أحمد السعيدي - الفقيه والصورة قراءة في القول المُحَرَّر في اتّخاذ الصُوَر

توطئة:
من البدهي الحديث عن ثقافة الصورة لدى المشتغلين بالفن ونقاده ومؤرخيه والإعلاميين والمهتمين بمجمل الخطاب البصري القديم والحديث.. لكن قد يستغرب الاهتبال بالصورة من لدن نخبة علمية تُقرن بالمجال الديني أكثر من أي مجال آخر. تلكم هي نخبة العلماء أو الفقهاء الذين حاولوا التعرض للصورة من حيث تاريخيتها في الأعصر الإسلامية الأولى وموقف الدين منها وكذا من حيث كونها حادثة بأشكال مختلفة في الزمان المعاصر. وفي هذا السياق، وقفت على مؤلف بعنوان "القول المحرر، في اتخاذ الصور" للعالم المغربي محمد بن عبد الكبير الكتاني (ت. 1909م) الذي يُعد من أكابر علماء المغرب خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وألّف أزيد من ثلاثمائة كتاب في مجالات المعرفة المتداولة آنذاك بما فيها علوم الدين والتصوف واللغة والعلوم العقلية التجريبية.. ما أرمي إليه خلال هذا العرض تبيان تلقي الحداثة عند جملة من علماء الدين وخاصة الفقهاء وتحديدا تلقي الصورة؛ أي تحليل ظاهرة حدوث التقنيات الغربية الحديثة في المجتمع الإسلامي وخاصة المجتمع المغربي كالتلغراف والتلفون وطاموبيل ومانيطوفون وفونوغراف.. وغيرها مما اهتم به بالمناقشة والإفتاء بالحلية أو الكراهة أو التحريم. لقد ظُلم التيار الفقهي السني حيث نُظر إليه في مقاربته لهذه الظواهر بعيون زماننا وتم اتهامه بمعارضة الرفاهية، لكننا سنحاول النظر إليه من وجهة تاريخ العقليات؛ فمن خلاله يمكن كتابة تاريخ مجرد لظاهرة ما، ومنها الصورة وثقافتها.
الفقيه المغربي والحداثة:
أثمر حدوث جملة من التقنيات الغربية في المجتمع العربي الإسلامي وخاصة المجتمع المغربي ردودا متفاوتة خصوصا في بدايات القرن العشرين؛ فشاع نقاش عام بين النخبة العالمة لتبيين الموقف الديني من استعمالها، إذ كانت علة النظر إلى الحداثة دينية عموما وفقهية خصوصا ونوازلية (نسبة إلى "فقه النوازل") على الأخص. ويمكن استثمار هذه النصوص الفقهية المهتبِلة بالتقنيات الحديثة في كتابة تاريخ مجرّد لكل ظاهرة على حدة، إذ كيف يمكن كتابة تاريخ "الهاتف" أو "السيارة" أو "التلغراف" أو "الفوتوغراف".. في المغرب مثلا من دون هذا الاستثمار..؟ وقد صارت هذه الظواهر محط اهتمام البحث التاريخي (بما فيه تاريخ العقليات) والنوازلي والاقتصادي والأنثربولوجي.. مثل التلغراف والتلفون وطاموبيل وفونوغراف (ماكينة الكلام) والراديو والمكَانات (الساعة المحمولة) المحلاة بالذهب.. وبعض المواد التجارية كالشاي والسكر والجبن والدجاج الروميين والأدوية والزيت والتبغ والكاغد الرومي وصابون الشرق والملف والحرير وقلنسوة النصارى (البرنيطة) وصندوق النار وشمع البوجي.. وغيرها مما استجد في السياق الثقافي بالمغرب "بعد أن تبلور الوجود الأجنبي بارزا على مستوى الهجومات العسكرية، ثم على مستوى ما يروّجه الأجانب من البضائع.. وما يرتبط بها من معاملات جديدة خالطت واقع الناس وممارساتهم اليومية، فأصبح من الضروري الفصل في هذه المستجدات بين ما هو موافق للشريعة وما هو مخالف لها مما ينتظر موقف الفقهاء وفتاويهم."
ومما يجب التذكير به أن هذه الحداثة الحادثة بالمغرب كانت في هذه الفترة قريبة من الفقيه إلى حد كبير وبشكل موسّع لذا استطاع بالمعاينة وإعمال النظر والفكر إصدار فتاويه حيالها، وإلا فإن احتكاك النخبة بالحداثة تَحقق عير الرِّحْلات السِّفارية والحجازية والبعثات العلمية إلى أوربا (ق 19- ق 20م) خاصة إلى فرنسا وإسبانيا وإنكلترا.. يقول دو فوكو متحدثا عن الحجاج المغاربة من منظوره:"إذ يحملهم سفرهم الطويل على الاتصال بالغربيين فيلمسون أنهم ليسوا بالوحوش المخيفة التي وصفت لهم، ويتفاجأون ويعترفون بالجميل عندما لا يجدون لدينا أي عداء نحوهم، ثم تجعلهم سفننا البخارية وسككنا الحديدية يعجبون بنا عند رجوعهم من الحج." وقد أُوكل لسفراء السلاطين المغاربة كتابة تقارير موسَّعة على شكل كتابات رِحْلية يكون مبتغاها استعلاميا واستكشافيا أساسا.. ومما وصفوه وسموه بمسمياتهم الخاصة: الاصطنبا (المطبعةEstampe ) والسبكتاكل (المسرحSpectacle ) ودار الوحوش (حديقة الحيوان) وبابور البَرّ (القطار) وبابور البحر (الباخرة) والوبرة (l’opéra) والبنكة (المصرف La banque)..
ومما نمثل به لمنجز الفقيه المغربي تجاه الحداثة هذه المؤلفات:
- الإعلام، بما يتعلق بالمكَانات المحلاة من الأحكام، لمحمد بن جعفر الكتاني.
- الإنصاف، في مسألة العمل بالتلغراف، لمحمد بوجندار.
- تغيير المنكر، فيمن زعم حرمة السُّكّر، لسليمان بن عبد الله الحوات.
- حكم تجارة صابون الشرق وشمع البوجي وصندوق النار، المجلوب ذلك من بلاد الأعادي الكفار، وحكم ما خاطه أهل الذمة، لجعفر بن إدريس الكتاني.
- حكم سماع ماكينة الكلام والغناء المسماة "فونوغراف"، لابن سودة العابد بن أحمد.
- الرد على أجوبة الحيارى، في حكم قلنسوة النصارى، لسليمان بن علي الجزائري.
- رفع الإلباس، وكشف الضرر والباس، عن مسألة الحرير التي وقع الخوض فيها بين الناس، لمحمد بن جعفر الكتاني.
- وشي المطارف، في ثبوت الخبر الرسمي من الهاتف، لمحمد المختار السوسي.
- تحفة النبيل، بالصلاة إيماء في طاموبيل، لأحمد بن علي الكاشطي التناني.
وما إليها من المؤلفات الكثيرة المخطوطة في غالبها، وهي تجلي في نظرنا شيئين اثنين:
1. العلاقة بالآخر وفق ثنائية "دار الإسلام" و "دار الحرب".
2. سيادة موقف جماعي متحفّظ على الحداثة في أوساط النخبة العلمية الفقهية المغربية يمكن وصفه بالـ "ـعقلية" جماعية، كما تسود "عقلية" جماعية أخرى غير متحفظة في أوساط الطبقة الوسطى والتجار والموظفين المخزنيين والعامة..
فحين نطلق اصطلاح "العقلية" فذلك في اتصال بالتاريخ أكثر من غيره، نقصد "تاريخ العقليات، أي تاريخ المواقف الجماعية." بمعنى أننا نرى في الموقف الفقهي موقفا جماعيا لنخبة جلها أو كلها، كانت متصلة بالحداثة نظرا وعملا ومعاينة وإفتاءا واتفاقا تاما (القول بالحلية) أو جزئيا (القول بالكراهة) أي إن موقفا جماعيا تحقق تاريخيا، وإن لم يكن متحققا فلا داعي للتحدث عن تاريخ عقلية في مجتمع ما أو نخبة ما أو عند جماعية بشرية كيفما كانت.. هذا يسوّغ لنا النظر إلى الحداثة ومظاهرها من وجهة هذا التخصص، حيث "يعالج تاريخ العقليات مستوى أساسيا: اليومي والآلي، أي ما ينفلت من الأفراد ويكشف عن المضمون اللاشخصي لتفكيرهم." والقول بهذا لا يعني الانتقاص من هذه النخبة، فالنخبة العالمة بالمغرب كغيره تضم كثرة كاثرة من علماء الدين واللغة والعلوم العقلية التجريبية وذوي خبرات علمية بحثية ذات بال، فلا يمكن بحال وسمها بمقاومة "الرفاهية" و"الحداثة".. ولكن لابد من وضعها في سياق "العقلية" ذات التعالق الوطيد بالتراث الفقهي والسياسي والمذهبي.. من هنا كان النظر إلى الحداثة من وجهة دينية صرف: تبريز حكم الدين فيها قبل استعمالها، ومن ثم "كان المدخل الذي مارس فيه الفقهاء مناقشاتهم وتأويلاتهم حول البضائع التجارية.. هو مدخل: الحلال والحرام، فكانت جل المواد التجارية الأجنبية تلقى معارضة العلماء كلما وجدوا إلى إثبات حرمتها سبيلا." وكان بعض أفراد هذه النخبة ذوي مواقف مختلفة منهم من تأثر بهذه الحداثة كالتادلي والناصري صاحب "الاستقصا" ومحمد الحجوي ومحمد العياشي سكيرج الذي ألّف كتاب "طرفة الأدباء، بإباحة ضوء الكهرباء."

الفقيه المغربي والصورة:

نخلص مما سلف إلى إمكانية تحقق موقف جماعي سميناه "عقلية" تجاه الحداثة، فهل يمكن الحديث عن مثله بصدد "الصورة" التي " هي: الجسم والوجه والزخرفة والخط والوسم والخيال والوهم والتماثيل المجسمة والعلامات الرمزية وغير الرمزية." وكذا:"تشكيل التماثيل ورسم الصور" . فما المؤتلف بين "الصورة" و "الحداثة" وما المختلف؟

ما عرضنا له من تقنيات حادثة في المغرب منتجة بكليتها من لدن الآخر، في حين أن الصورة تحتمل كلا الأمرين:
1. هي ظاهرة قديمة؛ ظهورا ومناقشة وحكما إذ طرقُها كثيرٌ في كتب التفسير والحديث والفقه..
2. وهي حادثة في سياق الحداثة مع اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي وازدهار حركة الفنون في أوربا (البورتريه، النحت، المسرح، السينما..)

بمعنى إن في الصورة تمازجا للتراثي والحداثي، للقديم والحديث، وإحياؤها من حيث كونُها ظاهرة مستجدةً في المجال الفقهي النوازلي وعند النخبة أشد ارتباطا بعقليتها، حيث انبعثت في الأوساط الغير المتحفظة عبر اتخاذها في أفضية الإقامة والشغل واللهو.. تكريسا لحضور الأجنبي الأوربي خاصة في السياق المغربي وتقليده من حيث النحلة واللباس وطريقة العيش.. (انتشار الفونوغراف، لبس البرنيطة، استعمال المكَانات المذهبة، اللباس الإفرنجي..) وكذا ظهور التصوير الفوتوغرافي في المغرب وهو ما لم يصرح به المؤلف، ويصف أحد الفقهاء بعضا من افتتان الناس بالتصوير في قوله:".. وقد فشا هذا الداء اليوم في غالب الحِرَف، وقلَّ أن تدخل منزلا لا ترى فيه صورة من الصور التي نهى عنها الشّرع."

لهذين السببين -في نظرنا- أقبل المؤلف الكتاني على كتابة "القول المحرر، في اتخاذ الصور" للتفصيل في ظاهرة قديمة حادثة بغية بسط الموقف الديني الفقهي منها وبعثه لفاعليته وجدته وثباته وتطبيق نظرية "وبه العمل" " التي تقترن بأقوال فقهاء المذهب [المالكي] لا تعني فقط العمل الوقتي والظرفي بذلك القول الفقهي المحكي، بل تعني أيضا وجوب العمل به دائما." على الرغم من أن المتن المؤلَّف عن الصورة والتصوير في المغرب محدود جدا حسب ما وقفنا عليه إذ "لم يشتغل المغرب الإسلامي بالتصوير إلا قليلا، شأنه في ذلك شأن المسلمين العرب في هذا الصدد، تأثرا بموقف الدين بالنسبة لعدد من أنواع التصوير." ، ومن أمثلة المؤلفات عن الصورة والتصوير ما يأتي:
- تبليغ الأمانة، في مضار الإسراف والتبرّج والكَهانة، لعبد الحي الكتاني.
- تقييد في حظر تعاطي الفُونوغراف والفُوتوغراف، لأحمد ابن الخياط.
- رسالة في التصوير ، لعبد العزيز بن محمد بناني الفاسي: ألّفها جوابا لسؤال الحكم في التصوير الفوتوغرافي وتوسَّع في صور النازلة وأحكامها حتى انتهى إلى القسم المكروه دون تحريم، فألحق به التصوير بالفوتوغراف."
- المصوّر وحكم التصاوير، ضمن كتاب "الكشف والتبيان، عن حال أهل الزمان"، لمحمد ابن الموقت المراكشي.
ويسعفنا أحد الفقهاء المغاربة بوصف مهم في رحلته إلى أوربا لدار الصور المجسمة حيث قال:"من جملة ما رأيته في باريز دار الصور المجسمة من الشمع. ولما دخلتها وجدت فيها أشباح رجال قائمين على أرجلهم، لابسين لملابس عسكرية وغير عسكرية، فما يظن الظان إلا أنهم ناطقون أحياء." وهذا مثال لصدمة الصورة المجسَّمة أو الصورة الممَثلة (التمثال) التي تدهش الرائي من حيث قدرتُها على تجسيم المثال بإتقان، إذ ليست رقما ولا كتابة ولا تجريدا.. لكن كاتب الرحلة لم يبسط موقفه من الصورة وفضّل السكوت عن ذلك ولا ندري بما يفسَّرُ سكوته هذا عل الرغم من أن أصحاب هذه الرحلات كانوا أشد انتقادا لعوائد الأوربيين الخارجة عن الشرع.


وصف الكتاب المخطوط:

يقع هذا الكتاب المخطوط في ثلاث وعشرين صفحة مرقَّمة، مسطرتها 19 سطرا في كل صفحة، مقياسها: 20/14 سم في مجموع مسفّر متوسط يضم مؤلفات لعلماء من الأسرة العلمية الكتانية. نوع الخط: خط ثُلُث متمغرب. أوله:"أما بعد، فمنذ مُدد وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى في أن نكتب لك تحرير القول في مسألة اتخاذ الصور واقتنائها واستعمالها.." آخره:"فهذه عجالة اختلسناها مع شغل البال، واختلاج البلبال، ولم أكثر من التفريعات والتشبيهات والأسرار التشريعية التي من أجلها جاء الوعيد العظيم في المصورين ومـ [ ] لما أن الفراغ عندنا عزيز وهذه المبيَّضة فاطلع عليها إخواننا وفر الله تعالى جمعهم، ولـمّ شعتهم، ووحّد قلوبهم، وهيا لهم أسباب الإسعاد الديني والدنيوي وتوجهم بتيجان التوفيق وأحيى قلوبهم يوم تموت القلوب وواجههم بكسوة آية الكرسي عند خروجهم من الدنيا حتى لا يتغير عليهم الحال عند الموت وقد لجأت إلى الإله جل سلطانه في أن يواجه هذه الطائفة الكتانية بكسو أعظم آية في القرآن الكريم وهي آية الكرسي عند موتهم فأعطاني ذلك إلى أن قال والله شكور حليم" حالتها: تامة جيدة على الرغم من بعض البياضات الأصلية في الكتاب أو الناتجة عن عدم وضوح الخط. وفي صدر المخطوط عنوانه الموسوم:"القول المحرر، في اتخاذ الصور"، للإمام الفقيه، الحافظ الأصولي، ذي الأسرار، الفهامة العارف الهمام، الطود الشامخ الضرغام، الشيخ الأكبر، المربي الأشهر، الشيخ أبي الفيض الفرقاني، سيدي محمد الكتاني الإدريسي، رضوان الله عليه آمين". وقد أخبرنا بهذا المخطوط الأستاذ الفاضل، محقق تراث البيت الكتاني العريق الدكتور حمزة بن علي الكتاني ووقفنا عليه بدارته بالرباط حيث أمدّنا بمصورة عنه جزاه الله بالخير الوفير.



نُبَذٌ من سيرة المؤلف:

أما مؤلف الكتاب المخطوط فهو محمد بن عبد الكبير الكتاني ، شيخ الطريقة الكتانية ومؤسسها، فقيه أصولي ومتصوف وأديب شاعر ومصلح نظار من رجالات المغرب المشتهَرين في عصره، وكان من الدعاة الأوائل لتحديث الدولة المغربية وأسهم في تنشيط الحركة العلمية والثقافية، كما ناهض بشدة مخططات الحماية الفرنسية. وكانت له علاقات واسعة بالعلماء العرب والمسلمين عبر رِحْلاته في العالم الإسلامي إلى أن توفي شهيدا سنة 1909م وهو في السابعة والثلاثين من عمره. وبصدد سيرته التي سقنا نبذا منها باقتضاب شديد ننبه إلى الآتي:
- أن المؤلف عالم سلفي مصلح بما تعنيه السلفية من استرجاع لعهد السلف الصالح بحمولاته الدينية والفكرية والاجتماعية والخلقية.. في فترة تكرَّس فيها حضور الآخر الأجنبي بحداثته ورغبته في التملك واستكشاف ثروات خام وأسواق جديدة.. وفي هذا يقول:"فإنا لله على ضعف إيماننا حتى تركنا الشعائر الإسلامية، وأقمنا الوظائف الرومية. فكيف لا يغلبون علينا وقد هجرنا سنن نبينا، وعمرنا أوقاتنا بسننهم وآلاتهم وبضائعهم وزخارفهم ومحدثاتهم التي تشغل القلوب والأبصار..؟"

- أن المؤلف معارض للتدخل الأجنبي ومنتجاته من باب مواجهته اقتصاديا، إذ دعا "لمقاطعة البضائع الأجنبية وفي طليعتها الشاي والسكر." وعلى الرغم من هذه المعارضة لا يخفي المؤلف علة تفوق الآخر في قوله:"وقد علمتم ما وصل إليه الأجانب اليوم من النفوذ في العالم، فإنما وصلوا لذلك بأمور ومنها الحرية التي عبّر عنها الشّرع الكريم بالقسط والعدل والنصح وعدم المحاباة.."

- أن المؤلف واعٍ بقيمة المرحلة المترجّحة بين القرنين 19 و 20 بانتهاء الخلافة وظهور الاستعمار وضعف البنيات العامة لبلاد الإسلام.. والأكثر من ذلك انتشار بعض الممارسات بين العامة تثير امتعاض النخبة ومن ذلك التهافت على البضائع والمعاملات الأجنبية مما أشرنا إليه، وانتشار بعض وسائل اللهو مثل ما سماه بالميسِر إذ "إن أدب السجال بين المفتين والعادات الجماعية، أي الممارسات الثقافية الأصلية أدب خصب في تراث المغرب."
في هذا السياق إذن يمكننا وضع هذا الكتاب في التصوير من حيث صدوره عن فقيه سلفي ذي مكانة مهمة في النخبة العالمة وكونه امتدادا للعقلية السائدة فيها أي الاحتكام إلى الدين في الحكم على الحادث في شكل نوازل فقهية تستلزم فتوى فقيه مجتهد.
قراءة في مباحث الكتاب:
يبدو أن غالب النصوص المذكورة آنفا تندرج في سياق "النوازل" بمعنى أنها ترد في شكل أسئلة من سائل يود معرفة حكم الشّرع في ما يجدّ حيث يكون في طيّ النازلة أو الفتوى سؤال إن تصريحا أو تضمينا، ونستدل على هذا بقول المؤلف الكتاني في مقدمة كتابه:"أما بعد، فمنذ مُدد وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى في أن نكتب لك تحرير القول في مسألة اتخاذ الصور واقتنائها واستعمالها.." أي إنه تلقى سؤالا من أحد السائلين في حكم التصوير فأجابه بعد وقت لا نعلمه، إذ يستلزم الجواب عن مثل هذه النازلة اطلاعا وتأملا واجتهادا.. وفي المقدمة يبرز الكتاني بعضا مما تناوله في كتابه:
- مسألة اتخاذ الصور
- اقتناؤها.
- استعمالها.
- الكينونة بمحل هي فيه.
مستهلا كلامه بقول فقيه المالكية وصاحب "المختصر" المعروف خليل بن إسحاق:" الذي جعل التصوير خمسة أقسام :
1) مباحا: ما لا روح فيه كالشجر والفواكه..
2) ومحرما إجماعا: تصوير الحيوان عاقلا وغير عاقل بصورة لها ظل أي متسجدة كاملة الأعضاء يطول بقاؤها.
3) ومحرما على المشهور: صورة حيوانية متجسدة كالمتخذة من عجين أو قشر..
4) ومكروها: الصورة الحيوانية التي لا ظل لها إذا كانت غير ممتهنة كالتي في الستور المعلقة والمنقوش في حائط والمرسومة في سقف.
5) وخلاف الأولى.
وعلى هذه الأقسام الخمس يدور هذا الكتاب في مجمله ولن نستدعيها كلها لأن مبتغى هذه القراءة ليس فقهيا صرفا فذلك مبسوط في مظانه ومصادره الكثيرة، وإنما غايتنا التمثيل لبعض القضايا التي تستلفت النظر ويمكنها الربط بين ماضي التصوير وحاضره بوصفها متداولة في كلا الزمانين وأخرى حادثة انبثقت على عهد المؤلف، وقد صغناها على شكل العنوانات الآتية:

أ*- لعب البنات:
المقصود بها "الدمى" أو "العرائس" التي تلعب بها البنات فسميت "لعب البنات" أو "البنات" وهي دالة على الصورة المجسمة أي التي لها ظل، حيث خصّها الكتاني بمبحث نقاش في قوله":وما جاء في لعب البنات المسماة باللعب بالبنات.." فأشار إلى الحديث النبوي:"حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: وَكَانَتْ تَأْتِينِي صَوَاحِبِي فَكُنَّ يَنْقَمِعْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ." كما يورد بعض أقوال أخرى لمحدّثين ومفسرين بصدد "البنات" فمنهم من رخّص باستعمالها للضرورة بعلّة "حاجة البنات حتى يتدرّبن على تربية أولادهن ثم إنه لا بقاء لذلك.." أي إن هذا الرأي الأخير مشروط بعدم بقاء اللعبة أي تحولها من وسيلة لعب إلى وسيلة زينة ومن ثم إلى صورة مجسمة لها ظل تنتفي فيها غاية اللعب والتسلية واللهو. ويتوسل الكتاني بالمرجعية المذهبية المالكية في القول بكراهة "البنات" حيث قال "لكن كرّه مالك للرجل أن يشتري ذلك لابنته لأنه ليس من أخلاق ذوي المروءات." بل بحرمتها ما لم تكن ناقصة الأعضاء:"ويمكن أن يجاب عن الرخصة في لعب البنات بأن اللُّعب لا تكون الصورة فيها كاملة الأعضاء وقد سبق أن الناقصة بعض الأعضاء التي لا يعيش من قطعها جائزة والله تعالى أعلم." ونجد هذا الرأي عند أحد الفقهاء المتأخرين عن المؤلف وهو محمد ابن الموقت المراكشي الذي يقول:"ومن عوائدهم الشنيعة شراؤهم لأولادهم يوم عاشوراء ونصف رمضان صورا محرّمة من الصور القائمة بنفسها ولها ظل وليس بها نقص. وهذه الصور النظر إليها حرام ولا تدخل الملائكة بيتا هي فيه.."

ومما يستلفت النظر هنا ربط الكتاني بين "البنات" في صيغتها الماضية والحاضرة عبر استدعاء صورة شبيهة بها، تلك هي صورة الصابون الذي له ظل، وهو من مظاهر الحداثة على عهده حيث يقول:"ومنه تَعْلَمُ حكم الصابون الذي له ظل من حوت وغيره فيحرم الغسل به ويكسر فورا ولا تدخل الملائكة بيتا هو فيه وكذا الصور المتجسّدة." ويشاطره ابن الموقت الرأي في حرمة ما له ظل من وسائل التسلية حرمة على المشهور إذ يقول:"وكذلك شراؤهم لما يصنع من الحلاوات على صور الحيوانات التي شاعت اليوم ويُدخلون ذلك دُورهم ويجتمعون عليه، وذلك حرام بلا كلام."

رأينا كيف أن الكتاني وسميَّه ابن الموقت متواضعان على عقلية مؤتلفة بصدد الصورة المجسّمة ذات الظل من وسائل اللعب والتسلية انطلاقا من المتون الحديثية والفقهية المالكية وكذا قدرتهما على الربط بين الصورة من حيث هي نازلة في ماضيها وحاضرها وخصوصا حداثة الصورة في المجتمع المغربي خاصته وعامته.

ب*- صندوق الوَقيد وزِنبيل الأتاي (الشاي):
ما علاقة الصورة بهاتين البضاعتين التجاريتين اللتين جدّتا في المغرب الاقتصادي في قالب تجاري حادث، وتحديدا بواسطة خطاب إشهاري لم يكن معهودا من قبل يزاوج في استرعاء الزبون بين الكتابة والصورة؟ فإن كان النص المكتوب غير ذي بال لأن شريحة كبيرة من العامة لا تتقن القراءة بَلْهَ الكتابة، فإن الخطاب البصري الصوري مثير للخاصة والعامة، إذ "تملك الصورة من الجاذبية ما يجعل أثرها يفوق الكلام وذلك بتعددية دلالاتها وانغراسها في المتخيّل الرمزي والاجتماعي للكائن." لذلك فالصورة خطاب مستجَد مع الحداثة الوافدة على البضائع التجارية، فبعضها سُوِّغ لتسويقه بكتابة فتاوٍ لفقهاء مفتين يجوّزون استعمال بضاعة ما ، وأخرى تم تسويقها بكتابة عبارات دينية كاسم الله تعالى أو اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، مما أثار استياء نخبة الفقهاء الذين دعوا ولاة الأمر للتدخل، فأصدر السلطان أمرا بمنعها في قوله:"فقد بلغ لعلمنا الشريف ما حدث ظهوره على يد التجار - مما يعد ثُلمة في الدين وبدعة في الأمصار – وهو ما يجلبونه من الأواني المرقوم فيها اسم الرحمان، وصناديق النار (الوقيد) المرسوم فيها اسم الله تعالى أو اسم نبيه صلى الله عليه وسلم، مع ما تعلمونه في ذلك من أن ما يفرغ من تلك الصناديق ومكسور الأواني مرجعه الطّرح في القاذورات والأزبال (...) وعليه، فنأمركم بالاسترعاء على التجار الجالسين لذلك، وتنبيههم على الضرر المترتب على ما هنالك."

أما الخطاب الإشهاري بواسطة الصورة فقد ظهر متأخرا على البضائع مثل صندوق الوقيد (الثقاب) وزنبيل (علبة) الشاي، إذ يخبرنا بذلك الكتاني حين قال:"ومنه يُعلم حكم الصور في صندوق الوقيد فيُغير رأسها أو يُستغنى عنه بشيء آخر فيه الوقيد. وكذا الصور المرقومة في زنبيل الأتاي فيُكشط رأسه ولابد، ثم لا بأس إذ ذاك وحيثما وجدتها فغيرها ولابد.."
وقد تم استثمار الصورة في التجارة من لدن تجار أوربا وشهدت انتشارا في الأسواق المغربية عبر التجار المحليين، وغالبا ما كانت تضم صناديق الوقيد صور كائنات بروح بدليل إشارة الكتاني إلى ضرورة تغيير رأسها وغالبا ما تكون حيوانات ، أما زنبيل الشاي المستورد من أوربا فغالبا ما يضم صور أشخاص من أصول صينية يلهون في بساتين وهي صور أشبه ما تكون بمنمنمات الواسطي. ويضع الكتاني هذا النوع من الصور في دائرة المحرم المجمع على تحريمه ما لم يتم تغيير معالمها بالكشط وخاصة رأسها للدلالة على عدم الكمال، وهو ما سنحاول قراءته في النقطة الآتية قريبا.

ت*- صورة بلا رأس:
لعل الملحَظ عند الحديث عن الصورة المرقومة في ثوب أو غيره في الأدبيات الإسلامية قَرْنُ جوازها بتغييرها خصوصا إن كانت من ذوات الروح. فالعديد من تأويلات المتون الحديثية تبدو مؤكِّدة على فعل التغيير هذا، حتى إذا تأملنا في "القول المحرر" للكتاني بدا لنا فيه التطرق لهذه النقطة في أكثر من موضع. ذلك أن الصورة بلا رأس تتجلى في مؤلفات تراثية مشهورة وعلى رأسها "مقامات" الحريري " المؤلَّف العربي الأكثر تزيينا بالصور" التي رسمها الواسطي أحد أشهر الفنانين العرب المتخصصين بالمنمنمات ، حيث إن "محو الرأس، هو محو إشارات عديدة عن العمر والجنس والأصل وطبع الأشخاص المرسومين ومؤشرات عديدة نمطية ومزاجية.. قطع الرأس يعني قطع الكلام: لن يكون للصورة أن تغري وتسحر تصبح بريئة وغير موجودة."

لكي تكون الصورة المرقومة مقبولة إذن فلابد من تغييرها، وهذا التغيير يبدأ من أهم علامة في الجسد "الرأس" وتحديدا الوجه. هذا التغيير من وجهة ابن العربي الذي يسميه الخرم، وهو الفصم والشق في ما نقله الكتاني:".. والجواز في المنخرمة." أي التي خُرمت وشُقت وفُصمت من ذوات الروح. ويفصّل في ذلك بقوله:"وإن قُطع الرأس وتفرقت الأجزاء جاز وهذا هو الأصح." وإن انطبق هذا الحكم على الصور المرقومة الواقعة في دائرة الكراهة فلا يصح في غيرها المجسمة المحرمة إجماعا.


خلاصات وملحوظات:

يسعفنا الكتاني بقوله في خاتمة كتابه "القول المحرر، في اتخاذ الصور":"فهذه عجالة اختسلناها مع شغل البال، واختلاج البلبال، ولم أُكثر من التفريعات والتشبيهات والأسرار التشريعية التي من أجْلها جاء الوعيد العظيم في المصوِّرين.." من ثم خلصنا إلى ما يأتي:
- أن هذا الكتاب في أصله عجالة حسب وصف مؤلفه.
- أنه مختصر مستغن عن التفريعات والأحكام الكثيرة في مجال التصوير، ويمكن عدُّه حاشية على مختصر خليل في باب التصوير الذي ذكره في المقدمة وجعله منطلقه في مباحثه الكتاب.
- الاستدلال بالنص الحديثي وبأقوال المحدثين والفقهاء والمفسرين ومناقشتها..
- الانطلاق من المرجعية الفقهية المالكية بدليل الابتداء بالمختصر واستثمار كتب الفقهاء المالكية بكثرة.
- أن رأي المؤلف في هذا الكتاب مُؤالف لعقلية النخبة المغربية العالمة وغير متضاد مع مجمل الآراء السائدة عن الصورة والتصوير في المتون الإسلامية.
- استطاع المؤلف أن يربط فتواه بالتاريخ من حيث كونُ التصوير نازلةً قديمةً في المجتمع الإسلامي الأول ونازلةً حديثةً أيضا في المجتمع المغربي المعاصر بحدوث أشكال صورية غير معروفة.
- أن المؤلف كان مستوعبا لموضوعه خاصة أنه يقتضي إلماما غير يسير بعلم الحديث والتفسير والفقه المالكي إلى العلم بواقع إنتاج النازلة وما إليه مما تستلزمه شخصية المفتي وفعل الإفتاء.
- أن التصدي للتأليف في موضوع الصورة بالذات من لدن فقيه مغربي معاصر هو إشارة إلى قدرة النخبة العالمة على مواكبة التطور المطرّد للواقع مع انبثاق قدرة الآخر الأجنبي، كما يبرز هذا التأليف مكانة العالم الفقيه في المجتمع المغربي المعاصر الذي يُلجأ إليه للسؤال والإفتاء وتبيين الحكم الشرعي في الفائت أو الحادث، في هذه الفترة التي تعزز فيها التحدي الأجنبي قبل دخوله في طور المواجهة العسكرية والفكرية والحضارية..



المصادر والمراجع:
• أوربا في مرآة الرحلة، سعيد بنسعيد العلوي، منشورات كلية الآداب بالرباط، 1995.
• التجارة المغربية في القرن التاسع عشر، البنيات والتحولات، 1830-1912، عمر أفا، مطبعة الكرامة، الرباط، 2006.
• ترجمة الشيخ محمد الكتاني الشهيد، محمد الباقر الكتاني، مطبعة الفجر، الرباط، 1962.
• التصوير بالمغرب الإسلامي في القديم، محمد المنوني، مجلة دعوة الحق (تصدر عن وزارة الأوقاف بالرباط) ع 1-2، يناير 1971.
• الجسد والصورة والمقدس في الإسلام، فريد الزاهي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1999.
• الرحلة الجغرافية إلى مغرب ما قبل الحماية، نزار التجديتي، مدارات ثقافية وفكرية، أعمال مهداة تكريما للأستاذين العربي النزيل ومحمد جمور، منشورات كلية الآداب بأكادير، 2006.
• الرحلة المراكشية، محمد ابن الموقت المراكشي، مطبعة الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، (د.ت).
• الصورة، جوديت لازار، ترجمة: حميد سلاسي، مجلة علامات (تصدر بمكناس، المغرب) محور العدد: بلاغة اللفظ والصورة، ع 5، 1996.
• الصورة الفنية بالمغرب، معلمة المغرب، ج 16، نشر مطابع سلا، المغرب، 2002.
• الفتوى المواجهة للتاريخ، أحمد التوفيق، ضمن "التاريخ وأدب النوازل"، ندوة من منشورات كلية الآداب بالرباط، 1995.
• فقه النوازل في سوس، قضايا وأعلام، الحسن العبادي، منشورات كلية الشريعة بأكادير، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1999.
• الكشف والتبيان عن حال أهل الزمان، محمد ابن الموقت المراكشي، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة.
• كيف نفكر في الفن الإسلامي، أوليغ كَرابار، ترجمة: عبد الجليل ناظم وسعيد الحنصالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1996.
• لسان آدم، عبد الفتاح كيليطو، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1995.
• مادة: محمد بن عبد الكبير الكتاني، بقلم: حمزة بن علي الكتاني، معلمة المغرب، ج 20، نشر مطابع سلا، المغرب، 2004.
• المصادر العربية لتاريخ المغرب، محمد المنوني، ج 2، منشورات كلية الآداب بالرباط، 1989.
• مظاهر يقظة المغرب الحديث، محمد المنوني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1985.
• معلمة المغرب، الجزء 16، 2002، ج 20، 2004، نشر مطابع سلا، المغرب.
• من أجل تاريخ إشكالي، ترجمات مختارة، محمد حبيدة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2004



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد السعيدي
الفقيه والصورة
قراءة في "القول المُحَرَّر، في اتّخاذ الصُوَر"
لمُحمد بن عبد الكبير الكَتّاني (ت. 1909م)

 
أعلى