هنري فريد صعب - ثلاث مقاربات من أجل مقاربة النص النفّري

نحن مدينون بالكشف الاول عن النفّري، صاحب أهم نص نثري صوفي، في تراثنا العربي، للمستشرق آرثر يوحنا آربري الذي أيقظه من سُبات عشرة قرون (م. 345هـ/ 965م)، بتشجيع من استاذه المستشرق الكبير ر. أ. نيكلسون، فحقّق نصوصه وترجمها الى الانكليزية مذيّلة بالشروح المحدودة التي توصّل اليها، اجتهاداً أو اقتباساً. ثم نشرها عام 1934 بعناية مطبعة “دار الكتب المصرية” في القاهرة للنسخة العربية، وبعناية مطبعة جامعة كيمبرج في لندن، للترجمة الانكليزية.
ومدينون ثانية لمكتبة المثنّى في بغداد التي أعادت بعد ربع قرن، طبع الكتاب بالأوفست في مجلّد يجمع النصين العربي والانكليزي.
وثالثاً، نحن مدينون للشاعر أدونيس الذي اهتدى الى الكتاب بالمصادفة عام 1965، في مكتبة الجامعة الاميركية في بيروت، حيث كان يرقد منسياً على أحد رفوفها. فكان بالنسبة اليه “لقيّة اللقايا”. وفي الحال قدّمه في دراسة وازنة، كمثل “قديم” على كتابة جديدة، مع نشر مقتطفات منه في مجلته “مواقف” التي سُميّت كذلك، تأثّراً بمواقف النفّري (كما أشار أدونيس في حاشية دراسته).
انطلق نص النفّري في الوسط الثقافي العربي بسرعة مدهشة. وذهب بعض شعراء قصيدة النثر لاحقاً، لعصبية تأنف من كل انتساب الى الغرب، الى اعتباره المنهل التراثي الاساسي لهم في كتابة النثر الفني أو الشعري.
وعام 1997، صدرت دراسة مهمة شبه وافية (لعلها الاولى على حد علمي)، عن “دار الينابيع” في دمشق (سلسلة التصوّف الاسلامي) بعنوان “مقدمة للنفّري” ليوسف سامي اليوسف. دراسة تدعمها المراجع والتحليلات التي تلقي الضوء على المستغلق من حياة النفّري وينابيعه وأسلوبه الفريد. وكنت أتمنى لو أن اليوسف - بما له من أسانيد واجتهادات موفّقة - شفع عمله بشروح لكل نص، كما فعل آربري بالانكليزية، ولكن بشكل أوفى. مع اعترافنا من ناحية أخرى، بجهد اليوسف في شرح بعض المقتطفات الذي يُفشي حُزمة من الاسرار النفّرية. فالنص النفّري يستأهل كل بحث وتقديم وشرح. إنه ثروة إبداعية عربية سبقت مثيلاتها بقرون في الغرب. والتبجيل وحده لا يكفي مثل هذه الظاهرة في التراث العربي. وهل نبالغ إن إدّعينا بأنه (أي النفّري) “الرائي الاول” في كيمياء اللغة قبل رامبو. وأخال ذوي الاطلاع يعلمون كم من دراسة وشروح وُضعت حول رامبو ونصوصه ورؤاه.
يقول المستشرق نيكلسون في “الصوفية في الاسلام” (ترجمة نور الدين شرّيبه، مكتبة الخانجي، مصر 1951): “لقد عالج النفّري - في بحث فريد له عن التصوّف النظري - الصلة بين الدين والمعرفة. والنفّري درويش متجوّل مغمور، مات في مصر، في مستهل النصف الاخير من القرن الرابع الهجري (النصف الاخير من القرن العاشر الميلادي)، وبحثه قائم على سلسلة من الانكشافات، خاطبه الله فيها، وعلّمه ما ينبغي أن يعلم عن”المعرفة“. وقد كُتبت في لغة تعسر على الفهم؛ وليس من السهل فهمها من غير أن يصحبها شرحها. وإن قيمتها، من حيث هي عرض أصيل للصوفية الراقية...”.
إذاً لنفهم النفّري (وأعني بالفهم هنا الدخول في جوانية نصوصه)، علينا أن نخترق تجربته في العمق. “ولا يخرج المرء عن سمت الصواب، اذا ما أكد بعد تأمل النصوص النفّرية، أن هذه النصوص تنطوي - فضلاً عن المناخ الاسلامي - على عناصر بوذية ومانوية ومسيحية”. (مقدمة للنفّري، ص31).
لا يمكننا تقعيد ما يقوله بعض النقاد او المبدعين بأن تذوّق النص لا يحكمه الفهم، حيث يمكن أن نُعجب بنص من دون أن نفهمه. لا أنكر ذلك. لكن التاريخ الأدبي، قد أثبت أن ما من عمل كبير صمد في وجه التقادم، إلاّ وكان، الى جماله الظاهري، يتمتّع بجمال باطني. فهذا الجمال الباطني هو سر بقاء الاعمال الفنية الكبرى. وها هو النفّري يقول لنا: “العبارة سِتر، فكيف ما نُدبت اليه” او “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة” (الموقف 28)، أو قوله: “اذا جُزت الحرف وقفت في الرؤية” (الموقف 55).
النص النفّري يقول. لا يلعب على سطح اللغة. وهو بذلك خير مثل على لقاء الشعر والفكر كذروتين متقاربتين لا متباعدتين كما هو مأثور. لقد أُوتي النفّري طاقة لغوية ورؤيوية فريدة في نثرنا الفني التراثي، هيّأت لهذا اللقاء العجيب. ومثل هذا اللقاء الرؤيوي الفكري، تزيد متعته كلما تمكّنت من “قتله”. لأن فعل القتل هنا، هو نوع من الانبعاث الذي يدعوك الى القتل مجدداً، فالانبعاث الى لا انتهاء. وهكذا كانت التأويلات للآثار العظيمة، ولاسيما المقدسة منها، تزيد من انتشارها، وتساعد على خلودها. إن الفهم القاتل لا يهدّد سوى الذين يمارسون الالعاب السحرية على خشبة اللغة، فما إن تُكشف خدعهم حتى يزول العجب.
لنقارب معاً نصاً نفّرياً قصيراً على سبيل المثال، بالاستناد الى ما تيسّر لديّ من مراجع، وبخاصة نيكلسون وآربري. واذا قيل لي، لمَ لا تقوم أنت بمقاربة شاملة بدلاً من التنظير وحثّ الآخرين؟ أجيب بأن مثل هذه المهمة تتطلّب تفرّغاً تاماً، ومراجع عديدة، منها المخطوط ومنها المطبوع. ومعظمها يستلزم البحث عنه في مكتبات عربية او أجنبية. وهذا كله يحتاج الى دعم مالي. فلولا هذا الدعم (من جامعة كيمبرج وبعض المؤسسات) لما استطاع آربري في الاساس، أن ينبش لنا هذا الكنز النفيس من كنز النثر العربي. وعليه، فكيف لنا ذلك، وليس من “شِيَم” جامعاتنا ولا حكوماتنا الاهتمام بمثل هذه المشاريع؟

موقف البحر

أوقفني في البحر فرأيت المراكب تغرق والالواح تسلم، ثم غرقت الالواح، وقال لي لا يسلم من ركب(1).
وقال لي خاطر من ألقى نفسه ولم يركب(2).
هلك من ركب وما خاطر(3).
في المخاطرة جزء من النجاة، وجاء الموج فرفع ما تحته وساح على الساحل(4).
ظاهر البحر ضوء لا يُبلغ، وقعره ظلمة لا تمكن، وبينهما حيتان لا تُستأمَن(5).
لا تركب البحر فأحجبك بالآلة، ولا تلقِ نفسك فيه فأحجبك به(6).
في البحر حدودٌ فأيها يقلّك(7).
اذا وهبتَ نفسك للبحر فغرقت فيه كنت كدابة من دوابه(8).
غششتُك إن دللتُك على سواي(9).
إن هلكت في سواي كنت لما هلكت فيه(10).
الدنيا لمن صرفته عنها وصرفتُها عنه، والآخرة لمن أقبلتُ بها اليه وأقبلتُ به عليّ(11).

شرح تقريبي

- 1 يريد النفّري بالبحر الرياضات والمجاهدات الروحية التي يجتازها السالك في رحلته الى الله. وما يشير اليه هنا هو: أي الأمرين يفضّل؟ الشرع أم الحب المنزّه عن الاغراض؟
وهو يحذّره من الاعتماد على ما قدّم من صالحات، فهي لا تفضّل السفن الغريقة، التي لن تصل به الى شاطئ الأمان. لا بل عليه - إن طلب الله - أن يتوكل عليه وحده؛ فإن لم يتوكّل عليه توكّلاً خالصاً، وترك نفسه تثق - ولو قليلاً - بالاغبار، فهو لا يزال متعلقاً بلوح. وثقته بالله، وإن كانت أعظم من السابقة، إلا أنها ليست كاملة.
والمركب هو ما يتّخذه المسافر للنجاة. وطُفوّ ألواحه، إذ يغرق، يعني أن حمولته قد غارت في البحر. وترمز الحمولة الى الانسان الدنيوي، كذاك الذي يخدم السلطة بغية العبور الى الله.
وراكب البحر يتخذ المركب آلة لعبور البحر، فهو من هنا يعتمد على الاسباب الثانوية، ولا يعتمد على السبب الاول، وهو أنه وسيلة للنجاة، بينما هو ليس كذلك، إذ هو لا يُغني بنفسه شيئاً، فالمركب لا يستطيع أن يجري على اليبس.
- 2 أن يرفض المرء العلل الثانوية، شأن من يقذف بنفسه في العباب. والصوفي الذي يركب هذا المركب هو في خطر، لسببين: لعلّه يرى لنفسه فضلاً في هذا الرفض، ومن يرفض شيئاً لهوى في نفسه، فهو في حال شر من حال من لم يرفضه. او لعله يرفض العلل الثانوية – الصالحات من الأعمال والأمل في الجنة وما جرى مجراهما – لا لوجه الله، بل لمحض عدم الاكتراث.
- 3 فعلى راكب البحر، برغم المخاطر المشار اليها، ان يجعل الله غايته التي لا غاية بعدها، والا خاب.
- 4 لكن تلك المخاطر هي بعض النجاة لا غير، لأن كمال انكار الذات لم يتحقق بعد، وجماع انكار الذات هو في امحاء العلل الثانوية، بكل ظواهرها، في السكر الناتج من رؤية الله. غير ان هذه هي المعرفة، اما ذانك الانكشاف والتعرف، فهما موجهان الى صوفية في درجة اقل من درجة العارفين. والعارف لا يخشى خطرا، لأنه لا يملك شيئا يخشى عليه الضياع. اما من اعتمدوا على العلل الثانوية، اولئك الذين ابحروا في سفن، ثم تحطمت بهم سفنهم، فقد القاهم الموج على الساحل، اي اعادهم ثانية الى عالم الظواهر.
- 5 ومن يجعل شعائر العبادة الظاهرة عمدته في الوصول الى الله، فانما يعتمد على الهباء. ونبذ الدين اصلا وفرعا، ضرب في متاهة. وبين السطح والقعر، اي في الطريق الوسط، بين مذهب اهل الظاهر، ومذهب اهل الباطن، حيتان (اي مخاطر) لا تستأمن. والنفري يقول في الموقف 55: “ان لقيتني وبيني وبينك شيء مما بدا، فلست مني ولا انا منك”.
- 6 فلا تتخذ الآلة (اي المركب) في ابحارك، لئلا تحجبك الآلة عني، اي لا تعتمد على غير الله. ومن يعتبر العمل الذي يأتيه، عمله هو دون غيره، وينسبه الى نفسه فهو بعيد من ربه.
- 7 ثمة في البحر حدود، درجات مختلفة للرياضة والمجاهدة الروحية. وعلى الصوفي الا يعتمد على اي منها، فكلها باطلة.
- 8 واذا اعتمد الصوفي على العلل الثانوية، من تلقاء نفسه، او تركها من تلقاء نفسه، فهو لا بد ذاهب مذهب الضلال.
- 9 واذا امر الصوفي صوته الباطن ان يتجه الى غير الله، فهو يخدعه.
- 10 ويكون اذ ذاك هلاك الصوفي.
- 11 اما النعيم الدائم، فنصيب من صُرفت قلوبهم عن هذه الدنيا، وليس لها نصيب في متاعها. واصحاب الآخرة حقا، هم الذين لا يطلبونها، من حيث انها ليست المقصد الحقيقي لغرضهم، بل التأمل في الله لا غير.
تلك هي الاجتهادات التفسيرية التي استخلصت معظمها تقريباً من عمل نيكلسون القيم. ولكن ثمة تفسير آخر اورده أربري. وقد استمده من مخطوطة Marsh 554 في مكتبة Bodleian في اكسفورد. وذهب هذا التفسير (وهو غفل ويعزى الى ابن عربي) الى ان “موقف البحر” يعني السوى (الغير) والصوفي الذي لا يمتلك الله يمتلكه السوى. وطالما السوى يجذبه اليه فهو لن يختبر الوقفة. والوقفة هي ينبوع العلم. والواقف يشتق علمه من ذاته، بينما الآخرون يشتقونه من الاشياء الخارجية. الوقفة هي باب الرؤيا. روح المعرفة. ما وراء البعد والقرب. هي حضور الله. وعليه، فمن يركب لا يسلم، اذا ما اتخذ السوى طريقا الى الله.
وفي تفسير آخر ايضا، جاء في مخطوطة Leiden Warner 638، والمذيّلة بشروح للتلمساني، ولعبد الكريم السوزي في بعض مقاطع، يرى السوزي (بحسب رواية آربري ايضا) ان البحر هو الطريق والسفر الى الله. والمراكب هي التعبد وفق المتطلبات الدينية.
واخيراً لعل قول النفري في “الموقف 38” يحل عقدة رمز البحر: “أوقفني في حقه وقال لي، لو جعلته بحراً تعلقت بالمركب...”
ولعل ايضاً من الارجح انه كان في ذهن النفري عند صوغه “موقف البحر”، ما ورد في القرآن الكريم: “والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء... او كظلمات في بحر لجّي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض اذا اخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور” (سورة النور، الآيتان 39 – 40).
وعلى العموم، فان “البحر” شائع بين الصوفية كرمز للحياة والوجود والله.

II
ثلاثة احلام وراء ولادة فيلسوف

في الليلة العاشرة من تشرين الثاني 1916، في نوبورغ (ساكس – فورتمبيرغ) على ضفاف الدانوب، في جو عاصف ومثلج، كان فتى غريب عن هذا المكان، يرقد في فراشه. كان جندياً من جنود دوق باڤيير الذين كانوا ينتظرون في معسكرهم الشتوي، مقدم الربيع لمقاتلة امير البلاط الامبراطوري فريدريك الخامس.
ليلتئذ حلم هذا الفتى حلما غريبا. وجد نفسه يسير في شارع مجهول. واذا بالاشباح تظهر امامه. فارتعب وحاول الهرب، لكنه احس بعجز كبير في جانبه الايمن، فانحنى على جانبه الايسر. ولخجله من متابعة السير بهذه الحالة المضحكة، قام بمجهود فائق للنهوض. لكن ريحاً عنيفة عصفت فجأة وحملته في شبه اعصار جعله يدور ثلاث او اربع دورات على قدمه اليسرى كخذروف...
ثم توقف عن الدوران على ذاته، وتأهب لاستئناف تقدمه. ولكن شق عليه ذلك، متخوفاً من السقوط عند كل خطوة... واذا بمدرسة، بابها مفتوح، تنبثق امامه. فولجها آملا ان يجد فيها ملاذاً ودواء لضيقه. ثم لاحظ، الى جانبها، كنيسة. فتوجه نحوها ليصلي. صادف شخصاً من معارفه. مر قربه من دون أن يحييه. ثم عاد على اعقابه ليقول له كلمة طيبة. لكن ريحاً عاصفة من ناحية الكنيسة صدّته بعنف ومنعته من التقدم. وفي الوقت عينه، شاهد في وسط ملعب المدرسة، شخصا آخر يناديه باسمه قائلا له:
- هل تتفضل بحمل شيء ما الى احد اصدقائنا؟
- شيء ما؟ ما هو؟
لم يتلق منه اي جواب. فتصور الجندي الشاب، من دون ان يعرف لماذا، ان المقصود هو رأس شمّام منقول من احد البلدان البعيدة.
حاول ثانية ان يواصل سيره، لكنه كان يجر قدميه، محني الظهر دائما ومترنحاً ذات اليمين وذات اليسار، بينما كان الذي التقاهم ثابتين على اقدامهم...
وهدأت الريح، واذذاك استيقظ.
وتخيل ان هذا الكابوس الذي خرج منه بصعوبة، ليس سوى جني شرير يبغي اذيته. فأخذ يتلو صلاة طويلة ليدرأ عنه العواقب السيئة.
بعد ساعتين من الافكار السوداوية، عاد الى النوم. وفي الحال، الفى نفسه في قبضة حلم ثان، حيث كان يسمع صوتاً حاداً ومدوياً، كأنه قصف رعد. ومن شدة ذعره، أفاق من نومه واذ فتح عينيه، ابصر شرارات نارية تنتشر حوله في الغرفة. ولم يقلقه ذلك، اذ سبق له ان ابصر مثلها مرات عديدة. وفي بعض الليالي، كانت تلك الشرارات جد مشعة، الى حد انها كانت تسمح له برؤية الاشياء المحيطة.
بعد وقت قليل، استسلم مجدداً للنوم. ووجد نفسه يدوم به كذلك حلم ثالث. رأى كتابا على الطاولة امامه. حين فتحه اكتشف انه قاموس. ثم رأى كتابا ثانيا. كان يضم مختارات من القصائد لشعراء عديدين. فدفعه فضوله الى تقليب صفحاته. فوقع بصره على هذا البيت اللاتيني:
Quod vitae sectabor iter؟
ومعناه: “اي طريق سأختار في الحياة؟” وعلى الفور، برز امامه شخص مجهول والقى قصيدة تبدأ بعبارة Est et non (ما هو موجود وما ليس بموجود).
ثم اضاف:
- انها قصيدة رائعة.
- اعرف، اجاب الجندي الشاب. فهي توجد ايضاً في هذه المختارات. أنظرْ! وأخذ يقلّب صفحات الكتاب، فلم يعثر لها على أثر. إذذاك تناول القاموس، فوجد أن بعض الصفحات تنقصه... ثم تبادل أيضاً بعض الكلمات مع الشخص المجهول، وفجأة اختفى هذا الشخص والكتابان.
عندما استيقظ الجنديّ الشاب، توهم من شدة اضطرابه، أن تلك الأحلام، إنما هي مرسلة اليه من السماء. وبدون إبطاء شرع يبحث عن تفسير لها.
البيت الشعري في بداية القصيدة، “أيّ طريق سأختار في الحياة؟” يُظهر بوضوح أن ثمة موقفاً رئيسياً في حياته.
وعبارة “ما هو موجود وما ليس بموجود”، تعني أن عليه أن يفصل بين الصواب والخطأ في المعارف الإنسانية. معارف محتواة في القاموس. كل ذلك تبدى له جليا، حتى إنه اعتقد بأن روح الحقيقة شاءت أن تكشف له عن كنوز العلوم جميعها في هذا الحلم، فأحس ببهجة غامرة.
ثم انتقل الى تفسير الحلمين الأولين. فاتضح له منهما كليهما، ان الريح التي كانت تدفعه نحو كنيسة المدرسة، لم تكن، كما بدا له، سوى جنّي شرير. فصوّر له ذلك أن الله لم يسمح بأن تسوقه الى ذلك المكان المقدس روح شيطانية.
أما رأس الشمام فقد بدا له انه يمثل “مفاتن العزلة”. وأما الصاعقة التي سمع قصفها، فتمثل إشارة الى روح الحقيقة التي تغلغلت في كيانه لتمتلكه...
تلك هي الأحلام الثلاثة التي لعبت دوراً حاسماً في مصير هذا الجنديّ الشاب. وفي الواقع، قرر في اليوم التالي، ان يدلف في الطريق المقدّر له، لدراسة كلّ شيء منهجياً، بغية فصل الصواب عن الخطأ في المعارف الإنسانية.
ربما من المناسب الان أن نعلن اسم هذا الجنديّ الشاب الذي سيبني كل عمله وفلسفته على تفسير هذه الأحلام الثلاثة، كمثل أيّ هاوٍ عاديّ لعلوم السحر والتنجيم.
إنه الجندي رنيه ديكارت.
نعم ديكارت بذاته الذي دمغ الثقافة الفرنسية بطابعه المعروف: “Cartésien” أي التفكير المنهجي والعقلاني.
المصادر: - J. Chevalier, Mist. De la pensée, T.3, Flammation.
- L. Pauwels & G. Breton, Histoires magiques de l’Histaire de France, Albin Michel.
* * *

III
عائشة

قصيدة طويلة تتمدد على 180 صفحة، أشبه بغابة ملتفة من الصور والألعاب السحرية على سطح اللغة، للشاعرين الفرنسيين سيرج سوترو، واندره فيلتير معاً، من جيل الربع الأخير من القرن العشرين. صدرت اولا عام 1966 عن “دار غاليمار”. وأعيد إصدارها عن الدار نفسها عام 1998. أي بعد مضيّ 32 عاماً. تُرى، هل لا يزال لهذا النمط الشعري حق في المواطنية؟
لقد أراد الشاعران – وكانا عند الأصدار الأول في العشرين من العمر، وتحت تأثير تجربة الشاعرين الرائدين اندره بروتون، وفيليب سوبو في “الحقول المغنطيسية” الصادر عام 1920، والذي كان انعطافة بارزة في مسار الشعر الفرنسي وحتى العالمي. ولم ينجُ من سحره يومذاك سوى قلة من الشعراء – أكرّر لقد أرادا ان يعيدا التجربة، فهل نجحا؟... إنه يبقى الزمان الغربال الأول والأخير، حيث لم يمض وقت طويل حتى انحرف كثيرون عن طريق معلّم السوريالية، كما شاخت “حقوله الممغنطة”. وأظن أن إعادة تجربته مع رفيقه في أيامنا، لا تحمل سوى وهج خاب الى ذائقتنا الفنية المتجددة على الدوام، والتي من شأنها أبداً، أن تطرح القشور، مهما اشتدّ بريقها، وتُبقي الثمار.
هي ذي بعض المقاطع من “عاشئة”:

عائشة

تستطيلين بالملاّح
على ضامة الآلام الزائفة
من ناحية الحديقة تتعلق بروق الغابة
تزنرها على اللوحة الزجاجية بمسالك حمراء
كقضبان طويلة من الكتابة

سيكون الأمس
مغامرات ومداً وجزراً
ماضياً لصيرورة
صيرورة لماضٍ
حدثيني عن الليلة الوحيدة
على الضفة الغامضة للألغاز المنسية
عبر زجاج النوافذ الشفّاني
الحرارة لا تفرقع أبداً
تطفو فقط ألسنتها الضوئية
يمكن الآن ان تقولي

إن التلألؤ الداخلي
حيث تنغرزين وهناً
لم يحن وقت الشرب أو وقت التدخين
وفات الأوان للعودة الى تلك السيول غير المتكيّفة
تجب اولا إثارتها حلُّها
من عُقد الزّبد المتقلّب

الهاربِ أمام مادة الأيام
الهرب هربُكِ
اضطرابك ينبسط
حتى الغد
على هربك أمام الذهب الأخضر عينان عيناي
تسمحان لك بالهرب
تبقين حيةً
كيف

لماذا تدهشين

نظرات

أنا
أُبحر بين الهذيان والغابة الذهنية لمجموعة أسلحتي
المترددة "بعيون دارات قصيرة من سائل عصبيّ
بعيون ببغاوات دمالج ثرثارة
بعيون حلية لألاءة صاعقة
زوابع"،

بعيون، بعينيّ: "من الاعتزال المذهل أمام المنفى
من ذهب الشعر الطويل المتموّج على أصابعي الميتة
من تعسّف الثقة
بعينيّ عيني المثل والكأس المحطّمة
بعينيّ العاجزتين عن إعادة جمع القِطع
بعينيّ من الصراخ الذائب
بعينيّ الليليتين"
بعينيّ المطفأتين
وينقضّ الليل بأجمعه مُتعب الرئتين على الخيّالة المتواترين
في الشوارع، ويكسو أقل شرود القبعات المضيئة
بالتأكيدات المنجزة على “بلودجين” ملطخ بحروف
السماء الاولى – ويشتعل أقلّ إخفاق عند التمزّق
الكامن الذي يتحرك في ليل العيون، الذي يتحرك
في الصراخ الذائب "عيون المثل، في الصخور المنفجرة،
عيون الشمس في منتصف الليل المشذّبة على عجل،
في الاعتزال تحت بريق المصادفة والخياليّ
لعينيكِ القديمتين بغية هدم الربيع
وإعادة سبك الشتاء
لعينيكِ عيني السطو كلّ راحة ممكنة
لعينيك عيني مستوياتِ العالم القلاّبة
عيني المطر البوهيمي والسّلبِ بالقوّة
لعينيكِ اللامباليتين"

لعينيِك
عيني الصفحة المقلوبة

سقوط حرّ

هذا السفر الطويل القصير جداً والقصير جداً مع ذلك عبر كلّ كلمة للشهرة
عبر كلّ صيغ الحبّ
الذي يبسط لنا مناظره منذ الجنائن المعلّقة
في قلب السخرية
ذات الأبر المتهكمة
جنائن ليقظتنا كانت تغور فيها أجيالنا

إنه يهرب الآن
الى الحاضر
لأنّ الدّم هناك
لا يجف ابداً بسرعة عند المغامرة
المغامرة
التي تبقى بذورها الحمراء والبيضاء معلّقة
في الحلقة العكسيّة للفصول
برغم الهرَب برغم تتمّة
انقطاع الأدراكات الحدسية
هذا السفر الطويل الذي أكتبه
بتصفية كيميا – حيوية
يا عائشة
مزعزعاً الليل المقطوع للجسد
حتى الجذور
قاطع من الصوّان في الأحشاء
*
عبثاً
أجهد نفسي في الكشف عن جدرانية اللقاءات
كل هذه الوجوه الممتدة نحو ما سيصيب
وجناتها
أبوّر تلك الغابات
وتلك الريح في ذروتها حيث تولد السرخسيّات وعودها الغاليونية
(نسبة الى “Galion”)، حتى الحشا المليء بنترات النحّاس
بيعٌ بالمفرّق يُوسّق دائماً للطيران مسمِّراً ذلك
الذهب في المرفأ
بين الصباحات اللامحدودة
بين الشفاه المتحدة
في ظلمة براءة بوهيمية
رخام اللقاءات لا ينقطع أبداً
حين يتمّ لقاءٌ
فإنّه
لا يُشعرن ¶





من: S. Sautreau & A. Velter, Aisha, NRF, 1998

عن ملحق النهار الثقافي

هنري فريد صعب.jpg
 
أعلى