عصام محمد الشنطي - رسالة الجاحظ في مدح الكتب والحث على جمعها وحفظها

على رغم ما تبلغه المخطوطات العربية من الكثرة المعدودة بالملايين، موزعة بين الأقطار العربية والاسلامية، والاجنبية من أوروبية وأميركية، إلا ان النسخ المخطوطة ذات الألف عام، ربما لا تتجاوز ألف مخطوطة، بسبب ما تعرضت له المخطوطات - عموماً - من حروب وحرائق وغرق وأرضة وإهمال.

لقد وقعت على مخطوطة بالعنوان المبين في صدر هذا الموجز، محفوظة في خزانة الأوقاف بمتحف الآثار التركية الإسلامية بإسطنبول، برقم T2014، ومعروضة في بهو الخطوط، في خزانة من زجاج.

والحق ان هذه النسخة قد نالت حظاً طيباً، جعلها مصورة ومحفوظة لدى هيئتين عربيتين، الأولى معهد المخطوطات العربية، في القاهرة، محفوظة فيه برقم 408 أدب. والثانية المجمع العلمي العراقي، في بغداد، محفوظة فيه برقم 179م، وكذلك اهتم بها صلاح الدين المنجد فأبرز في كتابه "الكتاب العربي المخطوط الى القرن العاشر الهجري" إحدى لوحاتها. واحتفى بها هلال ناجي في كتابه عن ابن البواب.

ولا تنفرد هذه النسخة المخطوطة بألفيتها فحسب، بل ترجع أهميتها - بإزاء ذلك - الى أن مؤلف الرسالة هو الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، المتوفى 255هـ/ 869م، المعروف بتآليفه المبتكرة، وبيانه وبلاغته.

وتميزت الرسالة - ثالثاً - بأصالة الموضوع وأهميته، وهو الحديث عن الكتب ومدحها، والحثّ على جمعها واقتنائها، وتفنيد آراء من رأى غير ذلك، واستقصاء الأقوال المأثورة التي ذكرت محاسن الكتاب وقيمته. ويمكن للدارس المدقق ان يقسم مادة هذه الرسالة الى غير قسم، لكل قسم منها هدف وغاية، تكشف عن نفاسة هذا المؤلَّف.

لقد كان لهذه الرسالة أثر واضح، فأفاد منها كثير من المؤلفات، واقتطفت بعض مادتها، بخاصة في موضوع محاسن الكتاب، أو ما قيل فيه عموماً، كما فعل البيهقي في كتابه "المحاسن والمساعيط" والغزولي في كتابه "مطالع البدور في منازل السرور"، والنويري في "نهاية الأرب".

واعتنى ابراهيم السامرائي بهذه الرسالة فحققها معتمداً على النسخة النفيسة الألفية، وعدّها لتحقيقه، لوضوحها وضبطها، ثم على نسخة أخرى محفوظة في المكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة في مدينة تونس، ضمن مجموعة برقم 4551، وهي في أربع ورقات، وخطها تونسي متأخر، كُتب سنة 1129 هـ. ونشرها السامرائي في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الثامن، 1961م، في اثنتي عشرة صفحة من القطع الكبير ص 331 - 342 منها أربع صفحات جعلها مقدمة للنص.

ورابع هذه التميزات، أن ناسخها، ليس ناسخاً مجهولاً، أو عادياً من جملة نسّاخ المخطوطات المعدودين بالألوف، بل هو الخطاط البغدادي المشهور أبو الحسن علي بن هلال، المعروف بابن البواب، المتوفى على التحقيق في ثاني جمادى الأول سنة 413هـ./ 1022م. وابن البواب هذا يشكل قمة في تاريخ نشأة الخط العربي وتطوره. ووصف بأنه "قلم الله في أرضه". وله قصيدة رائية مشهورة ضمنها قواعد الخط. ومدحه كثير من الشعراء، منهم أبو العلاء المعري، ورثاه الشريف المرتضى.

وتُقرن هذه القمة بقمة سبقتها، وهي الوزير أبو علي محمد بن مقلة، المتوفى سنة 328هـ./ 940م، والذي كان بارعاً في علم الهندسة، فهندس الحروف وأجاد تحريرها.

وتلحقها قمة ثالثة، هي ياقوت المستعصمي، المتوفى سنة 689هـ/ 1299م. وقبل هذه القمم الثلاث. وبينها، وبعدها، عشرات الخطاطين الذين أسهموا في تطور الخط العربي ونموه نمواً طبيعياً، الى أن وصل الى ما هو عليه من وضوح وفنية وجمال. ويُذكر ان النسخة كانت قبل أن تُنقل الى خزانة المتحف في خزانة كتب أبي بكر بن رستم الشيرواني الغنية بالمخطوطات، والذي كان من رجال الدولة في عهد السلطان العثماني أحمد الثالث، المتوفى سنة 1736م، بعد أن تداولتها أيد كثيرة، وممن ملكها في القديم خليل بن أيبك، صلاح الدين الصفدي، المتوفى سنة 764 هـ./ 1363م.

* خبير معهد المخطوطات العربية - مدير سابقاً


عصام محمد الشنطي.jpg
 
أعلى