قصة قصيرة جلال آل أحمد - القيثارة.. ت: محمد اللوزي

كان يسير بخفة ولامبالاة، يحمل في يده قيثارة جديدة بلا غطاء، قميصه مفتوح وصدره مشرع. نزل مسرعاً من سلم المسجد، وأخذ يشق طريقه بصعوبة بين بُسُط الباعة المتجولين، ووسط حشد من الناس يبحثون بين ثنايا البُسُط المفروشة عن أشياء مجهولة، ثم يمضون لحال سبيلهم.
كان يحتضن القيثارة بيد، ويمسك باليد الأخرى أوتار القيثارة كيلا تشتبك بأزرار عابر أو متاع حمال. أخيراً، استطاع في هذا اليوم أن يحقق ضالته. لم يعد في حاجة إلى الآخرين كي يستعير منهم القيثارة بذلة أو يستأجرها بثمن فاحش، حين يزمع الذهاب إلى حفل. لم يعد عالة على منِّ هؤلاء الملاعين وجميلهم، لقد أصبح مالكا القيثارة.
كان شعره مشعثاً ومتهدلاً فوق جبينه، يحجب عينه اليمنى. وجنتاه غائرتان، ولونه أصفر. غير أنه اللحظة كان حراً طليقاً، يختال حيوية وسعادة.
عندما يضمُه حفل ويكون في قمة وجده، فإنه يغني ويعزف ويسحر الجميع بمواجده الخبيثة وأفراحه الخاصة. لكنه الآن محشور في هذا الزحام، وسط أناس يجهل سبب هرجهم ومرجهم. فليغادر المكان إذن، وليقصد في مشيه.
كان يركض جذلاً ويفكر في القيثارة التي أصبحت الآن ملك يده.
مع ذلك، كان يتوجس خيفة من أن تتمزق الأوتار الغالية فيتحول نهارة الوضيء إلى ليل حالك.
تخلص سريعاً من هذا الهاجس الخفي، وأيقن أن صفحة جديدة قد انفتحت أمامه. ومنذ الآن سيفجر، حراً طليقاً، مواهبه وإبداعه. سيعتصر الحرارة من القيثارة، وسيذوب في وهج هذه الحرارة. سيذوب ويرق حتى ينخرط في البكاء. انخرط في البكاء.
لم يكن يدري سبب بكائه. لكنه كان يتمنى في أعماق قلبه أن تواتيه القدرة فيعزف جيداً حتى يختلط النغم بالنشيج. كان تواقاً إلى أن يبكي فقط على أنغام آلته، حين ينخرط في العزف ويذوب في وهجه.
لم يستطع حتى الآن أن يعزف على سجيته، فقد عزف للناس فقط. لأناس غرباء يبحثون عن ذواتهم الضائعة وأفراحهم الهارية في أنغام قيثارته، وفي عمق صوته الحزين.
كل هاتيك الليالي التي غنى وعزف في مجالس أنسها وفرحها كانت عنده لحظات وهمية وفرحاً مصطنعاً بارداً. لم يستطع في كل هاتيك الليالي أن يبكي على أنغام آلته. لم يستطع أن يعزف حتى يصير الغناء بكاء، لأن السهرات لم تكن ملائمة لذلك؛ ولأن الساهرين لم تكن بهم حاجة إلى دموعه؛ ولأنه أيضاً كان يخاف أن تتقطع الأوتار بين أنامله، إن هو انطلق على سجيته. لهذا كان يعزف مئتداً حذراً.
كان متأكداً من هذا.
كان متأكداً من أنه ظل يعزف ويغني حتى الآن بكلفة واحتراس وبأقل مما كان في استطاعته أن يفعل. وكان كارهاً لهذا السلوك مكرهاً عليه.
الآن فقط استطاع بما ادخره من دراهم شقية أن يشتري قيثارة. لقد تحقق أمله أخيراً، وأصبحت القيثارة ملك يده.
الآن يستطيع أن يعزف على سجيته، يستطيع أن يعزف حتى البكاء.
منذ ثلاث سنوات وهو يغني ويُطرب، لهذا السبب ترك المدرسة. كان يجلس دائماً في آخر القسم، يترنم لنفسه. لم يكن صِحابه يعيرونه اهتماماً. غير أن المعلم كان رقيباً حسيباً. كان لا يعجبه الترنم، ولا ينفك عن التهديد والوعيد، فتعهد له ثلاث مرات بأن يكف عن الترنم داخل القسم.
لكن هل كان في إمكانه ذلك حقاً؟!
في السنة الأخيرة لم يعد أحد يسمع ترنمه من آخر القسم، كان يخلد للنوم بعد كل سهرة نابغية. يوزع نومه بين السرير والقسم. بيد أن هذه الحال لم تدم طويلاً، سرعان ما ترك المدرسة.
كانت التجربة صعبة مضنية في البداية. عزف وغناء كل ليلة، ونوم حتى الظهيرة.
وشيئاً فشيئاً، بدأ يخطط برنامجاً لعمله، ولم يعد يقبل من الدعوات سوى اثنتين أوثلاث في الأسبوع، وتألق نجمه على مر الليالي. ولم يعد في حاجة إلى أن يستجدي هذه المجموعة الموسيقية أو تلك. لقد عرفه الناس، وبدأوا يوصون أمه بباب منزله الوضيع، ويلحون على حضوره ليقضوا مع أنغامه ليلة سعيدة.
ومع هذا كله، كان العمل مضنياً. كانت أمه تعاين نحوله يوماً بعد يوم. فلم يكن يكترث للأمر، بل انصرف بكليته إلى التفكير في مشروع امتلاك قيثارة. قيثارة له وحده ولم يكن هذا بالأمرالهين. لكنه استطاع في المدة الأخيرة أن يدخر مبلغاً لا بأس به من النقود، حصل عليه في حفل زفاف مرموق. وها هو ذا الآن صاحب قيثارة لا ينازعه فيها أحد، ولا يعرف له أملاً آخر سواها. ربما صارت له آمال أخرى، لكن لم يفكر بعد في هذه المسألة. همه الآن ان يختلي بقيثارته في مكان هادئ، يتفقدها ويضبطها ويندمج فيها حتى يصبح جزءاً منها. حتى في تلك الأفراح المصطنعة التي يعزف فيها أغاني مصطنعة، كان أحياناً يندمج على غفلة منه مع القيثارة التي تكون بين يديه، ولم يكن يرغب في مفارقتها أبداً. لكن هل كان من الممكن استمرار هذا الاندماج؟! لقد كان البيت للآخرين والأفراح للآخرين. وكان عليه أن يكون منشطاً ومطرباً للآخرين، وفي خدمتهم دائماً.
وفي هذه الحفلات كلها، لم يستطع مرة أن يطرب نفسه، لم يستطع أن يدفئ قلبه.
في ليالي الشتاء الطويلة، حين كان يعود من هذه الحفلات، متعباً مكدوداً، يتحسس في طريقه الظلام، كان يحس بحاجة شديدة إلى هذا الدفء الداخلي المنعش. وكان يتصور أن قدميه لن توصلاه إلى المنزل، دون شحنة من هذا الدفء.
كثيراً ما أحس بوحدة قاتلة في هذه الحالات. وكثيراً ما قضى آخر الليالي عاكفاً على ذاته الضائعة، في زوايا الحانات، يستدرج الصباح.
كان نحيلاً جداً، يبدو للنظرة الأولى كالمدمن على الأفيون. غير أن الحرارة التي تملكته اليوم أحس بدبيبها في نفسه منذ أن أصبح مالكاً للقيثارة، ورّدت وجنتيه وأدفأت جبينه.
… انتهت به قدماه وأفكاره إلى باب المسجد… وضع قدميه على عتبته الملساء، وباغته الصبي بائع العطور. قفز من درج المسجد وهو يلاعب سبحة في يد ويشد عليه بأخرى:
ـ “أيها المارق! أبهذه الآلة الكافرة تدخل المسجد؟!”
تمزقت خيوط أفكاره، تلاشت الحرارة التي أدفأت قلبه منذ لحظات، ارتبك هنيهة ثم بدأ يعي ما يقوله الصبي. لم يكن أحد قد انتبه للأمر بعد، كانت الحركة دائبة والجميع منشغل ببُسُط الباعة المتجولين. لم يقل شيئاً، حاول أن يخلص منه يده ويستمر في طريقه. لكن الصبي بائع العطور كان ملحاحاً عنيداً، يشد على يده ويرفع عقيرته لاعناً متظلماً:
ـ “أيها الدنيء المارق، ألا تستحي من الله؟”.
حاول مرة أخرى أن يخلص يده ويذهب إلى حال سبيله، لكن الصبي لم يشأ أن يستسلم بهذه السهولة. ويبدو أنه كان يريد أن ينفس فيه عن كساد بضاعته.
انتبه إليهما بعض الأشخاص وتجمعوا حولهما. لكن أحداً لم يكتشف بعد أصل الحكاية، ولم يحاول أن يتدخل. كان واضحاً أن أحداثاً ستقع وشيكاً.
تلاشت البرودة التي اعترت قلبه، وأحس فجأة، بدبيب الحرارة يسري في قلبه، ثم في دماغه، اشتعلت الحرارة. خلّص يده بقوة، وهوى بقبضة يده الأخرى على صدغ الصبي. انقطع لهاث الصبي وغاص سيل لعناته، دارت رأسه قليلاً وأخذ يمسح وجهه بكلتا يديه.
واصل سيره نحو المسجد يريد الدخول، لكن الصبي انتبه من دوخته فجأة، وقفز نحوه يجره من طرف قبضته ويشد على يده من جديد.
احتدمت المشاجرة، تدخل الكثيرون. والصبي بائع العطور لا ينقطع عن الصراخ واستنزال اللعنات على رؤوس الكفرة المارقين الذين يدنسون بيت الله، مستغيثاً بالمسلمين متظلماً لهم.
لم يفهم أحد ماذا حدث. هو نفسه لم يدر كيف تطور الحدث . لكنه استعاد انتباهه جيداً حين ارتطمت قيثارته بالأرض وتكسرت بصوت وئيد رنان.
انقصفت أضلاعها وتلوت أوتارها، فتراجع إلى ركن ووقف مبهوتاً محتاراً، يحملق في الناس، اغتبط الصبي بائع العطور وقر عيناً، وتيقن من أنه أدى واجبه الديني جيداً. فحمد الله من صميم قلبه، وسوى هيئته وعاد إلى بضاعته بمدرج المسجد وهو يلاعب سبحته في يده مكبراً مذكراً ذاكراً.
تلاطمت أفكار الآخر، وانبعجت في دماغه كأوتار قيثاره، وعادت البرودة تسري من جديد إلى قلبه وتلسع دماغه. وسقط متهالكاً مغموماً في زاوية.
لقد انكسر قدح أمله، انكسرت قيثارته الجديدة.
انكسر قلبه.



جلال آل أحمد.jpg
 
أعلى