نقد صالح دياب - جيل السبعينات هو الأساس

لا يمكننا إلا أن نكون مع أي مؤتمر أو مهرجان شعر، أو ندوة أو حتى أمسية شعرية تعقد، ويكون موضوعها الشعر العربي الجديد سواء، عقدت في الدار البيضاء أو بيروت أو دمشق أو القاهرة أو حتى في اليمن. وسواء أكانت هذه المدينة ما زالت تقدم شعراء جددا مهمين كالقاهرة، أو توقفت في حدود السبعينات وبداية الثمانينات، وترغب بالنهوض من جديد كبيروت.
من هنا لا بد من شكر أصحاب فكرة مؤتمر القصيدة النثرية، على هذا المؤتمر، وعلى أغلب الخيارات التي ارتأوها. لكن لا بد من القول أيضا، أن بعض المداخلات التي نشرتها الصحف وقدمت في المؤتمر، لا تفترق عن نوع من المقالات يرددها البعض منذ أربعين سنة تقريبا، ومن ناحية أعطى المؤتمر الكثير عبر مساهمات الشعراء على الخصوص، وبعض الردود التي أعقبت المؤتمر والتي بعضها يحدث للمرة الأولى في الثقافة العربية منذ الستينات وأقصد رد الشاعر عباس بيضون، الذي أغنى الساحة الشعرية العربية، ورد الشاعر محمد بنيس وتفكيكه لاستمرار التقديس لبعض الأسماء.

إن بعض الأوراق النقدية التي قدمت إلى مؤتمر " قصيدة النثر العربية "والتي قدمها شعراء عقلانيون، تجريديون، ونشرتها الصحافة تتحايل على القارئ، لا بل أحيانا تستهبله وتأخذه بوصفه غير ملم بما يحدث في الشعر العربي في العشرين سنة الأخيرة.

أصحاب هذه المداخلات وأغلبها مداخلات مدرسية، أعادوا على القارئ المقولات نفسها التي ما فتئ يكررها من يريدون أن يربطوا الشعر العربي كله خلال الأربعين سنة الماضية بأنسي الحاج ومقدمته. يدفعهم إلى هذا الربط الحماس والانفعال ويبدو الشعر أبعد ما يكون عن أغراضهم.
من هنا يبدو دافعهم أصوليا، ماضويا، قبائليا، عصبيا أكثر منه دافعا شعريا، يسعى إلى ربط التغيرات الشعرية الكبرى بالستينات. تلك الفترة التي يكاد لا يلتفت إليها الشعراء العرب الشباب إطلاقا منذ نهاية السبعينات.

فيما تشكل كتب أدونيس النقدية أحد المراجع التنظيرية الغنية التي ما تزال مؤثرة وحية. وإذا كان لا بد من الكلام عن التنظير للشعر وللقصيدة النثرية، هنا، هو الشاعر الأكثر والأغنى والأشمل كتابة ونقدا وتنظيرا عن حركة الشعر العربي بما فيها القصيدة النثرية، وكتبه التي هي موجودة في كل المكتبات، كاد تشكل المرجع العربي الوحيد عن الشعر العربي الحديث الذي كتبه شاعر عربي، يتبعه عباس بيضون عبر مقالاته الصحفية.

هذا الذهاب والتوقف عند الماضي وتقديم آيات السجود له فيما لم يعد له أي فاعلية في راهن الشعر العربي. ليس سوى محاولة فاشلة لربط الشعر العربي الذي يكتبه الشباب الآن بما هو خارج التاريخ، وإغلاق المستقبل أمامهم عبر الإقامة في هذه المنطقة البطريركية الوهمية، التي تحولت إلى تاريخ هو جزء لا يتجزأ من حركة الشعر العربي الحديث، لا يمكن لأحد أن ينكره.

ان البحث، حتى الآن، عن المنجز الشعري العربي انطلاقا من كتابات سوزان برنار هو نوع من التحايل وضرب من السهولة الفائقة في الكتابة، وأعني بالسهولة هنا العمل النقدي الذي يمكن أن يتنكب به أي باحث ،يعمل مشتغلا حول أي موضوع مهما كان نوعه. وقد اتسمت بذلك بعض الأوراق المشاركة حول قصيدة النثر بآراء مملة من شدة تكرارها، ومن قبل الأسماء نفسها تقريبا. ما أعنيه أن أصحاب هذه المداخلات أداروا ظهورهم للنصوص الشعرية المنجزة، وهذا الفعل هو نوع من الهرب من مقاربة حقيقية انطلاقا من النصوص المكتوبة نفسها في الثلاثين سنة الماضية.

كان ذلك عبر الاعتماد على كتابات فرنسية وأسماء شعراء لا يعرفهم الشعراء العرب إلا كأسماء، أو عبر ترجمات لبعض قصائدهم هي أغلبها تم من قبل شعراء ضعيفي التجربة أو يهومون في اللغة العقلانية بعيدا عن حرارة الحياة والعالم. فما أسهل من تقديم تعريف للقصيدة النثرية انطلاقا من كتب النقد الفرنسية، يمكن لأي طالب في المرحلة الجامعية الأولى ان يقوم بذلك في وظائفه الأسبوعية. لكن ذلك لا علاقة له بما حدث في الشعر العربي في الثلاثين سنة الماضية. ليس الغرض من ذلك سوى قصدية إبهار المتلقي العربي وسل سيف الأسماء الغربية فوق رأسه ، هذا فيما لو حدث للمرة الأولى، أما إعادة تكرار المقولات نفسها من قبل بعض الأسماء التي لم تقدم أي انجاز شعري لافت، في كتبها اللهم إلا الطباعة الميكانيكية، قصد أن يظل الاسم حاضرا فحسب، وهذا أيضا يعد انجازا لدى البعض، هذا التكرار هو ضرب من الضجيج الصوتي ونوع من العدمية .

فالاشتغال النقدي على نصوص أشبعت اشتغالا أمر في غاية السهولة ،فالباحث يجد كما كبيرا من الكتب التي تناولت أسماء الستينات ،يمكنه أن يرتكز عليها ويجترها اجترارا، أما تناول حركة الشعر العربي منذ نهاية السبعينات، فهذا يلزمه عمل وجهد حقيقي، وكبير من أجل قراءة التجارب الجديدة واستخلاص النتائج، وتقصيها واستشرافها ، وهذا عمل يحتاج إلى متتبع وعارف بما يجري من مستجدات شعرية في العالم العربي. وهذا من واجب الذين قدموا أوراقا نقدية .

إن البحوث التي تتناول الشعر العربي منذ نهاية السبعينات غير موجودة ، ومن الصعب ان نجد بحثا شاملا عن أي شاعر بعد الستينات يكتب القصيدة النثرية. من هنا هرب بعض المشاركين وهم شعراء عقلانيون وأقصد بالعقلانيين المفتونين باللغة افتتانا، وتقدموا بأوراق بوصفها بحوثا إلى تجنب المنجز الشعري العربي نفسه، وذهبوا إلى المقولات الفرنسية الماضية، هذا الهرب والاتكاء على المقولات المجترة في السبعينات ضمن الصحافة اللبنانية وبعض الكتب النقدية التي تتناول الستينات والتي لم يعد أحد يذكرها الآن، لا يجد أي تفسير له إلا في عدم الرغبة بالكتابة من قبل المشاركين، أو في شكل أدق عدم المقدرة على الكتابة عن الشعر العربي الذي يكتب الآن ،لأنه أرض غير محروسة ،وكم هو سهل على الحرث على الحرث.

من جهة أخرى لا يمكننا إلا أن نثمن الخيارات التي تم عبرها اختيار الشعراء للمشاركة وهي خيارات كان لها كل المصداقية، وهي تمثل الشعر العربي عبر أهم ممثليه، فضلا عن بعض الكتاب الشباب الذين كان إدخالهم ضروريا في المؤتمر بحيث تتجاور الأجيال، وتتلاقى ليس عبر النص فحسب بل وفي التمثيل الشعري أيضا .

احداهن أو أحدهم لمح منتقصا ، وشامتا، إلى أن الشاعر عباس بيضون كان معدا غير معلن ( أنظر مقال عباس بيضون، ليس دفاعا عن قصيدة النثر ).

يمكن القول هنا، نعم المعد، فبيضون شاعرا هو الموضوعي الأقدر والأصفى، هو المنخرط في عمق ما يحدث في الشعر العربي منذ أربعين سنة كتابة وتقصيا واستشرافا ومتابعة بما في ذلك لكتابات الشباب في معظم الدول العربية.

لقد كان هناك نوعان من الشعراء المساهمين في المؤتمر وهما يشكلان مدرستين شعريتين كبيرتين هذا في العموم وليس على سبيل الفصل الحاد.

فهناك الشعراء الذين يعتمدون على اللغة ويجردون العالم من نصوصهم أو يكتبون قصيدة تعتمد في بنيتها الشبكية على اللغة وتسعى جاهدة إلى نسف ألعالم وأشيائه من القصيدة وهذه الفئة تنتمي إلى الماضي الذي يعود إلى الخمسينات، لكنها مازالت موجودة وتجد قوة في حضورها، ليس في شعرها الذي تتجنبه الذائقة الجديدة منذ أكثر من ربع قرن على الأقل، الآن بل عبر السلطات والوظائف الصحفية التي تمارسها. وحضورها هنا حضور رمزي لا أكثر ولا أقل، وكان ممثل هذا النوع الشاعر أنسي الحاج .

النوع الأخر من الشعراء وهم الشعراء الأكثر تمثيلا للراهن الشعري وما يحدث بعد فترة الستينات من انزياحات كبرى و تشعبات ابتعدت كثيرا عن النص الستيني. وهم عباس بيضون، أمجد ناصر، نوري الجراح، منذر مصري، جرجس شكري، بسام حجار إلخ وقد كان لمداخلات الشعراء كل الأهمية في إضاءة الراهن الشعري باستثناء الشعراء العقلانيين الذين قدموا أوراق التي أقل ما يقال عنها أنها مضجرة وتجتر مقولات ماضية.

فما أسهل التقديس والعبادة والإطراء وإطلاق مقولات لا تغادر حدودها اللفظية كأن يقال عن ذلك الشاعر" لم يولد مثله منذ ألف عام"، أو" في الخمسين سنة الماضية لم يحدث أي شيء في الشعر العربي ". هذه المقولات تتسم بالمطلق وهي مقولات أبدية دينية مكانها الجامع أو الكنيسة وليس الشعر العربي الحديث الذي يتمتع كالحياة بميزة التغيير والتجدد المستمرين .

وإذا كان أصحاب هذه الكتابات منقطعين في كتاباتهم "الشعرية" عن العالم والواقع، فإنهم يحاولون أن يعمقوا ذلك عبر هذه المشاركات المتعالمة، فهذه كتابات تنضم إلى الكتابات التي لا يلتفت إليها الشعراء الآن. مثلا ماذا يهم الشعراء المصريون الذين يراكمون تجربة شعرية منذ عشرين عاما هي الأكثر طليعة في راهن الشعر العربي من أن يحدثهم أحد عن سوزان برنار ويثقب آذانهم بمقولات مكرورة، تخلصوا منها في نصوصهم وحياتهم الذين يندفعان إلى حرارة العالم، لا بل ذهبوا بعيدا إلى تفكيك بواعثها السياسية والثقافية والأنانية والنظم الفكرية الأبوية التي يرتكز عليها مجتروها المنفصلون والمنقطعون عن الراهن الشعري .

ان الشاعر العربي الجديد لا يقرأ مقدمة انسي الحاج ولا يهمه أن يقرأ هذه المقدمة لأنها سوف تحده وتمنعه من الانطلاق نحو سماء الشعر المفتوحة على مصراعيها، نحو سماء الحرية، لكن هذا لا يمنعه من أن يقدر كل التجارب الشعرية الماضية .

مع ذلك مازال البعض يتحدث عن المقدمة كما لو أنها سورة من كتاب سماوي مفتوحة على التأويلات اللانهائية. في ضرب من التقديس الذي يطغى على الثقافة العربية ويسودها. وفي الآن نفسه يتحدث عن الحرية والمستقبل في نوع من ثقافة بعثية خالصة تجد أثرا لها في الأقوال المتقنعة بالحداثة وتنفيها الأفعال، وهي في عمقها مبنية على عصبية وقبائلية وانتماءات شديدة الضيق. أما "قصيدة النثر" فهي، هنا، ذريعة فحسب. إنها الأسماء نفسها التي تكرر الاسطوانة ذاتها، في الصحافة والتي سمعناها مرارا عن القصيدة النثرية. واذا كانت الأمور تجري بهذه الحدة وتنبني على هذه المقاييس الدقيقة والتقسيمات الحادة، ما الذي يجعل من المقربين من أنسي الحاج حتى الدرجة العاشرة، رغم هزالة وضحالة تجاربهم، وقدم لغتهم، خمسين سنة والتي يمكن أن يتجاوزها أي شاعر مصري أو مغربي شاب في مجموعته الشعرية الأولى شعراء قصيدة نثر، فيما يتم يستبعد منها في بعض الكتب المطبوعة محمد الماغوط وأمجد ناصر ووديع سعادة ونوري الجراح وعناية جابر والشعراء المصريون، وفاضل العزاوي وخالد المعالي وصلاح فائق الخ. ثم حتى هذه التقسيمات المسلوخة من سياقها الثقافي الفرنسي فضفاضة وتنطبق على كم كبير من الشعراء الذين يتم استبعادهم .

بناء عليه أجد أن الانتماء إلى القصيدة النثرية العربية لدى البعض في لبنان يؤخذ بالقربى والمحاباة والعلاقات الشخصية. فيما يواصل الشعراء الجدد الكتابة دون الالتفات إلى هذه الخرافات وهؤلاء المستلبين للماضي. ودون التفكير بهذه التقسيمات ودون الالتفات إلى هذا الصراع المفتعل لشد الحاضر إلى أبوات ماضية ،نظرا لفقر حاضره شعريا.

ماهر شرف الدين كتب عن الكبار وعدد عددا كبيرا من الكبار، لا أعرف من أين جاءت هذه التسمية "الكبير فلان والكبير فلان" في حين سعى الشعراء العرب طيلة عشرين سنة للتخلص من هذه الأبوات سياسيا وأدبيا ودينيا، ونجحوا. هذه اللغة والأنوات المتضخمة والتي في أغلب الأحيان لا تخفي شيئا. قد أنزلتها التجارب الشعرية العربية الجديدة أرضا ومسحت بها الأرض كما يقولون. لذلك من يهومون الآن في إعطاء قدسيات وتقديم آيات الطاعة، مدفوعين بأنانيات وذوات متضخمة وآراء متعجرفة قطعية ندعوهم أن يقرؤوا الشعر المصري الجديد والمغربي والسوري واللبناني إلخ، هم الغائبون عن حاضرهم وربما عن الحاضر الشعري كله بحسب بيضون.. لا تلتفت الأجيال الشعرية الجديدة إلى أسماء الستينات، بل تنظر إليها تاريخيا فحسب.

ان الانجازات الشعرية العربية الكبرى لم تتم على يد شعراء الستينات ، الذين تجعلهم الصحافة المستلبة التابعة مؤسسين، ف" أهم الشعراء العرب منذ ألف عام"، لم تثبت نصوصه خمسين عاما، بل يمكن القول كان هناك تضخيما عصبيا قبائليا صحفيا مقصودا لهذه الأسماء، لا يجد مصداقية له لا في نصوصها ولا في كتاباتها التنظيرية القليلة .

وكان بالإمكان إعطاءها حقها كأسماء تاريخية والاحتفال بها. ونحن لا نجد تأثيرا لها على الأجيال اللاحقة لا عبر شعرها، ولا في تنظيراتها التي تأخذ ثيابا دينية روحانية .

لا يمكن إلا أن نذكر الأهمية التاريخية لنصوص الحاج، وكثيرا من نصوص أدونيس النثرية الرؤيوية المكتوبة، وعن شعراء آخرين كانوا يكتبون قصيدة الرؤيا في تلك الفترة، ولا يمكن لأحد أن يبزّ أحدا غيره، فهذا يصبح مؤسسا والآخر كتب بعض القصائد. ما أعنيه هو أن عملية التجديد تمت على يد كثيرين ولا يوجد أبوات أو أجداد هنا. أما نص الماغوط فيكاد يكون الوحيد الذي يفلت من التصنيف الزمني الذي تقع تحته نصوص مجايليه، وحسنا فعل المنظمون للمؤتمر بوضع صورته على الملصق الخاص بالمؤتمر، كتحية رمزية للشاعر.

إن أسماء السبعينات والشعر المترجم والروايات كانوا أشد تأثيرا وحضورا، ورفدا لحركة الشعر العربي من مجموعة شعرية لغوية ميتافيزيقية يمكننا أن نبخسها حقها التاريخي عندما نكرر تقديسها وعبادتها، أو مقدمة ممسوخة الأفكار .

إن شعراء السبعينات هم المؤسسون الحقيقيون، وقد أعطوا للشعر العربي على صعيد الاقتراحات الجمالية والفنية والانفتاح على العالم ما لا يقاس إطلاقا بنتاج الستينات على يد شاعر أو شاعرين. فشعراء مثل بسام حجار، أمجد ناصر وعباس بيضون ووديع سعادة ونوري الجراح وسركون بولص، منذر مصري، صلاح فائق ، فاضل العزاوي إلخ ويمكن هنا أن نضيف أسماء شعرية شابة لم تصدر سوى كتاب واحد، فليس المهم إصدار كل سنة كتاب شعري لكي يبقى الاسم حاضرا فحسب، لكن كتابها هذا كان مؤثرا في لغته الاستثنائية وما تحمله من اقتراحات جمالية انتبه إليها الشعراء الشباب في المغرب وأعني الشاعر شبيب الأمين.

فترة السبعينات متصلة اتصالا بالثمانينات، حيث نجد انفجارا شعريا عربيا في كل الدول العربية تقريبا ويبدو فيه الشعراء المصريون في طليعته.هذه الحركة التي تعم المنطقة العربية، يذهب فيها الشعراء إلى العالم وأشيائه في عملية انسحاب كلي من اللغة الستينية العقلانية. وتندرج هذا الانسحاب من لغة انسي الحاج المصنوعة صناعة والتي لا علاقة لها بالعالم الخارجي. الشعراء الجدد بعضهم متساو في أهمية الاقتراحات الفنية في قصيدته مع أسماء السبعينات، الذين كي يستمروا كان عليهم أن يغدوا شبابا في قصيدتهم ناحية تنثير العبارة والذهاب بها إلى العالم .

الأجيال الجديدة وهي لم تعد شابة، إذ ليس غيرها موجودا وفاعلا، لا يهمها إطلاقا ولا تعني لها شيئا مقدمة الحاج وشعره سوى تاريخيتهما، و لا يمكن لا حد ان يبخسهما حقهما .

ان النصوص الشعرية التي بقيت زمنيا كان لها علاقة بالواقع الخارجي في شكل من الأشكال، من هنا يمكن تعليل الإفلات الزمني لنص الماغوط ،مقارنة مع مجاوريه العقلانيين المنقطعين عن العالم. أن نأخذ بعض التجارب المصرية الشعرية الثمانينية لنجد أنها قدمت للشعر العربي أكثر مما قدمه شعراء الستينات المقدسون .

لا أذكر أن أحدا من أبناء جيلي حدثني مرة عن الانجازات الهائلة " لأنسي الحاج أو مقدمته، كان الاسم تاريخيا فحسب، ونصوصه لم تصمد تاريخيا أو أن الذائقة الشعرية الجديدة لا تعترف بهذه النصوص العقلانية المصنوعة صناعة، والتي لا تمت بصلة إلى حرارة الحياة والتي تبحث عن الشعر عبر الأفكار. وكي لا نذهب بعيدا يمكن أن تنظر إلى النصوص الشعرية الشابة فلا نجد أحدا تأثر بأنسي الحاج. كانت الأسماء تجد مرجعيات لها خارج الشعراء اللغويين جميعا، الذين يجردون العالم من كتاباتهم.

ان الأجيال الجديدة والتي لم تعد شابة، ذهبت إلى تفكيك القداسة المعطاة لقصيدة الرؤيا التي تجد في اللغة بنيتها الشبكية، لا بل أدارت هذه الأجيال ظهورها لهذه النصوص اللغوية التي تهوم في ما هو ميتافيزيقي، في عملية ارتداد حادة على كل الشعر الذي ينبني على الأفكار ويجرد العالم، وعلى كل التنظير الذي رافق هذا الشعر، الذي يجعل من اللغة حياة وينغلق ضمن التجريد، جاعلا من الكلمات التي تحيل على الأشياء رموزا جافة ، والافتتان باللغة إلى درجة تحولها سلطة مطلقة. كل ذلك انسحب منه الشعراء الجدد، وأعني بذلك فضاءات الأصوات التي تجرد العالم من قصيدتها، وتدعوا في الآن نفسه إلى تحقيق الأسئلة الكبرى ، من حرية وخلاص وشفقة وحب وثورة إلخ.

نجد في هذه الأصوات نموذجا للانقسام التام في العقلية التي تقول شيئا، وتقوم بشيء آخر تماما في الواقع التطبيقي:فهي تعلن وتجتمع حول التنظير حول مقاربة الجسد والتجربة الشخصية شعريا، وفي كتابتها تقوم بالضد من ذلك. ولعل ذهاب هذه الأصوات إلى اللغة والتقوقع حولها تحت ستار التجريب هو الأزمة التي تخفي وراءها الخوف الحقيقي والرعب من التعبير عن الذات، فتتحول الكتابات عن المسكوت عنه عمليا إلى كتابات تطمس أي شيء يعبر عن التجربة الشخصية.

يبدو الشاعر المبدع سعدي يوسف وقد وضع يده على المشكلة في أبعادها العميقة، في حوار له نشرته كيكا يقول فيه ما معناه أنه لم يكن يوما ما من أتباع ومحبي الشعر العقلاني الذي يعتمد على اللغة فحسب، ويقطع مع الحياة. وأيضا هنا يمكن أن نضيف الآراء الجريئة والثاقبة للشاعر المصري فتحي عبد الله، ومقالا يقول أشياء كثيرة ولكن بخجل وهدوء حذرين لسامر أبو هواش في كيكا رفض أحمد بزون، القائم على الصفحة الثقافية في "السفير" نشره كما يخبرنا أبو هواش في مقاله ، وأحسب أن هذا الرفض ليس ضد أبو هواش شخصيا، بل ضد الأفكار التي تضمنتها مقالته والتي تحاول أن تفكك خرافة الحاج، الأمر نفسه حدث مع موقع جهات الشعر، الذي لم ينشر الملف الذي نشرته القدس العربي عن الماغوط لأنه يتضمن أفكارا جديدة تختلف عما هو معاد و مكرور عن الشاعر، واكتفى بنقل إحداها فحسب. وهذا يحيل على عدم الرغبة بفسح المجال للنقد وطرح الأسئلة، والارتكان السهل إلى المديح والتقديس لبنى شعرية فائتة، في عملية خاسرة وفاشلة الهدف منها إيقاف الحياة عند فترة وأسماء محددة وتوصيفهم كأنبياء.

أيضا يمكن الإشارة إلى المقال الهام الذي كتبه الشاعر عباس بيضون بعنوان ليس دفاعا عن مؤتمر قصيدة النثر، وفيه يعتبر بيضون أن قصيدة النثر التي تكتبها جمانة حداد لم تعد عند أنسي وروادها المؤسسين فثمة خمسون سنة انقضت عليها، أيضا يرى أن أصحاب شعار لا شاعر إلا أنسي أي الذين كتبوا مقالات في صحيفة النهار، غائبون عن حاضرهم وربما عن الحاضر الشعري كله.

هذا المقال الذي لا يتقصد إلا الموضوعية الصافية، أمام الاستعراض و النفاق والكذب والهتاف والتعويم الصحفي للأسماء دونما الارتكاز على أي تجربة شعرية ذات أي خصوصية، وكلام عباس بيضون أشبه ببصمة كبرى محت كل الرنين والهتاف والضجيج الفارغ. ما قاله بيضون معروف و يتداوله الشعراء في أحاديثهم، لكنهم يتحاشون التصريح به كتابة لاعتبارات تتعلق بالسلطات الصحفية، فأن كتابته من قبل شاعر له ثقل وحجم ومصداقية بيضون أعطى هذا الكلام بعدا كبيرا وهوموقف شجاع أحسب أنه سيذكر دائما ضمن الآراء والمواقف التي أطلقها الشاعر وعودنا عليها دائما . أحاديثهم

نشير هنا أيضا إلى مقال الشاعر محمد بنيس الجريء المنشور في القدس العربي يصحح فيه المغالطات التي وقع فيها الحاج وعدم قراءته الكاملة للمصدر الذي استقى منه معلوماته، ويبدو بنيس منفتحا على الأجيال الجديدة، ومحاولا تفكيك خرافة البيان الأول والثاني، وهو هنا يظهر منفتحا على الحياة وجوهر الشعر الذي يتجلى في حركيته المتغيرة.. كل هذه الكتابات وهي هنا قليلة تهدف إلى الخروج من خرافة مقدمة أنسي الحاج وآراؤه السماوية عن الخلاص والشفقة والتي يبدو فيها الحاج وفيا لتجربته الستينية، وهو هنا يبدو متوازنا مع نفسه ومع تجربته الشعرية، أكثر من الذين يسوقون آراءه بوصفها بيانات ثانية. فيما هي لا تصلح للآن، نظرا للانزياحات الكبرى التي اجترحها و يجترحها الشعراء العرب والتي يبدو فيها الحاج بعيدا عنها أو لا تعنيه. فإطلاق الكلام على عواهنه لا يؤدي به إلا إلى أن يتبدد في الهواء أو الهتاف على ما يسميه بيضون، من مثل القول عن المقدمة بالبيان الأول، وكلمته في المؤتمر بالبيان الثاني. هذا الكلام لا يجد أي فعالية له في مكنونات مداخلة الحاج التي تجيء من زمن ماض، وبعيد عن أيامنا، وكلامه لا يمكن قراءته ، إلا ضمن تجربته الشعرية فحسب.

نجح مؤتمر قصيدة النثر في أهدافه، التي لا تغادر محل إضاءة الراهن الشعري العربي، ووصل الماضي عبر الحضور الرمزي لانسي الحاج شاعرا من جيل الستينات، بالراهن الشعري العربي ممثلا بعباس بيضون وأمجد ناصر ونوري الجراح وبسام حجار ومنذر مصري وجرجس شكري وأنطوان أبو زيد إلخ


* شاعر وناقد سوري مقيم في باريس
 
أعلى