قصة قصيرة خوليو كورتزار - البساتين المتصلة.. ت: محمد الداهي

سبق له أن بدأ قراءة رواية، ثم تخلى عنها بسبب انشغالات طارئة. فتحها من جديد وهو عائد على متن القطار إلى منزله الفخم. أصبح يفتتن شيئا فشيئا بالعقدة وطبيعة الشخوص. في هذا المساء، وبعد أن تخلص من كتابة رسالة إلى وكيل مفوض ومن التشاور مع كبير الخدم حول عقد استئجار أرض، استأنف قراءة الرواية جديد من مستمتعا بسكينة الشقة التي ترقد في حضن بستان مكتظ بأشجار البلوط. استرخى على أريكته المفضلة، مديرا ظهره إلى الباب حتى لا يعير أهمية لمختلف التشويشات التي يمكن تقتحم محرابه وتكدره، وملامسا بيده اليسرى المخمل الأخضر. ذاكرته تستوعب بيسر أسماء الشخوص وملامحها. وسرعان ما أسره الوهم الروائي.
ينتشي بمتعة شبه فاسدة تزيحه شيئا فشيئا وسطرا بعد سطر عن محيطه، وهو واع بأن رأسه ممدد في استرواح على مخمل المسند العلوي، وبأن السيجارة مثبتة في يده، وبأن وراء النوافذ ترقص ريح الغسق تحت أشجار البلوط.
جملة بعد جملة، أصبح يشعر بأنه مشدود إلى الاختيار الخسيس الذي وصل إليه البطلان، ومستسلم للصور التي تتراص وتكتسي تدريجيا ألوانا وحياة. وهكذا، سيكون شاهدا على آخر لقاء بين الشخصيتين في كوخ تحتضنه الأدغال. تدخل المرأة حذرة، ثم يأتي الرجل ووجهه مخدوش بأشواك غصن. أوقفت، بطريقة عجيبة، سيلان الدم من الخدوش بلثمة. يتهرب من المداعبات، فهو لم يأت لينخرط من جديد في محفل هوى يخفيه ويحميه عالم الأوراق اليابسة والممرات السرية. أصبح الخنجر دافئا من كثرة احتكاكه بصدره. تحته، على إيقاع القلب، تنبض الحرية المنشودة. حوار ضعيف يجري على الصفحات كسيل من الزواحف، نحس معه بأن كل شيء محسوم منذ مدة، مداعباته تشمل جسد الحبيبة(كما لو أنه أراد التأثير عليها وإخضاعه) وهي ترسم بشناعة تخوم الجسد الآخر الذي كان من الضروري صرعه.
لم يتم التغافل عن أي شيء: حجج وصدف وأخطاء ممكنة. ابتداء من الآن، كل لحظة ستحظى باستعمال مدروس بدقة. ما كاد التكرار الشديد والمتضاعف يوقف الزمن حتى حكت يد خدا. بدأ الليل يرخي أجنحته.
بدون أن يتبادلا النظرات فيما بينهما تفارقا عند باب الكوخ، وكل واحد منهما منشغل بالمهمة التي تنتظره. ينبغي لها أن تتابع السير في الممر المتجه إلى الشمال. في الاتجاه المعاكس، التفت لحظة فشاهد أنها تجري وخصلة شعرها منحلة. أخذ بدوره يجري، وهو ينحني تحت الحواجز والأشجار. في الأخير تراءى له من خلال الضباب البنفسجي للشفق المسلك الذي يفضي إلى منزله.
لا يجب على الكلاب أن تنبح، وهي الآن لا تنبح. لا يجب على كبير الخدم أن يكون هنا في هذا الوقت، وهو الآن غير موجود. صعد الأدراج الثلاثة، ودخل إلى المنزل. تصله عبارات المرأة من خلال الدم الذي يدوي في أذنيه. في البداية، توجد غرفة مظلمة فممر ثم درج مغطى بطنفسة. في الأعلى، يوجد بابان. لا أحد في الغرفة الأولى، ولا أحد في الغرفة الثانية. عند باب الصالون، الخنجر مثبت في اليد، والأضواء متسربة من الفرجات المتسعة، والمسند العلوي لأريكة المخمل موجود، والرجل مستغرق في قراءةالرواية ورأسه يظهر من أعلى الأريكة.

*****
عن المجموعة القصصية، الأسلحة الخفية،1959، ص/ص 85-86.
ولد خوليو كورتزار في بروكسيل سنة 1914 لأبوين أرجنتينيين، قضى طفولته في الأرجنتين، واستقر بفرنسا سنة 1951. توفي سنة 1984. من بين أعماله: الجوائز(1960)،الحجلة (1963)، كتاب مانويل (1973)، نهاية اللعبة (1959)،كل النيران نار (1966)،جولة حول اليوم في ثمانين عالما(1967)، نحب كلندا كثيرا(1980).


خوليو كورتاثر
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى