أحمد جوهري - بين الفقيه اليوسي ومارسيل بروست.. بحث عن اللحظات الهاربة

ذات يوم مر الأديب العالم اليوسي (أبو علي الحسن بن مسعود ( 1040ه- 1120) على بيت أخته وهو عائد من سفره بعد رحلة شاقة على ظهر دابته إلى أحد ربوع المغرب الأقصى، فبكت أخته عندما سلمت عليه. ولما سألها متعجبا عن سبب بكائها بينما يقتضي الوضع أن تفرح لرؤيته، أجابته قائلة تذكرت يوم فراقك (تقصد فراقه في الغد). فاستغرب اليوسي لذلك، وقال قصيدته الرائعة:
ومحزونة بالبين طال بها الجوى = علينا وشوق في الجوانح لداغ
تبيت وجفناها يباريهما الحيا = وما تحت جنبيها من الفراش لداغ
إلى أن تسخى الدهر بالوصل = بيننا ولاح ضياء بالمسرة بزاغ
فلما انقضى التسليم ما بيننا = بكت وفاض لها دمع من العين نساغ
فقلت ألم يان السرور ولم يدر = شراب للُقيان الأحبة سواغ
فقالت تذكرت الفراق غدا فذا = لقلبي عن تلك المسرات صداغ
فيا لك من حزن يباري مسرة = بسهمين كل في المفاصل بلاغ
ويا لك من نعمى ببؤسي مشوبة = كما شاب محضا بالدم الدر نساغ

تثير هذه الأبيات مسألة وعي الأنا المغربي العميق بالزمن التي تجلت بوضوح في شعر اليوسي. فقد شاءت الأقدار أن يعايش هذا الأديب المتميز فترة مفصلية في تاريخ المغرب هي فترة انتقال السلطة من السعديين( والوطاسيين) إلى العلويين في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، كما شاءت قسوة الظروف التي عاشها بعد تشتيت الزاوية الدلائية وعلمائها، وما عاناه من سلوك حساد وخصوم له بفاس، شاءت كل هذه المعطيات أن يتكون لدى اليوسي إحساس نافذ بالزمن، فجل أشعاره، وخاصة مرثياته، تحاول أن تنقل لنا شيئا أساسيا هو:
عجز الإنسان المروع عن القبض على اللحظات الزمنية الهاربة منه!

في كل برهة يفلت منا شيء عزيز من أيدينا وأمام أعيننا، ولا نستطيع فعل أي شيء لمسكه! هذا ما يعكسه بكاء تلك البدوية الساذجة، أخت اليوسي. إنه بكاء بسيط ومعبر عن ذلك الشعور المأسوي الفطري بضعف الإنسان أمام انفلات برهات الزمن، وهو الشعور الذي صار خاصية ملازمة للروح الأدبي المغربي بعد هزيمة 609 ه وتكالب النكبات كما بينا سالفا. وقد التقط اليوسي كل ذلك بإحساس مرهف عميق، تماما كما التقطه فيما بعد الروائي الفرنسي مارسيل بروست في روايته الشهيرة " بحثا عن الزمن الضائع "، لكن في ظروف مغايرة وبتشكيل أدبي مختلف...

اليوسي واستيقاظ الأنا الرومنسي المغربي

(2)
إن البحث عن الزمن الضائع يأخذ صبغة حنينية قوية ومتصاعدة إلى حد الفاجعة في مرثية فريدة لليوسي بكى فيها على اندثار إحدى أهم الزوايا العلمية التي عرفها تاريخ المغرب: الزاوية الدلائية. ومرة أخرى يشهد البوح الشعري في منتصف القرن الحادي عشر على الغور العميق المحفور بين الروح المغربي والمكان، لقد انتهى ذلك الالتحام المنسجم بين الذات والمكان إلى حد الاندغام في فترة المد الفروسي المرابطي والموحدي، وحل محله شرخ كبير جدا، لدرجة أصبح معها الروح المغربي يشعر بالغربة والعزلة القاسية، ولذلك سيستمر انتصار البكاء وعلو العويل، وبينهما حشرجة ونحيب متلاحق، لننصت إلى بكاء اليوسي:
أكلف جفن العين أن ينثر الدرا = فيأبى ويعتاض العقيق بها جمرا
واسأله أن يكتم الوجد ساعة = فيفشي وإن اللوم آونة أغرى
وقد كنت أستصحيه حتى توقدت = جذا الوجد فاستسقيته يطفئ الجمرا

ويجهد الأنا الباكي في الانطواء الداخلي على نفسه مستلذا نقاء سريرته الصافية التي لا يتشكل جوهرها سوى من الذكرى، لكنها ذكرى دافئة بعالمها الحنيني البهيج الممتلئ بالأحبة والسرور:
ألا قل لأرواح الصبا لا تغادرنا = فإنا بأرواح الجنوب لنا ذكرى...
هنالك إخوان الفؤاد وفتية = هم للحشا خمر فما يطلب الخمرا...
فمنا إليهم صبوة ابن ملوح = ومنهم شجا الخنساء إذ فارقت صخرا
(...)
وبعد أن يستنفذ الأنا الباكي طاقته الاستعارية والمجازية في تشكيل لوحة " الغدر الزمني" ينزلق في دهاليز العقل الباطن بحثا عن توازن لجموحه الغنائي؛ وهكذا ما بين شهقة الروح المتفجعة وبصيص الخطرة العقلية يتبرعم النظم الشعري حكما متلألئة متعددة، لكنها كلها تمتح من معين واحد هو مبدأ الإخلاص القديم!
فلا تهتبل بالحادثات ولا تثق = فما وهبت يوما فموهبها معرى...
ولا تركنن للدهر إن نعيمه = ظلال سحاب يمسح السهل والوعرا...
فإن بني الدنيا عبيد هواهم = على مركز الأهوال دورتهم طرا
وفي الله للمرء اللبيب كفاية = عن الناس والمحروم من حرم الأجرا
فإن الفتى بالنفس لا اللبس مجده = محامد في الدنيا وعلياء في الأخرى
وإن تعوز النعمى فجد ببشاشة = فخير القرى أن تبذل الرحب والبشرا
وعاص الهوى عن الهوان مع الهوى = وفي الصبر عز فاستسغه ولو صِبرا
فمن للهوى ألقى القياد فقد هوى = ولو انه في المجد قد وطئ النسرا
ومن يصحب الأمجاد تَنْظف ثيابه = ومن يصحب الأرذال يكسى بها العرا

هكذا تتشبث أبيات اليوسي في لحظة تاريخية خاصة ونادرة، لحظة دمار الزاوية الدلائية، بتلك الحكمة الأولية المتعالية المختبئة منذ قرون في السريرة الباطنية للروح المغربي، وذلك لتحقيق توازن هذا الأخير، ومحاولة تصالحه مع العالم الخارجي المنحط والمسحور بشياطين شريرة. وليس هناك من سبيل يقود لهذا التصالح وإلى هذا التطهير سوى ماء الحكمة الصافي.
إن قيمة شعر اليوسي ومعه شعر الدلائيين عامة تكمن في نظرنا في تعبيره عن يقظة أنا مغربي رومنسي بعد قرون طويلة من الموت السريري، نقول أنا رومنسي ونحن نعني ذلك الأنا المعتكف في سريرته الداخلية باحثا عن الازهرار المتعالي للروح، وذلك انتقاما من بؤس عالم خارجي يرفض التناغم مع الداخل، كما نعني ذلك الأنا الداخلي الواعي بما يجب أن يكون وبأنه الأحق والأجدر بتحقيقه، لأنه يملك بداخله أولية أخلاقية ناضجة وغنية المحتوى. ولذلك يبدو هذا الأنا واثقا من نفسه على الرغم من الأهوال التي يجابهها والتي ستطيح بالزاوية الدلائية بقسوة بالغة وبصفة نهائية. هذه الثقة تظهر بوضوح في الطابع التربوي والتعليمي والحكمي الذي ينغمس فيه الروح الرومنسي الدلائي، إذ من خلال النصح والإرشاد يبدو قادرا على التكيف مع الخارج ومجارات تقلباته، وهذا ما تبينه فعلا تجربة اليوسي بمدينة فاس.

بيد أن توالي الضربات الزمنية العنيفة أكثر مما مضى ستحول مشاعر الروح المغربي، فيما بعد، إلى خشب يابس لفترة طويلة، دخل خلالها في فراغ وجودي وموت سريري، حتى إذا نطق لم يتفوه سوى بأشكال ماضية خالية من الحياة...



* عن كتاب "في الأدب المغربي" أحمد جوهري، الجسور، وجدة، 2009
 
أعلى