مقامات قيس كاظم الجنابي - في سرد المقامات القديمة

ـ 1 ـ
بدأ فن المقامات مع تجربة بديع الزمان، ابو الفضل احمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد الهمذاني (ت 398 / 1007م) صاحب الرسائل الرائعة، المقامات الفائقة وعلى منواله نسج الحريري مقاماته واحتذى حذوه واقتفى اثره واعترف في خطبته بفضله وانه الذي ارشده الى سلوك ذلك المنهج (1)، والذي يعتقد انه كتب اربعمائة مقامة الا ان ما وصلنا منها لا يتجاوز احدى وخمسين مقامة(2) وابرز مزايا هذه المقامات سهولة المأخذ وعدم التقيد دائما بالازدواج والسجع وروح الدعابة والظرف ومرارة التهكم والهجاء(3).

اما غاية هذه المقامات واهدافها فمنه ما هو شخصي ومنه ما هو اجتماعي والشخصي ربما يدور حول الكدية وطلب العون المادي او حسن التخلص من المآزق الحرجة التي يتعرض لها الانسان في حياته وقد يكون التخلص من المآزق الحرجة التي يتعرض لها الانسان في حياته، وقد يكون من أهدافها المتعة الأدبية والفنية المجردة(4). لذا بدت مقاماته اقرب الى سياحة أو رحلة بين أمكنة الاقطار أو الامصار العربية – الاسلامية التي تكشف عن الاهداف الاجتماعية في قراءة الواقع، وبيان هواجس الناس، فمن مقاماته ذات الاجواء والفضاءات المكانية (البلخية، الاذربيجانية، الاصفهانية، البغذاذية، الموصلية، القزوينية، المارستانية،... وغيرها). ومقاماته تندرج تحت ظلال حديث عيسى بن هشام، الراوي لها، والذي سيصبح راويا لمقامات ابراهيم المويلحي (ت 1906م) فيما بعد، كنوع من التقليد، أو ابتداع يحاول أن يلتزم تطور النثر العربي نحو الرواية الجديدة، قبل أن يكتسح فن الرواية الحديث القادم من الغرب الساحة الثقافية، ويدفع الادباء الى التنكر لتراثهم النثري العريق في المقامات، لولا قيام الفيلسوف العراقي مدني صالح الى الكتابة فيه، وكأن المقامات فن يرتبط بالفلسفة الانسانية، والرؤية الوجودية للحياة والكون. فهذا الهمذاني يبدأ مقاماته بالمقامة القريضية بقوله: “حدثنا عيسى بن هشام قال طرحتني النّوى مطارحتها حتى اذا وطئتُ جُرجان الأقصى، فاستظهرت على الأيام بضياع أحلتُ فيها يد العمارة، وأموال وقفتها في التجارة، وحانوت جعلته مثابة ورفقة اتخذتها صحابة”(5).
وقد تضمنت اسئلة حول الشعراء ذات طابع نقدي، حول امرئ القيس والنابغة وزهير والفرزدق. وغيرهم، مما يعني ان السرد في المقامات يتضمن موقفا نقديا ورؤية فكرية تعبر عن فلسفة دفينة تتجلى في اسلوب الكاتب كما في المقامة "الاذراذية" التي يقول فيها: كنت ببغداد وقت الازاذ فخرجت اعتام من انواعه لابتياعه(6).
اذ يبدوالتكلف في السجع وصعوبة انسياب المعنى وتوعر السرد كما يبدو في المقامة السجستانية حيث يقول: (حدا بي الى سجستان أرب فاقتعدت طيتهُ)(7) فالفضاء المكاني مرتبط بفلسفة السرد وقدرة الكاتب على كشف الاسباب والمسببات وعلى دفع المضامين باتجاه مضايق الكلام ومعرجات اللغة، فها هو يقول في المقامة "الاسدية" كان يبلغني من مقامات الاسكندري ومقالاته ما يصغي اليه النفور وينتفض له العصفور، ويروي لنا من شعره ما يتمزج باجزاء النفس رقة(8)، فيشير الى مقاماته ومقالاته بما يعني ان ثمة صلة حية بين المقام والمقال او المقامة والسرد، او السماع والرواية لهذا يشير في المقامة "الفيلانية" الى رجل يتصف بالحفظ والرواية فالحفظ يعني ما يستلهمه من الذاكرة والرواية ما يرويه من الحديث ولفظة رواية مشتقة من رواية الحديث النبوي الشريف ثم توسع مفهومها فيما بعد ليشمل كل رواية.

ـ 2 ـ
اذا كانت المقامة ترتبط بالقضاء المكاني وتتصل بالمحتوى الجغرافي الذي تتحرك عليه الشخصيات بشكل يجعل انعكاسات المكان واضحة على حركة الشخصيات والسرد، لذا يقول في المقامة الاصفهانية: كنت باصفهان اعتزم المسير الى الري فحللتها حلول الفيّ اتوقع القافلة كل لمحة واتقرب الراحلة كل صيحة(9)، من خلال الظرفية التي تشير الى التواجد في المكان عبر حرف الجر "في" كجزء من علاقة النص بالفضاء المهيمن على حركة الزمن لان الحركة بنت الزمن لكنها مضطرة للاستجابة الى تحديدات تأثيرات المكان كما في المقامة الاهوازية التي يقول فيها: كنت بالاهواز في رفعة حتى ما ترف العين فيهم تسهّل(10) او قوله في المقامة البغذاذية: واشتهيت الازاذ وانا بغذاذا(11) وهكذا هو حاله مع الامكنة الاخرى.
وقد برز ثائره بالجاحظ وولعه بنوادره ومراقبة المتطفلين حتى انه سمى احدى مقاماته بـالجاحظية فقال فيها: ومعنا على الطعام رجل تسافر يده على الخوان وتسفر بين الالوان وتأخذ وجوه الرغفان ونفقأ عيون الجفان وترعى ارض الجيران وتجول في القصعة كالرخ في الرقعة يزحم باللقمة اللقمة (...) ونحن في الحديث تجري معه حتى وقف بنا على ذكر الجاحظ وخطاباته ووصف ابن المقنع وذرابته(12)

ـ 3 ـ
يشير نجل الحريري ابو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري ت 605هـ/ 1208م صاحب المقامات الى سبب تأليفه لها واتخاذه شخصية ابي زيد السروجي الى ان اياه كان جالسا في مسجده ودبيني حرام بالبصرة فدخل شيخ ذو طمرين عليه اهبة السفر رث الحال فصيح الكلام حسن العبارة فسألته الجماعة من اين الشيخ..؟
فقال: من سروج فاستخبروه عن كنيته فقال: ابو زيد، فعمل ابي المقامة المعروفة بالحرامية وهي الثامنة والاربعون وعزاها الى ابي زيد المذكور(13) اما تسمية الروائي لها بالحارث بن همام فانما عني به نفسه، هكذا وقفت عليه في بعض شروح المقامات(14) وثمة شكوك تراود البعض حول نسبة مقامات الحريري حتى قيل ان الحريري عمل المقامات اربعين فاتجه بها الى بغداد فقال بعض الادباء: هذا الرجل مغربي مات بالبصرة فادعاها الحريري(15)، والانتماء له صلة باتخاذ الحارث بن همام رواية يروي عن ابي زيد السروجي فاستهل سرده بكلمات او افعال تشير الى معنى الرواية مثل حدث، حكى، روى، خبر، قال، رايت، راينا).. وهكذا مما يعني قرب اسلوب السرد من سرد القصة الرواية فقد جعل مقاماته على مقدمة وخمسين مقامة وخاتمة، اطلق على كل منها اسما خاصا حسب موضوعها او مكانها او زمانها وهذا يعني الوعي التام والقصدي في كتابة هذا الجنس الادبي وهو المقام/ المجلس. وهو في نظر الصوفية مكتسب ثابت في مقابل الحال "وهب" وهو يوجد بوجد المقيم(16)، وارتبطت بالاحتيال ومراسم الكدية بعبارات مستقرة ومقاطع موزونة ذات ملامح بديعة وسمات زخرفية وهي في الواقع صدى لاذواق اهل ذلك العصر(17) وهي ذات صلة باسلوب عرض الادب او الافكار الثقافية القريبة من فن التمثيل الذي تطور الى العرض المسرحي وتعدد الاصوات لان العرب اعتادوا على الصوت الواحد والقائد الواحد وزعيم القبيلة الواحد، مما يعني ان المقامة هي تعبير عن سياق حال الشخصية التي تقوم باداء دور "المكدي" الذي يتوسل الوسائل ويكشف الستار عن الضرر الذي لحق به جراء واقعة المتردي(18)، وحال المقامة يشبه ما يفعله بعض جماعات الغجر من مشاهد تمثيلية تكسبية لابلاغ فلسفة ثقافية معينة فقد حملت موضوعاتها وعظا وحكما وامثالا واخبارا وفقها ومعلومات عامة.. وفلسفة في دلالة السلوك الاجتماعي والاخلاقي بما يتناسب وما ساد في عصرها(19).. وعبّرت صفتها المسرحية بما يميزها من القصة عن الحواره واستيلاء الحدث والتظاهر بما يناسب كل ذلك (20).

ـ 4 ـ
ان المتتبع لادب المقامات يجد انها ليست عملا او نصا ادبيا سرديا مطعما بالشعر وقائما على استخدام السجع والمحسنات البديعية والبلاغية حسب، وانما تحمل معها فلسفة اخلاقية واهدافا تربوية وتوجها معرفيا غايته ايصال رسالة الى المتلقي القارئ لكي يتفهما ويبتصر بما تمتلكه من نزعة فكرية وثقافية وقد حاول ابلاغها من خلال استخدام الرواة واسطة لنقل تلك الافكار فثمة رواة رواية مثل ابي زيد السروجي والحارث بن همام وانها متواصلة من الهمذاني الى الحريري، اذ ان الحريري يشير الى سلفه بديع الزمان فيقول: وبعد فانه قد جرى ببعض اندية الادب الذي ركدت في هذا العصر ريحه وخبت مصابيحه ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان وعلامة همذان رحمه الله تعالى وعزا الى ابي الفتح الاسكندري نشأتها والى عيسى بن هشام روايتها وكلاهما مجهول لا يعرف ونكرة لا يعرف فاشار من اشارته حكم وطاعته غنم الى ان انشيء مقامات اتلو فيها البديع وان لم يدرك الظالع شأ والضليع، فذكرته بما قيل فيمن الف بين كلمتين، ونظم بيتا او بيتين واستقلت من هذا المقام الذي فيه يحار الفهم ويفرط الوهم(21).. مما يشير الى سبب تصنيف هذه المقامات ومنها ما يخص التجديد الذي يناسب العصر من حيث المحسنات اللفظية والاجواء الواقعية ومحاكاة الهمذاني في اكتشافه لهذا الفن واعترافه بانه تابع لا متبوع حتى بدت المقدمة وكأنها خطة بحث او استهلال تسويغ وتبرير لهذا التصنيف، وتعتبر واقناع من اجل الفوز بالقارى وكسبه الى جانبه وكقوله: وانشأت على ما اعانيه من قريحة جامدة، وفطنة خامدة، وروية ناضبة، وهموم ناصبة، خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودرره، وملح الادب ونوادره الى ما وشحتها به من الايات ومحاسن الكتابات، ورصعته فيها من الامثال العربية واللطائف الادبية والاحاجي النحوية والفتاوي اللغوية والرسائل المبتكرة والخطب المحبرة والمواعظ المبكية والاضاحيك الملهية(22).. في اشارة الى تنوع المادة وعمق التعبير وتعدد الاهداف وان السرد حامل الفكر وليس هو الفكر وان غايات الكاتب تنوعت لتستوهب مجالات الثقافة معنى ومبنى ليحقق الكاتب اهدافه ودوافعه وفلسفته المضمرة لان المقامة فن لا يستطيع ان يلجه الا من تضلع باللغة واصبح دريئة للفكر وحاز على ملكة بارعة في التعبير من حسن النظم وجودة النثر.
ثم يبين الكاتب طبيعة هذه الرواية والرواة وكيفية دمج السرد نحو حلبة التاثير وفضاء الكلام فقال: ومما امليت جمعيه على لسان ابي زيد السروجي واسندت روايته الى الحارث بن همام البصري وما قصدت الاحماض فيه، الا تنشيط قارئيه وتكثير سواد طالبيه ولم اودعه من الاشعار الاجنبية الا بيتين فذين اسست عليها بنية المقامة الحلوانية واخرين توأمين ضمنتهما خواتم المقامة الكرجية(23).. فاشار الى نظم هذه المقامات في سلك الافادات وسلكها مسلك الموضوعات. فيتم ذلك حين يلج المقامة الاولى "الصبغانية" بقوله: وارد في مسارح لمحاتي ومسايح غدواتي وروحاتي كريما اخلق له ديباجتي وابوح اليه بحاجتي او اديبا تفرج رؤيته غمتي وتروي روايته غلتي حتى ادتني خاتمة المطاف وهددتني فاتحة الالطاف الى نادر حبيب"(24)كما يشير الى اهمية التلقي / السماع المباشر لما تحمله الالفاظ من جرس يبلغه عبر السجع والكلام المؤثر في استخدام الامثال والحكم وغيرها وهذا بدوره منح المبدع فرصة للتعامل المباشر مع المتلقي لفتنة العرب بالسماع، فهدفه كهدف الشاعر في اللقاء قصيدته لذا استخدم اسلوب المجلس المقامة تعبيرا عن الاتصال بالاخر فجاء اتصاله اقرب الى فن التمثيل المسرحي.

ــ 5 ــ
اذا كان الحارث بن همام قد حدث على لسان الكاتب المقامة الاولى وانتهى الى نهاية المقامة، فانه حاول ترسيخ الاحساس بالوهم لدى المتلقي لتقبل هذه اللعبة الحكايةن لذا فانه حين يدخل عليه ابو زيد يتصرف من حيث اتى لاحساسه بالانبهار والتعجب من اجل ان يمهد السبيل امام المقامة الثانية التي يبدأها كسابقتها بقوله: حكى الحارث بن همام.. ثم يختمها بقوله: فاذا هو شيخنا السروجي وقد اقمر ليلة الدجوجي فهنأت نفسي بمورده (...) ثم نهض مفارقا موضعه ومستصحبا القلوب معه(25).. وفي المقامة الثالثة يبدأ بقوله: روى الحارث بن همام وينتهي بقدوم ابي زيد وهكذا هي الصلة بين الاستهلال والختام تدور في حركة لولبية تبدأ بها المقامة وتنتهي بها مما يعني ان البناء الاساس للمقامات يقوم على وجود حكايتين حكاية كبرى رئيسية وحكايات /مقامات صغرى ترتبط جميعها بشخصية الحارث بن همام الراوي وصنوه شيخه/ استاذه ابي زيد السروجي لان في المقامات تختلف هوية الراوي عن غيره من الشخصيات المؤسسة للسرد فهو وحده المضطلع بمهمة حكاية الاحوادث والمواقف المسرودة(26)..
والحريري احيانا يكتفي بـ(قال الراوي) في اشارة الى اتصال الشخصيات وعلاقة الحكاية بالسرد.. كما في قوله: ورقشنا الحكاية على سردها "(27) وقال الراوي وكنت قد عرفت عود شحرته(28).
واقدم الشيخ وقال:
ـ انا السروجي وهذا ولدي الشبل في المخبر مثل الاسد(29).. ثم يكرر ذلك بـ قال الرواي او قال الحارث او هذا ابو زيد وهكذا، وفي المقامة الثامنة والاربعين المعروفة بـ الحرامية التي يقال انها اول مقامات الحريري يشير الى رواية الحارث عن ابي زيد ويملي الحارث ما بلغه عن ابي زيد في الساسانية اما لماذا جعل ترتيب هذه المقامات على هذا الاسلوب ولم يجعل الحرامية هي الاولى فلا اعرف سببه، ثم يختتم الكتاب بقوله هذا اخر المقامات التي انشاتها بالاغترار واملتها بلسان الاضطرار(30)..

ــ 6 ــ
أبرز ما يلاحظ على هذه المقامات انها اتخذت وسيلة لتوصيل أفكار الكاتب، وواسطة لابلاغ معرفته، مما يعني ان المقامات كتبت بشكل قصري لمواجهة المتلقي/ القارىء/ السامع بعد ان شعر المبدع بصعوبة توصيل أفكاره بالطرق التقليدية السابقة، مثلما كتب غيره من امثال الجاحظ والتوحيدي والمعري، لأنه صاحب موقف/ فلسفة فكرية يطمح ان يبلغها، كما استخدم الجاحظ الرسائل وسيلة لبث أفكاره في الاعتزال، وكتاباته المعرفية/ الثقافية كالحيوان، والبيان والتبيين والبرهان وغيرها في هذا الشأن، لذا تجد الحريري يقول: (حكي الحارث بن همام قال حُبّ إليّ مذ سعت قدمي، ونفث قلمي، ان اتخذ الأدب شرعة، والاقتباس منه بخعة، فكنت انقب عن اخباره وخزنة اسراره)(31). فجعل سرده يقوم على وجود راو ومرو له، الراوي/ السارد، هو الصوت القادم من داخل السرد(32)، والمروي له/ المسرد له، يقع بمستوى المتلقي/ السامع، يبرز لدى الحريري بوضوح، لذا حفلت مقاماته بالإشارة بالسمع والسماع، كما في إشارته الى امتاع (الاسماع، بما راق وراع)(33)، ودعوته للمتلقي بأن يسمع منه، أي سماع الشعر، مما يكشف عن النزعة الحوارية، والبناء المسرحي المتوغل في المقامات، لأن المقام/ المجلس يشير الى شخص يسرد وآخر يستمع.
أما البطل، فهو واضح ومعروف، كما هو حال ابي زيد السروجي، والذي يعتقد بعض الباحثين انه ليست شخصية (رمزية من الأدباء الفقراء، وله قدرة عجيبة على التلون وابتزاز الأموال عن طريق المكر بالوسائل الأدبية المترفة)(34)، مما يشير الى ان الحريري استخدم شخصياته وسائل لبث أفكاره، ودفعها لتشكل مجموع الكتاب لموضوع موحد، وبناء منسجم، لكي يجابه الاحساس بالظلم ويكشف عدم الانصاف، فقد كان الحارث بن همام (يسعى بشكل لا يعرف الكلل او اللين أو المهادنة لجعل الانسان أو الفرد يحتل مكانته المرموقة اللائقة بسعيه الحثيث لاستئصال مفاسد المجتمع التي تبدو فجوة في سلوك ابي زيد السروجي .... وهذا يعني بعبارة أخرى ان الحريري كان مولعاً الى درجة الإفراط بالحركة الديناميكية الصاعدة للحياة والمجتمع والفرد نحو المستقبل الأفضل)(35)، مما يشير الى ان الفكرة السببية، أو فكرة الصراع تقوم على هذا التباين بين شخصيتي الحارث والسروجي، فكل منهما يمثل اتجاهاً آخر، وأن فلسفة السرد ـ هنا ـ تقوم على إبراز الصراع بقوة، وخصوصاً بعد بروز الصراع الإسلامي/ الأوربي في عصر الحروب الصليبية، وتزعزع مركز الخلافة العباسية، فكأنه يكشف عن خواء الجانب السياسي.
اما الخلاف بين مقامات الهمذاني والحريري، فأن الأولى أسهل مأخذا، وأقل تكلفاً، وأكثر ابتكاراً للوقائع والحوادث، اما الثانية فادق صنعة وأفضل شعراً وأكثر تعمقاً في اللغة وأوضاعها وأمثالها وحوادث رجالها(36). وقد حذا حذوها الأديب إبراهيم المويلحي (ت 1906م) في مقامات التي عنونها بـ(حديث عيسى بن هشام) وبدأها بقوله: (حدثنا عيسى بن هشام قال: رأيت في المنام، كأني في صحراء الإمام امشي بين القبور والرجام، في ليلة زهراء قمراء)(37)، ويبدو أنه تأثر بمنامات الوهراني التي تقوم على استخدام الرؤيا وسيلة، وهو ما قامت عليه بدايات القصة القصيرة، والروايات المتأثرة بالمقامات مثل (الرواية الايقاظية) لسليمان فيضي، ثم ينتهي المويلحي في آخرها عند باب (من الغرب الى الشرق) في إشارة الى علاقة السرد بالآداب الغربية، فيقول: (قال عيسى بن هشام: واقمنا مع صاحبنا الحكيم نهتدي في سيرنا بهديه، ونستضيء بنور فكره ورأيه، ونتبعه اتباع الابل لهاديها)(38). وقد تحدث عن أشياء واقعية تخص واقع مصر، كقوله (ووصلنا الى قصر الجيزة ومتحف الاثار، وملتقى السيارة من سائر الاقطار، فدخلنا روضة تجري الانهار من بينها، لأنها مزردة حسبها ارضا مفروشة)(39)، مما يشير الى اتصال ادب المقامات في القديم والحديث بالحياة الاجتماعية الواقعية والاهتمام بالطبقات الفقيرة في المجتمع، مما دعاه بعض الباحثين بـ(بلاغة الشحاذة)(40)، التي تفضي الى تشكيل تنبؤات وأحلام لشرح المستقبل(41) التي يقدمها الكاتب كنوع من الاستكشاف لواقع قادم، أي أن المقامات تحمل رسالة فكرية خاصة غايتها نقد الايدلوجيا السائدة من خلال انحيازها الى جانب الطبقات المهمشة والفقيرة.
الهوامش
(1)وفيات الأعيان: ابن خلكان، تح احسان عباس، دار صادر (بيروت، 1397هـ ـ 1977م): 1/127.
(2)تطور أساليب النثر في الأدب العربي: أنيس المقدسي، دار العلم للملايين، ط6، بيروت، 1979م): ص337.
(3)نفسه: ص378ـ 381.
(4)النثر الاندلسي في عصر الطوائف والمرابطين: حازم عبدالله خضر، وزارة الثقافة والاعلام، دار الرشيد للنشر ـ دار الحرية للطباعة (بغداد 1980م): ص318.
(5)شرح مقامات الهمذاني، دار التراث، (بيروت 1388هـ ـ 1968م): ص9.
(6)نفسه: ص14.
(7)نفسه: ص21.
(8)نفسه: ص33.
(9)نفسه: ص62.
(10)نفسه: ص67.
(11)نفسه: ص71، ينظر: ص75، 79.
(12)نفسه: ص85.
(13)وفيات الأعيان: 4/63ـ64.
(14)نفسه: 4/65.
(15)سير اعلام النبلاء: الذهبي، مؤسسة الرسالة، (بيروت 1403هـ ـ 1405هـ/ 183ـ1985م): 19/464.
(16)المعجم الصوفي: سعاد الحكيم، دندرة للطباعة، توزيع المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط1، (بيروت 1401هـ ـ 1981م): ص931.
(17)فن المقامة بين الأصالة العربية والتطور القصصي: عباس توفيق الصالحي، الموسوعة الصغيرة، ع (147) وزارة الثقافة والاعلام ـ دار الحرية للطباعة (بغداد، 1404هـ ـ 1984م)، ص12.
(18)مقامات الحريري، دراسة لغوية: عبدالحسين خضير، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، (بغداد 2008م): ص21.
(19)نفسه: ص44.
(20)البناء الفني للمقامة العربية في العصر العباسي: عباس مصطفى الصالحي، الموسوعة الصغيرة، ع(455) وزارة الثقافة، (بغداد 2001م): ص78.
(21)مقامات الحريري، دار التراث (بيروت 1388هـ ـ 1968م): ص4-5.
(22)نفسه: ص6-7.
(23)نفسه: ص7.
(24)نفسه: ص10-11.
(25)نفسه: ص24-25.
(26)السرد في مقامات الهمذاني: أيمن بكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (القاهرة 1998م): ص141.
(27)مقامات الحريري: ص47.
(28)نفسه: ص59.
(29)نفسه: ص75.
(30)نفسه: ص603.
(31)نفسه: ص416.
(32)السرد في مقامات الهمذاني: ص45.
(33)مقامات الحريري: ص217.
(34)مع الحريري: نوري جعفر، الموسوعة الصغيرة، ع(190) وزارة الثقافة والاعلام ـ دار الحرية للطباعة، (بغداد 1986م): ص53، ينظر: ص68.
(35)نفسه: ص59.
(36)تطور أساليب النثر في الأدب العربي: ص392.
(37)حديث عيسى بن هشام: إبراهيم المويلحي، دار التراث، (بيروت 1389هـ ـ 1969م): ص13.
(38)نفسه: ص362.
(39)نفسه: ص280.
(40)النقد الثقافي: عبدالله الغذامي، المركز الثقافي العربي، ط2، (بيروت/ الدار البيضاء، 2001م): ص152.
(41)التخييل القصصي: ريمون، ترجمة لحسن حمامة، دار الثقافة (الدار البيضاء 1995م): ص134.



د. قيس كاظم الجنابي
في سرد المقامات القديمة
 
أعلى