نقد يوستن جوردر - هل هناك عالم بلا كتب؟

عندما نمسك كتاباً لنقرأه، فإننا نخلق لأنفسنا عالماً من التصورات والانطباعات والأفكار والمعانى. فالكتاب يعيش داخلنا، نحن نعيد تكوينه أثناء قراءتنا له. هناك طبعا كاتب ألفه، لكننا نبعث فيه الحياة عندما نقرأه.. فقراءتنا للكتاب لا تشبه أبداً أن نضع شريط الفيديوا أو قرص السى دى فى الجهاز، ثم نستسلم له ليقرأ لنا النص.. فالقراءة فعل إيجابى خلاق ومحقق للذات أكثر كثيراً من مشاهدة فيلم.

حتى فى اليابان، بلاد النظم الإليكترونية الرقمية المتطورة، مازال الناس هناك يقرءون الكتب.. مع أنهم يحتاجون فى تلك البلاد إلى تعلم عشرات الآلاف من أشكال الأحرف والمقاطع ليتمكنوا من القراءة. وهذا التناقض اليابانى العجيب يساعدنا على تصور مدى تفوق النص المكتوب على الإعلام المرئى.

والآن.. مامدى تأثر الحكايات بوسائل الإعلام والترفيه الحديثة؟.. لقد قلتُ من قبل إننا لا نتعلم كيف نتنفس، لكن الهواء قد يتلوث حتى إننا نجد صعوبة فى التنفس. وقلتُ إننا لا نذكر قلوبنا كى يدق، لكن أسلوب حياتنا المعاصرة قد يصيب القلب بالأمراض التى تضعفه أو تؤذيه، حتى يتوقف ذات يوم عن الدق.

لقد أشرتُ من قبل إلى أننا فقدنا القوة الدافعة المميزة التى كان تقليد الحكايات المروية يحفظها لنا. فالحكايات المنقولة شفاهة كان لها سحرها الذاتى وخصائصها العالمية التى تتيح لها أن تنتقل من فم إلى فم، وتعيش مئات، بل آلاف السنين.الكتاب، أى النص المطبوع، يستطيع طبعاً البقاء هذا العدد من السنين، لكنه بعكس الحكاية المروية شفاهة لا يملك القدرة على التأقلم ولا الاستجابة الدائمة للأحوال الاجتماعية القائمة. لذلك فهو أقل مرونة من الخرافات والحكايات الشعبية. لقد أتاحت لنا الحكايات فرصة التعرف على تجارب الإنسانية السابقة. لكن الأمر تغير فى العقود القليلة الماضية، ففى عالم مابعد الحداثة هذا لم يعد عمر الذاكرة الاجتماعية للناس يتجاوز عدة ساعات أو عدة أيام على الأكثر.. مثلا: زواج النجم الفلانى أو طلاقه، أو أنه يتبع حمية، أو يتناول عقاقير مهدئة، أو مقاومة للسميات، أو أنه قتل نفسه.. أو أن لاعب الكرة الفلانى قد اشتراه النادى العلانى بمليون دولار، أو يورو، أو أن الاختبارات قد كشفت أن بطل التزلج هذا يتعاطى المخدرات.. أو أن عارضة الأزياء تلك تريد أن تتزوج، أو أنها قررت أن تترهبن باقى حياتها.

هذه الأنواع من القصص الأقاويل تزايدت وأحاطت بنا أكثر من أى وقت مضى. لكنها لا تعيش وقتاً كافياً يسمح للصحف الصفراء أن تطبعها وتنشرها. إذن، لماذا ننتظر صحف الغد؟.. فلنجلس أمام شاشة الكمبيوتر أو جهاز ألعاب الفيديو. لأن الجلوس أمام الكمبيوتر وألعاب الفيديو يرفه عنا ويمتعنا بشحنات إلكترونية قصيرة، لا يزيد عمرها عن ثوان معدودة.

لا شك أن شاشات التلفزيون تسرق منا أعمارنا وتنهب حياتنا. أو إذا أردنا الدقة فهى تُعطى وتأخذ، كما قال أحد مدمنى الشراب: «فى الأيام الخالية، كنتُ أقضى على الزجاجة، أما الآن، فهى التى تقضى علي».. هذا القول ينطبق بلا شك على التلفزيون والكمبيوتر والهاتف المحمول. ففى النرويج مثلا، 80 % من الناشئة، مابين الثالثة عشرة والخامسة عشرة من أعمارهم، يمتلكون هواتف محمولة. وهذا أمر يجعل الآباء أكثر استرخاءً لأنهم يستطيعون العثور على أبنائهم فى أى وقت.. الآن أصبحت الأسرة تُدار بجهاز تحكم عن بُعد (الريموت كنترول)!!. والهاتف المحمول هو هذا الجهاز.

كتب «مايكل إند» رواية عن «مومو وسارقى الزمن». لقد كانت رواية تنبؤية حقاً.. لأننا أصبحنا الآن محاطين بسارقى الوعى ؛ الذين أقاموا صناعة تهريج عملاقة متنافرة الألوان، أكبر مشروع صناعى عرفه العالم حتى الآن. وسارقو الوعى هؤلاء يزدادون ثراءً وقوة كلما جردونا من خبرات الحياة الحقيقية وتجاربها، وهم يقومون بذلك علانية وبلا حياء، دون أن يتصدى لهم أحد ليوقفهم أو يمنعهم من التمادى.

مؤسسو حضارة «الضغط على الأزرار» هؤلاء أفسدوا فطرة الأطفال المتطلعة إلى المعرفة المحتاجة إلى اللعب. لقد سلبوهم القدرة على التخيل والدافع إلى النشاط والإبداع، وعمالقة الاتصالات ووسائل الترفيه هؤلاء، يحاولون سرقة الحكايات أيضاً. لكنهم لن ينجحوا أبداً. فالحكاية أقوى من كل قدراتهم وأمتن. لقد رأيت كثيرين من مدمنى الالكترونيات يفطَمون بسهولة ويتخلصون من إدمانهم إذا قدمنا لهم حكاية أصيلة.. إذن قدموا لهم ترياقاً من ذلك الرباط الالكترونى المفسد للعافية.. أعطهم «هارى بوتر». لقد علم «هارى بوتر» ملايين الأميين ثقافياً أن يقرءوا.. وأول قصة يقرؤها الإنسان لن تكون الأخيرة، فهو لا يكتفى بقراءة كتاب واحد أبداً، وإنما يتوق عادة إلى المزيد.

من الملاحظ الآن، فى الدول التى يطلق عليها متقدمة «مستنيرة»، أن قطاعاً كبيراً من الناشئة والشباب يعيشون معظم أوقاتهم، أو ربما كلها، بعيدين عن الكتب، وأقصد بالذات الحكايات الأصيلة الجيدة. ومن الملاحظ أيضاً تزايد الأوقات التى يقضونها فى مشاهدة التلفزيون أو الترفيه عن أنفسهم بألعاب الكمبيوتر، بينما تتناقص الأوقات التى يقضونها مع آبائهم أو أجدادهم.. أى أن حاجتهم إلى الكتب فى ازدياد. إننى لا أومن أبداً بنظرية التدهور العام للمستوى الروحى للإنسانية. فلو أننى وضعت نصف استثماراتى فى الكتب والنصف الآخر فى ألعاب الكمبيوتر، لَقَلِقْتُ، فى المدى البعيد، على نصيبى فى ألعاب الكمبيوتر أكثر من نصيبى فى الكتب، وأعنى بالذات الحكايات المكتوبة.

إننا الآن أشد احتياجاً للكتب مما كنا قبل خمسين سنة أومائة سنة. ففى ذلك الزمن كنا لانزال ننهل من رصيد الحكايات المروية شفاهة.. وبلغاتنا الوطنية.

حليب الأم لا يصبح «موضة قديمة» أبداً وكذلك الحكايات الجيدة. أما مؤسسات التليفزيون وألعاب الكمبيوتر والفيديو، فهى تستنزف حيويتنا وتصيبنا بأمراض اجتماعية لا مثيل لها.. فقد أصبحت ضجيجاً ثقافياً، وتلوثاً فكرياً.. وكأن الحضارة الإنسانية قد أصابها سعال مزمن.. أو على الأقل «دور أنفلونزا».

ولكن.. حشائش النجيلة، كما نعرف جميعاً، شديدة القوة والمثابرة، لها قدرة عالية على التشبث بالحياة والنمو فى الظروف كافة. حتى إنها تنمو بين شقوق الأسفلت.. إذن، على أسوأ الظروف، سوف ينشأ تقليد جديد للرواية الشفهية، وينمو ويزدهر فى تلك «الغابة الأسمنتية».. وبالرغم من كل ما نراه من عولمة ثقافية، فإننا نلمح مظاهر إحياء للثقافات المحلية. فنرى معاهد تعليم الكتابة الأدبية، وورش عمل الكُتّاب، ومقاهى الشعر تتخذ مكانها جنباً إلى جنب مع محلات الفيديو..

فالتاريخ لم يكتمل بعد، حتى لو تصورنا ذلك أحياناً.

عندما أتحدث عن رؤيتى لمستقبل الكتاب، فأنا لا أعتنق وجهة نظر حتمية فى مسائل التنمية، بل على العكس من ذلك. وإنما لأنى أعتقد أن الكتاب يستحق أن نكافح من أجله. وأرجو أن تسمحوا لى بتوجيه تلك النصيحة: «أهم مايفعله الآباء لأبنائهم بعد أن يطعموهم ويكسوهم.. هو أن يقرءوا لهم».. ففى كثير من المجتمعات، الغربية بالذات، يزداد احتياج الناس إلى تبادل الخبرات، خاصة وقد اتسعت الفجوة بين الأجيال.. وتبادل الخبرات هذا له تأثير أساسى على شخصية الإنسان، مثل الهوية والشعور بالانتماء. فالآن أصبح الأبناء والآباء والأجداد يعيشون فى عوالم منفصلة، ومع الأيام سوف يزداد تباعدهم. فالأبناء يشاهدون التلفزيون فى جهاز مستقل، بينما يجلس الأبوان فى غرفة أخرى يحدقان فى شاشة أخرى، فى حين يكون الأجداد فى أماكن متفرقة من البلاد، لا يدرى إلا الله ماذا يفعلون بالتحديد، ربما كانوا هم أيضا يشاهدون التلفزيون أو يمارسون ألعاب الكمبيوتر.

لو أن لى أمنية تتحقق، لتمنيتُ أن تصبح القراءة عادة متأصلة فى نفوس الأطفال، وممارسة مفروغاً منها، مثل غسل أسنانهم، فالعناية بصحة الأسنان أمر مهم جداً. لكن الآباء مسئولون أيضاً عن العناية بصحة أبنائهم الإدراكية «التجاربية». فهناك تقصير كبير فى هذا المجال فى بلدان كثيرة ومن ضمنها بلادى. لا أقصد فى الكتب بالذات، فليس هناك نقص فى الكتب، لكننا مترفون، عندنا كتب كثيرة وحكايات جميلة وعظيمة، لكننا لا نكلف أنفسنا باقتطاع جزء من وقتنا لقراءتها.

* هذا المقال كتبة صاحب الرواية الشهيرة عالم صوفي ونشرة في النيويورك تايمز.



خير جليس.jpg
 
أعلى