مقامات إبراهيم الكراوي - بناء المعرفة التراثية في مؤلف المقامات لعبد الفتاح كيليطو

إن هذه القراءة لا تبتغي عرض مجمل مضامين بعض أهم أعمال كليطو والتعريف بها، بل تتناول الأسئلة ومحاولة مقاربتها وتحليلها.. وبالتالي إعادة التفكير ومحاورة هذه القراءات باعتبارها تتطلب شروطا قرائية خاصة. فأهمية أعمال عبد الفتاح كيليطو لا تكمن فقط في مكانة المتن المدروس في التراث الأدبي العربي والعالمي، بل تعيد، إضافة إلى ذلك، تشكيل المنظومة النقدية والمعرفية القديمتين, وفق رؤية مغايرة وموضوعية، وذلك باعتبار مناهج القراءة ,آلياتها,أسسها, وخصائصها. هكذا فقراءة هذه الأعمال تتيح إعادة بناء معرفة تراثية بإمكانها تنوير وإفادة الراهن الأدبي والفكري.
وللكشف عن هذه القضايا وما يتبعها، سننطلق من مؤلف المقامات السرد والأنساق الثقافية لعبد الفتاح كيليطو. ثم نحاول استخلاص مجموعة من النتائج سنعتبرها مقدمة لبناء تصور نقدي من الممكن أن يسعفنا في مقاربة بعض القضايا النقدية الراهنة.

1ـ البناء المعرفي واستراتيجية القراءة:
إن أول سؤال يتبادر إلى الذهن إذ يعمد باحث ما إلى الحفر في ممالك التراث، والكشف عن خزائنه هو: لماذا هذا النكوص، والاهتمام بنصوص كالمقامات، استنفذت زمنها؟ فالسؤال إذن، يمثل جزءاًً من إشكالية داهمت الفكر والحياة العربية، وأطّرت بحوثا ودراسات فلسفية انطلاقا من ثنائية معاصرة/حداثية . وهكذا فـ" جعل المقروء معاصرا لنفسه معناه فصله عنا...وجعله معاصرا لنا معناه وصله بنا... قراءتنا تعتمد اذن الفصل و الوصل كخطوتين منهجيتين رئيستين ... "(1)
إن مؤلف المقامات: السرد والأنساق الثقافية يندرج في هذا السياق الإشكالي. يقول مؤلفنا في إطار جوابه عن هذا السؤال الفريد في الثقافة العربية: " والحال أننا نعكف على درس أنفسنا حين نعكف على النص الكلاسيكي. والخطاب عن الماضي هو في الآن ذاته خطاب عن الحاضر " (2)
ولعل استناد الدراسة على مفهوم إجرائي، مركزي، سواء على المستوى المنهجي أو الفكري, وهو الأنساق الثقافية سينتج خيوطا رابطة ومانحة مشروعية للطموح الذي يراود هذا النوع من الأبحاث. هكذا نجد مفهوم النسق قد استعمل في الثورة اللسانية الأولى مع فردناند دو سوسير والذي اكد على الطابع النسقي للغة , وضرورة مقاربتها كذالك...(3) وإذن يتضح من خلال العنوان أن المؤلف بصدد إعادة بناء وقراءة النسق الثقافي الذي يحكم جماليات السرد القديم في هذه النصوص، وذلك باعتباره أحد المعالم العميقة الكامنة في التكوين الإبداعي للمقامات. وهو ما أغفلته القراءات السابقة سواء التي سلكت مسلك النقاد القدامى أو القراءات الاستشراقية . وبالأضافةالىالنسق, نجدالبعد الثقافي استراتيجي في قراءة المقامات ,فهو يصل الماضي بالحاضر. ذلك أن " كل نظام ثقافي يتوخى أن يجعل من المنتسبين إليه... أناسا معمرين، قادرين على الصعود عبر الزمان وربط صلات الألفة مع الأسلاف الذين يتحولون حسب الرغبة إلى معاصرين. " (4)هكذا فالقراءة تجاوز لمقاربات لم تستطع أ ن تنفذ إلى عمق البنيات النصية، واكتفت بالجانب التاريخي الذي يؤطر لولادة المقامات, يقول يوسف نور عوض في هذا الإطار وهو يستحضر مكون البيئة: "ثمة مسألة أخرى لابد من إضافتها وهي أن دراسة البيئة لا تساعدنا فقط على معرفة العلاقة السببية بين الواقع والفن بل تساعدنا أيضا على فهم النماذج الفنية ذاتها... "(5) و من جهة اخرى تعديل وتعميق للمقاربات المحايثة، وإحياء للمرونة التي تتطلبها بعض المفاهيم القادمة من حقول خارج الأدب. والحفر في البنيات الداخلية ليس غاية عند كيليطو, بل هو وسيلة للكشف عن تمظهرات المكون الثقافي وأثره في المقامات، فالمؤلَّف " لا يحيا بخصائصه الداخلية فحسب، وإنما أيضا بالصدى الذي يكون له في سياق ثقافي معين." (6) وقد انكبت الدراسة على بعض متون المقامات الفريدة (خمسة مؤلفين: الهمذاني، ابن شرف القيرواني، وابن بطلان، وابن ناقيا والحريري). والبحث في هذه الأرضية وهذه الطبقات الجيولوجية التي تنتمي إلى القرنين الرابع والخامس يقتضي التوسل بمعرفة تساعد على بناء وبسط التصور الذي ينطلق منه البحث... ورغم ذلك فالسفر في نص المقامات شاق وممتع، والإشكالات مطروحة فيما يخص ظهور المقامات. فالإرث النقدي لم يقدم أي ملاحظات في هذا الإطار. لذلك تبدو المقامة "زهرة برية لا يدرى كيف تفتحت. نعم لدينا الدلالة المعجمية للفظة، وبعض الترابطات الصدفوية وبعض العناصر السيرية, لكن كل هذا لا يردم الهوة التي سببها مؤلف الهمذاني. (7) والمستوى الثاني من السؤال المطروح في هذا البحث يتعلق بمشكلة النوع. ولمعالجة هذا الأخير يفترض كيليطو " الانطلاق من نصوص لم يتحدد نوعها، ودراسة تركيبها وملاحظة ما إذا كانت ستنتج التسمية التي هي موضوع بحثنا. " ( وإذا تأملنا المتن الذي أشرنا إليه سابقا كمنطلق للبحث نجده إجرائيا على المستوى التمثيلي، بما أنه يذوب داخل البوثقة التاريخية الواحدة ,ويؤرخ بالتالي لولادة هذا النوع المفترض في مستهل هذه الدراسة. ويمكن أن نعثر عموما على ثلاثة مظاهر في المقامات:
1- موضوعة الكدية.
2- الأسلوب الرفيع والأنيق.
3- نسبة الخطاب.
وبالنسبة للتسمية نجد بأن المقامة من مفعلة من القيام ,ولدالك يقال مقام كمكان ومكانة وهما في اللاصل إسمان لموضع القيام ,وبالإضافة إلى معنى مجلس وحديث تعني كذالك مجلس السادة .ويلاحظ كيليطو أنهناك علاقة بين هذه الدلالات المعجمية والمعنى الإصطلاحى ,إد أن المقامة خطاب يتلفض به أبو الفتح أمام شخصيات من الوجهاء في حميمية المجلس أو أمام جمهور غفير .وهدف المقامة هو نسج الخطاب الوعظي على لسان المكدي, هذا الخطاب نجده يخترق بنيات النص . لكن الكدية ليست الموضوعة الوحيدة المعالجة في المقامات ذلك أن المقامات تجمع موضوعات الأدب تقريبا. غير أن هيمنة موضوعة الكدية وتميزها جاء بسبب أنها أتاحت للمؤلف المقامات " وصف الموضوع الجديد لمنتج النصوص من زاوية نظر غير معتادة. "(9) في المقامات إذن تتفجر بنيات الخطاب الواقعي لتؤسس أنساقها من خلال الوصف والنقد ورصد اليومي , والأخبار التي تنهب خزائن الذاكرة ,ثم المفارقة التي تشكل سر هذا البناء السردي وهو ينمو كنبتة لا تفارق الحياة.إنها المفارقة اللتي تتشكل من خلال التقابل بين الخطابين الواقعي والعجائبي.

2- المنهج كأفق للقراءة.
لقد حظيت المقامات باهتمام الشارحين القدامى، والباحثين المعاصرين ذوي الاتجاهات المتنوعة. لكننا نلاحظ أنه رغم أهمية هذه الدراسات في مستوى أسبقيتها في محو غبار النسيان الذي غمر هذه المؤلفات، فإنها بقيت أسيرة جانب أحادي تتناول انطلاقا منه هذه الأعمال. ومشروع كيليطو يتجاوز هذه الرؤية الضيقة، بحيث إن المقاربة تتميز بخاصيتين: الشمولية والانسجام. وهما مصطلحين نقترحهما لنؤشر بهما إلى أحد المعضلات التي يتخبط فيها الخطاب النقدي المعاصر ...إن السؤال الذي نطرحه في هذا الإطار, ونحن نقرأمؤلف كيليطو هو: كيف نجعل هذا الخطاب النقدي مرنا,يتكيف مع منظومة تراثية ذات خصوصية، وكيف نستثمر المعرفة النقدية التراثية في بناءخطاب نقدي يصف الظاهرة الأدبية ؟ إننا إذا تأملنا الحقل المفاهيمي الذي يشكل المتن النقدي لهذا المؤلف نخلص إلى محاولة متميزة لمقاربة هذه الأسئلة. فقد أفاد كيليطو من المنهج السيميائي بمختلف اتجاهاته (كما يتجلى من خلال الحقل المفاهيمي الذي استثمره (العلاقة السيميائية، تيماتية، التحول، المسار...) (باروديا السيميائيات الروسية باختين)... كما ينهل من التراث الأرسطي (محاكاة انظر ص 32) وخلال رحلة البحث عن أعماق نص المقامات وما تحفل به من نفائس وثمائن ,وذلك عبر التوسل بهذه الآليات المنهجية، يعيد كيليطو تأمل وقراءة بعض المفاهيم محاولا إنتاج قراءة دقيقة، كما هو الشأن بالنسبة للمحاكاة. حكاية يقول بصدد هذا الأخير: " كل الصعوبة ناجمة عن التباس كلمة حكاية التي قد تعني "محاكاة" كما قد تعني "رواية القول" (ورواية القول هي فضلا عن ذلك شكل من أشكال المحاكاة..(10)
واستثمر كيليطو المعرفة النقدية التراثية باعتبار أن قراءة العمل من منظومته الثقافية المعرفية عملية تنور مسار البحث وتكشف عن مجموعة من المعطيات. ويتضح ذلك من خلال الإفادة من مفهوم السند يقول المؤلف: " في الثقافة العربية يصير ملفوظ ما نصا أدبيا حين يصدر عن سند معترف به". (11) إشارة إلى طرائق البحث والشرح عند القدامى (انظر ص 166)... وبعض القضايا المطروحة في الخطاب النقدي القديم كقضية اللفظ والمعنى والشاعر والمكدي...
إن الانسجام بين المنظومتين الثقافيتين الغربية والتراثية العربية يتضح من خلال تذويب كل منظومة معرفية في بوتقة تعد المادة والآلية التي انطلاقا منها يتم مقاربة النص. وهذا يتضح إذا تأملنا قضية حوار الأنواع في المقامات والتي يستهل بها كيليطو كتابه. فكيليطو ينهل من المنهج السيميائي باعتباره معطى كامنا في النص ، بل إن العلاقات السيميائية تسبق نمو النص, وهذا يمنح للقراءة مشروعيتها. ولا يعني ذلك أن الباحث يقرأ التراث من خارج المنظومة الثقافية الأصلية، إنها قراءة منتجة وكاشفة للأدغال والمناطق المترامية في كون النص.
إن حضور تيمة السفر التي ترادف العلم في القرن الأول للهجرة, جعلت المقامات تقترب من مؤلفات الجغرافيين العرب، ونجد كذلك الحكاية العجيبة، الشعر، ف " المقامات التي تستوعب كل تشكيلة الأنواع المعروفة كان لا بد لها أن ترى النور (12) " لكن أهم سؤال يطرح في هذا الإطار هو: هل يمكن اعتيار المقامة سردا؟ وهل هناك عناصر يمكن أن تكون مشتركة بين القصة, الخرافة ، الحكاية, كأجناس لها أنساقها الخاصة؟ لقد حاول كيليطو مقارنة هذه القضية واستخلص مجموعة من المؤشرات التي تقرب المقامة من هذه الأجناس السردية. وهكذا فحضور راو هو عيسى بن هشام يسند إليه خطاب ما مؤشر من بين المؤشرات السردية، بل إنه يتمثل كعنصر تتحدد من خلاله المقامة، يقول المؤلف: " توجد المقامة حين يسند المؤلف القول على النمط الخيالي لشخصية أو عدة شخصيات. كثير من المشكلات تجد حلها حين نتنبه إلى أن كلمة مقامة تعني في آن واحد نوعا ونمطا من الخطاب. (13) "وهذا المعيار التحديدي له أسسه والتي تجعلنا نؤمن بأصالته وإجرائيته، فالحكي يعتمد على السند، والراوي لا يحكي إلا عن سند معترف به بتعبير المؤلف. وهذا الراوي ينسج علاقات مع شخصيات من خصائصها أنها تمسرح الحدث. وتبعا لذلك يمكن القول إن للقاص " علاقة وثيقة بالفرجة والمحاكاة. إن الحركات والمظهر واللباس والإخراج المسرحي الذي يحيط به نفسه، كلها تكون لعبا مسرحيا... " (14) وهذا الحدث الذي تنسجه شخصيات المقامات ماثل في الزمان والمكان. يضاف إلى هذه العناصر البنيات التخيلية التي تؤثث الفضاء النصي للمقامات. ومن أهم سمات هذا العالم التخييلي هي أن المؤلف لا يتكلم باسمه، بل يجعل شخصيات من اختراعه تتكلم. هكذا يبدو التخييل طريقة لجعل المضامين عسيرة تصير ممتعة... " (15) إن احتواء المقامات لمكونات الخطاب السردي لا يعني أنها تحقق درجة الصفر بتعبير بارت في مستوى الاقتراب من هذه الأجناس. فهناك حدود تفصل بين المنطقتين تتجلى في التقطع السردي الذي يميز المقامات والذي لا يؤمن تطور ونمو خبر أو موضوع يميز القصة. .

المقامات: وأثرها على الأدب العالمي:
لقد تميزت المقامات بمجموعة من السمات والخصائص جعلت منها أحد أهم الأجناس السردية في العصر، ومظهرا من مظاهر الثقافة العربية. إنها احتفاء باللغة العربية وبإبداعيتها, من خلال اللغة وألوان البديع، والآليات البلاغية التي تنسج البناء الدلالي وتخفي المعاني المسافرة من واقع خرافي خاص, رصعت النصوص على طول هذه الرحلة البعيدة في تخوم السرد. إن الموضوعات التي قاربنا آنفا والتي توجد في المقامات، والآليات والمكونات الخطابية. ثم ولادة هذه النصوص في بيئة عربية وانطلاقا من هذه البيئة والثقافة جعلت من المقامات إبداعا عربيا خالصا لا يحمل أي سمات تأثير أجنبي بمعنى أن أهم خصيصة في هذا الإطار هو الأصالة. وهدا ما جعل المقامات النمودج الدي أسس انساقه الخاصة,وأثر فيما لحقه .فالهمذاني استطاع أن يصنع من المقامات "عملا أصيلا لأن الأقوال المستشهد بها تعتمل فيها انشغالات الشخصيات في مواقف جديدة ". (16) وهكذا استطاعت المقامات أن تخترق أزمنة متعددة وهدا ما يتجلى إذا اطلعنا على السردية العربية المعاصرة,والتي استلهمت جماليات الخطاب السردي في المقامات. فتميز المقامات لم يكن ليتحقق لولااستقلالية النوع , والحدود اللتي رسمهاالهمذاني بالخصوص وهو مايمنحها هذه الاصالة.هذابالإضافة إلى أن تصوير واقع الطبقة المسحوقة في هذاالعصر كان نقطة انطلاق المقامة,فهى المادة التي توسل بها لكتابة المقامة.إذن فتيمة البؤس اللذي عانت منه الطبقة المسحوقة وكذالك فئات مجتمعية محددة ,كالعلماء والأدباء اللذين فشلوا في نيل الحضوة من الخلفاء ,كل هذه العوامل ساهمت في تشكيل نوع فريد في الثقافة العربية تميز بالأصالة والجدة ,مماجعل المقامة تحتل مكانة مرموقة في أدب الأمم الأخرى,سواء كان ذالك قديما أوفي العصر الحالي.

نقد القراءة الاستشراقية :
لقد حظيت المقامات باهتمام الشراح القدامى والباحثين العرب المعاصرين كما سبقت الإشارة إلى ذلك، والمستشرقين على السواء. و.بالنسبة للقدامى فقد اقتصروا في بحوثهم على جانب أحادي، هو الجانب اللغوي أو المضموني. ويحذرنا كيليطو في هذا الإطار من مغبة الانسياق وراء هذه الأحكام السريعة. ورغم أهمية الدراسات الراهنة ودورها في محو غبار النسيان الذي غمر المقامات، فإنه يلاحظ أن جلها انطلق من معطيات خارج نصية كغاية لتفسير الظاهرة الأدبية في المقامات. ولم تستطع بالتالي النفاذ إلى البنيات الداخلية وتجلية معالم جمالية هذه النصوص. لكن أكثرها إثارة للدهشة والاستغراب هي القراءات الاستشراقية... وقد اتخذت أوربا شعارا لها كما عند رينان, وأنزلت هذا النوع الإبداعي منزلة سفلى، لا تنسجم والمعطيات الجمالية والخصائص التي ميزت فن المقامات بالمشرق. تتميز آراء رينان في هذا الصدد كما يتبين من خلال عرض كيليطو، بالتناقض وعدم اليقين وغياب الشروط العلمية والجمالية لقراءة النص. فالعبث أهم ما ميز قراءة رينان، وبذلك فهو يدمر لا تراثا خاصا، ومتميزا، ولكن تراثه هو باعتباره جزءاً من المعادلة الإنسانية التي تنسجها دلالات المقامة. وحين توقف كيليطو عند رينان لم يركز على اراءه وأحكامه، بل البعد الإيديولوجي الصارخ الذي يرصع هذه الآراء. يقول رينان في هذا الإطار: " لم يفهم الشرق أبدا الإباء الباطني الذي يسمو بالإنسان فوق القدر. "(17) بل يصنف نصوص المقامات ويلبسها أبعادا لا تمت بصلة إليها إذ يقول " تأليف واحد من أكثر المؤلفات تميزا في الأدب العربي مرتبط بفصل من فصول تاريخ الحملات الصليبية. "(18) وقد عمد رينان إلى هذه الآراء حين اكتشف أن المقامات تخرج عن ذوقه الأوروبي المألوف (ومن المعلوم أن المؤلفات التي تنزاح عن الذوق السائد، تؤسس لتجارب تمثل إضافة وتحولا في مسار هذا التاريخ الأدبي). وتكتمل مأساة رينان حين يصف الجواهر اللغوية التي تحفل بها المقامات بالحذلقات العسيرة، وهذا التراث النصي بالأضحوكة، بل إنه يحاكم أحد أبطال المقامات (هذا الكائن الورقي) ويصفهم بالاحتيال إذ يقول : " فكرة شخص وقح غريب الأطوار ماهر على التساوي في دقائق النحو وفي أنواع النصب والاحتيال... " (19) إن النقد الذي يوجهه رينان للمقامات يغيب الأبعاد الجمالية والنصية,ولا يراعي الشروط العلمية.هكذا يحاور كيليطو الآخر أوربا سالكا مسلك الموضوعية والبحث الرصين. ويدعم هذا الحوار الأسئلة التي يوجهها إلى رينان إذ يقول: " لكن إذاك كيف يمكن تفسير تجدد اهتمام القرن التاسع عشر الأوربي بالشرق؟ كيف نفسر الافتتان الذي أثاره كتاب الحريري، رغم بعده كل البعد عن العادات الأوروبية في الكتابة. لأي سبب شرع دي ساسي سنة 1822 في تحقيق ونشر المقامات؟ (20) وهي أسئلة قد تورط رينان وتكشف عن التناقض البين في آرائه.

نتائج قراءة مؤلف المقامات: السرد والأنساق الثقافية لعبد الفتاح كيليطو:
لقد تبين من خلال تفحص قراءة كيليطو للمقامات، أنها نص فريد بخصائص، ومترع بثقافة العصر ومظاهره متجلية خاصة في القصيدة ـ الغرض التي تحتل مكانة خاصة في الثقافة العربية القديمة. لكن، بالمقابل، ظهور المقامات كجنس أصيل متجذر في التربة العربية، ومؤثر في أدب الأمم الأخرى، يجعلنا نقول إن الأدب العربي عرف أيضا إلى جانب الشعر أشكالا سردية خاصة ومتميزة، وبالتالي يمكن القول إن أصل الرواية العربية هو هذه البذور السردية التي نثرها الهمذاني وغيره في حقل ثقافي ملغوم بصخب السلطة... لقد استخلصنا فيما سبق استقلالية المقامة كنوع أدبى, وبالتالي تأثيرها في أدب الأمم الأخرى. ما الذى يجعل المقامة تبلغ هذه المكانة المرموقة؟ المقامة نوع أدبى يمثل ثقافة العصر, فقد ولدت نتيجة مجموعة من التحولات المجتمعية اللتى عرفها المجتمع العباسي ,ودالك على مستوى البناء والأكل والغناء والحياة... وهي عوامل ستشكل مصدر إلهام بالنسبة للهمذاني كاتب المقامة النموذج. هذا بالإضافة إلى كونها تستوعب موسوعة من الأجناس, واحتفالها بزفاف لغوي باذخ يجعلنا في حيرة من أمرنا.وليس الأهم الموضوعة التي تنسجها المقامة ,بل الطريقة اللتي تناول بها الهمذاني هذه الموضوعة.ذلك أن المقامة منذ نشأتها حرصت على أن تكون نصا مفتوحا ,ولم تجمد بالتالي أنساقها, بل انصرف الكتاب بعد الهمذاني إلى الإبداع من داخل الحدود المفتوحة اللتي رسمها الهمذاني, واستمرت المقامات بالتالي تغذي السردية العربية المعاصرة.


الهوامش :
() محمد عابد الجابرى. نحن والثراث. المركزالثقافى العربى. الدار البيضاء. بيروت. 1993 . ص: 16
) ) عبد الفتاح كيليطو.المقامات .ت :عبد الكبير الشرقاوي .دار توبقال للنشر . الدار البيضاء .1993 ص 8.
(3) Ferdinand de Saussure. Cours de linguistique générale. Édit. payot. 1972. p: 185.

4)) عبد الفتاح كيليطو .المقامات. ت:عبدالكبير الشرقاوي.دار توبقال .الدار البيضاء .1993 .ص:18.
5)) عوض نور يوسف .فن المقامات بين المشرق والمغرب.دار القلم .بيروت .1979.ص:15
) ) عبدالفتاح كيليطو .المقامات. دار توبقال .الدار البيضاء .1993.ص:41
() ibid p: 6
( ibid p:98
() ibid p:61
* بصدد هذا الموضوع انظر مقالنا :السارد الفانتسيتيكي. الأطام .ع :12-13 س 2002 .
() ibid p:32
(11) ibid p:129
12) ) عبد الفتاح كيليطو.المقامات.ت:عبد الكبير الشرقاوي.دار توبقال.الدارالبيضاء. 1993 .ص:73.
(13) ibid. p: 128.
(14) ibid. p :46
(15) ibid. p: 106
(16) ibid. p: 156
(17) ibid. p: 172
(18) ibid p:170
(19) ibid. p: 171
(20) ibid. p: 174
(21) ibid. p: 71
(22) ibid. p: 174
 
أعلى