عبد اللطيف المصدق - أخبار ركن الدين الوهراني

أخبار ركن الدين الوهراني، هذا الكاتب المغربي المغمور قليلة جدا، مع أن أحواله في الكتابة عجيبة، ومدى الخيال في رسائله عريض فسيح، وباعه في النقد والسخرية والتجريح والصراحة طويل؛ فلم يكن يخشى انتقام وزير أو سطوة أمير، يمزج في كتابته بين أسلوب الرسائل في الديباجة و مراعاة الألقاب، على سبيل السخرية والتهكم، وأسلوب الخطابة في الجدل والاحتجاج بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والشعر والأمثال، في سياقات مناسبة كثيرا ما يختلط فيها المدنس بالمقدس، وبأسلوب المقامة في ربط الأحداث بعنصر المكان، دون التقيد بباقي عناصر كتابة المقامة المعروفة، وبأسلوب كتابة الرحلة التي كانت دائما توحي للوهراني بمشاعر الغربة والوحشة والتبرم من الناس، وخاصة بعد إخفاقه الذريع في رحلته إلى بلاد المشرق، وكساد بضاعته الأدبية هناك عندما قامت دولة الكتابة الفاضلية التي لم يكن يشق لها غبار.
وعندما تجرع مرارة الخيبة تحول عن الجد إلى الهزل، وجنح في كتابته إلى السخرية من الزمن و أهله وأمكنته، وإلى التصوير الكاريكاتوري الفاضح للعورات النفسية والجسمية والعقلية لكثير من شخوصه الذين سلط عليهم جام غضبه، ولم يتورع عن ذلك حتى عند مخطابته لكبار زعماء عصره، كنور الدين محمود الشهيد الأتابكي، وخلفه صلاح الدين الأيوبي، رغم ما عرف عنهما من سداد وصلاح، ثم بقية وزرائهما وأعوانهما الكبار من قبيل القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني والعماد الكاتب الأصبهاني، فما بالك بمن هم دون ذلك، أو من هم على شاكلته من الكتاب والفقهاء والعلماء والأدباء العاديين الذين كان يحلو له دائما أن يلهو بهم ويعبث بسيرتهم.

فكل واحد من رجالات عصره الذين عرفهم، عن بعد أو عن قرب، قد أصابه ما أصابه من لسان الوهراني الساخر، تارة بالتصريح، وتارة بالرمز والتلميح، حتى صار أسلوبه معروفا لدى القاصي والداني، كما يدل على ذلك كلام ابن خلكان في هذه السطور القليلة التي خصصها له، عندما أفرد له ترجمة في كتابه (وفيات الأعيان)، وقد أثنى فيها ثناء كبيرا على أدبه الغزير الذي يشمل رسائل ومقامات ومنامات.

والمنامات فن شبيه بالمقامة والرسالة، نهج فيها نهج المعري في رسالة الغفران، في افتعال الأحداث الأخروية عند الحشر، وقد تميز الوهراني بها عمن سواه من الكتاب، وخاصة منامه الكبير، قال عنه:

أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني الملقب ركن الدين، وقيل جمال الدين؛ أحد الفضلاء الظرفاء، قدم من بلاده إلى الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، وفنُّه الذي يمت به صناعة الإنشاء، فلما دخل البلاد ورأى بها القاضي الفاضل وعماد الدين الأصبهاني الكاتب وتلك الحلبة علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم ولا تتفق سلعته مع وجودهم، فعدل عن طريق الجد وسلك طريق الهزل، وعمل المنامات والرسائل المشهورة به والمنسوبة إليه، وهي كثيرة الوجود بأيدي الناس، وفيها دلالة على خفة روحه ورقة حاشيته وكمال ظرفه، ولو لم يكن له فيها إلا المنام الكبير لكفاه، فإنه أتى فيه بكل حلاوته، ولولا طوله لذكرته، ثم إن الوهراني المذكور تنقل في البلاد وأقام بدمشق زمانا، وتولى الخطابة بداريا، وهي قرية على باب دمشق في الغوطة.

وتوفي في سنة خمس وسبعين وخمسمائة(575 هج) بداريا، رحمه الله تعالى، ودفن على باب تربة الشيخ أبي سليمان الداراني. نقلت من خط القاضي الفاضل: وردت الأخبار من دمشق في سابع عشر رجب بوفاة الوهراني.

وهذا الآن، نص رسالة الوهراني العجيبة في مضمونها وأدائها، وقد جاءت على شكل محاورات تأخذ شكل مكاتبات ومجاوبات شبيهة ببعض الفصول المسرحية، وتبدأ ديباجتها بسرد الراوي المجهول لوقائع الأحداث الأولى، على طريقة بناء المقامة الذي يتبع في الأصل أسلوب المحدثين في إسناد الخبر.

ثم يمضي الوهراني بعد ذلك في نسج خيوط قصته أو حكايته تدريجيا، حتى يصل بها إلى نهايتها المحتومة.
وقد أسند بطولتها بطريقة رمزية إلى جامع (جلق) وهو جامع بني أمية الكبير في دمشق، وتحت سلطته تنضوي بقية مساجد دمشق ومشاهدها وأضرحتها.
وقد اجتمعت كلها عند هذا المسجد الجامع الذي كان لها بمثابة الملك، للمشاورة والمحاورة، وليدلي كل طرف بشهادته، في أداء خطابي، وبطريقة تناوبية وتراتبية، على سوء أحواله وضياع حقوقه، ثم بعد ذلك تتوحد كلمة المسجد الجامع مع من تحته من الأضرحة والمشاهد في خطاب واحد شاهد على لسان حالها، ثم يرسل إلى القيم على شؤونها، وهو سعد بن أبي عصرون، لعله ينظر في أمرها ويصلح ما اختل من بنائها.

وعندما فوجئت المساجد برد ابن عصرون المخيب لآمالها اضطرت إلى رفع أمرها إلى الملك العادل نور الدين محمود الأتابكي، وعندها فقط يأتي الفرج على يد هذا الملك العادل الذي سيرفع عنها ما كان قد حل بها من إهمال ونهب لحقوقها وأوقافها، وليعزل ابن عصرون الذي اتهمه الوهراني بتعطيل مصالحها.

لقد بنى الوهراني رسالته على هذا الشكل لتأتي متطابقة مع حقيقته الشخصية، فقد كانت حياته في المشرق شديدة الصلة بالمساجد والمشاهد والأضرحة التي كانت ملاذه الأول في مرحلة الضياع والتشرد وفي مرحلة الانتعاش والاستقرار، عندما انتبه بعض الفضلاء إلى علمه وفقهه، فأسندوا إليه الخطابة في مسجد صغير بقرية (داريا)، وهي ضاحية من ضواحي دمشق المدينة التاريخية الشهيرة.

وقد ساءه حاله كما ساءه حالها، وكانت غربته جزء من غربتها عندما آل أمرها هي الأخرى إلى الإهمال والضياع. إنه مظهر من مظاهر توحد الفقيه العربي عامة والمغربي خاصة بالأماكن المقدسة في جغرافية العالم الإسلامي، ولطالما كانت تلك المساجد وتلك المشاهد والأضرحة الملاذ الأخير لكثير من المنبوذين والمثقفين والمهمشين في تاريخنا القديم، فهل كانت رسالة الوهراني هذه نوعا من الوفاء بحقها تجاهه عندما رعته وآوته، في الوقت الذي تحاماه الناس وجفوه وأقصوه؟؟!!

وهل ينتبه إليه الدارسون المعاصرون، بعد أن صدرت مجاميع كتاباته، منذ سنة 1968م، ثم ليطويها بعد ذلك النسيان،عدا بعض الإشارات العابرة هنا وهناك!!

وعسى أن نكون في هذا الإدراج وفي إدراجين سايقين(2) قد سلطنا بعض الأضواء على حقيقة هذا الكاتب المغربي المغمور حتى يجد العناية التي تليق بمجهوده.


* منقـــــــــــــــــول
 
أعلى