عبد الله بن عبد الوهاب العمري - نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني .

النظم في اللغة هو التأليف والتصنيف قال صاحب المقاييس: قوله “نظم” النون والظاء والميم أصل يدل على تأليف شيء وتكثيفه, نظمت الخرز نظما ونظمت الشعر وغيره .
ويقول الزمخشري “نظم” نظمت الدر ونظّمته ودرّ منظوم ومنظم وقد انتظم وتناظم, وله نظم منه , ونظام ونُظم من مجاز الكلام هذا نظم حسن وانتظم كلامه وأمره وهذان البيتان ينتظمها معنى واحد .
وهذه الكلمة التي أطلقها عبد القاهر على نظريته قد ذكرها قبله القاضي عبد الجبار والجاحظ والرماني ولكنهم لم يحددوها ويوضحوا معناها كما فعل عبد القاهر فقد حدد المراد منها ووضع عليها الأدلة والشواهد .
والنظم عند عبد القاهر هو : تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض .
وهو في سبيل توضيح هذا التعريف قال إن الكلم ثلاث : اسم وفعل وحرف وللتعليق فيما بينهما طرق معلومة لا تخرج عن ثلاثة وهي: تعلق اسم باسم وتعلق اسم بفعل وتعلق حرف بهما .
وقد قرر في مدخل دلائل الإعجاز ان النظم ليس سوى حكم من النحو نتوخاه , وجزم أن ليس غيره وإن أنكر المنكرون , قال :
وقد علمنا بأن النظم ليس سوى = حكم من النحو نمضي في توخيه
لو نقّب الأرض باغٍ غير ذاك له = معنى وصعّد يعلو في ترقّيه
ما عاد إلا بخسر في تطلبه = ولا رأى غير غيّ في تبغيه
فالنظم عنده توخي معاني النحو بين الكلم , ولذلك نراه يكرر هذا المعنى ويعيده وقد بين موضوعاته وحصرها في قوله ( واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك على الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنه , وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخلّ بشيء منها ) .
ويقول أيضا في سبيل توضيح مراده من النظم وإثبات ذلك ( ولست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه ووضع في حقه أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه واستعمل في غير ما ينبغي )
وفي معرض الاستشهاد من عبد القاهر لإثبات هذه النظرية يقول رحمه الله “وإن الألفاظ لا تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم نراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر كلفض “الأخدع” في بيت الحماسة :
تلفت نحو الحي حتى وجدتني = وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وبيت البحتري
وإني وإن بلغتني شرف الغنى = وأعتقت من رق المطامع أخدعي
فإن لها في هذين الموضعين ما لا يخفى من الحسن ثم إنك تتأملها في بيت أبي تمام :
يا دهر قوّم من أخدعيك فقد = أضججت هذا الأنام من خرقك
فتجد لها من الثقل على النفس التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة والإيناس والبهجة” .
وفي هذا الاستشهاد يظهر ميل عبد القاهر إلى أن تلاؤم المعنى هو سبب الحسن دون أي اعتبار للفظ .
وبالنظر إلى مجموع هذه الأقوال يظهر ارتباط نظرية النظم عند عبد القاهر في النحو حيث أن النظم إنما هو الأخذ بالأحكام النحوية في الكلام وهذا صحيح فمعلوم أن المعنى لا يستقيم إلا إذا استقام الاعراب وتختلف الصفات الإعرابية باختلاف المعنى .
وفي ذلك يقول ” إن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه ولم يعلم أنها معدنه وموضعه ومكانه وانه لا مستنبط له سواها , وألا وجه لطلبه فيما عداها غارٌّ نفسه بالكاذب من الطمع ومسلم لها من الخدع .


المبحث الثاني : موقف عبد الفاهر من قضية اللفظ .

وجد عبد القاهر أن بعض النقاد والبلاغيين أسرف في تعظيم اللفظ ولذلك وقف يقاوم هذا التيار ويرد على اللفظيين وشبهاتهم وفساد أذواقهم في فهم الكلام ويصفهم بأوصاف شتى مبثوثة في كتابه فقد قال فيمن ظنوا ان الفصاحة والبلاغة للألفاظ : “اعلم أنك كلما نظرت وجدت أن سبب الفساد واحد وهو ظنهم الذي ظنوه في اللفظ وجعلهم الاوصاف التي تجري عليه كلها أوصاف له في نفسه من حيث هو لفظ وتركهم أن يميزوا بين ما كان وصفا له في نفسه وبين ما كان قد أكسبوه إياه عرض في معناه”
ومن المهم أن تبيين نظرة عبد القاهر إلى الكلام وكيفية تأليفه لأنه بنى عليها كل أقواله حيث أنه يرى أن مؤلف القول يفكر في المعنى الذي يريد أن يصوره ويرتب هذا المعنى في نفسه ثم يختار النظم المناسب لأدائه يقدم فيه ما تقدم في نفسه ويؤخر ما تأخر فيها ويرتب في عبارته حتى تتفق مع المعنى الذي يريد ويوازن بين الألفاظ ويختار أخصها بالمعنى وأكثرها كشفا عنه ويحسن الوصول إلى الكلمة الدقيقة في موضعها اللائق بها .
ففي هذا الكلام نجد عبد القاهر جعل اللفظ تبعا للفكرة والمعنى فهو وسيلة لبيان الفكرة وتوضيح المعنى.
ويذكر عبد القاهر في معرض الرد على اللفظيين أن اللفظة قد تكون غاية في الفصاحة في موضع ونراها في مواضع كثيرة ليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير وأنما كانت كذلك لأن المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنه فصيح مزية تحدث من بعد طلبته فيها وقد جئت بها أفرادا لم ترم نظما ولم تحدث لها تأليفا طلبت محالا .
ولا تتفاضل الألفاظ عند عبد القاهر من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلمة مفردة وإنما تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ وقد ضرب لهذه مثالا بكلمة الأخدع التي ذكرنا سابقا .
الألفاظ عند عبد القاهر ليست إلا رموزا للمعاني المفردة التي تدل عليها او مجرد علامات للإشارة إلى شيء ما وليست للدلالة على حقيقة , والإنسان يعرف مدلول اللفظ المفرد أولا ثم يعرف هذا اللفظ الذي يدل عليه ثانيا والعبرة عنده في هذا الكلام بالمتكلم وليس السامع.
ويقول بعد أن قرر هذا ” وليت شعري هل كانت الألفاظ إلا من أجل المعاني وهل هي إلا خدم لها مصرفة على حكمها ”
ولذلك فليس للألفاظ مزية وهي منفردة وإنما تختص إذا توخي فيها النظم ومدلول الألفاظ هو الذي ينور القلب لا الألفاظ .
والألفاظ أوعية للمعاني فهي تتبعها في مواقعها ولو كانت المعاني تابعة للألفاظ في ترتيبها لكان محالا أن تتغير المعاني والألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغير من غير أن تتغير الألفاظ ونزول عن أماكنها علما ان الألفاظ هي التابعة والمعاني هي المتبوعة .
ونجد عبد الفاهر يلتمس العذر للقدماء الذين أشاروا بالألفاظ ونسبوا المزية إليها ان أقوالهم هذه إنما هي من باب التجوز فإنهم حين رأوا أن المعاني لا تتبين إلا بالألفاظ تجوزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ ثم بالألفاظ بحذف الترتيب ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض وكشف المراد كقولهم (لفظ متمكن) يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه “ولفظ قلق ناب ” إذا كان على خلاف ذلك . وهذا لعله من الردود على من يقدم اللفظ فقد نفى عبد القاهر عن أسلافهم المتعبرين أن يكونوا على مثل ما هم عليه إنما الأتباع لم يفهموا مراد القدماء .
وفي الختام ثم قضية لابد من التنبيه إليها وهي أن بعض النقاد عاب على عبد القاهر أنه أهمل دراسة الجانب الصوتي من الألفاظ ولم يعط الألفاظ قيمة كبيرة وقالوا بأن نظرته هذه إلى اللفظ كانت سببا في رفض فصاحة الألفاظ المفردة كما ذهب إليه كثير من البلاغيين والنقاد لأنها لا تكون في الكلم أفرادا وإنما في ضم بعضها إلى بعض, وأن اللفظ يكون فصيحا من أجل مزية تكون في معناه لا من أجل جرسه وصداه .
فقد قال سيد قطب : “ومع أننا نختلف مع عبد القاهر في كثير مما تحويه نظريته هذه بسبب إغفاله التام لقيمة اللفظ الصوتية مفردا أو مجتمعا مع غيره وهو ما عبرنا عنه بالإيقاع الموسيقي .” .
وقال الدكتور محمد زكي العشماوي : “ولكن نؤاخذ عليه أنه في بحثه هذا لم يفسح المجال لدراسة الجانب الصوتي في اللغة ودلالته على المعنى بشكل إيجابي ”
والحق أن عبد القاهر لم ينكر ذلك وإنما اعترف بأهميته في آخر كتابه دلائل الاعجاز فقال :”واعلم أنا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة وأن تؤكد أمر الإعجاز ,وإنما الذي ننكره ونفيل الرأي من يذهب إليه أن يجعله معجزا به وحده ويجعله الأصل والعمدة فيخرج إلى ما ذكرناه من الشناعات ” .

موقفه من قضية المعنى ورده على الميزان الرباعي .

وبعد أن عرضنا موقف عبد القاهر من قضية اللفظ وأن المزية في الكلام لا ترجع إليه وكيف أنه شنع وأنكر على من حسب التمايز في الألفاظ إلا أن إنكاره على أصحاب اللفظ لا يعني أنه من أهل المعنى المنحازين إليه والذين يفاضلون بين الكلام بمعناه كما ظن بعض العلماء , ومنهم د.بدوي طبانة حيث يقول : (وقد تزعم هذا الفريق – أي المغالين في المعنى- إماما من أئمة البلاغة وعلما من أعلام الفكر هو عبد القاهر الجرجاني الذي عالج الموضوع بأسلوبه الكلامي وتشيع للمعنى ورأى أن الأدب لا يتطلب جهدا في اختيار اللفظ مادام المعنى حاضرا في الذهن..) بل إن عبد القاهر لم يقل إنكاره على أصحاب المعنى عن إنكاره على أصحاب اللفظ حيث أنا نجده يقول ” واعلم أن الداء الدوي والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ , وجعل لا يعطيه من المزية إن هو أعطى إلا ما فضل عن المعنى . يقول ما في اللفظ لولا المعنى ؟ وهل الكلام إلا بمعناه ؟ فأنت تراه لا يقدم شعرا حتى يكون قد أودع حكما وأدبا واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر وهذا مجاف للحقائق . ولا نرى متقدما في علم البلاغة مبرزا في شأوها إلا وهو ينكر هذا الرأي ويعيبه ويزري على القائل به ويغض منه ” .
وقد أنكر عبد القاهر على العلماء السابقين تفضيلهم الكلام بمعناه الغفل إنكارا شديدا وعلل ذلك بقوله ” واعلم أنهم لم يبالغوا في إنكار هذا المذهب ما بلغوه إلا لأن الخطأ فيه عظيم وأنه يفضي بصاحبه إلى أن ينكر الإعجاز ويبطل التحدي من حيث لا يشعر” .
ولكن يجب أن نبين أن المعنى عند عبد القاهر نوعان :
• معنى غفل خام .
• معنى مصور اتخذ شكل صورة .
والترجيح بين بعض الكلام وبعض لا يرجع إلى ذوات المعاني وأصولها وإنما يرجع إلى ما تأخذه المعاني من الصور والأشكال , وهنا يسعفه قول الجاحظ “وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير ” .
والكلام بالنسبة للمعنى ضربان :
• ضرب نصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده.
• وضرب لا نصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم نجد لذلك المعنى دلالة ثانيةنصل بها إلى الغرض ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل ومن ذلك قولك “طويل النجاد” “نؤوم الضحى ” فقد اختصر عبد القاهر هذه الفكرة فقال”وإذ قد عرفت هذه الجملة فهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول (المعنى ومعنى المعنى ) تعني بالمعنى المفهوم الظاهر للفظ الذي تصل إليه بغير واسطة , وبمعنى المعنى أن نعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر ”
يقول أحمد مطلوب : فالمعاني الإضافية عنده هي أساس جمال الكلام وإليها ترجع الفضيلة والمزية وهذه الفكرة لم يلتفت إليها أحد من نقاد العرب السابقين وقد تحدث عنها المعاصرون في الغرب وسموها “معنى المعنى” ايضا .
وعلى ذلك فإن عبد القاهر ليس من أنصار الألفاظ من حيث هي كلم مفردة وليس من أنصارالمعاني التي هي أساس كل شيء بغض النظر عن تجانس الالفاظ وتلاحمها , وإنما هو من أنصار الصياغة من حيث دلالة هذه الصياغة على جلاء الصورة الأدبية .
ويجدر بنا أن نبين الإشكال الذي قد ألبس على بعض الناس حيث ظنوا ان الجاحظ من أنصار اللفظ ضد المعنى بناء على مقولته المشهورة ” المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة سبكه وإنما الشعر صياغة ضرب من التصوير ”
وهذا وهم خاطئ لأن الجاحظ لم يقصر التفاضل على اللفظة المفردة وإنما ذكر جودة السبك وحسن الصياغة وهذا هو نفسه الذي يريد عبد القاهر فإن الكلام لا يتفاضل إلا بالعلاقات بين المفردات مع عدم تجاهل فضل المفردة في ذاتها من حيث سهولة المخرج والبعد عن الوحشية.
ومما يدل على ذلك ان عبد القاهر اورد عبارة الجاحظ مستشهدا بها على مذهبه في الصياغة كما نقل رأيه في غيرما موضع من كتابه.
كما يقول مطلوب :وليس بين عبد القاهر وبين الجاحظ خلاف فكلاهما يرى الصياغة الأدبية هي التي يتفاضل بها أصحاب الكلام ومما يدلنا على ذلك استدلاله بكلام الجاحظ على مذهبه في الصياغة وإيمانه به .

 الرد على الميزان الرباعي:
لقد قسم ابن قتيبة الشعر في كتابه الشعر والشعراء إلى أربعة أقسام:
1. ماحسن لفظه ومعناه كقول القائل :
في كفه خيزران ريحه عبق = من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته = فما يكلم إلا حين يبتسم

2. ما حسن لفظه وحلا فإذا فتشته لم تجد هنا فائدة في المعنى كقول القائل :
ولما قضينا من منى كل حاجة = ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهارى رحالنا = ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
اخذنا بأطراف الأحاديث بيننا = وسالت بأعناق المطي الاباطح

3. ما جاد معناه وقصرت الفاظه عنه كقول لبيد :
ما عاتب المرء الكريم كنفسه = والمرء يصلحه الجليس الصالح

4. ما تأخر لفظه ومعناه كقول الأعشى :
وفوها كأقاحي = غذاها دائم الهطل
كما شيب براح با = رد من عسل النحل
ولكن عبد القاهر لم يوافق ابن قتيبة في هذا التقسيم فقد اشاد بالأبيات التي قال عنها ابن قتيبة “حسنت ألفاظها وليسبها كبير فائدة ومعنى” فنجد عبد القاهر يقول : اعلم أن من شان هذه الاجناس ان تجري فيها الفضيلة وأن تتفاوت التفاوت الشديد أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العامي المبتذل كقولنا “رأيت أسدا ” والخاصّيّ النادر الذي لا تجده إلا في كلام الفحول ولا يقوى عليه إلا أفراد الرجال كقوله “وسألت بأعناق المطي الأباطح” أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة وكانت مسرعة في لين وسلاسة حتى كانها سيول وقعت في تلك الأباطح فجرت بها .
ويقول في موضع آخر ولم يغرب لأنه جعل المطي في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الأبطح فإن هذا شبه معروف ظاهر ولكن الدقة واللطف في خصوصية إفادتها بأن جعل “سال” فعلا للأباطح ثم عدّاه بالباء بأن أدخل الأعناق في البين فقال “بأعناق المطي ” ولم يقل “بالمطي ” ولو قال سالت المطي في الأباطح لم يكن شيئا .

 الرأي الذي استقر علية عبد القاهر:
وبعد أن عرضنا لك أيها القاري الكريم ردود عبد القاهر على اللفظيين والمعنويين على حد سواء وتشنيعه عليهم كان لابد من بيان مذهبة الذي اختطه لنفسه, فإن عبد القاهر ليس من أنصار الألفاظ من حيث هي كلم مفردة وليس من أنصار المعاني التي هي أساس كل شيء بغض النظر عن تجانس الألفاظ وتلاحمها وإنما هو من أنصار الصياغة من حيث دلالة هذه الصياغة على جلاء الصورة الأدبية .
فعبد القاهر ليس ممن يتأرجح بين اللفظ والمعنى بل هو ممن جمع بينهما وسوى بين خصائصهما وجعلها شيئا واحدا يعتمد على الصياغة.
فأساس المفاضلة عنده هي صورة المعنى لا المعنى الغفل الخام, وخضوع اللفظ في ترتيب الخارجي لترتيب الصورة المعنوية في النفس .
ويقول سيد قطب :(وإنا لنحسب أن عبد القاهر قد وصل في قضية اللفظ والمعنى إلى رأي حاسم حين انتهى في كتابه الدلائل إلى أن اللفظ وحده لا يتصور عاقل أنه أن يدور حوله بحث من حيث هو لفظ إنما من حيث دلالته يدور البحث فيه, وأن المعنى وحده لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو خاطر في الضمير إنما من حيث أنه ممثل في لفظ يدور البحث فيه وأن المعنى مقيد في تحديده بالنظم الذي يؤدى به فلا يمكن أن يختلف النظمان ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد)

 وهنا مسألة مهمة يجب التنبيه عليها وهي الاهتمام بالجانب الصوتي عند عبد القاهر .
فقد نقده بعض الباحثين لأنة أهمل دراسة الجانب الصوتي من الألفاظ ولم يعط الألفاظ قيمة كبيرة فقال سيد قطب ((ومع أننا نختلف مع عبد القاهر في كثير مما تحتويه نظريته هذه بسبب أغفاله التام لفنّية اللفظ الصوتية مفردا أو مجتمعا مع غيره) وهو ما عبر عنة بالإيقاع الموسيقي.
وقال د.محمد علي عشماوي:((ولكن نؤاخذ علية أن في بحثه هذا لم يفسح المجال لدراسة الجانب الصوتي في اللغة ودلالة على المعنى بشكل إيجابي ))

ويرد على ذالك أحمد مطلوب فيقول “والحق أن عبد القاهر لم ينكر ذلك وإنما اعترف في آخر كتابة دلائل الإعجاز فقال: (واعلم أنا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة وأن تؤكد أمر الأعجاز, وإنما الذي نراه ونفيل الرأي فيه من يذهب إلى أن يجعله معجزا به وحده ويجعله الأصل والعمدة فيخرج إلى ما ذكرناه من الشناعات) ” .


المبحث الرابع :بعض من تحليلات عبد القاهر .

ولم يكن عبد القاهر ممن يلقي الآراء جزافا من غير دليل ولا برهان, وليس ممن يهتم بالتنظير دون التطبيق بل كان يعقب كل قول أو رأي بما يثبت به صحة قوله وسداد رأيه وكانت شواهده من القرآن والشعر أقوال العرب , ولقد طبق نظريته على شواهده التي ذكرها في كتابه فصبغ حديثه فيها بالصبغة الأدبية الذوقية.
وسأورد هنا بعضا من تحليلاته من القرآن والشعر وأقارن بين تحليله وتحليل السكاكي في تلك الشواهد.
فمن تحليله لآيات القرآن قولة في الآية: {قيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين}
قال: هل تشك اذا فكرت في هذه الآية فتجلى لك منها الإعجاز وبهرك الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض وإن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة والرابعة ؟ وهكذا إلى أن تستقريها إلى آخرها وأن الفضل تناتج ما بينها وحصل من مجموعها . إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية . قل “ابلعي ” واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها وكذالك فاعتبر سائر ما يليها . وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة إذا نوديت الأرض ثم أمرت ثم في إذا كان النداء بـ”يا” دون “أي” نحو “يا أيتها الأرض ” ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال ” ابلعي الماء ” ثم أن اتبع نداء الأرض وأمرها بما هو شأنها نداء السماء وأمرها كذلك بأن يخصها , ثم أن قيل “وغيض الماء” فجاء الفعل على صيغة “فُعِلَ” الدالة على أن هلم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر . ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى “وقضي الأمر” ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو “استوت على الجودي” ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن , ثم مقابلة “قيل” في الخاتمة بـ”قيل” في الفاتحة .
أفترى لشيء من هذه تملؤك بالإعجاز روعة وتحضرك عند نصوصها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب . فقد اتضح إذن اتضاحا لا يدع للشك مجالا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة وأن الألفاظ تثبت لها فضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ ”

فانظر إلى جمال التحليل وروعته وكيف أنه يقررك بما فيها من الإعجاز والروعة, وكيف أنه طبق نظريته وجلاها فاهتمامه بالمعاني النحوية ظاهر بيّن فقد جعله كافٍ لإظهار الإعجاز في الآية .
وقد تناول السكاكي هذه الآيات بالتحليل وقد طبق فيها مذهبه أيضا فنجد التقسيم ظاهر من أول كلامه على الأية الأولى فنجده يقول “والنظر في هذه الآيه من أربع جهات :
من جهة علم البيان, ومن جهة علم المعاني, وهما مرجعا البلاغة, ومن جهة الفصاحة ومن جهة الفصاحة اللفظية ”
وفي هذا تكلف وتوسع واضح وتمزيق لجمال النص وروعته ولولا أن كلامه في هذه الأية طويل لأوردته هنا لتلاحظ الفرق بين الرجلين في التحليل البلاغي وإن كان السكاكي وبلا شك قد استفاد من الجرجاني ولكن مذهبه ظاهر في هذا التحليل.
ولو رجعت إلى كلامه في مظانه لوجد التكلف ظاهر في الفصل بين هذه الجهات الاربع بل إن كثيرا ما يكرر بعض العبارات واللطائف البلاغية في أكثر من جهة من الأوجه التي ذكرها .
كما أن نظرة السكاكي للآية لم تكن كنظرة الجرجاني فإن السكاكي نظر نظرة شاملة إلى النص من جميع جوانب البلاغة والفصاحة وأما الجرجاني فإنما أراد أن يظهر جانب الإعجاز في النظم.
كما أن الجرجاني أراد أن يطبق مذهبه الذي يهتم بالمعاني النحوية والعلاقات بين الألفاظ دون غيرها من الجوانب البلاغية والتي قد تكون ذات حسن وجمال ولكنها لاتمثل الأعجاز , مثل الاستعارات الكنايات والتشبيهات التي يرى الجرجاني أنها ليست مناط الإعجاز وعلل ذلك بأن القران كله معجز مع أن الاستعارات والكنايات ليست موجودة فيه كاملا, ولهذا كان لابد ان يكون للإعجاز سبب آخر هو ما ذكره عبدالقاهر في نظريته .
ومن تحليلات عبد القاهر قوله في الآية “واشتعل الرأس شيبا ” فالمزية الجليلة في هذا لا ترجع إلى مجرد الاستعارة , ولكنها ترجع إلى المجيء بالاستعارة على طريق ما يسند فيه الفعل إلى الشيء وهو في المعنى لما هو من سببه فيرفع بالفعل ما يسند غليه , ويؤتى بالذي له الفعل في المعنى منصوبا بعده , مبيتا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني ,ولما بينه وبيه من الاتصال والملابسة , كقولهم طاب زيد نفسا , وقر عمرو عينا , وتصبب عرقا وكرم أصلا وحسن وجها , وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه . ذلك أنا نعلم أن (اشتعل ) للشيب في المعنى إن كان هو للرأس في اللفظ ,كما أن (طاب) للنفس و(قرّ) للعين وإن أسند إلى ما أسند إليه. والسر في بلاغة النظم الذي جاءت عليه استعارة (اشتعل) للشيب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس – الذي هو أصل المعنى – الشمول , وأنه شاع فيه وأخذه من نواحيه , وأنه قد استقر به وعم جملته , حتى لم يبق من السواد شيء أو لم يبق منه ما لا يعتد به . وهذا ما لا يكون إذا قيل : اشتعل شيب الرأس , بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة , ونظير ذلك أن تقول اشتعل البيت نارا , فيكون المعنى أن النار وقعت فيه وقوع الشمول وأنها قد استولت عليه , وأخذت في طرفيه ووسطه . وتقول : اشتعلت النار في البيت فلا يفيد ذلك , بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه وإصابتها جانبا منه , فأما الشمول وأن تكون قد استولت على البيت وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة .
ونظير ذلك في التنزيل قوله تعالى “وفجرنا الأرض عيونا ” فالتفجير للعيون في المعنى , وأوقع على الأرض في اللفظ , كما أسند الاشتعال إلى الرأس . وقد أفاد أن الأرض قد صارت عيونا كلها , وأن الماء قد كان يفور من كل مكان فيها . ولو أجرى اللفظ على ظاهره فقيل : وفجرنا عيون الأرض , أو العيون في الأرض , لم يفد ذلك ولم يدل عليه , ولكان المفهوم منه أن الماء قد كان فار من عيون متفرقة في الأرض , وتبجّس من أماكن منها .
واعلم أن في الآية الأولى شيئا آخر من جنس النظم , وهو تعريف الرأس بالألف واللام , وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة , وهو أحد ما أوجب المزية, ولو قيل: “واشتعل رأسي” فصرح بالإضافة لذهب بعض الحسن ” .


.
 
أعلى