نقد حمود حمود - عن علاقة محمد بالشعر والشعراء

(2/1 )

في أحضان الشعر، أو تأثير الشعر على القرآن

"إن الوحي القرآني كان يتم بلهجة قريش. وإن هذه لتعد من منظور فقه لغوي قريبة من لهجة الشعراء العرب قبل الوحي وبعده...كان هذا التناظر من القوة إلى درجة أن الرسول قد رأى أن يدفع عن نفسه تهمة النظم (الشعري) أو تهمة الكهانة"(1).
جاك بيرك (مستشرق فرنسي 1910- 1995)


استهلال:

"يحكى: أنه سمع أعرابي قارئاً يقرأ «يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم» قال كسرت إنما قال:

يا أيها الناس اتقوا ربكم زلزلة الساعة شيء عظيم

فقيل له: هذا القرآن وليس بشعر"(2). هل كان العربي ساذجاً حينها إلى هذه الدرجة حتى لا يستطيع مجرّد التفريق ما بين القرآن والشعر؟

في الواقع بقدر ما تتضمّن عملية البحث في تتّبع وتقصّي علاقة محمد الأنطولوجية بالشعر من أهمية في هيكلته للقرآن، بقدر ما هي غامضة وشائكة، وبنفس الوقت خطرة كونها تعرّض القداسة "المفترضة" التي اكتسبها القرآن لسهام النقد، وتستجلي أبعاده المتشعبة والقارّة في ثنايا تلك البيئة التي أفرزته وكوّنت تلك الأبعاد، والتي يمكن أن نقرأها كمثال حي وفاعل يصور على الأقل بداية سطوع القرن السابع الميلادي بكل ما اكتنفه من تجليات سياسية وفكرية.

إنه من شبه المستحيل أن نتكلم عن علاقة محمد بالشعر والشعراء، دون أن نقرن إنتاجَ محمد القرآني به، ليغدو الحديث حالئذٍ عن علاقة محمد بالشعر من جهة، وعن ذلك الرابط الأفقي بينهما وبين الخلفية المكية التي احتضنت بزوغهما-أي محمد وقرآنه- إلى حيز الفعل والوجود من جهة ثانية. والمقصود بالعلاقة الأفقية في هذا السياق ذلك الرابط الجدليّ ما بين طرفين، لا ثالث لهما : الواقع التاريخي ومناخه المادي والفكري من طرف ومحمد وقرآنه من طرف ثانٍ. أما عن طبيعة هذا الواقع فالكلام يطول في الكشف عن خباياه السياسية والاقتصادية والدينية...الخ ويحتاج إلى جهود جادّة من باحثين كثر في تجلية التعتيم الذي ما زال يمارس كسياسة أو سلاح من أسلحة الظلاميين في تأبيد مصالحهم. ولا شك أن الشعر كان بنية محركة لأفق محمد الفكري في توظيفه إياه بما يخدم تأسيس القرآن. وإذا استخدمنا لغة "نصر حامد أبو زيد" بأنّ النص في دورة تكوّنه الثقافي يكون (في البداية) نصاً "منتَجاً" (بفتح التاء) ثقافياً، إلا أنه من خلال استثماره قوانين الدلالة، يصبح بعدئذٍ نصاً "منتِجاً" (بكسر التاء) يساهم في إعادة التشكيل في مجال الثقافة واللغة؛ وهكذا ليغدو (والوصف لنصر أبو زيد): النص المهيمن والمسيطر(3). وهذا ما يسمح بالقول بأن القرآن أصبح نصاً فاعلاً بعد أن كان مفعولاً في حلقة تكوّنه المادي عبر الزمن؛ بل غدا القرآن بنية كونية أفرزت اتجاهات فكرية مختلفة وطوائف إسلامية متعددة.

لا ينفي كلامنا عن الشعر بوصفه بنية فاعلة لقرآن محمد، العناصرَ الثقافية الأخرى من أفكار مسيحية ويهودية وهلنستية ...الخ؛ والتي كانت هي الأخرى قاعاً خصباً ترعرع محمد في أحضانه؛ إلا أن كلامنا هنا سيدور تحديداً عن علاقة محمد بالشعر وهو ما زال في مكة، "مهد النبوة" (طبعاً علاقة محمد المكي بالشعر تعني هنا علاقة قرآنه به)، ومن ثم علاقته هو تحديداً مع الشعر والشعراء وهو في يثرب، "مهد السياسة". وأحب أن أشير إلى أنني لن أستطرد كثيراً في الحديث عن الشعر والشعراء، ذلك أن العرب في الواقع قد استفاضوا في هذا المجال، أو على حد تعبير عمر بن الخطاب: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه".

سيتناول هذا المقال في جزأيه محورين اثنين : الأول: في التقاطع المعرفي والجدالي الذي كان قائماً ما بين الشعر والقرآن المكي، والمدى الشديد الذي أثر فيه الأول على الثاني من حيث الغنائية والشعرية القائمة في كل منهما. ثم سيتم اختيار طائفة لا على التعيين من القرآن المكي لنرى مدى التطابق الكبير بين آياته وبين شعر ما قبل الإسلام، ليس في الأفكار التوحيدية فقط، وإنما في اقتباس محمد آيات بأكملها أو كلمتين أو ثلاثة...الخ من الشعر المنتشر حينها؛ ثم تقديم طائفة أخرى من الآيات المطابقة للأوزان الشعرية المعهودة. أما الجزء الثاني : سيناقش فكرة ارتداد محمد في يثرب على ما بني قرآنه بواسطته، وما يعنينا هنا الشعر؛ والكيفية التي تأدلج بها موقفه من الشعر والشعراء؛ وستحاول هذه المقالة قدر المستطاع الكشف عن أسباب هذا الارتداد أولاً، ثم التكتيك الإيديولوجي في النظر إلى الشعر ثانياً، الأمر الذي أدى به إلى شنّ حرب عليهم واغتيال البعض منهم ممن ظن أنهم سيؤثرون على مشروعه كما سيمر لاحقاً.

سأبدأ بإثارة الأسئلة التالية : لماذا اتهم محمد بأنه شاعر؟ ومن طرف آخر ما هي طبيعة هذا الاتهام؟ هل كان العرب في الواقع عديمي الحسّ الشعري إلى هذه الدرجة بحيث لا يستطيعون التفرقة ما بين قرآن محمد وما بين شعرهم حتى يكيلوه بهذه التهمة؟ أم أن للمسألة بعداً سياسياً يقف وراء هذا الاتهام الذي اعتبره محمد مسألة خطيرة، فشن عليهم في قرآنه حرباً ليدافع عن نفسه ضدهم؟ يمكن أن نقرأ طيفاً من تلك الاتهامات: «بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر» [الأنبياء: 21]، «وما هو بقول شاعر» [الحاقة: 41]، «أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون» [الطور: 30]. وعلى اعتبار أن محمداً كان يعتبر نفسه "نبياً" فمن الطبيعي أن يعتبر هذه الاتهامات قضايا خطرة لابد من الوقوف في وجهها، لذا نقرأ له: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين»[يس: 69].

لا بد من الإشارة إلى أن هذه الاتهامات لمحمد الواردة في القرآن هي جزء من نسيج المعارضة المكية له. فلم يحدث على الإطلاق أن اتُهم في يثرب بوصفه شاعراً، مع العلم أنه إذا وضعنا شعراء مكة مقابل شعراء يثرب من حيث الكم، فالنسبة سترتفع جداً لصالح شعراء يثرب. لقد سبق لـ "جرجي زيدان" أن قارب بإحصائه عدد شعراء ما قبل الإسلام (سأتجنب استخدام مصطلح الشعر "الجاهلي" كون أن لفظة "الجاهلي" تثير الجدل) بنحو/ 120 / شاعر على اختلاف القبائل والبطون، وقد وجد أن عشرة شعراء منهم هم من قريش(4). وإذا كان الأمر على ها النحو، لماذا إذن لم يستخدم أناس يثرب سلاح الشعر ضد محمد؟ أظن أنّ الإجابة على هذا السؤال تكمن في طبيعة القرآن ذاته، وفي طبيعة الشعر بالمقابل كما كان تصورُ طبيعته راسخاً في مخيلة العرب. ينقل "الطيب تيزيني" كلاماً مهماً لـ "فؤاد أفرام البستاني" أثار فيه مسألة العلاقة ما بين الشعر والنثر ما قبل الإسلام: «لم يكن شعراء الجاهلية وخطباؤها وكهّانها، شعراء ناثرين في قصائدهم وخطبهم وأسجاعهم، لم يكن هؤلاء شعراء ولا ناثرين -بالمعنى الحاضر- لأنهم لم يكونوا ليشعروا بالفرق بين الشعر والنثر... إنما كان لهم نوع واحد من الإنشاء الفني يؤثر في السامعين، وهو الإنشاد، كان فنهم إنشاداً وهم كانوا منشدين»(5).

إن لغة العربي في أساسها لغة عاطفية وشاعرية بل وحتى انفعالية وليست لغة علمية. وإذا وُصفت لغة الشعر العربي بأنها وصفية فهذا عائد لكون العربي لا يصوّر بشعره إلا ما هو محسوس أمامه؛ فهو ليس مستعداً أن يبتعد بمخياله أكثر مما تقدمه له عيناه، ذلك أنه: «لو دققنا البحث في نفسية الشعر العربي لرأينا أنه وضع في الأصل على التأثير والعاطفة، لا على السرد والاختبار؛ وإن الشاعر العربي مؤثر قبل كل شيء، راغب في التملك على القلوب بالانفعال، فهو خطيب لا قصاص. فإذا عرض له سرْد حكاية أو شرح حادثة ذكرها باقتضاب منتقلاً إلى ما يرغب فيه من هياج العواطف. فالقصص في الشعر الجاهلي إما براهين على بطش الشاعر وسطوة قومه أو ادعاء ووسيلة لنيل رغبته... وإذا ما استعمل القصة فهو يستعملها واسطة لا غاية»(6). ولأن العربي كان يفتقر إلى آلة المخيال الميثولوجي، فليس غريباً أن يكون هذا في جزء كبير منه سبباً من أسباب الهجوم على ما يأتي به محمد من "تصاوير ميثية" (أسطورية) لما سيحدث في القبر، وما بعد القبر، وما بعد بعد القبر، وقد قال مرة أحدهم:

حياة ثم موت ثم نشر = حديث خرافة يا أم عمرو

وآخر يخبرنا بأن الحياة بعد الموت التي بشر بها محمد ما هي إلا أصداء أوهام. نقرأ(7):

فماذا بالقليب قليب بدر = يخبرنا الرسول بأنا سنحيا
من الشيزى تكلل بالسنام = وكيف حياة أصداء وهام

إذن العربي يفتقر إلى المخيال، وبالتالي إلى إنتاج ميثولوجيا مبدعة خاصة به أو حتى ملاحم أسطورية كالتي شهدتها اليونان –أم الميثولوجيا في العالم- كإلياذة هوميروس مثلاً. يأتي هذا الكلام مع عدم إغفالنا لناحيتين: الأولى: لقد وجد لشبه الجزيرة العربية أنبيائها من الشعراء الذين تجاوزوا واقعهم الوثني، وعادة ما تكون هذه الحالة طبيعية جداً فيما يخص الشعراء والحكماء رغم استثنائيتها، مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل... والثانية: أنه وجد القليل من الملاحم الشعرية العربية؛ إلا أنها لا ترقى أبداً لأن نسميها "ميثولوجيا" بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات ومعاني كما هو الحال الذي شهده الإغريق. وجدير في هذا السياق أن نورد لـ حضرة الأب "لامنس" في وصفه الدقيق للبدوي العربي: «إن البدوي كثير الاهتمام بالأمور الوضعية، كثير التدقيق في مشابهة الطبيعة، وعليه فهو لا يتوصل إلى قمة الشعر العالي لضيق مخيلته وقصر مجاله، فيعجز عن تصوير المشاهد العظيمة والمسارح الفسيحة التي نراها في ملاحم الشعوب القديمة. ومن نتائج ضيق المخيلة أنه لم يحسن استعمال ما يسميه بالجن في اختراع نظام يرتب عليه الأشخاص اللابشرية من آلهة وغيرها على نحو ما تسميه الشعوب بالميثولوجيا(8)». ما يعنينا بالضبط في هذا السياق هو التالي:

صحيح أن العربي افتقر إلى إنتاج وعي مخيالي (وهذا ناتج ديالكتيكياً عن صحراويته وبداوته القاحلة التي انعكست على قالبه الفكري واللغوي) إلا أنه في المقابل استطاع من خلال موسيقى الشعر الذي تميزت به قصيدته أن يقوم بـ "إنشادية" هذا الشعر في جوٍّ ترنيمي غنائي موسيقي كان الهدف منه القبض واستجلاب لبّ السامع تحت سيطرة مناخ قصيدته؛ هذا بغض النظر عن جمالية الشكل الذي تتمتع به قصيدته والبنى الفكرية التي تقوم عليها.

نستطيع القول بعد أن وصلنا إلى هذه النقطة فيما يخص السيكولوجيا الشعرية للعربي بأن القرآن المكي تمتع بهذه الإنشادية الغنائية، مع حضور لاهوتي وحكمي قويين، وفكر حدسي ديني قد عبر عنه محمد بجمل قرآنية كانت نتاجاً لصراع نفسي داخلي كان يعيشه، ونتيجة لصراعه السجالي مع سادة مكة وتجارتها التي لم تكن تنظر إلى الحياة إلا من خلال: عيرٌ تجارية راحت وعير أتت أو رحلة في الشتاء ورحلة في الصيف. جوٌ مشحون بالدرهم والدينار، بالبخل والاستغناء؛ وهذا ما حدا بـ محمد مثلاً أن يتمثل حكمة الحضّ على الإعطاء والإنفاق: «فأما من أعطى واتقى/ وصدق بالحسنى/ فسنيسره لليسرى/ وأما من بخل واستغنى/ وكذب بالحسنى/ فسنيسره للعسرى» [الليل: 5-10]. لقد خرج محمد من قاع اليتم والقهر؛ فحكماً والحال هذه سيتطبع في بداياته بحالة "الثائر" في قرآنه المكي (وأشدد على كلمة مكي) ويحاكي ويصارع ذلك السياق: لن ينساك الربّ يا محمد، هكذا لسان حاله يقول: «ما ودّعك ربك وما قلى/ وللآخرة خير لك من الأولى/ ولسوف يعطيك ربك فترضى/ ألم يجدك يتيماً فآوى...» [الضحى: 3-6].

لن نستطرد كثيراً في أمثلة ذلك الجو الغنائي والإنشادي لقرآن مكة، إلا أن ما يهمنا هو ذلك المناخ الحدائي والموسيقي الذي تمتع به قرآن محمد المكي؛ وهذا بخلاف "الرتابة المملة" التي طغت على قرآنه اليثربي (المدني) في ذلك التحول الدراماتيكي داخل بنية القرآن. فإذا كان العربي الشاعر لا يستطيع جذب سامعيه إلا من خلال موسيقى شعره وإنشاده، فإن محمداً لم يكن يستطع جذب قومه وسامعيه إليه من دون تلك الحدائية الشعرية التي غلفت قرآنه وهو ما زال في مكة. ومن هنا يُفسر إلحاحه الشديد على أن الإنسان الذي لا يتغنى بالقرآن ليس من أتباعه، يقول محمد: «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن» وزاد غيره: «يجهر به»(9). ليست جملة "يجهر به" مبتدعة أو دخيلة على متن هذا الحديث ذلك أن الذي يتغنى بالقرآن حكماً سيجهر به أو على الأقل سيدندن أو يتمتم به في جو مليء بالشاعرية والموسيقى. لا يجوز لهذا القرآن أن يقرأه قرّاءه وكأنه كتاب "عادي" (بحسب تعبير محمد أركون)، بل يجب أن "يرتل ترتيلاً": «ورتل القرآن ترتيلاً» [المزمل: 4]. وبالجهة المقابلة على القارئ أن ينصت إليه بخشوع ويستحضر قوة اللاهوت فيه: «وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا» [الأعراف: 204].

طبعاً هذا سبب من أسباب اكتساب القرآن تلك الهالة القداسوية على مرّ القرون بواسطة الحشود من المؤمنين به؛ إلا أن ما يهمنا الآن ذلك الجوّ المحمدي العاطفي المشحون بالهالة الشعرية التي لم يكن لمحمد الفضل في ابتداعها بقدر ما قبض عليها من مناخ الشعراء حوله، فأمر بالتالي أن يقوم القرآن على نفس قاعدة ذلك الإبستيم الشعري في إنشاده (وقصة إسلام عمر بن الخطاب هي أوضح دليل على ما نذهب إليه في هذا السياق). ومن المناسب جداً في هذا السياق إيراد القول المهم للسيد "هاملتون جب Hamilton Jibb" حينما قبض على هذه الركيزة الغنائية التي أمر بها محمد: «فكما عمدت الكنيسة لدعم الاشتداد العاطفي نحو مصالحها الدينية، عمد الإسلام كذلك إلى تنمية فنّ ترتيل القرآن ليشدّ أزرُ ندائه للتخييل والحساسية. وإن الفارق بين الفنون والموسيقى في الدينين جدُّ عظيم (حتى ليبدو أنه موضوع تحليل شائق) غير أن ذلك لا ينبغي أن يخفي عن الأنظار أن الغرض النهائي واحد في كلا الحالين»(10).

وهكذا نفهم طبيعة اتهام قريش لـ محمد بأنه "شاعر" ونفهم كذلك طبيعة التقلب في كيل الاتهامات ضده ما بين شاعر وعرّاف أوكاهن [الحاقة: 42]. في الحقيقة لقد أدركت قريش تماماً (وهي لسان القرآن كما يُزعم) بأن المناخ اللاهوتي الذي ينطلق منه محمد هو عينه –بشكل قل أو كثر- الذي ينطلق منه شعراؤهم وكهّانهم؛ ذلك أن العرب استمروا «مدة غير قصيرة يعتقدون أن القرآن طريقة من الإنشاد .. فأخذوا ينعتون النبي بـ الشاعر تارة، وبـ الكاهن أخرى، وهذا النعت الأخير يدل على عدم تفريقهم بين الشعر والسجع المنسوب إلى الكهّان... والأغرب أن هذا الخلط لم يقف عند أجلاف البدو والجهلة، بل كان يتجاوزهم إلى الخطباء، وهم علماء المسلمين إذّاك. فقد ذكر ابن عساكر حادثة يؤخذ منها أن بعضهم كانوا في أثناء خطبهم على منابر الجوامع وفي مجتمعات المؤمنين يوردون أحياناً الأبيات الحكمية والأمثال السائرة على أنها آيات منزلة»(11).

ملحق "صغير" بما ورد في القرآن من شعر ما قبل الإسلام ونثره:

-أ-

إذا كانت العجالة الآنفة قد أكدت العلاقة المشتركة ما بين القرآن المكي والشعر من حيث المناخ الفكري والغنائي، الأمر الذي كان يحدو بالعربي حينها إلى عدم القدرة على التفريق ما بين القرآن والشعر، فما سيقدم الآن ما هو إلا محاولة صغيرة في الكشف قليلاً عما اقتُبس من الشعر والنثر من مرحلة ما قبل الإسلام وضُمِّن من ثمّ في القرآن، سواء أكان الاقتباس آية بأكملها (وحدة نصية) أو جملة من آية أو كلمتين أو كلمة ..الخ. وأريد أن أشدد على نقطة مهمة وهي أن ما سيرد بعد قليل ليس عرضاً وافياً، بقدر ما هو دعوة جادة للباحثين في الكشف إركيولوجياً وعميقاً عن طبقات النص في ثنايا بيئة ما قبل الإسلام؛ فهذا العمل بحاجة إلى مؤسسات بحثية. ودائماً نشدد مع "رولان بارت" بأن النص (أي نص) ما هو في النهاية إلا نص على نص...

بخصوص آية: «إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» [ مريم: 61]، يروى أنه مرة أتت "فارعة" أخت "أمية بن أبي الصلت" (ويقال أنها ابنته) أتت محمداً فطلب منها أن تنشده من شعره فقالت:

عند ذي العرش تعرضون عليه = يعلم الجهر والسرار الخفيا
يوم يأتي الرحمن وهو رحيم = "إنه كان وعده مأتيا"(12)

يقول العلامة المناوي بالحرف الواحد: "وقد تكلم امرؤ القيس بالقرآن قبل أن ينزل : فقال:
يتمنى المرء في الصيف الشتاء = حتى إذا جاء الشتاء أنكره
فهو لا يرضى بحال واحد = "قتل الإنسان ما أكفره"

قارن مع: « قتل الإنسان ما أكفره» [عبس: 17].

وقال :

"اقتربت الساعة وانشق القمر" = من غزال صاد قلبي ونفر

(قارن مع «اقتربت الساعة وانشق القمر» [القمر: 1])

وقال :

إذا زلزلت الأرض زلزالها = وأخرجت الأرض أثقالها
تقوم الأنام على رسلها = ليوم الحساب ترى حالها(13)"

(قارن مع «إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها» [الزلزلة: 1-2]). وامرؤ القيس هذا هو ابن حجر بضم الحاء بن الحارث الكندي الشاعر المشهور ما قبل الإسلام كما قدم ترجمته المناوي.

يمكن أن نورد أيضاً بنفس هذا السياق للشاعر "الحصين بن حمام" من بني مرة (وكان يوصف أنه من بين الثلاثة الشعراء المقلين بشعرهم قبل الإسلام):

أعوذ بربي من المخزيات = يوم ترى النفس أعمالها
وخف الموازين بالكافرين= وزلزلت الأرض زلزالها (14)

-يروى أنه كان ثمة امرأة وهي أمة من مولّدات العرب اسمها "زبراء الكاهنة"، خاطبت مرة قومها بنثر جميل:

«والليل الغاسق / واللوح الخافق / والصباح الشارق / والنجم الطارق / والمزن الوادق /...»(15).

وهذا ما يتقابل مع القرآن في علاقة لغوية وفكرية مع: «وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ / وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ / النَّجْمُ الثَّاقِبُ» [الطارق: 1-3].

-أما عن "المزن الوادق" كما جاء على لسان الكاهنة زبراء: نجد في القرآن: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خلاله» [النور: 43].

وبشأن تنفس الصبح وعسعسة الليل يقول "علقمة بن قرط":
حتى إذا الصبح لها تنفسا .... وانجاب عنها ليلها وعسعسا (16)

نجد ما يناظر ذلك في القرآن: «والليل إذا عسعس/ والصبح إذا تنفس» [التكوير: 17- 18].

وبخصوص عرش الربّ الذي سيحمله بالتحديد ثمانية من الملائكة: نجد في القرآن :

«ويحمل عرش ربك يومئذ ثمانية» [الحاقة: 17]. يقول محمد: "أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين فكانوا ثمانية" ثم يقول في موضع آخر ويسميهم بأسمائهم: "إن لكل ملك منهم أربعة أوجه: رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر.." (17). أما من أين حصل محمد على هذه التسميات؛ فهذا ما نجده في شعر أمية بن أبي الصلت الذي تم إنشاد أبياته أمامه مرة، فصادق على هذا الشعر. يقول "أمية بن أبي الصلت":

زحل وثور تحت رجل يمينه = والنسر للأخرى وليث مرصد(18)

نجد وصفاً للرب العربي (الله) في شعر "النابغة":
الخالق البارئ المصور في الـ = أرحام ماء حتى يصير دماً.

وجاء في القرآن مثله ولكن مع تحديد هوية الربّ بأنه الله: «هو الله الخالق البارئ المصور»[الحشر: 24]. وقد سمي ذلك الربّ ببعض الأشعار بـ"القيوم" و"المهيمن" إضافة إلى ذكر الجنة والحشر..الخ:

يقول "أمية بن أبي الصلت":

لم تخلق السماء والنجوم = والشمس معها قمر يقوم

قدره المهيمن القيوم... والحشر والجنة والجحيم(19). ومن جانب آخر نجد أن هذه الأوصاف للرب تتكرر في القرآن: «الله لا إله إلا هو الحي القيوم» [البقرة: 255، وأيضاً في سورة آل عمران: 2، وفي سورة طه: 111].

يستطرد "أمية بن أبي الصلت" كثيراً في أشعاره بخصوص أفكار التوحيد ومصير الناس في اليوم الذي سيجمع فيه الرب للحساب الذين سيقسمون إلى أناس في الجحيم الأبدي والآخرون إلى جنة الرب. لذا ليس من المستغرب أن نجد في القرآن المفردات نفسها التي وردت في شعره: (مثل "يوم التغابن" الذي سميت به كما هو معلوم سورة بأكملها و "سقر" –وادي في جهنم- التي وردت في القرآن أربع مرات تقريباً، إضافة إلى الأغلال والسلاسل والسعر...الخ). يمكن أن نقرأ بعضها على لسان أمية:

ويوم موعدهم أن يحشوا زمراً = يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر
فمنهم فرح راض بمبعثه = وآخرون عصوا مأواهم السقر
يقول خزانها ما كان عندكم = ألم يكن جاءكم من ربكن نذر
قالوا بلى فأطعنا سادة بطروا = وغرنا طول هذا العيش والعمر
قالوا أمكثوا في عذاب الله ما لكم = إلا السلاسل والأغلال والسعر(20).

ويقول أمية أيضاً:

"وسيق المجرمون" وهم عراة = إلى دار المقامع والنكال
إذا نضجت جلودهم أعيدت = كما كانت وعادا في سفال
إذا استسقوا هناك سقوا حميماً = على ما في البطون من الأكال
شرابهم مع الزقوم فيها = ضريع يجتلي عقد الخبال
فليسوا ميتين فيستريحوا = وكلهم لحر النار صالي(21).

أما فيما يخص المؤمنين يقول أمية:

وأشربة من العسل المصفى = ومن لبن ومن ماء السجال
"على سرر مقابلة" عوال = معارجها أذل من البغال(22).

قارن مع ما جاء في القرآن: «على سرر متقابلين» [الحجر: 47].

-يقول أمية: في شأن: «في سدر مخضود»[الواقعة: 28]:

إن الحدائق في الجنة ظليلة.= فيها الكواعب "سدرها مخضود"(23).

يقول أمية بن أبي الصلت:
"وله الدين واصبا" وله المـ = لك وحمد له على كل حال(24).

وجاء في القرآن: «وله الدين واصباً» [النحل: 52].

- يقال أن أول من سمى يوم الجعة هو "كعب بن لؤي" كما يصرح اليعقوبي، ونجد له نثراً يشترك مع ما جاء في القرآن، وخاصة في تمهيد الأرض وجعل الجبال أوتاداً: «ألم نجعل الأرض مهاداً/ والجبال أوتاداً» [النبأ: 6-7]. نقرأ لكعب: «اسمعوا، وتعلموا، وافهموا، واعلموا أن الليل ساج، والنهار ضاح، والأرض مهاد، والسماء عماد، والجبال أوتاد»(25).

- يروى عن كاهنين ، سطيح وشق، أنهما كانا يقولان: «والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أنبأك به لحق »(26) الصيغة التي توازي ما جاء في القرآن: «فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق » [الانشقاق 16 - 19].

- ومما قيل من الشعر قبل الإسلام، يصف ما حدث في عام الفيل،والذي ضُمِّن فيما بعد في القرآن، قول رؤبة بن العجاج:

ومسَّهم ما مسَّ أصحاب الفيل ترميهم حجارة من سجيل

ولعبت طير بهم أبابيل(27).

لنقارن مع: «ألم ترى كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول» [الفيل: 1-5].

أما بخصوص كلمة الرقيم / اللوح (وليس كما تذهب به بعض الأقوال أنه كلب صيد!) فإن كتب التراث تروي انها لوح كتب عليه قصة اهل الكهف، نجد أن أمية بن أبي الصلت على معرفة به:

وليس بها إلا الرقيم مجاوراً = وصيدهم والقوم في الكهف همد(28).

ولا يقف الأمر عند الصياغات الأسلوبية، بل يتعداه إلى أفكار بأكملها كنبذ الشرك مع الله بأن لا يُعبد غيره وتحريم المشروبات الكحولية، فكرة البعث بعد الموت، الجزاء والعقاب،.يقول المسعودي (مروج الذهب ج1 ص70) مثلا عن أمية بن أبي الصلت «كان يقول أشعارا على آراء أهل الديانة – الإسلام- يصف فيها السماوات والأرض والشمس والقمر وذكر الأنبياء والبعث والنشور والجنة والنار ويعظم الله عز وجل ويوحده، من ذلك قوله:

الحمد لله لا شريك له من لم يقلها نفسه ظلما».

ذكر أن نبياً كان اسمه خالد بن سنان (من بني عبس) كان قبل محمد؛ وقد أتت مرة ابنته لعند محمد فبسط لها رداءه، وكما ذكر أنه قرأ أمامها سورة الإخلاص «قل هو الله أحد الله الصمد ....» فقالت له: "قد كان أبي يتلو هذه السورة"(29).

و كما هو معلوم كان محمد يعتبر هذه السورة مهمة جداً، وقد منح أجراً لمن يقرأها كأنه قرأ ثلث القرآن، إلا أنه بقليل من البحث، يتضح لنا أن الأفكار التي تشملها كانت منتشرة في تلك الأصقاع العربية. وكذلك نقرأ قريباً من صيغتها كما هي في القرآن الحالي عند "قس بن ساعدة الإيادي": «كلا بل هو الله إله واحد⁄ ليس بمولود ولا والد ⁄ أعاد وأبدى ⁄ وإليه المآب غدا»(30).

-ب -

أما ما ذكر عن موافقة الكثير من الآيات القرآنية لبحور الشعر التي أحصاها العرب فهذا كثير في القرآن وسنأتي على ذكر بعضها. ورغم هذا يمتنع الإسلاميون على تسمية هذا بالشعر، لماذا؟ قيل لأنهم لا يسمون البيت الواحد شعراً، فالشعر عندهم بيتان فصاعداً! وإذا اختلف رويهما وقافيتهما فليس بشعر على حد ما يأتي به الباقلاني(31). أما إذا انتظمت السورة من أولها إلى آخرها ضمن سياق نفس شعري واحد وقافية واحدة (ولا أقول بحر واحد)، فهذا لا يجيب عليه الباقلاني، ذلك أننا لا نسمي القافية في القرآن بـ "القافية" بل ندعوها بـ "الفاصلة" (تحرزاً من تهمة الشعر والعياذ بالله). ومن جهة أخرى قد تختلف في السورة مستويات النظم الشعري من بحر إلى بحر (وهنا مربط الفرس عندهم بأنه لا يسمى شعراً)؛ أما الشاعر العادي فله ما يشاء في التكسير والحشو والجوازات الشعرية والقفز فوق البحر...الخ، وما أسهل اختراع القواعد اللامقدسة له عند الطلب (والبحر العربي "البسيط" شاهد على ذلك): يجوز له كذا، وهذه جوازها كذا... أما بخصوص القرآن فإياك أن تقترب منه! ومن جهة أخرى رغم إقرارنا مع الباقلاني أنه ربما يقول الإنسان "العامي" -على حد وصفه- (مع العلم أن الذي قال القرآن ليس إنساناً عامياً) جملة لغوية لا على التعيين، وإذ بها توافق بحراً شعرياً ما، رغم الإقرار بهذا، فإن ما سيرد تالياً، ليس الهدف منه إلا نقطة واحدة وهي إثبات أن القرآن: خرج من بنية هذا النظام اللغوي والثقافي، وخاضع له، رغم انزياحه الدلالي والسيميائي بين هنا وهناك لكي يثبت ذاته وتميزه على الأرض ضمن أواسط الشعراء؛ فهو مثله مثل أي نص آخر، تطبق عليه قواعد النقد التاريخي واللغوي. فإذا حدث أن طبقت آليات النقد الهرمونيطيقي (التأويلي) والسيميولوجي على نصوص شعراء كبار، فالأحرى أن تطبق –بدون حواجز مقدسة- على هذا النص التاريخي: القرآن. المشكلة مع الإسلاميين أنهم يعلمون بأن هذا النص قد رمي وسط هذا النظام اللغوي إلا أنهم يمنعونه عن القواعد النقدية، فهم يتمثلون كما أورد مرة "نصر أبو زيد" على لسان الشاعر:

ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له = إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

أحب أن أشير إلى أن اختيار الآية الأولى من رواية "الزركشي(32)" كما مر معنا في استهلال المقال، رغم أنه لا يشير إليها من أي بحر، إلا أنه يقر ضمنياً بتوافقها مع الوزن الشعري كما حدث بالرواية، وهذا ما حدا بالعربي أن لا يفرقها حينها عن الشعر كما رأينا. أما الثانية والثالثة من الباقلاني(33)، الذي يقر وينسبهما إلى بحورهما الشعرية ثم يرد على هذه الاعتبارات ضمن مستواه النقدي. أما الآيات المتبقية، فهي من كتاب السيوطي "الإتقان في علوم القرآن". ومن جهة أخرى إن "معظم" الآيات التالية آيات مكية (وليست آيات يثربية) مع نفس شعري قوي فيها. نقرأ:

«يا أيها النّاس اتقوا ربكم إن زلزلة السّاعة شيءٌ عظيم» [الحج: 1] من الرجز مع حذف "إن" كما جاء في رواية الزركشي.

(يرى "نولدكه" أنه من الآية 1-24 آيات مكية مع خروج 5-7 عن السياق(34))

«وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ» [سبأ: 13] من الرمل:

«ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه» [فاطر: 18] من الخفيف:

- أما بشأن رواية السيوطي(35) نقرأ:

فمنه من بحر الطويل: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» [الكهف: 29].
ومن المديد: «واصنع الفلك بأعيننا» [هود: 37].
ومن البسيط: «فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» [الأحقاف: 25].
ومن الهزج: «فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا» [يوسف: 93].
ومن الرجز: «ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا» [الإنسان: 14].
ومن المتقارب: «واملي لهم إن كيدي متين» [كررت مرتين في الأعراف: 183 وفي القلم: 45].




الهوامش:

1- جاك بيرك: "إعادة قراءة القرآن" إلا أن "منذر العياشي" ترجمه تحت عنوان "القرآن وعلم القراءة" دار التنوير- بيروت ط1 1996، ص109.
2- الزركشي: "البرهان في علوم القرآن" دار الجيل- بيروت، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم 1988، ج2 ص116. وكما لوحظ أنه سقط حرف "إن" في الشطر الثاني من البيت كما وردت في رواية الزركشي لضرورة أن يستقيم الوزن الشعري.
3- نصر حامد أبو زيد: "النص والسلطة والحقيقة" إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب ط4 سنة 2000، ص87. المترجم.
4- جواد علي: "المفصل في تاريخ العرب" نشر بمساعدة جامعة بغداد. ط2 ، 1993 (ج9 ص696). المترجم.
5- الطيب تيزيني: "النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة" دار الينابيع- دمشق 1997، ص135. المترجم.
6- فؤاد أفرام البستاني: "الشعر الجاهلي" نشأته- فنونه- صفاته، المطبعة الكاثوليكية، سنة 1927، ص19-20. المترجم.
7- الشهرستاني (ت 548هـ): "الملل والنحل" دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان ط7، 2007، ج3 ص654. المترجم.
8- البستاني: مرجع سابق ص17-18.
9-. صحيح البخاري: باب قوله "وأسروا قولكم ..." رقم 7527.
10- هاملتون جب: "علم الأديان وبنية الفكر الإسلامي" ت: عادل العوّا منشورات عويدات، بيروت- باريس، ط1 أكتوبر 1977 ص115.
11- الطيب تيزيني: مرجع سابق ص135 نقلاً عن البستاني (في المرجع المذكور).
12- النويري: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب، "نهاية الأرب في فنون الأدب" دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان تحقيق مفيد قمحية ط1سنة 2004 ج13 ص233.
13- المناوي: "فيض القدير" على كتاب "الجامع الصغير" للسيوطي، دار المعرفة، بيروت- لبنان 1972 ج2 ص 187.
14- المفصل في تاريخ العرب ج9 ص504. وقد نقله عن كتاب "الشعر والشعراء" (1/ 115)
15- الألوسي: "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" تحقيق محمد بهجت الأثيري دار الكتب العلمية،ط1، 2009 ج3 ص 286- 287.
16- القرطبي: "الجامع لأحكام القرآن" تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان ط4، 2001، ج19 ص207.
17- القرطبي: المصدر نفسه ج18 ص232.
18- القرطبي: المصدر نفسه ج18 ص233.
19- الطبري: "جامع البيان في تفسير القرآن" دار المعرفة بيروت 1992 ج3 ص5.
20- البلخي: "كتاب البدء والتاريخ"، اعتنى بترجمته كلمان هوار ، وكان معلماً في المدرسة الألسنية الشرقية بباريس. طبع سنة 1899، ج1 ص145.
21- ابن الجوزي: "المنتظم في تاريخ الأمم والملوك" دراسة وتحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عطا، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان ط1 سنة 1992 ج3 ص154
22- المصدر نفسه: ج3 ص154.
23- القرطبي: المصدر نفسه، ج17، ص178.
24- السيوطي: "الدر المنثور" دار الفكر- بيروت 1993 (عند تفسير آية وله الدين واصبا ج5 ص137).
25- اليعقوبي: "تاريخ اليعقوبي" طبع بمدينة ليدن بمطبعة بريل سنة 1883، ج1 ص 272.
26- ابن هشام: "السيرة النبوية" تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، غبد الحفيظ الشبلي . دار ابن كثير 1999 ج1 ص17
27- ابن هشام: المصدر نفسه: ج1 ص55.
28- الزمخشري: تفسير "الكشاف" خرج أحاديثه خليل شيحا، دار المعرفة بيروت-لبنان ط1، 2002 ص613.
29- المفصل في تاريخ العرب: ج6 ص84 (نقله عن كتاب الحيوان للجاحظ 4/ 477).
30- الشهرستاني: في الملل والنحل ج3 680.
31- الباقلاني: محمد بن الطيب (ت 403)، "إعجاز القرآن" تحقيق عماد الدين حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية ط4، 1999، ص77.
32- الزركشي: مرجع سابق، ج2 ص116.
33- الباقلاني: ص77-78.
34- ثيودور نولدكه: في كتابه "تاريخ القرآن" (تعديل فريدريك شفالي .نقله للعربية جورج تامر بالتعاون مع مؤسسة كونراد – أدناور ط1 2004. ص 191.
35- السيوطي: (ت 911هـ) "الإتقان في علوم القرآن" دار الفكر- دمشق ج2 ص87.


عن موقع الأوان.
 
2/2

خارج أحضان الشعر وموقف محمد من الشعراء، أو النص القرآني المسيطر

أمّا في المدينة فقد اتّخذت رسالة النبيّ طابع المؤسّسة، وكانت مكرّسة بالضرورة وعلى نحو أساسيّ لحكم الناس وجعلهم يقبلون بالقدر الجديد.
وفي سبيل هذه الغاية كانت الوسائل كلّها مشروعة، بصرف النظر عن اتساقها مع المبادئ الروحية والأخلاقية التي دُعي إليها(1)".
علي الدشتي

هل كان محمّد شاعراً؟
إذا كان الجزء الأول من المقال قد أكّد شاعرية القرآن المكّي في اشتراك مناخه الشعريّ والغنائيّ مع الشعر، والمدى الكبير الذي اقتبسه من البيئة الشعرية والثقافية الحافّة حوله، فإنّه من الوارد الآن التساؤل عن شاعرية محمّد. في الواقع هذا السؤال مشروع تماماً من وجهة النظر النقدية. ورغم ما مرّ معنا في الجزء الأول عن نهل القرآن من محيطه الثقافي، لا يجب أن يكون الجواب استسهالياً لنريح أنفسنا من تعب النقد وعنائه، فنغلق أبواب البحث لنجيب على هذا التساؤل بـ نعم أو لا. أعتقد أنّ أهمية هذا التساؤل تنبع من زاويتين :
الأولى : حينما يتناول النقد بشكل موضوعيّ القرآنَ وبشكل خاصّ في مراحل تكوّنه المكّية واكتشاف من ثمّ ذلك التقاطع أو ديالكتيك العلاقة بينه وبين حضن الثقافة التي ولد من رحمها. طبعاً ما تمّ سابقاً ليس إلا محاولة (وهي بحاجة إلى جهود باحثين كثر) في الكشف عن الكيفية التي ينظر العربي من خلالها إلى الشعر، وكيف كان يضع القرآن على قدم المساواة مع ما كان يفرزه مناخه الثقافيّ من شعر أو نثر أو سجع…الخ ليس على المستوى الغنائيّ فقط، وإنما باقتباس محمد مفردات وجمل شعرية بأكملها وتضمينها من ثمّ في القرآن.
الثانية : (وهي الأهمّ) درس القرآن من زاوية تاريخية ومراقبة تشكّله رويداً رويداً خلال ثلاث وعشرين سنة، كان محمد الناظم الفعلي له أثنائها، والوسيط بينه وبين الحركات الاجتماعية (بكلّ ما يكتنفها من جوانب) التي كان يشكّل جزءاً رئيسياً منها؛ ومن ثمّ الكشف عن مستويات التقلّبات الدراماتيكية سواء في بنيته أو في نظمه أو أسلوبه…الخ. وأفضل عمل جاد قُدّم إلى الآن بهذا الخصوص هو دراسة "ثيودور نولدكه Theodor Noldeke" (1836-1930) بعمله الرائع "تاريخ القرآن" منذ ما يقرب 150 سنة، وذلك في عام 1860. حيث تناول فيه كلّ ما يخصّ تاريخ القرآن، وبالأخصّ المراحل الكرونولوجية لتكونه عبر الزمن، وإن كان بمستويات نقدية باكرة، إلا أنه يبقى الأهم إلى الآن سواء على المستوى الإسلامي أو الغربي.
مرّة أخرى، هل كان محمد شاعراً؟ في الواقع لقد أدرك محمّد جدّية هذه "التهمة" (كان يعتبرها "تهمة" بكلّ ما تعنيه الكلمة) وخطورتها على مكانته بوصفه "نبيّا" يوحى إليه من السماء. لذا حاول بكلّ ما بوسعه من طاقة لدفع هذه التهمة بعيداً عنه، سواء تهمة الشعر أو الكهانة. ومن هنا نقرأ هذا التصريح العلني والواضح: «وما علّمناه الشعر وما ينبغي له» [يس: 69]. إذاً المسألة ليست فقط أن محمداً لم يتعلم الشعر بل لا يجوز ولا ينبغي له إلقاء الشعر أو ما يتسهل له (على حد تعبير الزجاج). لماذا؟ لأنه إذا سمح لغيره أن يصفوه بأنه شاعر، فأمر النبوّة في خطر، وستنتفي عنه هذه الصفة العظيمة إلى الأبد… فلكونه نبيّا فهو ليس بشاعر، وخاصة بعد أن وضع نفسه على قدم وساق مع خط الأنبياء السابقين (لا وبل وسيدهم). فكيف والحال هذه سيسمح لغيره أن يطلق عليه لقب الشاعر! ذلك أنه إذا غدا الأمر على هذا النحو، فسيقف شيطان وحيه بالمرتبة نفسها مع شياطين الشعراء والكهّان ولن يتميّز عنهم. فمن أجل أن يفترق عن شياطينهم الشعرية أطلق على من يأتيه بالوحي : جبرائيل؛ رغم أنّ هذه التسمية من جهة ليست من إبداعه الخاص، بل إنها أتت بناءً على تطور لاهوته وفكره بما زوّده به التراث اليهودي- المسيحي، ومن جهة أخرى لم يحدث أن أطلق هذه التسمية على وحيه طيلة الفترة المكية، بل في يثرب: هناك حيث يكمن التراث اليهودي العريق.
ومن ناحية ثانية، رغم أنّ محمّد نفى عن نفسه "تهمة الشاعر" إلا أنه كان يفهم تماماً كيف يقال الشعر وكيف ينظم نظمه… كيف لا وهو العالم والحافظ لكثير من الأبيات أو القصائد الشعرية. تخاطب عائشة حسان بن ثابت مرة : "كان رسول الله (ص) كثيراً ما يقول "أبياتك" (2). ورواية أخرى تثبت أنه وقف مرّة على خطأ في الشعر ثم صحّحه أثناء جدال دار بين سودة وحفصة وعائشة : "أنشدت سودة: «عدي وتيم تبتغي من تحالف» فظنت عائشة وحفصة أنها عرّضت بهما. وجرى بينهن كلام في هذا المعنى، فأُخبر النبي (ص) فدخل عليهم وقال : يا ويلكنّ! ليس في عديّكنّ ولا تيمكنّ قيل هذا، وإنما قيل هذا في عدي تميم وتيم تميم(3)". ومن ضمن ما كان يقول محمد من أبياته الشعرية، نقرأ له مثلاً في معركة حنين (مع ملاحظة أن هذا لم يأخذ مكاناً في القرآن رغم أنه لا ينطق عن الهوى، فكل ما يتفوّه به هو وحي يوحى):
هل أنت إلا أصبع دميتِ … وفي سبيل الله ما لقيتِ
وأيضاً:
أنا النبي لا كذب … أنا ابن عبد المطلب
ونجد في مصنف ابن أبي شيبة (رقم 64): عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئاً من الشعر إلا قد قيل قبله إلا هذا :
هذا الحمال لا حمال خيبر … هذا أبر ربنا وأطهر
وأيضاً ما يروى عن عائشة قال قيل لها هل كان النبِي - صلى الله عليه وسلم- يتمثل بشيء من الشعر قالت : كان يتمثل بشعر ابن رواحة ويتمثل ويقول: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود»(4).
أما ما روي أنه كان يكسِّر بالأبيات الشعرية ويجعل آخر البيت أوّله وآخره أوّله ويبدل بالكلمات، فهذا اختلاق واضح عليه (وإن حدث فإنما كان يتمّ بشكل مقصود من أجل أن لا تتضرر أيديولوجيا النبوة) لنفي صفة الشعر عنه. ذلك أنه كيف يُوصف من قبل الإسلاميين بأنه كان أفصح العرب -على حد تعبير الجرجاني- وبنفس الوقت لا يعرف كيف يركّب بيتاً شعرياً واحداً! هذا خرافة فاضحة. والأمثلة التي اخترناها في الجزء الأول لهي أكبر دليل على استقامة نظم القرآن المكّي مع البحور الشعرية. فإذا استقامت مثلاً الآيات التي قدّمها السيوطي (انظر ج1 من هذا المقال) مع النظم الشعري –والأمثلة كثيرة من القرآن، ليس حصراً برواية السيوطي- وإذا تطابقت مع البحور الشعرية التي اخترعها العرب، كيف لنا أن نقبل بالحكم الديكتاتوري للقرطبي مثلاً "وكان عليه السلام ربما (لاحظ كلمة "ربما") أنشد البيت المستقيم في النادر"، هذا إذا أنشده، فإذا قاله فإنما سيكسّره كما كسّر بيت عبد الله بن رواحة مرة فصحّحوه له(5). لا وبل والأجهل من هذا أن نقرأ للباقلاني أنّ "العامي" ربما ينتظم معه بشكل عفوي –كما نفهم من كلامه- بيت شعري موافق لبحر شعريّ ما (ويعتبر هذا دليلاً على انتفاء شعرية القرآن)؛ فإذا كان هذا حال العامّيّ، فكيف الحال بـ محمد، وهو المثقف الرفيع، قد أوتي علم الأولين والآخرين، ألا يستطيع مع كل هذا العلم أن يركب قصيدة واحدة ما أو حتى بيتاً شعرياً واحداً!؟
ربما انتبه "الجرجاني" إلى هذه النقطة. فهو يتهم الإسلاميين الذين ينظرون إلى عدم قدرته على نظم الشعر بـ"الجهل العظيم": «وذاك أنا نعلم أنه (ص) لم يمنع الشعر من أجل أن كان قولاً فصلاً وكلاماً جزلاً …. كيف وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة وحماه الفصاحة والبراعة وجعله مبلغ الشعراء في حسن العبارة وشرف اللفظ؟ وهذا جهل عظيم وخلاف لما عرفه العلماء، وأجمعوا عليه من أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب. وإذا بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني، وكنا قد أعلمناه إنا ندعوه إلى الشعر من أجلها، ونحدو بطلبه على طلبها كان الاعتراض بالآية محالاً، والتعلق بها خطلاً من الرأي والانحلال(6)».
إلا أنه ورغم هذا لا بد أن نضع بالحسبان بين قوسين أن كتب الإعجاز (سواء للباقلاني أو للجرجاني…) لم تكتب أصلاً من أجل درس القرآن من ناحية نقدية، بقدر ما كان الهدف منها أولاً وأخيراً الدفاع عن إعجاز القرآن المسلّم به سلفاً. فالجرجاني وإن تقدّم وخالف معاصريه ببعض الهوامش إلا أنه ينطلق من نفس البنية الأرثوذوكسية الإسلامية في الدفاع عن نبوّة محمّد وإعجازه في القرآن؛ فرغم أنّ هذا (أي التسليم سلفاً بدون مقدّمات للدفاع عن إعجاز محمد القرآني) يعتبر عقبة إبستمولوجية أمام النقد، لكن لا بدّ أن نضعه ضمن إطاره التاريخي ومستويات النقد التي كانت حينها. ومعروف عندنا كم تقدم الجرجاني على أهل زمانه في تطوير علم الدلالة والمعاني. أما أن نعتبره الآن وكأنه نبيّنا في النقد اللغوي، فهذه مغالطة نقدية وتاريخية لا تحتمل النقاش. لذا لا نستغرب مع الجرجاني أن محمداً لم يمنع عن قول الشعر إلا لإثبات أنّ القرآن معجز من أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، وليس لأنّه لا يعرف أن ينظم الشعر كما نفهم من الجرجاني: «ورأينا السبيل في منع النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام الموزون غير ما ذهبوا إليه، وذاك أنه لو كان منع تنزيه وكراهة، لكان ينبغي أن يكره له سماع الكلام موزوناً وأن ينزه سمعه عنه، وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعراً ولا يؤيد فيه بروح القدس (يقصد حسان بن ثابت)…» فالمنع إذن عن محمد «سبيل الخط حين جعل عليه السلام لا يقرأ ولا يكتب، في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخط، بل لأن تكون الحجة أبهر وأقهر والدلالة أقوى وأظهر…» (7).
ومهما يكن من أمر، يبقى من حقّ محمد الطبيعيّ ضمن معطيات سياقه التاريخي الذي أفرزه أن يدفع عن نفسه "تهمة الشعر"، وإلا لم يكن مشروعه ليرى النور؛ أما عندما يوضع هذا ضمن موازيننا النقدية، فالأمر يختلف تماماً، وبالأخص من الناحية الفيلولوجية philology أو كما يرى "جاك بيرك" حينما ننظر للقرآن بقرب الشعراء العرب قبل الوحي وبعده.
- إذا كان الحال كذلك فماذا عن موقفه تحديداً من الشعر والشعراء؟
أ) الشعر: أعتقد أن أفضل رأي أدلى به بخصوص هذا الشأن هو أستاذنا نصر حامد أبو زيد في كتابه المهم "مفهوم النص". إلا أننا قبل أن نستعرض رأيه أحبّ أن أشير سريعاً إلى بعض الروايات المتناقضة جدّاً التي رويت على لسان محمّد، ما أدّى بكثير من الإسلاميين أن يقعوا بنفس أخطاء القدماء في التوفيق اللاتاريخي والتعسّفي بينها أو بـ"التلفيق" إذا استخدمنا لغة "أبو زيد".
يقول محمد: "لئن يمتلأ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلأ شعراً(8)". وجاء في كنز العمال: "إنّ من الشعر لحكماً وإنّ من البيان لسحراً"(9). وفي صحيح مسلم نجد أن محمداً يسمي الشاعر بالشيطان (6032): يقول محمد حينما رأى مرة شاعراً ينشد شعراً، مع العلم أن الحديث لا يحدد طبيعة هذا الشعر، ضده أو معه: "خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان لأن يمتلئ جوف أحدكم شعراً خير له من أن يمتلأ قيحاً". وفي البخاري أيضاً نجد (6154): " إن من الشعر حكمة" تروي عائشة أن الشعر بالنسبة لمحمد عندما سئلت هل يتمثل شيئاً من الشعر فتقول : "كان أبغض الحديث إليه، كان يتمثل ببيت أخي بني قيس فيجعل أوله آخره وآخره أوله"(10). ثم نجد لنفس هذه المرأة في مسند أحمد رواية تنسف وتقضي على روايتها السابقة: عن عائشة قال قلت لها كان رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يروى شيئاً من الشعر قالت نعم شعر عبد اللَّه بنِ رواحة كان يروي هذا البيت "ويأتيك بالأخبار من لم تزود". …..الخ هذه الروايات المتناقضة.
أما في ما جاء به القرآن كالآية المشهورة: «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ/ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ/ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ/ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» [الشعراء: 224-227]، فإننا نلاحظ من كتب التراث أن هذه الآيات يثربية رغم الإقرار بشكل عامّ بمكّية السورة كما هو متّفق عليه بينهم. أمّا لماذا هذا التناقض مرة أخرى، فهو فقط بسبب أن الشعراء قد ذكروا فيها بأنهم شياطين أو غاوون، ثم استثني عبد الله بن روحة (من بلحارث بن الخزرج) ومدّاحو محمد مع حسان بن ثابت (من بني النجار) وكعب بن مالك (من بني سلمة)، وهؤلاء كلهم كانوا من يثرب. لذا من أجل أن يحلّ هذا التناقض تم اختراع تلفيق كالعادة بالقول كما يصرّح "السخاوي" أن السورة كلها مكية باستثناء الثلاث آيات هذه من آخر السورة [ 224-227] (11) التي ذكر فيها اسم الشعراء، طبعاً هذا مع استثناء "مقاتل بن سليمان" الذي نقل عنه نولدكه(12) بأنه كان يعتبر السورة كلها مكية.
أعتقد أن هذا التناقض يعود في جزء رئيسيّ منه إلى انعدام الحسّ التاريخي والنقدي عند تراثيينا الذين كانوا يحاولون بأيّ طريقة حشو الكتب الصفراء بما هبّ ودبّ؛ أما أن يستمرّ انعدام هذا الحسّ عند المعاصرين الإسلاميين، فالمشكلة بالتأكيد أكبر. وبكل وضوح: السورة مكية بامتياز، وبالأخص الآيات الأخيرة منها. لماذا؟ لأنه لم يكن ثمة شعراء في يثرب ممّن يؤثرون على محمد وقرآنه في شعرهم أو أن يعادوه بـ "الغاوين". فإذا حدث فعلاً أن سبّ بعض الشعراء وهجوا محمداً، فهذا كان في مكة وليس في يثرب (مع الاستثناءات القليلة فيها)، وبالأخص حينما استنفدت أواخر العهد المكي وظيفة الشعر من جانب محمد، وبعد أن كيلت ضده الاتهامات بوصفه شاعراً، فرأى نتيجة لذلك ذمهم أولاً في هذه السورة ثم لاحقاً دفع تهمة الشعر عنه في سورة يس.
ومن هنا يصح التقسيم النقدي لـ "وليم موير W. Muir" للفترة المكية إلى خمسة عهود ووضع هذه السورة في العهد الرابع منه، من السنة السادسة حتى العاشرة. وكما لوحظ من خلال ترتيبه الكرونولوجي التقريبي للسور Approximate Chronological Order Of The Suras (Chapters) فإنه يضعها في أواخر هذا العهد ما قبل الأخير في مكة(13). وما يؤكد هذا الكلام أكثر، أن سورة يس التي نفى فيها محمد استطاعته عن قول الشعر [يس: 26] تأتي في أوائل العهد الأخير (العهد الخامس) حينما بدأت السبل تتهيأ أمامه باتجاه يثرب السياسة. ومن هنا كان لا بدّ من نفي الشعر عنه نهائياً وخاصة أننا مقبلون على مرحلة سياسية جديدة في يثرب. ومن المحتمل أيضاً أن محمداً قد قرأها مرة ثانية في يثرب بسبب بعض الشعراء اليهود مثل كعب بن الأشرف الذي اغتاله وقتله كما سنرى. مهما يكن من أمر، النفس الشعري المكي طاغ على هذه السورة، رغم أنها بنفس الوقت تذمّ الشعر والشعراء.
يتضح لنا من خلال ما مرّ سابقاً الموقف الحقيقي لمحمد من الشعر. من المؤكد تماماً أن محمداً لم يكن يكره الشعر "الذي" لا يهدّد مشروعه وخاصة القرآني، أما أن يؤثر هذا الشعر على مكانة النص المصحفي، فلن يمتلئ جوف شاعره قيحاً فقط –كما حكم عليه محمد- وإنما سيغدو من الشياطين والغاوين «ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون»!! [الشعراء: 25]. وإذا شئنا الدقة أكثر: إن نظرة محمد "اليثربية" إلى الشعر نظرة براغماتية تكتيكية بألف ولام العهد. بمعنى آخر: كل ما من شأنه أن يهدد المشروع المحمدي سيوضع في خانة الشياطين والكفار الغاويين، ولم تتقولب هذه البراغماتية وتتأدلج إلا حينما انتهت مهمة الشعر في أواخر العهد المكي. لذلك لم نسمع عنه أن ذمّ الشعراء وهو في بداياته المكية "النبوية" والحكمية (بامتياز)، وبشكل خاص الشعراء الحنفاء أو المسيحيين (أياً يكن) مثل أمية بن أبي الصلت (من بني ثقيف- من الطائف) الذي اتهمه لاحقاً بكفر قلبه رغم إيمان شعره(14)، أو زيد بن عمر بن نفيل (قرشي من بني عبد العزى) أو ورقة بن نوفل (بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي). فهؤلاء كانوا يمثلون حاضنة ثقافية وفكرية لما تولد في فكر محمد فأفرزه قرآناً.
لم يكن محمد في بداياته المكية قد تأدلج طابعه الديني بعد أو أخذ شكلاً محدداً. كان الشعر صديقاً ومصدراً جميلاً، اُستفيد منه كثيراً كما مرّ معنا في الجزء الأول. وهذا بحدّ ذاته يجيب في جزء كبير منه عن المسألة المهمة: لماذا طغت الرتابة المملة على القرآن اليثربي (المدني) وأصبحت الآيات فيه طويلة، واختفت الشعرية، حتى غدت الآيات القرآنية هناك وكأنها قطع قانونية مرصوفة ورتيبة؛ وهنا يمكن أن يقال أن النبوة حادت إلى ما وراء الحجب (هذا إن لم نقل قد أُلحدت إلى الأبد) ليحلّ محلّها فقه الغزوات والحروب وفقه افعل لا تفعل، أي : الشريعة. وبكل بساطة انتهت مهمة الشعر في يثرب ليحلّ بدلاً منه أسلوب قرآني جديد ودخلت شريعة الناسخ والمنسوخ (لا بأس أن يُنسخ مثلاً دين الحنيفية والتقارب مع المسيحية لتحل محله شرعة القتال والجزية : «قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ»! [التوبة: 29])، وسمي الدين الجديد بدلاً من "الحنيفية" بـ"الإسلام"، وأصبح الشعر مصدراً يثير القلق. لذا من الطبيعي أن لا ندهش ونقف مذهولين من هذه الرواية في إدراك محمد خطورةَ الشعر حينما تقابل مرةً مع أحدهم، يدعى بـ "الأسدي": يقرأ عليه محمد «قل هو الله أحد…» ثم يكملها الأسدي من عنده بكلمات ليست موجودة في السورة، فينهاه محمد عن الإكمال ويقول له: دعها فإنها شافية كافية، أو كما في النص : قرأ له محمد: «قل هو الله أحد/ الله الصمد» فزاد الأسدي: « قائم على الرصد/ لا يفوته أحد»(15). لو أن محمداً تركه يكمل، لأبدع الأسدي في هذه الغنائية؛ إلا أن هذا يشكل خطراً حقيقياً على ما في جعبة محمد القرآنية. هذا هو السبب الحقيقي لعداوة محمد للشعر وهو في يثرب (وأشدّد على "وهو في يثرب"). رواية أخرى يرويها الألوسي قريبة من الرواية السابقة تؤكد ما نذهب إليه في خطورة الشعر على القرآن؛ وأيضاً نجد أن محمداً ينهى ابن الحضرمي عن الإكمال من نثره الشعري، يمكن أن نقرأ: "وفد العلاء بن الحضرمي على رسول الله (ص) فقال له: أتقرأ شيئاً من القرآن؟ فقرأ عبس ثم زاد من عنده (إضافة إلى: عبس وتولى/ أن جاءه الأعمى) فقرأ: «وهو الذي أخرج من الحبلى نسمة تسعى/ بين شراسيف وحشى» فقال رسول الله (ص): «كفَّ فإن السورة كافية»(16)". طبعاً هذا شيء طبيعي جداً وخاصة إذا وضعنا في الحسبان أن القرآن أصبح النص المهيمن أو المسيطر على حد تعبير نصر أبو زيد.
ومن هنا نذهب مع ما يؤكد عليه نصر أبو زيد أن القضية أخطر من أن نعتبرها قضية تحليل أو تحريم ما بين الإسلام والشعر، ذلك أنه "ليس ثمة تعارض في موقف الإسلام من الشعر بل هو الموقف الإيديولوجي الذي يقبل ما يتفق معه ويرفض مع ما يتناقض مع مبادئه، لقد كانت القضية أخطر من مجرد التحليل والتحريم، كانت محاولة النص فرض هيمنته وسلطانه على الواقع والثقافة(17) ". هذا عن الشعر، فماذا عن الشعراء؟
ب) في مسألة اختفاء الشعراء (موقفه منهم):
لسنا في حاجة إلى تأكيد اتخاذ محمد المداحين من الشعراء لكي يمدحوه من جهة ولكي يدافعوا عنه بواسطة شعرهم ضد المعادين له من جهة ثانية. وكلنا يعلم مكانة "حسان بن ثابت" القدسية على كل الشعراء في نفس محمد، هذا بالإضافة إلى "كعب بن مالك" و"عبد الله بن رواحة" الذي كما مرّ معنا أنه لدرجة إعجابه بشعره فقد كان يتمثله. ولا نعلم بالضبط لماذا تبدل شيطان شعره إلى "مَلَك" في الإسلام، ثم بموت محمد يختفي هذا الملك. هل لأنه كبر في السن؟ ربما. لكن مما هو واضح أن المسألة كانت أعمق من هذا. كان اسم شيطان حسان "الشيصبان" وكان مبدعاً جداً وساعد حساناً جداً كما يروي القدماء في الإبداع الشعري، ثم نجده مع محمد يتحول إلى "روح القدس" أي جبريل. وكما يروى فإن أول بيتين أوحى بهما شيطانه له هما هذان البيتان وقد ذكر اسم شيطانه فيهما:
فإن لم يسد قبل شد الإزار … فذلك فينا الذي لاهوه
ولي صاحب من بني الشيصبان … فحيناً أقول وحيناً هوه
للأسف لقد مات الشيصبان والشعر وحلّ محله جبريل : اهجهم يا حسان "وجبريل معك(18)"، يقول محمد؛ أو كما يقول الثعالبي حينما يصف هذا التبدل بأنه من عجائب أمر حسان بتراجع شعره في الإسلام : " تراجع شعره وكاد يركّ قوله، ليُعلم أن الشيطان أصلح للشاعر وأليق به وأذهب في طريقه من الملك(19)". طبعاً بالتأكيد أن الشيطان أصلح للشاعر من الملاك أو روح القدس، لكن الثعالبي لم يقدم لنا سبباً عن دافع التبدل العجيب هذا من شيصبان إلى جبرائيل أو غبرييل. لقد وصل الحد بحب محمد لحسان (والأدق وظيفة حسان) أن بنى له منبراً في المسجد وأهداه جارية اسمها "شرين" (أو سرين). على كل لن نستطرد كثيراً في هذا الجانب المهم (الذي لا بد أن يولى أهمية كبيرة في علاقة حسان بمحمد)، لكن ما يهمنا الآن هو موقف محمد من هذا النوع من الشعراء؛ وهذا واضح كما رأينا. أما عن موقفه على الجانب الآخر (من الشعراء خارج الدائرة المحمدية) فهذا ما سنمر عليه الآن مروراً سريعاً في اغتيال الشعراء.
ثمة طائفة لا بأس بها من الشعراء قد تم قتلهم بأمر من محمد ممن كانوا يعارضونه أو يهجونه. وبسبب ضيق المجال هنا فلن أستطرد كثيراً في ذكرهم كلهم. لكن ما أودّ الإشارة إليه أوّلاً أن الأسماء التي اختيرت لم يعتبرهم العرب من شعراء "الفحول" أو الفطاحلة إلى آخر هذه التسميات. وهذا بحد ذاته موقف إيديولوجي فاضح. هل لأنهم كانوا مقلّين بشعرهم (وخاصة الشعراء اليهود)؟ بالتأكيد لا. لكن التاريخ يكتبه الأقوياء!
هناك اسمان يمكن أن يطرحا في هذا السياق : "النضر بن الحارث" (مكّي) و"كعب بن الأشرف" الشاعر اليهودي من يثرب. إلا أنه قبل أن أستعرض حوادث قتلهما أحبّ أن أشير إلى حادثتي اغتيال كان سببهما : الشعر. "عصماء بنت مروان" و"أبو عفك" وكان قتلهما بسبب ما كانا ينشدانه أو ما ادعاه الإسلاميون أنهم كانوا يهجوان نبيهم. أما فيما يخص المصادر، فقد اعتمدت على ابن هشام وابن سعد وابن سيد الناس وبشكل خاص على الواقدي في كتابه المهم "المغازي".
- عصماء بنت مروان:
من بني أمية بن زيد، يروى أن محمداً قد أمر بقتلها عندما سمع بشعرها وهي تهجوه وتنقد قومها في إطاعة الغرباء (لفترة زمنية طويلة في يثرب كان ينظر إلى محمد على أنه دخيل على يثرب المدينة) نقرأ لعصماء:
أطعتم أتاويّ من غيركم … فلا من مراد ولا من مذحج
ترجونه بعد قتل الرؤوس … كما يرتجى مرق المنضج(20)
ثم قتلها "عمير بن عدي" في جنح الليل وهي ترضع ابناً لها وأطفالها نيام حولها (ولشدة أهمية هذا التصرف سماه ابن سعد في كتابه الطبقات –ج2 ص20- بـ سرية عمير بن عدي). يُبعد عمير بن عدي طفلها من على صدرها ويغرز سيفه فيها حتى يخرجه من صدرها!! يروي الواقدي (ت 207هـ) في كتابه "المغازي" ما يلي: «فلما رجع رسول الله (ص) من بدر جاءها عمير بن عدي في جوف الليل حتى دخل عليها في بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه من صدرها؛ فجسّها بيده، فوجد الصبي ترضعه فنحاه عنها، ثم وضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها، ثم خرج حتى صلّى الصبح مع النبي (ص) بالمدينة. فلما انصرف النبي (ص) نظر إلى عمير، فقال "أقتلت ابنة مروان؟ قال نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله". ثم امتدح محمد عمير بن عدي بهذه الكلمات: "إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي"(21)
- أبو عفك:
كان رجلاً مسناً (عمره 120 سنة) أحد أبناء بني عمرو بن عوف. وقد أظهر غضبه ضدّ محمد بسبب قتل هذا الأخير الحارث بن سويد بن الصامت. ثم لمّا سمع محمد بشعره قال: "من لي بهذا الخبيث؟(22)" فانتدب لهذه المهمة سالم بن عمير فقتله. نقرأ لأبي عفك كما جاء في ابن هشام(23):
لقد عشت دهراً وما إن أرى … من الناس داراً ولا مجمعا
أبرّ عهوداً وأفى لمن …. يعاقد فيهم إذا ما دعا
من أولاد قيلة في جمعهم …. يهد الجبال ولم يخضعا
"…. حتى إذا كانت ليلة صائفة فنام أبو عفك بالفناء في الصيف … فأقبل سالم بن عمير، فوضع السيف على كبده حتى خشّ في الفراش وصاح عدو الله فثاب إليه الناس ممن هم على قوله فأدخلوه منزله وقبروه(24)".
ابن أبي الحقيق:
شاعر يهودي اختلف في اسمه والأرجح أنه الربيع بن أبي الحقيق (وليس سلام بن أبي الحقيق). قتله المسلمون بعد أن استأذنوا محمداً في ذلك. ومما يروى له تأنيبه ضد قومه بسبب إطاعتهم لمحمد:
فلو أن قومي أطاعوا الحليـ …. ـم لم يتعدوا ولم يظلم
ولكنّ قومي أطاعوا الغُوا….. ة حتى تعكس أهل الدم
فأوى السفيه برأي الحليـ …. ـم وانتشر الأمر لم يبرم(25)

النضر بن الحارث:
ربما لا تُعتبر شخصية النضر من الشعراء، ذلك أنه للأسف لم يصلنا من شعره شيء (وهذا لا ينفي أنه كان شاعراً). وما نعلمه من كتب التراث أنه سافر إلى فارس وتعلم هناك الحكم الفارسية والدينية. وطبيعي أن يقتله محمد في هذه الحال. لماذا؟ لأن هذا سيؤثر ويهدد مشروعية المشروع المحمدي والقرآني بما يأتي به النضر. لذا التخلص منه أمر وارد، ضمن سياق ولادة البيضة السياسية. لذا لا نستغرب أن يصفه كتّاب حياة محمّد وابن هشام على رأسهم بأنه من «شياطين قريش». وأن يخصص له محمد ثماني آيات في القرآن (لا بل كما يقول ابن عباس كل ما ذكر فيه أساطير الأولين فإن المعنيّ هو النضر(26) ). وهذا ما يدل كم كان محمد منزعجاً منه! يقول ابن هشام: "وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول الله وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسبنديار. فكان إذا جلس رسول الله مجلساً فذكّر فيه بالله وحذر قومه ما أصاب من قبلهم … خلفه في مجلسه (أي النضر) إذا قام ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم إلي فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار. ثم يقول بماذا محمد أحسن حديثاً مني؟(27)". إذاً سبب القتل لوحده يفسر أهمّية الأحاديث التي كان يأتي بها النضر. ومرة أخرى لم نر شيئاً من تلك الأحاديث التي تحدّى بها النضر محمداً. لقد قتل النضر (كان حينها أسيراً) بواسطة علي بن أبي طالب مع عقبة بن أبي معيط الذي سأل محمداً قبل أن يقتل عن أطفاله فحكم عليهم محمد بـ النار: «من للصبية يا محمد؟ قال: النار(28)».
رثته أخته "قتيلة بنت الحارث" بأبيات تؤكد فيها بأنه : ما الذي كان يضرّ محمداً - كونه كان سجيناً عنده- أن يطلق سراحه أو أن يتم فداؤه بفدية بدل أن يقتله. ولكن للأسف إن أخته هذه لم تكن تدرك ما لذي كان يعنيه أخوها بالنسبة لمحمد فيما يأتي به (الأمر الذي ينافس القرآن) حتى يقدم على قتله رغم أنه كان سجيناً بين يديه. تقول قتيلة في رثاء أخيها النضر أو تبكيه على حد تعبير ابن هشام:
ومَا كَانَ ضُرّك لَوْ مَنَنْتَ وَرُبّمَا …..منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
أَوْ كُنْتَ قَابِلَ فِدْيَةٍ فَلْيُنْفِقَنْ ….. بِأَعَزّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْفـقُ
فَالنّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ أَسَرّتْ قَرَابَةً … وَأَحَقّهُمْ إنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ
ظَلّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ … لِلّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُشَقّقُ(29)
- كعب بن الأشرف:
من الشعراء اليهود المهمين، وكان يمتلك شخصية قوية، لم يستسلم حتى وفاته للوضع الجديد مع محمد. ومما يروى له قبل اغتياله بما يؤكد بصيرته النافذة في اتجاه الريح لصالح محمد: « قد والله كنت أحدثك بهذا يا ابن سلامة أن الأمر سيصير له(30» (أي سيصير حكم يثرب لمحمد) لهذا كان فعلاً ينظم الشعر ضده، ويحرض قومه اليهود ضدهم دفاعاً عن مدينتهم يثرب. ومما يروى أنه لما أنشد قصيدة وبلغ هجاؤه محمداً، قال محمد: «من لي بابن الأشرف؟ فقد أذاني(31)». ثم انتدب محمد ابن مسلمة لهذا، ولحقه أربعة آخرون، فقتلوه غدراً كما يروي الواقدي. ثم لمّا قتلوه كبروا بالبقيع وسمعهم محمد وعرف أنهم أنفذوا مهمتهم فقال لهم: «أفلحت الوجوه(32)».
طبعاً هذا كان سبباً من الأسباب الرئيسية (وليس السبب الأوحد) لاختفاء الشعراء، نتيجة ما أفرزته تلك الاغتيالات من الخوف والفزع، مما أدى إلى خفة الوهج الشعري على عهد محمد اليثربي. هذا مع الإقرار التامّ مع "جواد علي" أنّ قلّة الشعراء تعود إلى تأثير التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بدأت تطرأ على جزيرة العرب(33). أما أن يقال مع "ابن خلدون(34)" أن الناس انصرفوا عن الشعر بسبب الوحي و براعة نظم القرآن، أو على حدّ تعبيره "أُخرسوا" عن قول الشعر بسبب ذلك زماناً، فهذا الكلام مثاليّ جداً وبعيد تماماً عن مكّة ويثرب وعن السياسات الجديدة التي كان الشعر أحد أعدائها. ولندقّق بين رأي ابن خلدون وبين خطاب محمد لليهود حينما انتهى من اغتيال كعب بن الأشرف: «إنه لو قرّ كما قرّ غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل (أي لم نقم باغتياله)، ولكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر» ثم يهدّدهم محمّد: «ولم يفعل هذا أحد منكم إلا كان له السيف»(35). طبعاً الهجاء كان أحد أعمدة الشعر العربي، قصيدة بقصيدة، أما مع الوضع الجديد : القصيدة يقابلها السيف؛ وبالتالي اختفاء الشعر والشعراء.


الهوامش:
1- علي الدشتي: 23 عاماً، دراسة في السيرة النبوية المحمدية (رابطة العقلانيين العرب) ط1 سنة 2004 الناشر: بترا للنشر والتوزيع، التوزيع: دار الفرات بيروت- لبنان، ص129.
2- الجرجاني: عبد القاهر، "دلائل الإعجاز في علم المعاني" صححه محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت- لبنان، 1978، ص16.
3- الجرجاني: نفس المصدر: ص17.
4- رواه الترمذي: رقم 3085.
5- القرطبي: "الجامع لأحكام القرآن" تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان ط4، 2001.ج15، ص49.
6- الجرجاني: مصدر سابق ص20-21.
7- الجرجاني: مصدر سابق ص22.
8- البخاري: رقم 6154.
9- البخاري: رقم 6154.
10- العلامة الهندي: كنز العمال، مؤسسة الرسالة، ضبطه الشيخ بكري الحياني وصححه الشيخ صفوة السقا، ج3 ص858 رقم الحديث: 8951.
11- السخاوي: "جمال القراء وكمال الإقراء" مؤسسة الكتب الثقافية ط1، 1999، ج1 ص132.
12- نولدكه: "تاريخ القرآن" (تعديل فريدريك شفالي .نقله للعربية جورج تامر بالتعاون مع مؤسسة كونراد – أدناور ط1 2004. ص114.
13- Muir, William, The Quran, Its Composition And Teaching, And The Testimony It Bears To The Holy Scriptures. London, Society For Promoting Christian Knowledge. 1878, P. 43-44.
14- كنز العمال: ج3 ص577، رقم: 7980.
15- كنز العمال: مصدر سابق ج3 ص854-855 رقم8988.
16- الألوسي: "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب" تحقيق محمد بهجت الأثيري دار الكتب العلمية،ط1، 2009. ج3 ص133.
17- نصر أبو زيد: "مفهوم النص"، المركز الثقافي العربي، ط3، 1996، ص140.
18- البخاري: رقم 4123.
19- جواد علي: "المفصل في تاريخ العرب" نشر بمساعدة جامعة بغداد. ط2 ، 1993. ص735.
20- الواقدي: كتاب المغازي. دار الكتب العلمية، ط1 /2004/ ج1 ص161.
21- الواقدي المصدر نفسه: ج1 ص161.
22- الواقدي: ج1 ص 163.
23- ابن هشام: "السيرة النبوية" تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، غبد الحفيظ الشبلي . دار ابن كثير 1999. ج1 ص636.
24- الواقدي: نفس المصدر ج1 ص161.
25- انظر المفصل في تاريخ العرب: ج9 ص 783.
26- ابن هشام: ج1 ص300.
27- الواقدي: نفس المصدر ج1 ص161.
28- ابن سيد الناس: "عيون الأثر" دار الجيل بيروت، ط2، 1974 ج1 ص265.
29- ابن هشام: ج2 ص43.
30- الواقدي: ج1 ص175.
31- الواقدي: المصدر نفسه، ج1 ص175.
32- المصدر نفسه: 177.
33- جواد علي: مصدر سابق، ج9 ص839.
34- مقدمة ابن خلدون: دار صادر- بيروت ط1، 2000، ص471.
35- الواقدي: مصدر سابق، ج1 ص179.

* عن موقع الأوان
 
أعلى