نقد سليمان بختي - أصل العمل الفني لهايدغر.. الفنُّ يصنع للأشياء حقيقتها

يعتبر هانس غيورغ غادامر في مقدمته لمحاضرات هايدغر في أصل العمل الفني، التي ألقاها في 13 تشرين الأول 1935 في الجمعية العلمية الفنية في فرايبورغ، وثانية في كانون الثاني 1936 في تسورِش بأنها "حدث فلسفي مثير"، ويردُّ ذلك إلى سببين:
1.لأن الفن بات ضمن البداية التأويلية لـ"هوية الإنسان في تاريخيته"؛
2.لأنها فُهِمَتْ (المحاضرات)، كما في عقيدة هولدرلِن وعقيدته هو (غادامر)، كعمل إنشائي لعوالم تاريخية كاملة.

ينطلق هايدغر في الإجابة عن عدة أسئلة يطرحها في محاضراته عن العمل الفني مثل: من هو أصل العمل الفني؟ الفنان هو أصل العمل الفني، يقول. وعن الشيئية الطبيعية في العمل الفني – ويجمع معه ما يسميه الرمز. العمل الفني إذن رمز. ويسأل: ما الذي يعمل عمله في العمل الفني؟

يرى هايدغر أن الأداة هي في منزلة خاصة بين الشيء والعمل الفني. وصراع كشف الموجود وحصول الحقيقة في العمل من العناصر التي تعمل عملها في العمل الفني. وهذا التحديد يقود إلى سؤال آخر عن جوهرية الفن، وهي وضع حقيقة الوجود نفسها في العمل الفني. والحقيقة هنا وضعُ النفس في العمل الفني:

الفن إظهار للحقيقة، بعث شيء، جلبه بواسطة الوثبة المتدفقة من جوهر الأصل إلى الوجود. (ص 102)

وما هي الأبعاد التي يأخذها العمل حين يكون عملاً فنيًّا؟ يجيب هايدغر: "إنه ينظِّم الاتساع ويقيم عالمًا ويبقيه مفتوحًا." ويمضي إلى أن العمل الفني يقيم العالم وينتج الأرض، أي "يحملها إلى المفتوح بوصفها ما هو منغلق على ذاته". وتظهر في هذه الفقرة، مثلاً، صعوبة الترجمة ونقل المعنى. يحدد هايدغر التوتر في العمل الفني الذي يظهر في هيئة ذاك العمل، ويسميه "النزاع بين الأرض والسماء، بين الطلوع والخفاء"؛ النزاع بين مفتوح ومنغلق، بين بنى تحتية وبنى فوقية؛ أو ما كان يعرفه هارتمَن بأنها طبيعة شيئية ذات بنية تحتية يرتفع فوقها الشكل الجمالي بوصفه بنية فوقية. وفي حركة هذا النزاع ثمة السكون. وهنا يقوم سكون العمل في ذاته.

ولكن أبعد من ذلك، ماذا يحمل العمل الفني؟ العمل الفني هو حامل للصفات ووحدة تنوع شعوري؛ ثم هو مادة مشكلة – يقول هايدغر ماضيًا في أسئلته المتعددة والمتوالدة: هل الفن موجود في تاريخنا الوجودي الآني أصلاً أم لا؟ وهل يمكن أن يوجد، وبأية شروط؟ وردُّه بأن "الفن تاريخ، في معنى جوهري، لأنه يُنشئ التاريخ" (ص 102).

ويظل مستندًا في طرحه حول أصل العمل الفني إلى الأسبقية الوجودية والأسبقية المعرفية العلمية التي كانت لوجود الوجود الإنساني الآني بالنسبة إلى هايدغر والتي حدَّد فلسفته برمتها بأنها علم "الوجود الإنساني". وإحالة على سؤاله الأثير: ماذا يعني الوجود؟ وذاك ما جعل كتابه الوجود والزمان أحد المراجع الأساسية في الفلسفة الحديثة المعاصرة.

وجميل تحديده الجمال بأنه "الطريقة التي توجد بها الحقيقة كشفًا" (ص 77). وأكثر جمالاً أن ينهي هايدغر محاضرته عن أصل العمل الفني بما قاله هولدرلِن: "يصعب أن يترك مكانه من يسكن قرب الأصل" (ص 103). ولا عجب، فهو القائل في كتابه: "جوهر الفن هو الشعر."

لا بدَّ من تثمين هذه المحاولة لنقل هايدغر من الألمانية إلى العربية، رغم صعوبة ذلك، بنية ومعنى. إلا أن ما قام به المترجم هو غوص صعب في نص تأسيسي ومعرفي وعميق يستحق محاولة وأكثر.

***


عن النهار، الأربعاء 26 آذار 2003


سليمان بختي.jpg
 
أعلى