عمر بن قينة - ابن رشيق المسيلي

ولد الكاتب العربي الشاعر الناقد (ابن رشيق) المسيلي مولدا، القيرواني دارا سنة (390هـ/ 999م) في مدينة(المحمدية) التي صارت تسمى(المسيلة) في عهد الدولة (الصنهاجية) بالمغرب الأدنى (تونس) والأوسط (الجزائر) التي بدأ أمرها مع (زيري بن مناد الصنهاجي) سنة(335هـ/ 946م) ثم ابنه (بلقين) سنة (361هـ/971م) حين ولاه عليها (المعز لدين الله الفاطمي) بعدما انتقل هذا إلى (مصر) بعد فتحها سنة (358هـ/ 968م) وقد كان (بلقين) واليا للفاطميين على المغرب الأوسط (الجزائر) وخلفه على الحكم حين وفاته سنة (373هـ/ 983م) ابنه (المنصور)، وعند وفاة هذا تولى الحكم في (القيروان) ابنه (باديس) (366هـ/ 996م) الذي جعل صنهاجة (الشرقية) أو (المغرب الأوسط) إلى عمه (حماد بن بلقين) مؤسس (قلعة بني حماد) عاصمة له، على بعد أكثر من خمسة وعشرين كيلو متراً من (المسيلة) حيث أعلن استقلاله بالمنطقة، أي صنهاجة (الغربية). في سنة (405هـ/1015م) فتوفي (باديس(46هـ/1016م) وهو يحاصر عمه (حماد) في القلعة، فخلفه ابنه (المعز) الذي انتهى معه (حماد) إلى " الصلح… ليتفرغ هذا لمهام بناء الدولة الجديدة (الدولة الحمادية) التي انتقلت عاصمتها إلى بجاية نهائياً في عهد (المنصور بن الناصر) سنة (483هـ/ 1090م)…"(1) ويتفرغ (المعز) للبناء في (صنهاجة الشرقية) متطلعاً لمد نفوذه في (صقلية).
في هذا المنعرج من الانشطار في الدولة الصنهاجية، انتقل (ابن رشيق) من المحمدية (المسيلة) قرب قلعة (بني حماد) عاصمة (صنهاجة الغربية) إلى (القيروان) عاصمة (صنهاجة الشرقية) وعلى رأسها (المعز بن باديس) الذي أبرم الصلح مع (حماد) ووجه ولديه (عبد الله) و(أيوبا) إلى (صقلية) في سنة (417هـ/1026م) للسيطرة عليها، بعدما باتت تحت الحكم الإسلامي منذ الدولة الأغلبية حين افتتحهـــا ( زيادة الله الثالث ) الأغلبي (390- 396هـ/ 903- 909م) لكن الخيانات لم تلبث حتى فعلت فعلها، فساعدت على هزيمة المسلمين في النهاية، المتصارعين على الحكم أمام (النورمانديين) كما سهلت على هؤلاء اندثار الحكم الإسلامي أمامهم في (صقلية) في عهد (الكونت روجار بن تانكر) الأول الذي "شمل العلوم العربية برعايته… بحيث أن بلاطه في بلرم كان شرقياً أكثر منه غربياً…"(2).

فغنم النورمانديون الحكم، كما غنموا من الحضارة العربية الإسلامية، وحرصوا "على أن يأخذوا عن العرب نظامهم الإداري، ويقتبسوا العناصر الأساسية للثقافة الإسلامية في حياتهم… الفكرية وفي فنهم أيضاً…بل إن فريدريك الثاني (1197هـ- 1250م) الذي خلف النورمانديين في حكم (صقلية) عني بتنمية هذا التراث إعجاباً منه بعلوم العرب"(3).

في هذا المنعرج الحافل بالأحداث السياسية، والحيوية الفكرية عاش (أبو علي الحسن بن رشيق) أيامه، بين هناء واضطراب، ولد في (المسيلة) حيث درس، وعلمه أبوه حرفة (الصياغة) التي كان يمتهنها، وشرع يكتب الشعر، وفي السادسة عشرة من عمره تطلع إلى تكوين نفسه ثقافياً وتنمية معارفه العلمية، فانتقل سنة (406هـ/ 1016م) من صنهاجة (الغربية) تحت حكم (حماد) إلى (صنهاجة الشرقية) تحت سلطة (المعزّ بن باديس) الذي منح (حماداً) استقلاله بصنهاجة (الغربية)، وعمل لضم (صقلية)، ثم إعلان استقلاله عن (الفاطميين) في (مصر) ودعوته للعباسيين، في عهد القائم بأمر الله سنة (439هـ/ 1047م) مما عرضه لمتاعب جمة، ترتبت عن كيد الفاطميين له، انتقاماً منه، ومن ابنه (تميم) أيضاً، و(حماد) ذاته، فدفعوا القبائل (الهلالية) للإغارة على (صنهاجة) بأشكال مختلفة من الإغراء، تسهيلاً، في الرحلة وتلويحاً بالمغانم، فكانت من آثار الحملة الهلالية الخراب الذي لحق (القيروان) عاصمة (صنهاجة الشرقية) سنة (449هـ/ 1057م) فنزح منها سكانها، وفرّ (المعز) نفسه إلى (المهدية) شرق القيروان على الساحل التي كانت تحت ولاية ابنه (تميم). وهو المحيط المتأزم الذي عاشه (ابن رشيق) بكل آلامه، وانتهى به أخيراً إلى الهجرة نحو (صقلية) وهي التي استقبلت (ابن رشيق) فاراً في أثر صديقه الشاعر الناقد (ابن شرف) فوجدا نفسيهما في وضع لا يقل سوءاً عن سابقه، فاقترح (ابن شرف) على (ابن رشيق) الهجرة إلى (أندلس) حيث ملوك (الطوائف) التي أضاعته، فأجابه:
ممّا يبغضني في أرض أندلس
سماع مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي صولة الأسد


وهذا "مما يعكس طبيعة التمزق التي عمت، فملأت النفوس يأساً وضيقاً، وفرضت حذراً وحيطة، كما ترجم ذلك كلام (ابن شرف) في حديثه لابن رشيق.
إن ترمك الغربة في
قد جبل الطبع على بغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم
وأرضهم ما دمت في أرضهم


وهو الإحساس نفسه الذي مارس ضغوطه بعد ذلك على (الشريف الإدريسي) صاحب (نزهة المشتاق) في (صقلية) التي خرجت من يد المسلمين، فقال في حيرة وألم وحسرة:
ليت شعري أين قبري
ضاع في الغربة عمري


… أما (ابن رشيق) فقد عثر على قبره في (صقلية) فمات في قرية (مازرة) بعيداً عن الأرض التي أنجبته وأحبها وكتب فيها آثاره المختلفة"(4).

ولد في (المسيلة) ونشأ، واشتهر وألف في(القيروان) ولقي ربه في (صقلية) سنة (456هـ/1063م) تاركاً عدة آثار، في اللغة والأدب والنقد والتراجم أهمها أربعة أعمال مجموعة:
1-"قراضة الذهب"(5)، كتيب صغير الحجم، عني فيه بالسرقات الأدبية.
2-"أنموذج الزمان في شعراء القيروان"(6)..
3-"العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده"(7).
4-"ديوان ابن رشيق"(8).

وإن كان (قراضة الذهب) مجاراة سريعة لما بات متداولاً في (نقد الشعراء) فإن (الأنموذج) استمرار لتقليد علمي فكري سليم في حضارتنا العربية الإسلامية، ضمنّه تعاريف برجال شعر ممن عرفوا في (القيروان) على أيامه، بينهم النازحون إليها من مدينة (المسيلة) ذاتها، مع نماذج مختارة لهم، فكانوا (مئة شخصية) واسمه هو تمام المئة في نهاية الكتاب، بالصفحة: (439).

ولم يرد من بين قائمة الشعراء سوى امرأة واحدة هي (خديجة بنت أحمد بن كلثوم المعافري) المسماة (خدوج الرصفية) قال عنها يومئذ "هي شاعرة حاذقة مشهورة بذلك في شبيبتها، وقد أسنّت الآن وكفت عن كثير من ذلك"(9).

أما "العمدة" فهو عمل رزين غني بالأفكار، والآراء، والنظريات والنماذج النقدية الأدبية، عليه قامت شهرة (ابن رشيق)، فوصفه (ابن خلدون نفسه في مجال النقد بالانفراد بهذه الصناعة التي "أعطاها حقها ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله".

والكتاب يقع في مجلدين اثنين، حظي بتأني المؤلف، في تصديه لقضايا الشعر بما فيها (السرقات) التي لامسها في (القراضة) وإلى جانبها قضايا النثر، وأخبار الكتاب والشعراء، ووظيفة الشعر وأركانه، وألفاظه ومعانيه، وعيوبه، فضلاً عن الأبواب المعروفة: كأنواع البديع، والإيجاز، وحدود التشبيه، والرمز وسواه، زيادة عن موضوعات الشعر: وأعلامها: مثل النسيب، والرثاء، والفخر، والوعيد والاعتذار، فيتوقف عند أسماء معينة كثيراً، وعند أخرى قليلاً.

فهو كتاب نقدي بلاغي، تاريخي أدبي يبقى أهم ما أنجز في النقد بالمغرب العربي القديم، لا تزال له أهميته وحيويته في النظرية الشعرية، خصوصاً، وفي الدراسات النقدية والأدبية عموماً في الوطن العربي.
في مجال الشعر كتب (ابن رشيق) في أهم (الأغراض) الشعرية، وقد شجعته حياة (البلاط) لدى (المعز بن باديس) الذي قربه إليه، وكان ثالث ثلاثة لهم صيتهم الشعري والنقدي في بلاط (المعز) إلى جانب (ابن شرف) و(عبد الكريم النهشلي)(10). كتب في أهم الأغراض وفي مقدمتها: المديح، والرثاء بشكل متميز، أهم ممدوحه (المعز بن باديس):
معزّ الهدى لازال عهدك دانياً
وزينت الدنيا لنا بحياتكا


وحين توفي (المعزّ) في (المهدية) سنة (454هـ/ 1062م) بعد فراره إليها من الاجتياح الهلالي للقيروان (449هـ/1057م) رثاه بقصيدة يقول فيها عنها:
ما كان إلا حساماً سلّه قدر
على الذين بغوا في الأرض وانهمكوا
روح المعزّ وروح الشمس قد قبضا
فانظر بأيّ ضياء يصعّد الفلك


كما كان شديد الألم لموت أصدقائه، من بينهم قاضي (المسيلة) الذي وصله خبر وفاته يوماً، فقال:
يا شؤم طائر أخبار مبرحة
يطير قلبي لها من بين أضلاعي
مازلت أفرغ من يأس إلى طمع
حتى تربّع يأسي فوق أطماعي


وتتجسد قدرة (ابن رشيق) في هذا اللون بمطوّلته في رثاء (القيروان) بعد الخراب الذي سببه الاجتياح الهلالي، فهي من أجود ما كتب في رثاء المدن، تصويراً، وتعبيراً:
كما كان فيها من كرام سادة
بيض الوجوه شوامخ الإيمان
علماء إن ساءلتهم كشفوا العمى
بفقاهة وفصاحة وبيان
كانت تعدّ القيروان بهم إذا
عدّ المنابر زهرة البلدان
وتجمعت فيها الفضائل كلّها
وغدت محلّ الأمن والأمان


ثم يتحدث عن المحنة التي أصابت أهلها، والمسلمون صامتون، بل يتفرّجون عن المنكرات يتعرض لها مسلمون آخرون في (القيروان):
والمسلمون مقسّمون تنالهم
أيدي العصاة بذّلة وهوان
خرجوا حفاة عائذين بربّهم
من خوفهم ومصائب الألوان
هربوا بكلّ فطيمة ووليدة
وبكل أرملة وبكلّ حصان
والمسجد المعمور جامع عقبة
خرب المعاطن مظلم الأركان
قفر فما تغشاه بعد جماعة
لصلاة خمس، لا ولا لأذان
أعظم بتلك مصيبة تنجلي
حسراتها أو ينقضي الملوان


لقد كانت نكبة (القيروان) نكبة إنسانية حضارية، دفع الجميع فيها ثمن الأغراض السياسية الدنيئة وهي تسخّر (الغوغاء) التي لا تعي ما تفعل، وكان هذا الثمن من حساب (المعزّ) و(ابن رشيق) معاً، في قصر خلف الأول (تميم) لكن العلاقات سرعان ما ساءت بين (الشاعر) والأمير (تميم) حين بدأت جحافل (الهلاليين) تهدّد (المهدية) نفسها، فأقبل (ابن رشيق) على (تميم) مهموماً في (مصلاّة) فجرا: بما يهدّد (المهدية) بعد (القيروان) فحيّاه الشاعر، مشجّعاً، مهوناً من خطر الأعداء، مخاطباً إياه:
تثّبت لا يخامرك اضطراب
فقد خضعت لعزّتك الرقاب


فاستاء (الأمير) من الشطر الأول، وانفعل: "ويلك متى عهدتني لا أتثبّت، إذا لم تجئنا إلا بمثل هذا فمالك لا تسكت عنا؟… فخرج ابن رشيق يومئذ من عنده على غير طريق، لا يعقل ما يطأ، ولا يدري إلى أين ينكفئ، وكانت وجهته إلى صقلية، وكان ابن شرف سبقه إليها"(11).
وجد الشاعر نفسه مجبراً لركوب البحر، الذي قال فيه يوماً:
خلقت طينا وماء البحر يتلفه
والقلب فيه نفور من مراكبه


فبدا في ذلك وصّافا جيداً أيضاً:
ولقد ذكرتك في السفينة والردّى
متّوقع بتلاطم الأمواج
والجوّ يهطل والرياح عواصف
والليل مسودّ الذوائب داج


انسحب (ابن رشيق) من (المهدية) إلى (صقلية) ليلقى ربّه في أقل من سنتين تملأ الحسرة نفسه، وتقضّ الآلام مضجعة، ولسان حاله لا يفتأ يردّد: " أشقى لعقلك أن تكون أديباً " يدق إحساسه بالأشياء الصغيرة، مثلما تعذبه قضايا أمته الكبيرة.

انتهى كما انتهت أجيال معاصرة، أو سابقة أو تالية، لكن بقي منه العمل الفكري الذي عكس جهداً ضخماً لواحد من أعلام الفكر العربي في الجناح الغربي من الوطن العربي، عكس موهبة فنية وفكرية وإرادة فذّة في البحث والمعالجة والاستنباط والتحرير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش

(1)- د. عمر بن قينة، أدب المغرب العربي قديماً، ص: 57، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1994.
(2)- د. فيليب حتي وآخرون، تاريخ العرب المطول، ج2، ط4، ص720، دار الكشاف للطباعة والتوزيع، 1965.
(3)- كارل بروكمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي، ط:3، ص: 249، دار العلم للملايين، بيروت (لبنان) 1965.
(4)- د. عمر بن قينة، أدب المغرب العربي قديماً، ص: 89- 90.
(5)- نشرته مطبعة (النهضة المصرية) 1926.
(6)- آخر جمع وتحقيق علمي لهذا الكتاب قام به الأستاذان: محمد العروسي المطوي، وبشير البكوش، نشر بالاشتراك بين الجزائر (المؤسسة الوطنية للكتاب) وتونس (الدار التونسية للنشر) 1986.
(7)- تحقيق وتعليق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط:3، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 3 سنة 1383هـ/ 1963م).
(8)- قام بجمعه الدكتور عبد الرحمان ياغي، سلسلة المكتبة المغربية، رقم:3، دار الثقافة، بيروت، من دون تاريخ.
(9)- ابن رشيق أنموذج الزمان، في شعراء القيروان، ص:123.
(10)- د. بشير خلدون، الحركة النقدية على أيام ابن رشيق المسيلي، ص: 25، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981.
(11)- أبو البركات عبد العزيز الميمني، النتف من شعر ابن رشيق وزميله ابن شرف، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1943م.


د. عمر بن قينة

عمر بن قينة
 
أعلى