مقامات أحمد الصاوي - مقامات الحريري تجسيد رائع للواقع الاجتماعي

يدين فن القصة القصيرة في نشأته الأولى لفن المقامات الذي ابتكره الأدب العربي في نهاية القرن الخامس الهجري «الحادي عشر الميلادي» على الأرجح، والرائد الحقيقي لفن المقامات هو أبو محمد القاسم بن على الحريري الذي ألف كتابا نسب إليه «مقامات الحريري» وهو يحتوى على خمسين مقامة أو قصة قصيرة.
وقد احتوى هذا المخطوط على صور، هي في حقيقتها استعراض للأغنياء والفقراء، للريف والحضر في رسوم واقعية تكشف عن كثير من مظاهر الحياة في دار الإسلام، وهي معين لا ينضب لدراسة طرز المنازل وهيئات الملابس وأشكال السفن والقوارب بل وأدوات الري والزراعة كالسواقي والنواعير• وأهدى هذا الكتاب إلى الوزير أنوشروان بن خالد وزير السلطان محمود بن محمد بن ملكشاة السلجوقي الذي تحكم في شؤون الخلافة العباسية أيام الخليفة المسترشد بالله• وكان ذلك في بعض سنوات الربع الأول من القرن الهجري السادس الثاني عشر الميلادي • وتؤلف المقامات مجموعة من القصص القصيرة ذات طابع معين يحكيها أحد أثرياء العرب وهو «الحارث بن همام» ويذكر في كل واحدة منها حادثة شاهدها بنفسه وكان بطلها «أبا زيد السروجي، وهو يبدو في هذه المقامات في صورة شيخ احترف الأدب ثم ضاقت به سبل العيش فغادر بلده «سروج» في أعلى الفرات وراح يحتال على الناس أينما حل مفيدا من مهاراته الأدبية وفي روح ملؤها الدعابة والمرح، مع الإشارة إلى ما في المجتمع من المساوئ والعيوب• ويعتقد بعض العلماء أن هذه المقامات ليست سوى صورة مهذبة ومحررة من قصص خيال الظل التي صنعت لتسلية جمهور غير مثقف ومن ثم فلم يتم تدوينها ومنذ قام الحريري بكتابة مقاماته أخذت تمثيليات خيال الظل التي أنتجت بعد ذلك في استلهام وقائع هذه المقامات •

بطل شعبي للمقامات
وجذبت المقامات بروعتها الأدبية وجمال أسلوبها ولطف دعابتها اهتمام المصورين فعنوا بتزويقها وتمثيل قصصها بالرسوم حتى يمكن القول أنه لم يحظ كتاب عربي بما حظيت به هذه المقامات من عناية الخطاطين والمصورين، والسبب وراء تعدد النسخ المخطوطة من هذا الكتاب كان تقدير النخبة المثقفة للإبداع اللغوي فيه، كما أنه يهيىء بطلاً شعبيا هو «أبو زيد» الواسع المعرفة، المتشرد المحتال الذي عاش بذكائه واستطاع باستخفافه البارع بالقانون الأخلاقي الرسمي أن يتغلب على صعوبات الحياة • ولعل الحريري قد استوحى هذه الشخصية من قصص الشطار والعيارين الذين انتشروا في بغداد وغيرها من مدن الشرق الإسلامي في أواسط القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي حيث حاولوا أن يطبقوا شكلا متساويا من العدالة الاجتماعية، عن طريق الدعوة للمساواة في الملكية ومقاومة الجهود التي تبذلها الحكومات للمحافظة على النظام • ومن أقدم المخطوطات المعروفة لكتاب مقامات الحريري نسخة مؤرخة بعام 619هـ «2 ـ 1223م» وتضم هذه المخطوطة المحفوظة في المكتبة الأهلية بباريس 39صورة وتليها مخطوطة ثانية في المكتبة ذاتها ولكنها تؤرخ بالربع الثاني من القرن 7هـ «13م» ومن أهم محتوياتها صورة تمثل السروجي وهو يغادر الحارث أثناء الحج وذلك ضمن الأحداث التي ورد ذكرها في المقامة الواحدة والثلاثين •

أطباء ومرضى
وفي مكتبة فيينا الوطنية مخطوط من المقامات نسخه «أبو الفضل ابن أبي اسحق» في شهر رجب سنة 724هـ «1334م»، ومن أهم تصاويره تلك التي تمثل أطباء يفحصون مريضا يبدو ممدداً على سرير وسط الصورة، وهي تجسد خصائص مدرسة التصوير العربية التي ازدهرت في بغداد وامتد تأثيرها إلى مدن إيران ومصر والشام والمغرب والأندلس، فالصورة تبدو مسطحة ويختفي فيها التعبير عن العمق أو الميل نحو التجسيم. والشخصيات تملأ بقاماتها مقدمة الصورة وقد اعتمرت العمامات المتعددة الطيات والملابس العربية التقليدية المزدانة بشتى أنواع الزخارف النباتية والهندسية الشائعة في الفن الإسلامي والوجوه جميعها بيضاوية الشكل ولها عيون لوزية بينما تنسدل الشعور من خلف العمامات وتتراوح ألوان اللحي بين الأسود، والأشهب والبني المحمر وهو ما يعكس اختلاف المراحل السنية للأشخاص وأيضا تباين الأصول العرقية لهم• وفي المتحف الآسيوي في مدينة بطرسبورج الروسية نسخة مخطوطة من مقامات الحريري مؤرخة بعام 626 هـ - 1225 م، وأهم تصاويرها تلك التي يبدو فيها أبو زيد وهو يستجدي سخاء حاكم مرو، حيث يعرض قضيته بحماسة ويؤكد قوله ليس بالايماءات الموحية وحسب وإنما بإشراك بدنه كله في التعبير بصورة درامية•

شيفر حريري
وأهم المخطوطات التي وصلت إلينا من المقامات هي تلك المعروفة بإسم « شيفر حريري « نسبة إلى مالكها الأصلي السيد شيفر وهي محفوظة في المكتبة الأهلية في باريس وتعتبر الأكثر شهرة لأن كثيرا من رسومها قد نشر ولأن معظم منمنماتها قد انتزعت وعرضت في معرض أقيم سنة 1938م، وهذه المخطوطة برسومها البالغ عددها 99 كانت قد نسخت وزوقت بالصور في عام 634هـ «1237م» على يد « يحيي بن محمود الواسطي» المنتسب إلى مدينة واسط في جنوب العراق• ومن أهم تصاوير هذا المخطوط تلك التي تمثل راعياً وقطيعاً من الإبل حيث صور الفنان منظراً ريفياً يقف فيه شخص بجوار عشر من النوق على أرضية رسمت على شكل خط عريض باللون الأخضر تخرج منه بعض النباتات المحورة، وقد وفق المصور في التعبير عن جموع الإبل وحركاتها حيث نشاهد حركة رقابها المرتفعة إلى أعلى في حين نرى اثنتين منها انهمكتا في قضم الحشائش والأعشاب في الأسفل •

حفلات العيد
ومن الصور الرائعة في هذا المخطوط صورة تقع في المقامة السابعة التي تتحدث عن بلدة «برقعيد» في يوم عيد والفرسان الذين يتأهبون للاشتراك في حفلات العيد بهذه البلدة وقد رسم الواسطي صورته لتمثل مجموعة من الفرسان يرفعون الرايات ويضربون الدفوف ويعزفون المزمار احتفالا برؤية هلال شهر شوال• ولهذه المقامات وتصاويرها أهمية فائقة للتاريخ الاجتماعي لمجتمعات الشرق الإسلامي في العصور الوسطي فأحداثها التي تقع بين عدة مدن مختلفة مثلت بتصاوير توفر لنا نظرة ليس لها مثيل للحياة العامة، فنحن نشاهد حادثة تقع في مسجد وأخرى غيرها في مكتبة وفي سوق أو خان وفي مقبرة أو في مخيم صحراوي أو في جزر خضراء في أقصى الشرق الآسيوي ونرى تارة بلاط أحد الحكام وقصرا فيه العبيد وغرفة للدرس في اللحظة ذاتها التي يعاقب فيها أحد التلاميذ بالفلقة أو نشاهد سفينة وكأنها على وشك الرحيل•


* عن جريدة الاتحاد


.
 
أعلى