ابتسام محفوظ محمود ابو محفوظ - نظرية التلقي عند ابن طباطبا في كتابه "عيار الشعر"

اعتنى النقد العربي القديم بالمتلقي سامعا وقارئا , ووضعه في منزلة مهمة من منازل الأدب, فهو الموئل والغاية التي يقف عندها الأدب , وكيفية تلقي النص وأثر النصوص في نفوس متلقيها هو جوهر القضايا النقدية وجوهر الأدب , فللنص مواضعاته وللمتلقي مواضعاته وطرقه في فهم النص , واتخاذ موقف منه, وله استعداد نفسي ان قل أو ضعف قل التأثير أو انعدم , لكن كلا من الشاعر والمتلقي يضمهما نظام بياني واحد هو البيان العربي الذي يجعل أحدهما في حوار دائم مع الاخر .
وقد تنبه النقاد والبلاغيون العرب لحيوية وعي المتلقي بالنص وبما يحمله من معان ودلالات , والوعي هنا لا يكون بالفهم وحده وانما بالقدرة على معالجة النص بكيفية لا تحرفه عن مساره ولا تقرأه في دائرة خارجة عما يحتمله , أو ما أراد اليه مبدعه , وفي ذلك اشارة الى خطورة الدور الذي يؤديه المتلقي حيال النصوص , والى أثره في توجيهها واكتناه معانيها وقدرته على وأدها أو حرفها عن سياقاتها ,ولهذا عنوا عناية خاصة بالتنبيه على صفاته , وبيان ما يؤهله ليكون حريا بالخوض فيها وخليقا بأن يستمع اليه ويتقبل رأيه .

وقد تناولت في هذه الورقة البحثية موضوع التلقي في كتاب " عيار الشعر " لابن طباطبا , لانه من أوائل من تناول هذه القضية وتقرى كوامنها وأصل لها في التراث النقدي العربي , ومن هنا كان تناول هذه القضية باعتبارها محاولة للوقوف على المنجز النقدي المتعلق بالتلقي الذي قدمه ابن طباطبا في " عيار الشعر ".

وقد تناولت فيها مفهوم التلقي عند ابن طباطبا والمتلقي الذي يريده انطلاقا من وظيفة الشعر أو وظائفه المتعددة التي تستند في الأصل الى الوظيفة الاجتماعية عنده معتمدا على نماذج الشعر العربي القديم التي يدور أغلبها في اطار المديح والهجاء.

- التلقي عند ابن طباطبا

اهتم النقد العربي القديم والبلاغة العربية بالتلقي, ولعلنا نلمس شيئا من ذلك عند الجاحظ الذي حاول ابتكار طرق للمحافظة على نباهة المتلقي وكسب انتباهه اذ يقول : " وجه التدبير في الكتاب اذا طال أن يداوي مؤلفه نشاط القارئ له , ويسوقه الى حظه بالاحتيال فمن ذلك أن يخرجه من شيء الى شيء ومن باب الى باب بعد أن لا يخرجه من ذلك الفن ومن جمهور ذلك العلم " "1".

يدل قول الجاحظ السابق على ادراكه لابعاد التلقي وضرورة مشاركة القارئ في اظهار النص, ولكننا نجد صدى لهذه الفكرة عند ابن طباطبا العلوي الذي عني بالتلقي في كثير من فقرات كتابه " عيار الشعر ".

والمتلقي الذي يقصده ابن طباطبا ويتوجه اليه "هو ذلك الذي امتلك القدرة الثقافية والنفسية التي تكفل له التواصل مع النص, فهو لا يعبأ بمتلق سلبي لا تهزه الكلمات ولا وقع صداها, حين تتحول بالقراءة من صور رمزية بصرية الى صور ذهنية ...اذ العلاقة بين المتلقي والشاعر هي التي تحقق عيار الشعر, لذا ينبغي النظر الى"عيار الشعر"من زاوية جديدة هي التفاعل بين أطراف العملية الابداعية""2",وفي ذلك يقول ابن طباطبا: " وعيار الشعر أن يورد على الفهم الثاقب فما قبله أو اصطفاه فهو واف وما مجه ونفاه فهو ناقص.

والعلة في قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذي يرد عليه , ونفيه للقبيح منه, واهتزازه لما يقبله وتكرهه لما ينفيه .ان كل حاسة من حواس البدن انما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له, اذا كان وروده عليها ورودا لطيفا باعتدال لا جور فيه وبموافقة لا مضادة معها , فالعين تألف المرأى الحسن " "3".

والناقد يضرب بسهمه بعيدا بل ابعد بكثير مما ورد في ظاهر النص , فتقبل النص هو كل مزدوج من السمع والبصر والذوق والمخيلة والعقل , فهي وحدة الكائن في مقابل وحدة النص . يقول ابن طباطبا : " واليد تنعم بالملمس اللين الناعم وتتأذى بالخشن المؤذي , والفهم يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحق . والجائز المألوف ويتشوف اليه ويتجلى له, ويستوحش من الكلام الجائر الخطأ الباطل والمحال المجهول المنكر وينفر منه ويصدأ له فاذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوما مصفى من كدر العي مقوما من أود الخطأ واللحن , سالما من جور التاليف , موزونا بميزان الصواب لفظا ومعنى وتركيبا اتسعت طرقه , ولطفت موالجه , فقبلع الفهم وارتاح له , وانس به واذا ورد عليه على ضد هذه الصفة وكان باطلا محالا مجهولا انسدت طرقه ونفاه واستوحش عنه حسه به, وصدئ له " "4".

لقد توجه ابن طباطبا نحو المتلقي عندما وضع معادلة الشعر في جانب والمتلقي في الجانب الاخر , وأحدهما يستمد وجوده من الاخر "5".

- تلقي النص :العامل الجمالي

التفت ابن طباطبا الى ما يتسم به الشعر من قوة على التأثير حتى لكأنه السحر أو هو أشد وقد عبر عن ذلك أحسن تعبير حين قال " فاذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى, الحلو اللفظ , التام البيان, المعتدل الوزن , مازج الروح ولاءم الفهم وكان أنفذ من نفث السحر وأخفى دبيبا من الرقى, واشد اطرابا من الغناء, فسل السخائم , وحلل العقد وسخى الشحيح , وشجع الجبان , وكان كالخمر في لطف دبيبه وهزة اثارته ""6" لكن ابن طباطبا ينبه على أن تحقيق الامتاع لا يكفي وحده كي يتحقق المراد من الشعر, بل لا بد أن يتوافر الى جانب الامتاع صواب المعنى ,واذ ذاك يكون حال الشعركمثل " الغناء المطرب الذي يتضاعف له طرب مستمعه المتفهم لمعناه ولفظه مع طيب الحانه ""7".

يعرض ابن طباطبا في هذا النص تصوره لكيفية تلقي الشعر المبنية على ضرورة فهمه, وهذا أمر معقول مسلم به, اذ لا يتأثر المرء بشيء لا يفهمه وقبول الفهم عنده لا يختلف عن قبول الحواس لما يرد عليها ملائما لها ومقبولا عندها, فالحواس هي الوسيلة الى هذا الفهم وادراك عناصر الجمال في الجميل, فالذوق يلتذ بالحلو ويتأذى من المر فيرى عملية التلقي بالفهم مماثلة لعملية التلقي بالحواس,فنراه يربط بين الشعر وما يلذ من الاشياء لذة حسية, كالغناء بالنسبة لحاسة السمع, وكالارابيح الطيبة بالنسبة لحاسة الشم وكالنقوش الملونة بالنسبة للعين وكالملامس اللذيذة بالنسبة للحس, اذ يقول : " وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفة عند الفهم لا تحد كيفيتها كمواقع الطعوم المركبة الخفية التركيب اللذيذة المذاق, وكالارابيج الفائحة المختلفة الطيب والنسيم وكالنقوش الملونة التقاسيم والاصباغ , وكالايقاع المطرب المختلف التأليف , وكالملامس اللذيذة الشهية الحس ...أعني الأشعار الحسنة للفهم فيلتذها ويقبلها""8".

ولكنه يدرك أن اللذة الناجمة عن سماع الشعر ليست عابرة كلذة الجسد وانما هي لذة باقية فالشعر كالحكمة "غذاء الروح" "9 " وهو يقارن بين ما يحدثه الاستمتاع بهذه الملاذ وما يحدثه الشعر عند ورود ه على الفهم وأثره في النفس وهو الامتاع .
وقد لفت الحاح ابن طباطبا على فكرة المتعة المترتبة على الجمال في الشعر نظر احسان عباس فعده بسبب ذلك من النقاد الجماليين "10".

وذهب محمد زغلول سلام الى أن فهم ابن طباطبا لتأثير الشعر في النفس يقرب من فهم أرسطو لدور المأساة في النفس , اذ يرى أنها تطهر النفس عن طريق تخليصها من الاحاسيس والانفعالات الضارة"11" , فالتطهير الذي ارتأه أرسطوبالنسبة للمأساة قريب من سل السخائم الذي ارتأه ابن طباطبا.

ووقف عند تأثير الشعر في السامع , ووجوب أن يوجه الشاعر عمله اليه على نحو يستطيع أن يكون مؤثرا فيه . بل رأى أن من الواجب على " صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة لطيفة مقبولة حسنة مجتلبة لمحبة السامع له , والناظر اليه بعقله مستدعية لعشق المتأمل في محاسنه ""12"

ولم يقف عند حدود أثر الشعر في النفس وانما تجاوز ذلك فجعل شعور النفس واحساسها حكما يلجأ اليه ويعول عليه في بيان قوة الأثر الأدبي , فالمعنى الذي لا يؤثر في نفس القارئ ولا يستطيع اثارتها يصفه ابن طباطبا بأنه معنى بارد"12", وقد مثل للشعر البارد بقصيدة الاعشى التي مطلعها :

بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا واحتلت الغمر فالجدين فالفرعا

وعقب على القصيدة بقوله: "والقصيدة ستة وسبعون بيتا التكلف فيها ظاهر الا في ستة أبيات " 13".

لقد كان ابن طباطبا "سباقا الى الحديث عن الأثر النفسي الذي يتركه تحدي النص الأدبي للمشاعر التي قد تكون متصلة في نفوس الناس فتحول بينهم وبين تذوق الجمال الفني فيه ""14 ",وعبر عن ذلك بقوله : " والنفس تسكن الى كل ما وافق هواها, وتقلق مما يخالفه ولها أحوال تتصرف بها , فاذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزت له , وحدثت لها أريحية وطرب , فاذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت " " 15 " .

ويرى الدكتور عز الدين اسماعيل أن ابن طباطبا يعتمد على الذات الناقدة ويتخذ من احساسها أساس الحكم , لأن مشاعر الذات المفردة لا تتحدث عن العناصر الموضوعية في جمال الجميل , ولكنها تتحدث عن الجميل الذي هو فيها , ونراه في القول السابق يربط بين حالة المتلقي النفسية , وارتباط الحكم على الشيءالمتلقى بها.

فالحواس وسيلة الفهم وادراك عناصر الجمال , وسبق ان رأينا أن الحواس وسيلة للحكم على جمال الجميل في الصورة الفسيلوجية من الأساس النفسي فهل الأساس الجمالي هنا هو نفس الصورة الفسيولوجية أو الحسية من الأساس النفسي ؟ الواقع أنهما مختلفتان والفارق بينهما جوهري , لأن الأساس الحسي هناك يفسر من خلال المشاعر الوجدانية , فعندما يقال هذه الالفاظ باردة فنا البرودة تحس حقا وترتجف لها النفس , وعندما نقول هذا الكلام تفوح منه رائحة عطرة , فان الرائحة العطرة ادراك حسي يحمل اثارة وجدانية ,وليست البرودة أو الرائحة العطرة أجزاء أو عناصر تتمثل في الكلام , وانما هي تتمثل أولا في نفوسنا . أما الأساس الحسي فهو وان اعتمد على الحواس فانه يرجع أخر الأمر الى العقل فما تدركه الحواس لا يفسر بانفعال نفسي ولكنه يفسر في العقل , والعقل يحكم عليه بالصحة أو الخطأ أو يرضى عنه أو يرفضه , بمقدار ما يتمثل فيه للقوانين الطبيعية المتوافقة في الخارج وفي العقل . فالأساس الحسي النفسي يضع في الاشياء مشاعر من خلال المدركات الحسية , والأساس الحسي العقلي يكشف في الاشياء قوانين تتفق معه من خلال هذه المدركات الحسية "16 ".

لكن الجميل وحده لا يكفي كي يكون ممتعا لذيذا , اذ لا بد لهذا الجميل من أن يكون مفيدا , وفي ذلك يقول :

" أما المقتصر على طيب اللحن منه دون ما سواه فناقص الطرب ""17".

يتضح من ذلك أن المفهوم الجمالي ليس وحده من تضع البنية البيانية العربية نفسها من أجله , بل يقف معه المفهوم القيمي وهو يحث على الفعل وينسجم مع التغيير.

والجمال في النقد العربي ليس الشعور باللذة فقط لأن جمال النص يشكله عاملان أساسيان أشار اليهما ابن طباطبا في عيار الشعر اذ يقول : " فالعين تألف المرأى الحسن وتقذى بالمر أى القبيح الكريه والانف يقبل المشم الطيب ويتأذى بالمنتن الخبيث , والفهم يلتذ بالمذاق الحلو ويمج البشع المر ""18".

غير أن هذا العامل يبقى دون اكتمال حتى يتحقق العامل الثاني الذي يشير الى أثر الجميل في" أن يسل السخائم ويحل العقد ""19" , واذ نلاحظ ارتباط كلامه الاول باللذة والمنفعة الجمالية الخالصة ينصرف كلامه الاخر الى الحث على الفعل , قطبان أساسيان يشكلان جوهر القيمة الجمالية عند ابن طباطبا , فقد جمع بين الجمال والفائدة , فالشعر " ما ان عري من معنى بديع لم يعر من حسن الديباجة وما خالف هذا فليس بشعر " "20", فالجمال عنصر اساسي في الابداع لا لذاته فحسب وانما لما يقرب المسافة بين النص ومتلقيه .وهو بهذا الفهم يصبح منهجا ليس في الابداع وحده بل ينسحب على التلقي بوصفه ادراكا للنص وتحقيقا لمعانيه ودلالاته "21".

تنحصر ركائز المنهج الجمالي عند ابن طباطبا في خصوصية علاقة النص بمتلقيه منذ اللحظة الاولى التي يشرع فيها بابداعه الى بلوغ المتلقي مراده منه فهما ولذة وتأثرا ولعل لحظة اتصاله بالنص ذات أهمية خاصة لعلاقتها الوثيقة بجذبه واستقباله والاقبال عليه , ولا شك في أن سحر النص يكمن في أسره وفي روعة تجليه للمتلقي حين يغوص على كوامن لم تلن له أول الامر فراعته وقادته جاريا وراءها حتى لان قيادها فأسلمته أمرها بعد اعتياص "22".

ويكشف ابن طباطبا في سعيه لبيان الجوانب التي يظهر بها حسن الشعر ويقرب بها من المتلقي فهما ولذة عن علة جمالية أخرى للنص تلك هي موافقته للحال التي يعد معناه لها " كالمدح في حال المفاخرة وحضور من يكبت بانشاده من الاغراء ومن يسر به من الاولياء وكالهجاء في حال مباراة المهاجى والحط منه حيث ينكي فيه استماعه له" "23", فاذا كان المبدع صادقا فيما يعبر عنه واتفقت المعاني التي يقصد اليها والحالات المصاحبة المتقدمة " تضاعف حسن موقعها عند مستمعها ولا سيما اذا ايدت بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها والتصريح بما كان يكتم منها " "24".

كما كان للنص الشعري مساحة خاصة برزت فيها جوانب جمالية أخرى متعلقة بتخير الوزن والقافية المناسبين بما يحقق الشعور باللذة للمتلقي " وللشعر الموزون ايقاع يطرب الفهم لصوابه وما يرد عليه من حسن تركيبه واعتدال أجزائه , فاذا اجتمع للفهم مع صحة الوزن الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفظ فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تم قبوله له واشتماله عليه " "25 "

ويزيد في جمالية النص تبدي الاعتدال في النص بوصفه بنية متماسكة ظهر عند ابن طباطبا من تبديه في الالفاظ وحدها , فالنص لكي يكون مؤثرا أسرا ينبغي له أن " لا يكون ملفقا مرقوعا بل يكون كالسبيكة المفرغة " "26". وقد فضل القصيدة التي كأنها بيت والبيت الذي كأنه كلمة والقصيدة التي تكون كأنها "كلمة واحدة في اشتباه أولها باخرها :نسجا وحسنا وفصاحة وجزالة الفاظ ودقة معان وصواب تأليف " "27".

كما ان الاعتدال تجسده مشاكلة الالفاظ للمعاني فللكلام " جسد وروح , فجسده النطق وروحه معناه , فواجب على صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة لطيفة مقبولة مستحسنة مجتلبة لمحبة السامع له والناظر بعقله اليه مستدعية لعشق المتأمل في محاسنه والمتفرس في بدائعه فيحسنه جسما ويحققه روحا ""28".

ولكن اثارة اللذة عند المتلقين لا تعني ثماثلهم في عملية التلقي . ان اللذة التي يولدها الشعر متفاوتة أو متعددة كاللذة التي تنتج هن الحواس , وكيفياتها لا تحد كلذة الرسوم والايقاعات , وما دامت الأشعار نفسها مختلفة فاللذة الناتجة عنها مختلفة بالضرورة . الا أن الاختلاف يرد الى عملية التوافق التي تتم بين نوع المتلقي وحالته ونوع القصيدة التي يؤثرها وكيفياتها "29", فالشعر على تحصيل جنسه " متشابه الجملة , متفاوت التحصيل . مختلف كاختلاف الناس في صورهم , وأصواتهم , وعقولهم , وحظوظهم , وشمائلهم , وأخلاقهم , فهم متفاضلون في هذه المعاني , وكذلك الأشعار هي متفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس , ومواقعها من اختيار الناس اياها كمواقع الصور الحسنة عندهم واختيارهم لما يستحسنونه فيها , ولكل اختيار يؤثره , وهوى يتبعه , وبغية لا يستبدل بها ولا يؤثر سواها " "30".

ومعنى ذلك أن قيام اللذة الشعرية على مبدأ واحد هو الاعتدال , لا ينفي الخلاف على مستوى الذوق الفردي , مما يؤكد تكيف لذة المتلقي نتيجة تكويته المتميز , الذي يتجاوب مع تكوين مجموعة من القصائد المتميزة وبسبب من هذا وجه ابن طباطبا الى أهمية ظهور النص مؤتلفا لا تفاوت في مستواه اللغوي , ولا في أسلوب المبدع بين أوله وأخره با عد التفاوت في نصوص المبدع المتعددة عيبا من العيوب "31"فالشاعر " اذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي الفصيح لم يخلط به الحضري المولد , , واذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها وكذلك اذا سهل الفاظه لم يخلط بها الالفاظ الوحشية النافرة الصعبة القياد ""32".

ولا بد من التنويه الى التعالق الحميم بين جمال التشكيل وانكشاف المعنى أو خفائه وقربه من المتلقي أو بعده عنه واقباله عليه وعلى تأمله أو نفوره منه , اذ ان التفكير في شأن المعنى مرحلة تالية لتلقي اللفظ ويترتب على هذا نتيجة منطقية طبيعية تتمثل في أن المتلقي لن يسعى لتجسيد المرحلة التالية الا اذا وجد في الاولى ما يغريه ويثيره وفي سياق كهذا توؤل جمالية التشكيل بالمتلقي الى أحد أمرين:اما أن يستمتع بها وحدها , فاذا بحث عن معنى وراء التشكيل الرائق لم يجده شيئا أو وجد ما يمتع فهمه كما استمتع سمعه , واما أن يرفض عن النص لما يفتقر اليه من جماليات"33" , وفي ذلك يقول ابن طباطبا : " ومنها أشعار مموهة مزخرفة عذبة , تروق الأسماع والافهام اذا مرت صفحا , فاذا حصلت وانتقدت بهرجت معانيها , وزيفت ألفاظها , ومجت حلاوتها , ولم يصلح نقضها لبناء يستأنف منه ""34".

وقد قصر الجميل على النافع وعلل نزوع النفس الى الجمال بنزوعها الى الفضيلة , ان الجمال في هذه الحال يضحي وسيلة لا غاية في اطار وظيفي للنص كونه يؤدي الى غيره ولا يكتفي بالنظر الىه بما يحقق من متعة جمالية خالصة فالشعر الجميل عند ابن طباطبا هو "الذي يمازج الروح ويلاءم الفهم,وفي ضوء ذلك أشار الى الوظيفة الاجتماعية للشعر .

- العامل الاجتماعي

ركز ابن طباطبا على الوظيفة الاجتماعية للشعر , اذ انطلق من العبارة التي تصف الشعر بأنه "ديوان العرب" تلك العبارة التي تؤكد تصوير الشعر للجوانب المادية والمعنويةمن حياة العرب " أي أن الشعر يصور حياة العرب والحالات المتصفة في خلقها وخلقها من حال الطفولة الى حال الهرم , وفي حال الحياة الى حال الموت ""35 ".

وبسبب هذا التصوير كان الشعر متصفا بالصدق , ينقل الاشياء كما هي , ويصور الحالات تصويرا لا يخالف ما ذهبت اليه العرب في معانيها , ويركز على المثل الاخلاقية لهم , ويدور هذا التركيز حول نقيضين لا يفارق الشعر اطارهما في الغالب , هما : خصال ممدحة تمدحت بها العرب ومدحت بها , وخصال مذمومة نفرت منها العرب وذمت من كان عليها أو رمى بها "36", وفي ذلك يقول ابن طباطبا : " فان من كان قبلنا في الجاهلية الجهلاء وفي صدر الاسلام من الشعراء كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مديحا وهجاء .. وكان مجرى ما يوردونه منه مجرى القصص الحق والمخاطبات بالصدق " "37".

ومعنى ذلك أن الغاية التي يسعى اليها الشاعر في أي منهما مرتبطة بالخير, وما يخرج عن هذا الشعر لا يدخل بداهة في الشعر الجيد , وترتبط هذه الغاية بالوظيفة الأخلاقية المباشرة للشعر عن طريق ربط الجيد من الشعر بتصوير المثل الأخلاقية التي امتدحها العرب والتي ثبتها الاسلام , وأهم قيمة أخلاقية في هذا المجال هي قيمة الصدق التي هي خاصية أساسية من خصائص الشعر القديم لأنه بني على القصد الا ما احتمل فيه الكذب في حكم الشعر مثل الاغراق في الوصف والافراط في التشبيه , وقد ربط جابر عصفورالصدق عند ابن طباطبا بثلاث مستويات هي المبدع والمتلقي والواقع "38".

أما المستوى الأول فالصدق فيه داخلي يتصل بتوافق التجربة المعبر عنها مع ما يتفق في داخل المبدع أو اخلاصه في التعبير عنها فالشعر يحسن موقعه اذا أيدت أقواله " بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها والتصريح بما كان يكتم منها ""39". أما المستوى الثاني فيتصل بتوافق التجربة الفردية للمبدع مع ما جاءت به تجارب البشر من قبله" وليست تخلو الأشعار من أن يقتص فيها أشياء هي قائمة في التفوس فتحسن العبارة عنها , واظهار ما يمكن في الضمائر منها , فيبتهج السامع لما يرد عليه مما قد عرفه طبعه , وقبله فهمه فيثار ما كان مكنونا فينكشف للفهم غطاؤه فيتمكن من وجدانه بعد العناء في نشدانه كأن تودع الأشعار حكمة تألفها النفوس وترتاح لصدق القول فيها , وما أتت به التجارب منها , أو يتضمن الشعر أشياء توجبها أحوال الزمان على اختلافه كما توجبها حوادثه على تصرفها " "40".

أما المستوى الثالث فيتصل فيتصل بتوافق الضياغة مع الواقع الحقيقي أومع البعد التاريخي للوقائع" فاذا اضطر الشاعر الى اقتصاص خبر في شعره دبره تدبيرا يسلس له معه القول ويطرد فيه المعنى , فلا تكون الالفاظ خارجة عن جنس ما يقتضيه الخبر , بل تكون مؤيدة له وزائدة في رونقه وحسنه ""41".

وهذه المستويات الثلاثة تحدد الصدق على أساس محتواه الأخلاقي والمنطقي على حد سواء , والالحاح على الصدق لا بد أن يصحبه الحاح على الشعر الذي يبرز فيه المحتوى الأخلاقي واضحا جليا , وفي ضوء هذا الفهم للشعر من حيث غايته أو مهمته يصبح للقصيدة "42" مجموعة من الاثار تحدثها في المتلقي اهمها تغيير سلوك المتلقي نحو الافضل" فتدفع به العظائم وتسل به السخائم وتخلب به العقول " "43" , وللوصول الى هذه المرتبة لا بد من اخلاص الشاعر في التعبير عما في داخله وابرازه في القصيدة فيحقق الشعر للمتلقي أثرا معرفيا لا سبيل الى تجاهله يتجلى في ابتهاج النفس لانتقالها من الخفي الى المعلوم أ.و ما يسميه ابن طباطبا " بانكشاف غطاء الفهم.

وعملية النظم في هذه الحالة صياغة لانفعال النفس بمجموعة من القيم أو محاولة لتصوير وتأكيد مجموعة من الخصال الأخلاقية , وهذه الصياغة تبهج المبدع لأنها تكشف له ما كان دفينا تبهج المتلقي لأنها تعرفه ببعض ما لم يكن يعرفه فيصبح للصدق مغزاه الأعمق , فيحدث فعل التعبير فعله في المبدع والمتلقي من أثار معرفية أصحاب النظرية الجمالية . اذ يرى جابر عصفور"44" أن ابن طباطبا الح على الوظيفة الاجتماعية للشعر , لكن هذه الوظيفة لن تتحقق الا ببراعة الشاعر وبما يتضمنه شعره من غرائب مستحسنة وعجائب بديعة مستطرفة من صفات وحكايات في كل فن توجبه الحال التي ينشأ قول الشعر من أجلها " فتدفع به العظائم , وتسل به السخائم , وتخلب به العقول , وتسحر به الالباب , لما يشتمل عليه من دقيق اللفظ ولطيف المعنى " "45".

وقد تحدد فهم هذا التأثير في ضوء ثلاثية الادراك , والنزوع , والسلوك , وقد كان للعامل الثقافي واسهامه في عمق تحديد ابن طباطبا للأثر الأخلاقي للشعر.

لكن الاساس الأخلاقي في فهم مهمة الشعر وأثاره يمكن أن يؤدي الى مجموعة من المزالق أشار اليها جابر عصفور , أولها : كيفية معالجة شعر الغزل والوصف أو أي لون شعري لا يظهر بشكل مباشر معنى حكيما توجبه أحوال الزمان اذ يدخلها ابن طباطبا تحت اطار الأشعار المموهة " فمن الاشعار ...أشعار مموهة , مزخرفة عذبة تروق الاسماع والافهام اذا مرت صفحا , فاذا حصلت وانتقدت بهرجت معانيها وزيفت الفاظها ومجت حلاوتها ولم يصلح نقضها لبناء يستأنف منه " "46"وقد تظل هذه الاشعار لاصقة بعالم الشعر على أساس من حسن صياغتها وزخرفتها العذبة , لكنها ستحتل مرتبة أقل في سلم التقييم , فلا تصل الى مرتبة الاشعار التي تخوض مباشرة في مجال المعنى الحكيم "47".

كما أن الالحاح على مبدأ الصدق يقود الى مأزق اخر اذ أنه يثبت مفهوم المحاكاة من زاويتين : من الزاوية الخارجية التي تتصل بصدق الشاعر في ذكر الاحداث والوقائع والاوصاف ومن الزاوية الداخلية التي تتصل بصدق الشاعر عن ذات نفسه بكشف المعاني المختلجة فيها وهذا كله يغفل الطابع التشكيلي لعملية الابداع الشعري ويجعل القصيدة مجرد محاكاة اليةللعالم "48 ".

وهناك خطورة ثالثة لمقولة الصدق ,اذ انها تصرفنا عن الشعر الى الشاعر فيبحث الناقد عن التطابق بين القصيدة وصاحبها , مما يعكر مبدأ الصياغة الذي أكده ابن طباطبا , كما أن هذا الالحاح على الصدق لم يواجه مشكلة الشاعر المحدث في زمانه الذي لم يعد مطالبا بالصدق , اذ كيف يضع للشعر كله عيارا منطلقا من غرضي المديح والهجاء فيتخلى عن مبدأ الصدق للشاعر المحدث في سبيل المواضعات الاجتماعية التي تحوط الشاعر في عصره "49 ".

الخلاصة

يتلازم مفهوم النص ومفهوم التلقي تلازما لا انفكاك له , وهذا ما أكدته الدراسات العربية التراثية , وتؤكده الدراسات النقدية الحديثة , لا سيما نظرية الاستقبال التي تؤمن بسلطة القراءة على سيادة وعي جديد لفهم النص وفهم العلاقة بين النص والمتلقي,
الظاهر أن العرب تفهموا أن للكلمة دورا اجتماعيا واستمسكوا بعرى ما تؤديه من وظائف على مستوى التواصل والتفاهم والتأثير والاقناع والأخلاق والتربية والمعرفة.

الا أن النظر في النصوص باعتبار وظيفتها الاجتماعية فحسب يودي بالصورة الشعرية ويفرض على الابداع ذوقا خاصا بالنظر الى أثره التربوي واذا صح مثل هذا التوجيه فان اعتبار الوظيفةالاجتماعية أو الاخلاقية مقتل للابداع ويقضي قضاء مبرما على عنصري المحاكاة والتخييل اللذين عدهما الفلاسفة ومن تأثر بهما من النقاد الاساس الذي لا يكون الشعر الا به, لأن النظرة الأخلاقية تركز على الموضوع وعلى التأثير من خلاله وتقوم النص على هدي مما يحمله من قيم ويحض عليه من أخلاق وكأنها في معزل عن القيمة الجمالية أو كأن لها بنيتها ووجودها المستقلان ضمن منظومة القيم الدينية والاجتماعية "50", الا ان النقاد العرب أشاروا الى تعددالوظائف التي تؤديها الكلمة مما جعلهم يعنون عناية خاصة بمراعاة جودة كلامهم ويلتفتون الى أثره في سامعيه أو قارئيه.

وقد قادت النظرة النفعية للنصوص وضرورة أن يؤدي النص وظيفة لمتلقيه , وانطباع االعرب على تفضيل الجمال السهل البسيط الى المزج بين الطرفين في النقد العربي فأضحت نظرتهم لخير النصوص مقصورة على تلك التي يجتمع فيها للمتلقي المتعة والفائدة دون اهمال احداهما أو تغليبها على قسيمتها في النص.

والذي نراه أن الشعر عند ابن طباطبا نافع ولذيذ معا لذلك تتحدد قيمته عنده في أنه نافع وممتع لأنه يحقق هذين النوعين من الاستجابة لدى المتلقي وهما الشعور باللذة والتأثير في سلوك المتلقي بقصد توجيه أفعاله.

فهو نافع من حيث أن له اسهامه في توجيه الانسان والارتقاء به عن طريق التأثير في سلوكه وتوجيه أفعاله الى الوجهة التي تمكنه من تحقيق السعادة له ,مع الملاحظة أن ابن طباطبا يحدد أفضلية الفن الذي يفيد مع اللذة شيئا أخر لما يقدمه من منفعة مباشرة تتصل بتقويم الانسان وتهذيبه , فالشعور باللذة أو المتعة في الشعر ليس مقصودا لذاته , وانما هي لذة ذات محتوى أخلاقي ,وليس ذلك تقليلا من شأن هذا الجانب في الشعر بل تقديرا له . لقد أدرك ابن طباطبا أن هذا اللون من الشعر فيه تحقيق لراحة الانسان.

وهو يقر أن الجانب الممتع من الشعر له غاية موجهة في الامور الجادة والنافعة, فالأعلى قيمة هو الفن الجاد لأنه أكثر فائدة وغناء من غيره .

الهوامش :
1 الجاحظ "ابو عثمان بن بحر":البيان والتبيين , مؤسسة الخانجي , القاهرة , ج3 , ص 366.
2 محمد المبارك : استقبال النص عند العرب بيروت , ط1 , 1999,ص153-154..
3 ابن طباطبا : عيار الشعر , تحقيق : عبد العزيز بن ناصر المانع , دمشق , 2005 ,ص19
4 السابق نفسه .
5 انظر استقبال النص ص154-155.
6 – السابق ,ص23.
7 – السابق ,ص21.
8 – السابق ص 22.
9 – انظر السابق ص 22.
10 - تاريخ النقد الادبي عند العرب : احسان عباس , عمان , دار الشروق , 1993, ص141.
11- تاريخ النقد العربي : محمد زغلول سلام , القاهرة , دار المعارف . ص 149 .
12- شريف راغب علاونة :قضايا النقد الادبي والبلاغة في كتاب عيار الشعر في ضوء النقد الحديث , ص 113 .
13- عيار الشعر ص 76.
14 - راغب علاونة ص 113.
15 – عيار الشعر ص 21.
16- الأسس الجمالية في النقد العربي : عز الدين اسماعيل , القاهرة , 1974 , ص 202.
17 - عيارالشعر ص21.
18 عيار الشعر ص 20 .
19 – السابق ص 23.
20 – السابق ص 24.
21 نظرية التلقي عند العرب "دراسة في التراث النقدي والبلاغي ": خالد عبد الرؤوف الجبر رسالة ماجستير , الجامعة الأردنية 2002 , ص1
22- انظر السابق .
23-عيار الشعر ص23.
24 – السابق ص 24.
25- السابق ص 21.
26- السابق ص 7 .
27- عيار الشعر ,ص 213. 28 – السابق ص 203.
29 - جابر عصفور :مفهوم الشعر "دراسة في التراث النقدي " , القاهرة , 1978 ص96.
30 - عيار الشعر ص7
31- نظرية التلقي ص171
32 عيار الشعر ص 8-9
33- نظرية التلقي ص 173
34- عيار الشعر ص 11 .
35- عيار الشعر ص 15.
36- مفهوم الشعرص 59.
37 – عيار الشعر ص13.
38 - مفهوم الشعر ص 64.
39 - عيار ص24.
40 - عيار ص 202-203.
41-" عيار ص 43 .
42 - مفهوم الشعر ص 69 .
43- عيار ص 203.
44 - مفهوم الشعر ص73.
45- عيار ص 203.
46- عيار الشعر ص 11.
47 - جابر عصفور ص104.
48 – السابق نفسه .
49 – السابق نفسه .
50 – نظرية التلقي ص 212 .


المراجع :
- اسماعيل "عز الدين" : الأسس الجمالية في النقد العربي :, القاهرة , 1974 .
- الجاحظ" ابو عثمان بن بحر" :البيان والتبيين , مؤسسة الخانجي , القاهرة .
- الجبر"خالد عبد الرؤوف" : نظرية التلقي عند العرب "دراسة في التراث النقدي والبلاغي ", رسالة ماجستير , الجامعة الأردنية 2002 .
- سلام" محمد زغلول " : تاريخ النقد العربي :, القاهرة , دار المعارف .
- طباطبا" ابن:" عيار الشعر , تحقيق : عبد العزيز بن ناصر المانع , دمشق , 2005 .
- عباس " احسان " : تاريخ النقد الادبي عند العرب :, عمان , دار الشروق , 1993.
- عصفور" جابر " :مفهوم الشعر "دراسة في التراث النقدي " , القاهرة , 1978 ص96
- علاونة" شريف راغب " :قضايا النقد الادبي والبلاغة في كتاب عيار الشعر في ضوء النقد الحديث , عمان , ط1 . 2003.
- المبارك" محمد " : استقبال النص عند العرب بيروت , ط1 , 1999.
 
أعلى