات الدالة على الأرقام العشرة الأولى في وقت أقصر. وكذلك فبالاعتماد على عدد المقاطع في الكلمات الدالة على الأرقام يمكن أن يسهل أو يصعب تذكر رقم هاتف أو القيام بحسابات ذهنية. بل يمكن للغة أن تؤثر في سرعة معرفة الأطفال فيما إذا كانوا ذكوراً أو إناثاً. ففي عام 1983 قام <.A گيور> [من جامعة ميتشگان] بمقارنة ثلاث مجموعات من الأطفال ممن كانت اللغة العبرية أو الإنكليزية أو الفنلندية لغتهم الأم. فاللغة العبرية تشير بوضوح كبير إلى الفروقات بين الجنسين (فحتى كلمة «أنت» بالعبرية تشير إلى جنس المشار إليه ذكراً أم أنثى). أما الفنلندية فتغيب عنها الإشارة إلى التمييز حسب الجنس، وتحتل الإنكليزية موقعاً وسطاً. لهذا يستطيع الأطفال المتحدثون بالعبرية أن يتعرفوا أجناسهم قبل سنة من أقرانهم من متحدثي الفنلندية ، ويبقى الأطفال الإنكليز في موقع الوسط بين هاتين اللغتين.

أيهما السبب وأيهما النتيجة؟(****)
ليست هذه سوى بعض النتائج الأخّاذة التي تتمخض عنها التباينات عبر اللغوية في مجال المعرفة. ولكن أنّى لنا أن نستقرئ فيما إذا كان التباين في اللغة يولّد بدوره تبايناً في الفكر، أو العكس من ذلك؟ ويتضح أن الإجابة تشير إلى الإمكانيتين معاً. فطريقة تفكيرنا تؤثر في طريقة كلامنا والعكس صحيح أيضا. لقد شهد العقد الماضي العديد من البراهين الخارقة ما يؤكد على أن اللغة تؤدي فعلاً دوراً سببياً في صياغة المعرفة. فقد أشارت الدراسات إلى أن تغيير الطريقة التي يتحدث بها الناس تغير أيضاً أسلوب تفكيرهم. فتعليم الأفراد كلمات جديدة تتعلق بالألوان، على سبيل المثال، يغير من قدرتهم على التمييز بينها. وكذلك تعليم الأشخاص طريقة جديدة للتحدث عن الوقت يزودهم بطريقة جديدة للتفكير فيه.
ولمزيد من التمحيص في هذا التساؤل يمكن دراسة أفراد ممن يجيدون لغتيْن. فقد بينت الدراسات على أن ثنائيي اللغة يغيرون نظرتهم للعالم تبعاً للغة التي يتحدثونها. وأظهرت مجموعتان من نتائج نشرت عام 2010 أن أمــــوراً بســـــيطــة مبـــدئيــــة يمكــــن أن يُســـألهــــا الـــواحـــد منـــا عمن يحب أو لا يحب تعتمد إجاباتها على اللغة التي نُسأل بها. هـــذا مـــا أتــت بــه دراستان إحـــداهمــا قـــام بها <.O أوگونيك> وزملاؤه [في جامعة هارڤارد] والأخرى دراسة أجراها <.Sh دانزيگر> وزملاؤه [في جامعة بن گوريون] حيث درسوا حالة ثنائيي اللغة في المغرب ممن يتكلمون العربية والفرنسية، وثنائيي اللغة في الولايات المتحدة ممن يتحدثون الإسبانية والإنكليزية، وثنائيي اللغة في إسرائيل ممن يتحدثون العبرية والعربية، مركزين على ما يصاحب ذلك من مشاعر تحيز كامن لدى كل منهم تجاه لغة دون أخرى. فقد طُلب على سبيل المثال إلى متحدثي العربية والعبرية أن يبادروا وبسرعة إلى ضغط أزرار معينة استجابة لبعض الكلمات وتحت ظروف مختلفة. كأن يضغطوا على زرِّ حرف M لدى رؤيتهم اسماً يهودياً مثل (يائير) Yair، أو صفة محببة مثل «جيد» أو «قوي». وأن يضغطوا على حرف X إن رأوا اسماً عربياً مثل «أحمد» أو صفة ممجوجة مثل «خسيس» أو «ضعيف». وفي حالة أخرى، عُكس الأمر بحيث تشاركت الأسماء اليهودية والصفات المذمومة بزر إجابة واحدة، والأسماء العربية والصفات الحميدة بزر إجابة واحدة أيضا. ثم قام الباحثون بقياس السرعة التي تمكن بها المشاركون من الإجابة في كلتا الحالتين. وقد بدأ هذا الأسلوب بالانتشار على نطاق واسع لقياس التحامل اللاإرادي والتلقائي – أي الكيفية التي يربط بها الناس وبكثير من العفوية بين مجموعات إثنية معينة والخصال الحميدة.
ومن المستغرب أن الباحثين اكتشفوا فروقاً جلية في التحيز اللاإرادي والتلقائي بين ثنائيي اللغة على ضوء اللغة التي يتم اختبارهم بها. فمتحدثو العربية والعبرية أبدوا من جانبهم مواقف مضمرة أكثر إيجابية تجاه اليهود عندما سُئلوا بالعبرية، عنها بالعربية.
ويبدو كذلك أن اللغة ترتبط بالعديد من جوانب حياتنا الذهنية بما يفوق ما افترضه العلماء فيما مضى. فالناس يعتمدون على اللغة حتى أثناء قيامهم بأمور بسيطة، كتمييز بقع اللون، أو عدّ النقاط على شاشة ما، أو تحديد الاتجاهات في غرفة صغيرة: لقد وجدت وزملاء لي أن تقييد حرية الناس في استخدام قدراتهم اللغوية بسلاسة – كأن يعطوا مهمة لغوية صعبة تتطلب جهدا وتنافسية ليستعيدوا تقريراً إخبارياً على سبيل المثال – يُضعف قدراتهم على القيام بهذه المهام. وهذا يعني أن التصنيفات والفروقات الموجودة في لغة معينة تتدخل في حياتنا الذهنية بشكل واسع. فما أسماه البحّاثة لزمن طويل «تفكيراً» ليس إلا مجموعة من العمليات اللغوية وغير اللغوية في آن واحد. ونتيجة لذلك يمكن القول إنه لايمكن وجود تفكير لإنسان بالغ لا تؤدي اللغة دورا فيه.
إن السمة المميزة للذكاء البشري هي قدرته على التكيف، وقدرته على الاختراع وعلى إعادة ترتيب تصوراته للعالم بما يتناسب والأهداف وكذا البيئات المتغيرة. وما التباين الكبير في اللغات التي انتشرت في أرجاء هذا الكون إلا نتيجة لهذه المرونة. حيث توفر كل لغة أدواتها المعرفية الخاصة بها محتضنة كل ما طورته حضارتها عبر آلاف السنين من معرفة ورؤية للعالم. حيث تمتلك كل واحدة منها أسلوب إدراك وتصنيفاً وتفسيراً لهذه الرؤية، بل دليلاً قيماً طوره وصقله أجدادنا. والأبحاث التي تجرى حول تأثير اللغات التي نتحدث بها في أسلوب تفكيرنا تساعد العلماء على كشف كيف تتولد المعرفة لدينا وكيف يتشكل الواقع وكيف أصبحنا أذكياء ومتحذلقين. هذه هي البصيرة التي تساعدنا بدورها على فهم جوهر ما يجعلنا بشراً.



المؤلفة:
Lera Boroditsky بوروديتسكي، أستاذة مساعدة في مجال علم النفس المعرفي بجامعة ستانفورد ورئيسة تحرير Frontiers in Cultural Psychology يقوم مختبرها بإجراء أبحاث في جميع أرجاء العالم، وتهتم أبحاثها بشكل خاص بمواضيع التمثيل الذهني وتأثير اللغة في المعرفة.



———————————-
مراجع للاستزادة

Language Changes Implicit Associations between Ethnic Groups and Evaluation in Bilinguals. Shai Danziger and Robert Ward in Psychological Science, Vol. 21, No. 6, pages 799–800; June 2010.

Constructing Agency: The Role of Language. Caitlin M. Fausey et al. in Frontiers in Cultural Psychology, Vol. 1, Article 162. Published online October 15, 2010.

Remembrances of Times East: Absolute Spatial Representations of Time in an Australian Aboriginal Community. Lera Boroditsky and Alice Gaby in Psychological Science, Vol. 21, No. 11, pages 1635–1639; November 2010

HOW LANGUAGE SHAPES THOUGHT (*)

UNDER THE INFLUENCE (**)

REMEMBERING WHODUNIT (***)

Max Plank Institute for Psycholinguistics (****)
?WHAT SHAPES WHAT(*****)
universality (1)
Max Plank Institute for Psycholinguistics (2)




* حكمة | من أجل اجتهاد ثقافي وفلسفي
 
أعلى