نقد حيدر عبد الامير رشيد الخزعلي - مفهوم الفن والعمل الفني.. محاضرة

مفهوم الفن

لو رجعنا إلى الأصل في اشتقاق كلمة ( الفن ) باليونانية لوجدنا أن هذه الكلمة تعني ( النشاط الصناعي النافع بصفة عامة ) ولم يكن لفظ الفن عندهم مقتصراً على فن الشعر والنحت والموسيقى والغناء بل كل ما يشمل الصناعات المهنية كالنجارة والحدادة والبناء ، ولعل ما يشيره الفن عند اليونانيين هو حصيلة القدرة البشرية ما دام الإنسان هو الصانع فهو يستحدث الموضوعات والأدوات ويتيح أشياء جديدة الأمر الذي جعل الفلاسفة أن يضعوا الفن مقابل الطبيعة .
فقد فهم افلاطون بأن الفن هبة مقدسة جاءت إلى الإنسان من العالم الحسي ، وفهم مهمة الفنان على أنها أخطر وأعظم من مجرد التعبير عن الصورة الجميلة . ولم يكن أفلاطون هو أول من عبّر بفلسفته عن الاتجاه الديني العلمي في الفن ، بل أنَّ الفلسفة السابقة عليه منهم من استطاع أن يضع النواة الأولى لهذا الاتجاه ( 6 ، ص33-34 ) . لقد عبّر أفلاطون عن الفن بأنه محاكاة ، فقد كان يعتقد بأن للأشياء مراتب ثلاث أدناها الفن وأوسطها عالم الحس وأعلاها عالم المثل وفي رأيه أن الأول ليس إلاَّ محاكاة للعالم الحسي ، لذا فإن الفن بعيد عن الحقيقة بمقدار درجتين ، وقبال هذه التقسيمات الثلاث يقسم أرسطو المعارف البشرية إلى ثلاثة أنواع " معارف نظرية ومعارف عملية ومعارف فنية فلم يكن يخلط بين الفن والمعرفة العملية بل يقول أن غاية الفن تتمثل بالضرورة في شيء يوجد خارج الفاعل وليس على الفاعل سوى أن يحقق إرادته فيه " ، ( 3 ، ص8 ) .
فالفن عند أرسطو وسيلة وصنعة وليس هو الغاية فما يضيفه الإنسان ما هو إلاَّ أثر أو حصيلة الفن في حد ذاته لذا فهو يشير إلى " أن الفنان لا ينبغي له أن يتقيد بالنقل الحرفي للواقع وإنما عليه أن يحاكي الأشياء على النحو الذي يجب أن تكون عليه "
( 7 ، ص45 ) .
لذا فإن المحاكاة في نظر أرسطو ليست تطابق الأثر الفني مع صورة الطبيعة بل إنها تعني أن الصورة الطبيعية نقطة بداية في عملية الخلق الفني مؤكداً " أن الفن الجميل هو أن لا يكون ترديداً حرفياً للمجرى المألوف للتجربة " ( 8 ، ص170 ) . وكذلك يرى أرسطو " إنَّ من شأن الفن أن يصنع ما عجزت الطبيعة عن تحقيقه فعمل الفنان لا ينحصر في إمدادنا بصورة مكررة لما يحدث في الطبيعة وإنما في العمل على التغيير من طبيعة الطبيعة " ، ( 9 ، ص46 ) .
والظاهر أن العرب قد فهموا الفن بالمعنى الذي فهمه أرسطو ، إذ يقول أبو حيان التوحيدي " إنَّ الطبيعة مرتبتها دون مرتبة النفس تقبل آثارها ، وتمتثل بأمرها وتكمل بكمالها ، وتعمل على استعمالها وتكتب باملائها ، وترسم بإلغائها ... " ، ( 3 ، ص9 ) .
فقد يدل هذا النص على أن التوحيدي فهم بأن الفن هو الإنسان مضافاً إلى الطبيعة وإنما الطبيعة تخضع لإملاء العقل البشري وهو ما يشير إليه بأن الطبيعة دون النفس الإنسانية .
ولعل هناك نظرة متعالية في الفكر الإسلامي حول موضوع الفن والمتمثلة برأي الغزالي الذي يميز بين طائفتين من الظواهر الجمالية في الفن ( طائفة تدرك بالحواس وهذه تعلق بتناسق الصورة الخارجية وانسجامها سواء كانت بصرية أم سمعية أم غير ذلك أما الطائفة الثانية فهي ظواهر الجمال المعنوي التي تتصل بالصفات الباطنية ، وأداة إدراكها القلب فالقلب إذن ( الوجدان ) هو قوة إدراك الجمال في المعنويات ) ،
( 10 ص20 ) .
ويرى فرويد ( 1856 – 1939 ) إن الإنسان طاقة غريزية وأن ثقافته تتسامى بهذه الطاقة وأنه أي إنسان يسير بعقده النفسية وعوامل الكتب في الطفولة وأنه يهرب إلى أحلام اليقظة والشطح الخيالي ويلجأ إلى اللعب فيرتب على ذلك أن الفن تعبير جبري عن الطفولة المكبوتة والهرب إلى الخيال واللعب ، فالفن نتيجة الغريزة لا العقل .. وهو محكوم بالحتمية لا الحرية وابتعاد عن تغير المواقع ولهذا فإن الإنسان والفنان لا يتحكم في نتاجه بل أن نتاجه هو الذي يسيره ، ( 11 ، ص47 ) .
يرى الباحث إن فكرة اللعب التي جاء بها فرويد لم تكن وليدة اللحظة وإنما اتفق بها مع ما جاء به شيلر ( 1759 - 1805 ) ولكن فرويد أوعز الفن كونه لعب بعيداً عن العقل فيما أكد شيلر بأن " اللعب يتوسط فعل الحواس وفعل العقل " ، فالإنسان عندما يلعب يتأمل الطبيعة تأملاً استطيقياً فينتج فناً ، وهكذا تبدو لنا الروح وكأنها على وفاق مع الطبيعة وكذلك الصورة مع المادة ، بمعنى أن الصورة هي التي تمنح الحياة لموضوع الفن . ( 12 ، ص39-40 ) .
وفي الوقت الذي يرى فيه فرويد أن الفن طاقة غريزية نابعة من التسامي فإن يونك ( 1875 – 1961 ) لا يختلف في كون الغريزة هي المنطلق الأساس للفن ، إذ يقول " إنَّ الغريزة هي المحرك الأول للفن " . ( 11 ، ص66 ) ، ولكن على أساس مبدأ اللاشعور فهو يعد اللاشعور مبدأ من المبادئ الفطرية فهو يرى " الفن نوع من الواقع الفطري والذي يستولي على الإنسان ويجعله أداته ، والفنان ليس شخصاً مزوداً بحرية الإرادة يبحث عن فغاياته لكنه شخص يسمح للفن أن يحقق أغراضه من خلاله وهو كفنان إنسان جمعي للبشرية " ، ( 11 ، ص67 ) .
ولـ( كانت ) الألماني ( 1724 – 1804 ) منهجه الترنسندنتالي الذي ينطوي على القول بأن المعرفة تتألف من عنصرين ( مادة وصورة ) بمعنى أنه ليس ثمة مادة في الفكر بدون صورة وليس للصورة أي معنى في ذاتها لأن وظيفتها الاتحاد بالمادة والمادة موضوع الحدس الحسي القبلي وليس لنا من حدس سواه وهذا الحدس يتمثل في الزمان والمكان اللذان يجعلان من المدركات الحسية ما يسميه ( الظواهر ) وهي عبارة عن الأشياء وكما تبدو لنا وكما هي في ذاتها ، ( 12 ، ص32 ) .
والفن في نظر كانت هو إنتاج حر ولما كان الجمال ينفذ منه إلى الكل فإن الجمال ليس ملتصقاً بالحسي بل هو يتجاوزه ، والجميل هو الذي يدفع إلى السرور في حد ذاته لا في المجال الحسي فقط أو المجال التصويري فقط ، فالفن لا يمكن أن نسميه فناً جميلاً إلاَّ إذا كنا واعين به كفن وإن كان يبدو ممثلاً للطبيعة ويجب أن يكون محرراً من أية قواعد متعسفة والطبيعة يمكن أن تكون جميلة لأنها تبدو مقل الفن ، ( 13 ، ص46 – 47 ) .
أما ليون تولستري ( 1828 – 1900 ) فقد عرّف الفن بعيداً عن التصورات التي تدور حول فكرة الجمال ، وإنما يعرف الفن بأنه نشاط انفعالي أو هو بمعنى أدق لغة وتوصيل للانفعالات ، فهو يرى أن الفن ليس مجرد تعبير وإنما هو توصيل للانفعالات ، كما هو الحال في اللغة ، وفي الوقت الذي تقدم فيه اللغة الأفكار يقدم الفن الانفعالات والعواطف بين أفراد المجتمع بواسطة الألوان ، فهو إذن نوع من اللغة الأمر الذي أخذت به سوزان لانجر فهي تعرف الفن بأنه لغة الشعور السابقة في الإنسان على لغة المنطق ، ( 6 ، ص20 ) .
وينفي جورج لوكاتش ( 1885 – 1971 ) ، أن يكون الفن تسجيلاً للواقع أو لجزئيات الواقع لأنه نفاذ لما وراء الواقع ، إنه ينفذ من السطحي إلى الجوهري ومن المظهر إلى الحقيقة ومن الجزئي إلى الكلي أو الشمولي ولهذا فإن الفن هو خلق للحياة الشاملة وإبداع للذات الجمالية الأوسع نطاقاً من الذات الطبيعية أو الذات الأخلاقية ، والشمولية عند لوكاتش هي جوهر الفن ، إنها ارض الجدل ، إنها محاولة للارتفاع إلى مستوى الإنسانية وهذا يتم عندما يلتقي الخاص بالعام في لحظة الاستنارة والجزئية التي نلتحم في شمولية الحياة لا يهم ما إذا كان الفنان قد شاهدها في الحياة أو خلقها بالخيال من خلال تجربة مباشرة أو غير مباشرة ، ( 11 ، ص76-77 ) . ولوكاتش يرتد في هذا الصدد إلى الفيلسوف الألماني هيكل ( 1770 – 1831 ) الذي افترض أن الروح المطلق هو محوره في الفلسفة ، ذلك أن كل ما في الوجود من ظواهر طبيعية أو مادية أو نظم إنسانية أو فكرية هي في النهاية مظهر من مظاهر تشكلات الروح وفنانون هذه التشكلات هو ما يسميه هيكل بالجمال ، وقوام الجدل حركة أو صيرورة مستمرة ، وغاية الروح هي أن تعي ذاتها ووسيلتها في بلوغ الفن أو الدين أو الفلسفة ، والفن حين يعبر عن المطلق لا يتعامل بالتصورات المجردة بل هو يجمع إليها العيانات الحسية ومن هنا يعرف الفن بأن التجلي المحسوس للفكرة ، والفكرة عنده حقيقة ثمينة متطورة ، وقد تكون غامضة وقد تكون واضحة فإذا تكاملت بحيث طابقت التصور الخاص بها كانت حقيقية لذلك يقول هيكل إن المثال أو المثل الأعلى للجمال لا يتحقق بمجرد مطابقة المضمون للشكل ولكن ينبغي أن يكون المضمون نفسه على مستوى عال من السمو والكمال ، ( 2 ، 113 – 116 ) .
وينظر كاسيرر ( 1874 - 1945 ) إلى الفن نظرة أرسطية ، فهو يعبر عنه بأنه محاولة للهروب من العالم الضيق القائم على بعض المواصفات ولكنه هروب يحتوي الفهم للأشياء فالفن يساعدنا على رؤية أشكال الأشياء وهو ليس مجرد نسخ لحقيقة جاهزة معدة من ذي قبل بل هو سبيل من السبل التي تهدف إلى تكوين نظرة موضوعية إلى الأشياء وهو في النهاية يهدف إلى تقوية الواقع وزيادة شدته ، ويربط كاسيرر الفن بالحرية والتنظير العقلي فهو أي الفن يحول كل الآلام والهياجات وكل ضروب الجور إلى وسيلة لتحرير الذات وبذلك يعطينا حرية داخلية لا نبلغها بطرق أخرى . ولا يرى أن في الفن لعب وأن هناك تشابها بينه وبين اللعب ، كون اللعب يضع بين أيدينا مجموعة من الصور الوهمية في حين أن الفن يزودنا بنوع جديد من الحقيقة ، ( 11 ، ص57-59 ) .
يرى الباحث أن اختلاف كاسيرر عن كل من فرويد وشيلر متأتي من طبيعة البناء الفكري للخيال ففي الوقت الذي لا يرى فيه فرويد مردود واقعي للعقل في فكرة اللعب يرى شيلر أن اللعب يوسط بين العقل والحواس في حين يؤكد كاسيرر أن الخيال الفني هو إعادة لترتيب المواد وتوزيعها فهو يعمل بالعقل والحواس لكون الفن عملية بنائية تحتاج إلى هذين العاملين .
ويلخص كروتشيه فلسفته الحدسية بأن الفن " عيان " أو " حدس " ويلزم في ذلك :
أولاً : ألا يكون الفن ظاهرة فيزيائية أو واقعية ، ومعنى هذا أن الفن لا يمكن أن يوضع مع الظواهر الطبيعية كالضوء أو الصوت أو الكهرباء أو الحرارة كما لا يمكن رده إلى مجموعة من الظواهر أو الأشكال الرياضية ، كالمربع ، المثلث ... فالفن ليس واقعة تقبل القياس .
ثانياً : ينكر أن يكون الفن فعلاً نفعياً من ورائه الإنسان تحصيله لذة أو اجتناب ألم ، فقد اخلع على الفن طابعاً نظرياً بوصفه تأملاً رافضاً التوحيد بين الفن واللذة .
ثالثاً : ينكر كروتشة النظرية القائلة بأن الفن فعل أخلاقي فهو يستبعد الفن من دائرة العمل والإرادة لهذا يقرر كروتشه أنه إذا كانت الإرادة الخيرة هي قوام الإنسان الفاضل فإنها ليست قوام الإنسان الفنان لأن مقولة الأخلاقي لا تنطبق على العمل الفني – من حيث هي مجرد صورة – بأنها مقبولة أو مرذولة أخلاقياً إلاَّ إذا كان باستطاعتنا الحكم على المربع بأنه أخلاقي وعلى المثلث بأنه لا أخلاقي فالفن خارج عن نطاق الأخلاق . ( 14 ، ص46 ) .
رابعاً : يرفض كروتشه أن يكون الفن مجرد معرفة تصويرية ، فهو يضع الفن مقابل العلم على اعتبار أن الأول حدس يقدم الظاهرة والثاني تصور عقلي يكشف لنا الحقيقة المعقولة ، في حين أننا لا يمكن أن نضع تركيب منطقي أو معرفي لمسيرة العمل الفني فليس من حقنا أن نتساءل عما إذا كان الشيء الذي أراده الفنان صادقاً أو كاذباً من الناحية الميتافيزيقية أو التاريخية لأن هذا التساؤل عقيماً لأن العمل الفني موضوع خالص لا يخضع لهذا الحكم ( 7 ، ص61 ) .
لقد أقام سانتيانا تفرقة بين معنيين مختلفين في الفن : معنى عام يجعل الفن مجموع العمليات الشعورية الفعّالة التي يؤثر الإنسان عن طريقها على بيئته الطبيعية لكي يشكلها ويصوغها ويكيفها ، ومعنى خاص يجعل من الفن مجرد استجابة للحاجة إلى المتعة أو اللذة لذة الحواس ومتعة الخيال دون أن يكون للحقيقة أي مدخل في هذه العملية ، ويقرر سانتيانا أن الفن متعة استطيقية أو لذة جمالية ، ( 3 ، ص11 ) .
ويذهب سارتر ( 1905 1980 ) في فلسفته الوجودية إلى القول بأن الإنسان مؤول عمّا يصنعه من نفسه وأنه ليس مسؤولاً عن نفسه فقط ، وإنما عن الناس جميعاً أيضاً ، فهو حي يختار صورة نفسه ويختار صورة الإنسان الذي يريده ، إنها الحرية التي تقود الفن إلى أن ينتج جمالاً ذو قيمة وجودية وزمان وجودي ( 15 ، ص58 ) . ويرى سارتر أن هذه التجربة الجوهرية القصد إزاء العالم الجوهري تؤلف في النهاية الغاية من الفن العناية النهائية للفن من خلال إصلاح العالم بتقديمه على ما هو عليه ، ولكن كما يوضح من حرية الإنسان ، ( 16 ، ص23 ) . ونستخلص من ذلك : إنَّ العمل الفني عند سارتر لا يكون له وجود واقعي خارج الوعي ، إلاَّ بوصفه بنية فيزيقية ، أما باعتباره موضوعاً جمالياً فإنه لا يكون له وجود واقعي خارج الوعي لأنه في هذه الحالة مقصوداً بوصفه صورة متخيلة ، ( 17 ، ص172 ) .
ويرى جون ديوبي ( 1859 – 1952 ) أحد رواد الاتجاه البرجماتي إن الفن خبرة فهو يربط بين الفن والتجربة ( الخبرات ) فيخلع عليه صفة نفعية ويصبغ على الخبرات الإنسانية بصفة عامة طابعاً جمالياً ، فليس هناك فاصلاً في نظره بين الخبرة الجمالية وخبراتنا اليومية فلكل فرد تجربته الجمالية ذات اللون الخاص بشرط أن تجيء متناسقة متسقة ومشبعة وباعثة على الرضا أو اللذة لما يصاحبها من تفاعل حيوي ، فهو يقول " إنَّ الإدراك الحسي المتسامي إلى درجة النشوة أو إن شئت فقل التقدير الجمالي لهو في طبيعته كأي تلذذ آخر نتذوق بمقتضاه أي موضوع عادي من موضوعات الحياة اليومية " ( 10 ، ص180 – 181 ) .
ومن خلال ما تقدم من تعريفات للفن وفقاً للاتجاهات الفلسفية المختلفة لابد من أن تضعنا في النهاية أمام حقيقة مرتبطة بتلك التعاريف وهي ( العمل الفني ) بوصفه موضوعاً استطيقياً الذي تدركه أولاً وقبل كل شيء عن طريق الحس ، فلا بد لنا إذن من معرفة ودراسة العمل الفني بصفة عامة .

مفهوم العمل الفني
يضعنا العمل الفني سواء على مستوى اللوحة أو التمثال أو القطعة الموسيقية أمام وحدة متماسكة وحيوية ، هذا التماسك نتيجة لعناصر البناء التي تترابط بصورة وبأخرى لتصف لنا حقيقة هذه الرؤية ، أما الحيوية فلكون العمل نابع من شعور كائن بشري ، هذا الأمر عبر عنه هيكل ( صراع الأضداد ) ، الجدل الذي يوحي باستمرارية وحركة العمل مما يعطي له طاقة للتشكل والهيمنة على أساس الرؤية الاستطيقية وهنا لا يلبث العمل الفني أن يبدو لنا بوصفه موضوعاً جمالياً ، وعلى ضوء ذلك وما دام العمل الفتي يشير لكل ما فيه من حيوية وعناصر بناء إلى إدراك جمالي فلا بد من احتوائه على " بنية مكانية تعد بمثابة المظهر الحسي الذي يتجلى على نحوه الموضوع الجمالي ، كما لابد من بنية تعبر عن حركته الباطنية ومدلوله الروحي بوصفه عملاً إنسانياً حياً " ، ( 3 ، ص25 ) .
فليس ثمة ابتعاد من الفكر الفلسفي عملية الخلق الفني ، كذلك الفنان فإنه تأثر بروحية الفلسفة في كل عصر فنراه تارة يتأثر بالموضوع وأخرى بالشكل ، فلو نظرنا إلى الفلسفة الكلاسيكية مثلاً ترى سيادة الموضوع بشكل تام ، لذلك كان الفنان يعرف باسم لوحته لا باسم الحركة المنتمي إليها ، فليس ثم من يقول رجرنت الباروكي وإنما يعرف بصاحب لوحة ( الطبال ) مثلاً قبال ذلك يقال بيكاسو التكعيبي لا صاحب
( الجورنيكا ) ، إذ اقترن اسمه بالحركة تبعاً لفلسفة عصره ، إذ أن الفن الحديث اتسمت ماهيته بالبحث البحت وما اختلاف تلك البحوث إلاَّ ويكون العمل الفني مصاحباً لتلك الآراء الجديدة ، وما دام العمل الفني هو محور العملية الفنية والإبداع الفني فإنه محور الصراع الفكري الفلسفي للفن ، لذا قسم علماء الجمال ماهية العمل الفني بعدم خروجه عن نطاق ( المادة ، الموضوع والتعبير ) ، ( 3 ، ص36 ) .

أولاً : المادة
إنَّ لكل فن مادته فهي إما لفظ أو صوت أو حركة أو حجارة ... ، هذه المادة على ضوء وجودها هي عمل فني بالقوة لا بالفعل ، إذ لا تصبح علاً فنياً إلاَّ بعد تدخل يد الإنسان وجعلها عملاً فنياً " إنَّ الفن الذي يستشعر فيه الفنان مقاومة المادة أكثر مما يستشعرها في أي فن آخر إنما هو فن العمارة " ( 3 ، ص27 ) .
من هذه المقولة نعرف مدى الصلة بين المادة وعملية خلق العمل الفني وعلى ضوء هذه العلاقة جعل ( هيكل ) فن العمارة في آخر سلّم تقسيمه للفنون ، مما تحمله من صلابة وعدم طواعية لكون ( هيكل ) يؤمن بضرورة تطويع المادة وتحويلها من المادية إلى الروحية ( 2 ، ص116 ) .
ومن هنا يتضح أن المادة لابد أن تبدي كل ثراءها الحس على يد الفنان ، إذ إنَّ المادة ليست شيء صنع منها العمل الفني فحسب ، بل هي تعين الفنان على الوصول إلى غايته ( إنَّ المادة هي غاية في ذاتها بوصفها ذات كيفيات حسية خاصة من شأنها أن تعين على تكوين الموضوع الجمالي ) ( 3 ، ص27 ) .
ولهذا فإن جمال العمل الفني لا ينحصر بالضرورة في جمال الموضوع الذي يمثله ، بل هو يتجلى أولاً بالذات في صميم مظهره الحسي ، ولهذا فإن رجال النحت المجرد يحاولون اليوم أن يروضوا عيوننا على التمتع بالمظاهر الحسية وحدها ، فنراهم يغفلون أهمية الموضوع ويضعون أمام أنظارنا بعض المظاهر التي يقدمها لنا الخشب أو الحجارة بدعوى أن المهم في الفن ليس هو إلاَّ قهر المادة على محاكاة بعض الموضوعات . ( 3 ، ص28 )
فالمادة إذن تعطي لنا شكلاً فنياً وهاتان الثنائيتان تتبادلان العلاقة الجدلية فيما بينهما وهما عنصران لا ينفصلان " ويكملان أحدهما الأخرى ، ولا يمكن أن تعيش أحدهما في عزلة عن الأخرى فلا مادة بدون صورة ولا صورة بلا مادة " ( 4 ، ص 174 ) .
يقول أرسطو أن " المادة والصورة شيئنا لا ينفصلان فحسب ، بل كل منهما يعتمد على الآخر ، فالعلاقة بينهما كالعلاقة بين الروح والجسد فلن تغدو مادة ما على شكل ما دون صورة ، ولن تغدو صورة ما لم يكن هناك مادة بشكل ما " (9، ص80) .
نحن ننظر إلى المادة على أنها عديمة الصورة والصورة على أنها عديمة المادة فالعلاقة بينهما خارجية ، أي إنهما منفصلان وليس الأمر كذلك في مقولة الشك والمضمون لأن كل منهما يعين الآخر ، فلا يوجد شيء اسمه المادة عديمة الشكل ، فالمادة المجردة العارية تتضمن شكلاً في ذاتها ، كانت المادة والصورة منفصلتين لكن المضمون اتحد مع الشكل في مقولة المضمون والشكل واندمج كل منهما في الآخر ( 9، ص80-81 ) .
إذن فهناك تطابق بين الفكرة التي تتحرك في عالم غير المحسوسات وبين تلك التي في الطبيعة فتنشأ الفكرة في مخيلة الفنان وتتخذ صوراً حال تماسها وتلاصقها بالمادة ، فالوقت الذي كانت هي في الذهن ليست عملاً فنياً وإنما تكون كذلك حين حاورتها للمادة على حد تعبير سوزان لانجر ، وبذلك تكون الفكرة الفنية ذات وجود وحدود وتقبل المادة وما فيها من مزايا ، وهنا لابد للعمل الفني أن يكون ثمرة لعملية منهجية خاصة ، وهي تنظيم العناصر التي تتألف منها حركته وتركيبته ، ولعل مفهوم الحركة هو الذي يعطي للعمل الفني طابعاً زمانياً " يتحقق مفهوم الزماني ابتداءً من المكاني حيث يستعين الفنان بأساليب الإيقاع والتنظيم والتناسق من أجل فرض الوحدة على ما في الموضوع من تعدد في الأشكال أو الحركات أو الصور " ( 3 ، ص31 ) .

ثانياً : الموضوع
يتمثل موضوع العمل الفني باللوحة أو القصيدة أو القطعة الموسيقية أو الرؤية ... وهو ما يشير إلى حقيقة أو ظاهرة أو واقعة أو أي موضوع من الموضوعات ، فعند الخوض في مضمار موضوع اللوحة لابد من التوقف عند واحد من الحيثيات التي تدخل ضمن هذا المحور ( ماهية العمل الفني ) هو مسألة الطابع التمثيلي ، هذا الأمر الذي طالما أخذ مأخذاً في الفنون الكلاسيكية التي تمثلت بضرورة التصوير التمثيلي إذ أوقعت تلك الفنون جل اهتمامها على طبيعة التمثيل الحقيقي للموضوع .
أما في العصر الحديث فإن مسألة الموضوع لم تقتصر على ذلك المنحى بل عوّلت على التلاعب بالصورة المجردة والأشكال الهندسية ، فموندريان مثلاً " يحاول أن يجعل من فن التصوير مجرد تنظيم صوري يقوم على تجريد ضروب الانسجام الجوهري الكامنة في الكون الطبيعي " ( 3 ، ص31 ) .
إنَّ هذا النظام الهندسي الذي عمله موندريان نابع من نظرية المثالية للحقائق فهو لا يرى بعين الحس الباصرة وإنما ينظر إلى حقائق علوية ، فهو يدعونا بالنظر إلى الأشياء بعينه لا بأعيننا لنرى أشكالاً جديدة لا مواضع جديدة .
وعندما ترى إحدى لوحات ماليفتش واضعاً فيها مربعاً أسود محاط بلون أبيض وقد قال عنها : " آه إنه الليل بداخلي " نفهم أن لا صلة بين الشكل والمحتوى ، وإنما أراد ماليفتش الخروج عن تسلط الإرادة نحو التمثيل الموضوعي لذلك يعجب شوبنهاور باعمار تيرنر الانكليزي لأنه يرسم بواقعية غير واقعيتنا المعروفة فلا شيء يشبه الواقع فالرياح ليست هي المعهودة عندنا وغيومه ليست تلك الغيوم التي نراها فلا شيء يشبه شيء من الحقيقة فهو يبتعد عن المحاكاة الواقعية إذا لم يكن أسير إرادته مبتعداً عن حاسية الحواس التي اعتبرها كاذبة ومخادعة مما جعل العلاقة بين الذات والموضوع علاقة خارجية ، " واذا تاملنا تمثال ( الليل ) لمايكل أنجلو أدركنا أن المضمون لا يتعلق بموضوع الليل وإنما الصراع النفسي الباطني للفنان وللعصر الذي عاش فيه "
( 1 ، ص160 ) .
ومن خلال ذلك نرى أن هناك انفصالاً بين الموضوع والمضمون على مرور الحقبات الفنية إذ أخذ الفنان مأخذه الجدي في خلق أعمال أو عالم متسق من الصورة الحسية الحية ، ولكن رغم ذلك يبقى الفنان هو المترجم للموضوع أكثر منه ناقلاً له ومعبراً عنه باللغة التي يجدها مناسبة لإرادته .

ثالثاً : التعبير
" هو العنصر الدائم في البشرية يتجاوب مع عنصر الشكل في الفن وهو حساسية الإنسان الجمالية إنّها الحساسية الثانية ، أما الشيء المتغير فهو الفهم الذي يقيمه الإنسان عن طريق تجريده لانطباعاته الحسية ولحياته العقلية " ( 5 ، ص42 ) .
إنَّ مسألة التعبير التي توحي بالردود الانفعالية الوجدانية إزاء العمل الفني تأتي من العلاقة الثنائية بين الفنان وما يتمخض عنه العمل الفني من تعبير ومعنى الذي سوف يستوحيه المتلقي، فقد عبّر هربرت ريد عن ذلك بقوله أن هناك علاقة متأصلة بين الشكل والأساس الغريزي للنفس كونها هي التي خلقته، إنَّ حقيقة العمل الفني لا تكمن فيما يروى لنا من وقائع وإنما تكمن في الطريقة التي تروى لنا بها تلك الوقائع من خلال شعور الفنان بأن لا يمكن أن يكون للواقع معنى ما لم ينظم في نطاق ما. إذ يقع على الفنان مهمة اكتشاف ذلك العالم من خلال وسائل استطيقية وفي مقدمتها وسيلة التعبير . " إنَّ التعبير الذي ينطوي عليه العمل الفني قد يكون أعسر عناصره قابليته للتحليل ، فإن ما يبوح به العمل الفني ليس بالمعنى العقلي الذي يمكن فهمه وتأويله ، وإنما هو دلالة وجدانية تدرك بطريقة حدسية مباشرة فهذه اللوحة لا تحمل عنواناً وتلك قطعة موسيقية لا تحمل موضوع ، ولكنها تعبر عما في الوجود من طابع " ( 3 ، ص38 ) .
ويقول زكريا إبراهيم إنَّ العمل الفني إنما هو ثمرة لامتزاج الصورة بالمادة واتحاد المبنى بالمعنى وتكافؤ الشكل بالموضوع بشرط توفر وحدة فنية تجعل منه موضوعاً جمالياً .
إنَّ العمل الفني وما يعبر عنه أصبح محور الجدل الفلسفي عند كانت وهيكل وآخرون فكانت مثلاً ينظر إلى العمل الفني بعيداً عن الغائية معتمداً على الأساس الشكلي للعمل فهو يرى الجمال الخالص في الشكل الخالص بينما يرى هيكل أن المتغير الجمالي في العمل الفني هو المضمون دون الشكل .
وهكذا يختلف المضمون باختلاف مضامين الفكر وتوجهات الفنان ورؤيته التي تعمل على إيجاد تحاور بين الأسس التي تعمل على إبراز ماهية العمل الفني فلا موضوع دون شكل ولا شكل دون خطوط وألوان ولا فهم دون تعبير ، وإنما يتأتى ذلك خلال المخيلة ومدى إدراك الذات لمفهوم الموضوع التي تبناه وتعبر عنه ، ومن هنا تصبح العلاقة بين هذه الأفراد علاقة جدلية نابعة من التنوع في المفاهيم والعلاقات وصولاً إلى وحدة متأصلة ذات دلالات تعبيرية هي ما يسمى بالعمل الفني .




المصادر
1. إبراهيم ، زكريا ، فلسفة الفن في الفكر المعاصر ، دار مصر للطباعة ، ب ت .
2. مشكلة الفن ، دار مصر للطباعة ، القاهرة : 1977 .
3. أبو ريان ، محمد علي ، فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة ، ط5 ، دار الجامعات العربية ، الإسكندرية ، 1977 .
4. برتليمي ، جان ، بحث في علم الجمال ، مطبعة نهضة مصر ، القاهرة : 1970 .
5. توفيق ، سعيد ، الخبرة الجمالية : دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والتوزيع والنشر، بيروت، 1992 .
6. جيروم ، النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية ، ب ت .
7. راي ، وليم ، المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية ، دار المأمون ، 1987 .
8. ريد ، هربرت ، معنى الفن، ت سامي خشبة ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، 1986 .
9. شيخ الأرض ، تسير ، الوقائع والأفكار ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، 1997 .
10. عز اليدن ، اسماعيل ، الأسس الجمالية في النقد العربي، دار الفكر العربي ، 1974.
11. مجاهد ، مجاهد عبد المنعم ، أبعاد الاغتراب : فلسفة الفن الجميل ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1997 .
12. جدل الجمال والاغتراب ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1997 .
13. مطر ، أميرة حلمي ، في فلسفة الجمال من أفلاطون إلى سارتر ، دار الثقافة ، القاهرة : 1974 .
14. فلسفة الجمال ونشأتها وتطورها ، دار الثقافة للنشر : القاهرة ، ب ت .
15. وهبة ، مراد ، قصة علم الجمال ، دار الثقافة الجديدة ، القاهرة ، 1996 .
16. يوسف ، عقيل مهدي ، الجمالية بين الذوق والفكر ، مطبعة سلمى ، بغداد ، 1988 .
17. يونان ، رمسيس ، دراسات في الفن ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر : القاهرة ، 1969 .


.
* كلية الفنون الجميلة القسم قسم التربية الفنية
 
أعلى