نقد شعبان يوسف - معركة أدبية بين محمود أمين العالم ومصطفى محمود

بعد ثورة 23 يوليو/تموز 1952، كانت التيارات الثقافية تعبّر عن نفسها بكل طاقتها وفاعليتها، وصدرت مجلات ثقافية وأدبية في مصر استطاعت أن تقدِّم جيلاً جديداً من الكتّاب والمبدعين بشكل واسع، مثل الشعراء: صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد الفيتوري، ونجيب سرور، وصلاح جاهين، وفؤاد حداد، وجيلي عبدالرحمن وغيرهم، ومن كتاب القصة يوسف إدريس ويوسف الشاروني ومصطفى محمود، ومحمد صدقي، وغيرهم، وكانت مجلَّتا الرسالة الجديدة، والتحرير الحكوميتان يقدِّمان الروح الجديدة في الثقافة المصرية، هذا عدا مجلات مستقلة ذات طابع يساري مثل «الغد» و« كتابات مصرية»، وغيرهما، وغير المجلات نشأت مؤسسات ثقافية على رأسها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب استطاعت أن تستوعب كافة ألوان الطيف من الكتّاب والمثقفين بدرجة كبيرة.

ونستطيع القول إن الثقافة تألقت وازدهرت في الخمسينيات بشكل لافت للنظر، وأخصّ فن القصة القصيرة الذي أبدعت فيه أقلام راسخة وأقلام جديدة مثل لطفي الخولي، ويوسف إدريس، وعبدالرحمن الشرقاوي، وغيرهم. وكانت كل المجلات الأسبوعية تخصص في كل عدد قصة لأحد هؤلاء الكتاب. وفي عام 1956صدر كتاب عن دار النديم تحت عنوان: «ألوان من القصة القصيرة»، قدم له الدكتور طه حسين، وتضمَّن دراسة للناقد محمود أمين العالم، وضمَّ بين دفَّتيه سبع عشرة قصة لأبرز الكتاب المصريين، من بينهم يوسف إدريس، وأحمد رشدي صالح، ويوسف السباعي، ويحيى حقي، وعبدالرحمن الخميسي، ومصطفى محمود. وكعادته راح طه حسين يعنِّف الكتاب، ويسوق الملاحظات والمآخذ التي وقع فيها بعض الكتاب، مثل استخدام اللغة العامية، وفي ذلك قال: «إنها اللغة العامية التي تستغرق القصة كلها عند بعضهم، وتستغرق الأحاديث عند بعضهم الآخر، ولم تصل اللغة العامية إلى أن تكون، وما أراها تبلغ ذلك أبداً»، وفي نهاية المقدمة قال طه حسين: «فليتدبَّر شبابنا هذا كله غير ضيِّقين ولا منكرين له، فإنه يصدر عن حب لهم وأمل فيهم وثقة بأنهم سيسمعون القول فيتبعون أحسنه، ويبذلون أقصى جهدهم لينفعوا أنفسهم وينفعوا الناس»، أما محمود أمين العالم الذي كلَّفته االدار بكتابة دراسة نقدية طويلة، فقد قدم قراءة تفصيلية للقصص بعد أن أبدى ارتياحه للاختيار، واعتبر أن هذه المجموعة من عيون القصة المصرية القصيرة، وجال محمود العالم في القصص من حيث البناء الفني واللغة السردية والدلالة الاجتماعية، ثم راح يُجري تقييماً لكل قصة على انفراد، ليثني على قصة، وينتقص من قدر قصة أخرى، وهكذا، ولم يعجب هذا التقييم وتلك الطريقة الكاتب مصطفى محمود، فَشَنَّ هجوماً عنيفاً على الموضوع برمَّته، وكتب مقالاً في مجلة «صباح الخير» وكانت المجلة في مستهل عهدها مجلة فتية، تنبض بكل ما أتت به ثورة يوليو/تموز.

نُشِر المقال في العدد الثالث الصادر في 26 يناير/كانون الثاني 1956، تحت عنوان «مذبحة القلعة وأين يقف حق الناشر؟»، وكتب موجِّهاً خطابه على هيئة رسالة إلى أحمد بهاء الدين رئيس تحرير المجلة، فكتب يقول: «أخي بهاء.. نحن نعيش في بلاط الأدب هذه الأيام كالآغوات.. بهاء الدين آغا.. محمود باش أعيان.. سباعي بك قلاوون.. حبروك آغا خوشي إلى آخر طقم المماليك والآغوات ذوي السراويل والطراطير والخيول المطهَّمة، وقد جرى علينا مصير المماليك في مذبحة مازال الدم يجري فيها أنهاراً على الورق.

ولعلك تذكر القلعة التي دارت فيها المذبحة فهي ليست سوى كتاب «ألوان من القصة القصيرة»، لقد دعانا محمد علي- أو الناشر- إلى عشاء أخير على صفحاته.. فتقدَّم كل منا بقصة مجاناً لوجه الفن، وتفضَّل صاحب الدعوة فألقى علينا كلمة الشكر، ثم أشار إلى أعوانه خفية، فوضعونا في صف طويل يتألف من سبعة عشر أديباً تعساً، وأغلقوا علينا الباب، وتلفَّتنا فجأة لنكتشف أننا سجناء كتاب واحد، يحرسنا من اليمين طه حسين، ومن اليسار محمود العالم، ونحن في الوسط كساندوتش من اللحم الحي، يتبادل الاثنان هضمنا على مهل، ولم ينجُ واحد من المذبحة، ناوَلَنا محمود العالم لطه حسين، فقال طه: هذا الأدب الأسود، وناولنا طه لمحمود فقال: هذا الاستغلاق الاستبطاني الجامد الضيق الخالي من الإيجابية والاستشراف والشمول!!، وصرخنا، ولكن فكّ المطبعة ظلَّ يدور، والقلعة الشامخة من الورق تتشامخ أكثر وأكثر، ودمنا يسيل أسود على الورق، وكانت مؤامرة خالية من اللطف، فهل من حق الناشر أن يطلق علينا الرصاص بعد أن نأتمنه على كتاباتنا؟، أم هي مذبحة أدباء كمذبحة المماليك، ومذبحة البرامكة؟، لقد فحص محمود العالم القصص بمنظاره، وقام بعملية فرز أدبي على طريقته العلمية، ولكن الناشر على ما يبدو لم يكن يبتغي عرض منهج نقدي بقدر ما كان يحرص على عمل تصفية، فلجأ إلى طه حسين ليستنجد بأحكام إعدام»، وظل مصطفى محمود على هذا المنوال ساخراً ومهاجماً للأطراف التي شاركت في هذه العملية، والتي أطلق عليها اسم مذبحة القلعة، والأدهى من ذلك أن أحمد بهاء الدين كتب تعقيباً يناصر فيه مصطفى محمود، واعتبر أن محمود العالم وطه حسين قد وقعا ضحايا للناشر مثلما وقع مصطفى محمود نفسه ورفاقه تماماً، واستنكر أن تكون هناك مقدمة تسبق مقدمة طه حسين نفسه، وهي للناشر، ويصف فيها طه حسين بأنه من رجال «الأدب القديم»، وفَرَّق بهاء بين المادة التي تنشر في كتاب والمادة التي تنشر في مجلة، واستطرد: «إن من حق كل مؤلف أن يعرف كل كلمة سوف تنشر مع الكتاب الذي أَلَّفه أو الذي شارك في تأليفه، وهو ما لم يصنعه ناشر هذا الكتاب».

واتسعت القضية، وانتقلت إلى مجلات وصحف أخرى، فكتب علي الراعي في مجلة الإذاعة، وكتب أحمد رشدي صالح في مجلة التحرير، وكتب محمد مندور في مجلة الرسالة، ولكن ما يهمّنا هو ردّ الناشر الذي سارع لينفي ما ذكره مصطفى محمود، والناشر هو لطف الله سليمان، وهو مترجم كبير وأحد قيادات الحركة الوطنية في ذلك الوقت، كتب في العدد التالي يقول: «إن السبعة عشر كاتباً الذين اشتركوا في الكتاب كانوا يعلمون أن الكتاب سوف يحوي مقدمة بقلم الدكتور طه حسين ودراسة بقلم الأستاذ محمود أمين العالم، والأستاذ مصطفى محمود أحد السبعة عشر، بل عاصر الأستاذ مصطفى محمود كتابة الدراسة، وتحدث عنها عدة مرات مع الأستاذ العالم، أين إذن المؤامرة؟ لعلها في رأي الدكتور طه حسين ونقد محمود العالم!! ولعل الأستاذ مصطفى محمود يطالبنا -لئلا تكون هناك مؤامرة- أن ندعو الدكتور طه حسين إلى إخفاء رأيه وأن نلزم الأستاذ العالم بقرع الطبول وإعلان أنه ليس في الإمكان أبدع مما ورد في الكتاب!» واستطرد لطف الله وهو يوجِّه الخطاب لبهاء: «ولعلك يا عزيزي بهاء لا تعلم أن الدكتور طه حسين كان على وشك الاعتذار عن كتابة المقدمة، ولكننا أصررنا، ووعدنا الدكتور بنشر مقدمته بنصّها لا احتراماً لرأيه فحسب، بل إجلالاً للأدب وللأدباء المشتركين».

واستمرت هذه المحاورات والمناقشات ضمن ما كان يدور في تلك المرحلة حول الأدب الواقعي، والأدب المثالي. والجدير بالذكر أن هذا الكتاب جمع بين ندّين كان كل منهما يقف على طرف النقيض من الآخر، أقصد طه حسين ومحمود العالم، هذا بالإضافة إلى التنوُّع والتعدُّد الذي اشتملت عليه قصص الكتاب، لتعبِّر عن خصوبة المناخ الذي كان سائداً في تلك المرحلة.
 
أعلى