حسن جلاب - حدود الوثيقة الشعرية (التجربة الموحدية).

إن الوثائق التي اعتاد المؤرخون اللجوء إليها، مختلفة ومتنوعة، منها ماله اتصال بالمجال الأركيولوجي: المآثر، الحفريات، النقوش... وما هو مدون مكتوب: كالمؤلفات المخطوطة والمطبوعة، وهي بدورها أصناف عديدة: كتب التاريخ، كتب المناقب، والتراجم، والطبقات، والفهارس، وبرامج العلماء، والنوزل، وحوالات الأحباس، والكناشات العلمية، والتقاييد الشخصية، والرسائل المخزنية، والخاصة وغير ذلك من الوثائق.
وقد تناولت أبحاث هذه الندوة (1) بعضها، وبما أن عدم التخصص لا يسمح لنا بالخوض، في هذا المجال، فإننا نقترح الحديث عن الوثيقة الشعرية، من خلال طرح التساؤل التالي:
إلى أي حد ساهم الشعر في تعريفنا بالأحداث التاريخية؟
وبالتالي هل يمكن اعتبار القصيدة وثيقة مساعدة لعلم المؤرخ يعتمد عليها كليا أو جزئيا؟
لقد حاول الدكتور محمد مفتاح في كتابه: «دينامية النص» تحيدي أركان الجنس النقي من كتابة ما، وذلك عند حيدثه عن الكتابة الصوفية فقال: «إذا ما اجتمعت تلك الأركان جميعها في أية كتابة، فإنها حينئذ تكون جنسا نقيا غير مشوب بغيره والأركان هي:
- الغرض المتحدث عنه.
- المعجم التقني.
- كيفية استعمله.
- والمقصدية.
إذا بحثنا عن الأركان في كتب التاريخ، تبين لنا أننا لن نقف عليها مجموعة إلا في عدد قليل من هذه الكتب، بمعنى أن الكتابة التاريخية الصرفة، قد لا تتوفر إلا في الكتابات المنهجية المتأخرة، أما المصادر الأساسية القديمة، فتجمع التاريخ مع الفقه، أو الحديث أو الشعر، أو التصوف، وهي نفس النتيجة التي انتهى إليها الباحث المذكور خلال بحثه عن الكتابة الصوفية النقية أو الصرفة: «ومعنى هذا أن ليس هناك كتابة صوفية صرفة، ومنها ما يتداخل مع الشعر، ومنها ما يظن القارئ غير المطلع أنه كتاب للأدب.
وهكذا، فالتداخل يقع كثيرا بين نوعين أدبيين، أو أنواع ضمن مؤلف واحد، والحكم الفصل في هذا الشأن هو الغالب بالقياس إلى النوع الصرف إذا وجد، فإن لم يوجد يتخذ القصد أساسا للتمييز، مع تعزيزه بعنصر آخر (أو أكثر إن أمكن) من العناصر الأربعة المذكورة».(2)
هذه المعطيات دفعتها إلى طرح التساؤل المذكور أعلاه إلى أي حد يمكن اعتبار الشعر وثيقة تاريخية يعتمد عليها كليا أو جزئيا؟
ولكن يجب التمييز منذ البداية بين نوعين من الشعر:
* النوع الأول: الأراجيز التي يقصد بها التأريخ لمرحلة من المراحل التاريخية، من أمثلتها:
*أرجوزة ابن الخطيب التاريخية.
*أرجيز مغربية كثيرة في السيرة النبوية: مالك بن المرحل، محمد المرابط وابنه وغيرهم.(5)
*ومن أمثلتها عند الشعراء المحدثين (كبار الحوادث في وادي النيل) لأحمد شوفي لخص فيها تاريخ مصر.(6)
وفي الأدب الغربي أسطورة القرون لفيكتور هيجو.(7)
همت الفلك واحتواها الماء
وحداها بمن تقل الرجاء
«الشوقيات» 1/17-33.
هذا الصنف من الوثائق الشعرية يعتبر من صميم التاريخ، لتوفر الأركان الأربعة فيه، مع بعض التجاوز بالنسبة للركن الثالث من جهة، ولأن أصحابها لا يراعون الجوانب البلاغية والصور الشعرية عند نظمهم لها من جهة أخرى.
- النوع الثاني: القصائد الشعرية التي نظمت في أغراض متنوعة: كالمدح، والهجاء، والفخر، والحماسة، ووصف الحروب، ولم يكن هدف أصحابها التأريخ أساسا، وهذه هي موضوع هذه المداخلة.
إن ارتباط الشعر بالتاريخ السياسي والاجتماعي قديم وعريق، وقد وصلنا قبل أن تصلنا كتب التاريخ، ومن العبارات المشهورة المتداولة (الشعر ديوان العرب) يحكي تاريخهم، وطرق عيشهم، وحروبهم وصراعاتهم الفردية، والجماعية، وبواسطته وصلتنا أخبار، عن أحلاف القبائل ومواجهاتها: كحرب البسوس، وداحس والغبراء، ويوم ذي قار، وعلاقاتهم بالغساسنة والمناذرة، وغير ذلك مما لا يتسع المجال لذكره.
وقد ظلت القصيدة تنهض بنفس الأدوار مع مجيء الإسلام، وإن كان القرآن الكريم قد حد من هذا النفوذ بعض الشيء بواسطة آيات: (والشعراء يتبعهم الغاوون...)،(8) (وما علمناه الشعر وما ينبغي له)،(9) مع العلم أن جمهور المفسرين والعلماء أكدوا أن الشعر المنهي عنه هو شعر الكفار – الشعر السلبي – بدليل أن الرسول " شجع شعراءه، كحسان وكعب وغيرهما على قوله، واستمع إليه في المسجد، واستحسنه أجاز عليه، واعتبره من اأرقى الفنون، ومن أقواله ": «إن من الشعر لحكمة».
لهذا كله، كان من أهم المصادر – إن لم نقل أهمها – في دراسة الحال السياسية والاجتماعية والفكرية لفترة صدر الإسلام بغزواتها، وفتنتها، وإصلاحاتها، والفترة الأموية بأحزابها السياسية المتحاربة على المستويين السياسي والعقدي: من أمويين، وشيعة، وخوارج، وزبيريين...
ولم تختلف وضعية المغرب عن المشرق، وإن كان ما وصلنا من شعر عن فترة ما قبل الدولة المرابطية قليلا، إلا أنه من نوع الشعر التأريخي، تتجلى فيه بوضوح:
- الصراعات السياسية والمذهبية بين الدويلات الموجودة في شمال إفريقيا.
- الصراعات بين أبناء إدريس حول الملك.
الدعوة إلى ديانات جديدة في «تامسنا» عند البرغواطيين، وفي «الريف» عند الغماريين.(10)
ويجبرنا ضيق المجال على الوقوف عند النموذج الموحدي، لنلاحظ أن الشعر أكثر ارتباطا بالتاريخ وبالعقيدة عند الموحدين، إذ كادت أشعارهم أن تكون كلها حول المذهب والخليفة، وحروبه وتنقلاته، وأهداف دولته، باستثناء بعض أشعار أبي الربيع سليمان الذي عاش في بجاية، وأبي حفص الأغماتي، الذي عاش في الشمال بعيدا عن جو العقيدة، والتحمس لها، السائد في مراكش العاصمة.
ويعود هذا الارتباط – في نظري – إلى الأسباب التالية:
1) إن الموحدين جاؤوا – في شخص زعيمهم الروحي المهدي بن تومرت – بإيديولوجية جديدة، هي مزيج من المذهب المعزلي – الشيعي – ومبادئ الإمام الغزالي، رافضة للمذهب السائد من قبل، أي المذهب المالكي، بل اعتبروا أصحابه مجسمة كفرة، لعدم تأويلهم للمتشابه من القرآن الكريم، وعدم نفيهم للصفات....
2) إن مفهوم الخلافة والإمامة عندهم يقضي بتبعية المشرق للمغرب، على عكس ما كان عليه الأمر على عهد المرابطين، الذين كانوا يخطبون للدولة العباسية، وهو مبدأ تعميم الخلاة عند الموحدين. لهذا تسمى عبد المومن بأمير المومنين، وكان الناس يتوقعون غزو المنصور لمصر كما هو معروف.
3) إدراكهم لأهمية العامل الإعلامي في انتشار العقيدة ونجاحها، وهو الأمر الذي أهمله المرابطون كثيرا، لهذا شجعوا الشعراء وقربهم، وقدموا لهم الجوائز والهبات ليعملوا على نشر هذه المبادئ، وإيصالها إلى أبعد مدى ممكن.
ترتب عن هذا:
أ- رفضهم لأشعار المجون والغزل:
إبعاد عبد المومن لأبي بكر بن ميمون لأبي بكر بن ميمون القرطبي، الذي تغزل في شاب من أغمات، وموقفه من غزل الشاعر الوشاح ابن غزله. (11)
ب- عدم استحسانهم للمقدمات الغزلية أو الطويلة،ورغبتهم في أن يركز الشعراء جهودهم في موضوع العقيدة والمدح: استهجان عبد المومن لمقدمة قصيدة أحمد بن سيد الإشبيلي:
غمض عن الشمس واستقصر مدى زحل
وانظر إلى الجبل الراسي على جبل (12)
جـ- وعلى العكس من ذلك، كانوا يستحسنون القصائد المركزة على الحدث منذ انطلاقها، تجلى ذاك في استحسان عبد المومن لمطلع الشريف المرواني في ندوة جبل الفتح:
ما للعداجنة أوقى من الهرب
أين المفر وخيل الله في الطلب
قائلا: «بمثل هذا تمدح الخلفاء».
وفي قوله في نفس المناسبة لشاعرة الجراوي: «يا أبا العباس: إنا نباهي بك أهل الأندلس».(13)
ويمكن أن نتبين هذا التوجه التأريخي للشعر الموحدي في المظاهر التالية:
• المظهر الأول: تناول الشعراء الحديث عن العقيدة الموحدية أكثر مما تناولها المؤرخون القدماء، بجميع عناصرها: من تأويل للمتشابه، ونفي الصفات، والأمر بالمعروف، ومناهضة الفروع، والإمامة والمهدوية، والعصمة، والعدل، والخلافة وتعميمها... وهي أمور مرتبطة بالتاريخ ارتباطا وثيقا، إذ أنها – أي العقيدة – من أسباب ظهور الموحدين، وتأسيسهم لدولة جديدة، وهي من مبررات تدخلهم في شؤون الدولة السابقة إلى حين إسقاطها.
ولا أريد هنا الدخول في التفاصيل وتقديم الأمثلة، فقد كان هذا موضوع كتابي «الدولة الموحدية، أثر العقيدة في الأدب»،(14) ولكن مع ذلك أشير إلى مسألة طريفة، وهي تصور الشعراء لمبدأ تعميم الخلافة، الذي لم يتناوله المؤرخون بتفصيل، وإنما أشاروا إليه إشارات، فجاء الشعراء ليضعوا خريطة للدولة كما يسعى الموحدون إلى تحقيقها: فقد عمم شاعر من بجاية، وذكر هذه النية التعميمية عند المهدي بقوله:
ويفتح الأمصار شرقـا ومغربـا
ويملك عربا من مغيـر ومنجـد
وكان الجراوي أكثر تخصيصا عندما خاطب يوسف بن عبد المومن بقوله:
ستملك أرض مصـر والعراقـا
وتجري نحـوك الأمم استبـاقا(15)
وعاد في عهد المنصور إلى إثارة الموضوع مع إبداء طموح أكبر، ورسم خريطة أوسع في قوله:
سينظم السعـد مصرا في ممـالكـه = حتى تــدوخ منـه خيلــه حلبـا
إلى العـراق إلى أقصى الحجـاز إلى = أقصى خراسـان يلقى جيشه الـرعبا(16)
* المظهر الثاني: إن الشعر الموحدي مرتبط بحروب الموحدين وفتوحاتهم ومواجهاتهم مع أعدائهم، يسجلها بدقة وأمانة، وبتفاصيلها ونتائجها، وسيطول بنا الحديث لو أردنا تقصي ذلك، إذ لا نبالغ إذا قلنا بأن كل الأحداث التاريخية التي شهدها هذا العصر تناولها الشعراء في قصائدهم، مع العلم أن بعض المصادر المهمة لم تصلنا، وخاصة الجزءين الأول والثالث من كتاب (تاريخ المن بالإمامة) لابن صاحب الصلاة.
• عبد المومن: كانت سنة 555 هـ سنة حاسمة في حكمه، إذ تمكن من إعادة الأمن إلى شمال إفريقيا، برده للهجومات الصليبية على المهدية وبجاية وغيرها من المرافئ البحرية، خاصة وأن الزحف الصليبي كان على أشده بعد استرجاع النصارى لصقلية، واستعدادهم لاسترجاع بيت المقدس.
كما كانت له انتصارات مهمة بالأندلس، فخلد ذلك بتنظيم ندوة أدبية على ظهر جبل طارق الذي بنى به مدينة، فأطلق عليه من تاريخه «جبل الفتح»، حضرها الشعراء والكتاب، والمؤرخون والعلماء، ودامت أسبوعين قبل فيها الكثير من الشعر، الذي يعد جردا تاريخيا لحكم عبد المومن منذ بدايته (*) ومناسبة لتقديم حصيلة أعمال ومنجزات هذه الدولة.
وقد وصلتنا عنها سبع قصائد هي:
1- قصيدة ابن الحبوس الفاسي، شاعر الخلافة، مطلعها:
بلغ الزمان بهديكـم ما أمـلا
وتعلمت أيامه أن تعـدلا(17)
2- قصيدة أبي بكر بن المنخل الشلبي:
فتحتم بلاد الشرق فاعتمدوا الغربا = فإن نسيم النصر بالفتـح قد هبـا(18)
3- قصيدة أبي العباس أحمد بن سيد الإشبيلي:
غمض عن الشمس واستقصر مدى زحل = وانظر إلى الجبل الراسي على جبل(19)
4- قصيدة الشريف المرواني القرطبي:
ما للعدا جنـة أوقـى من الهـرب = أين المفر وخيـل الله في الطلـب(20)
5- قصيدة أبي الحسين عبيد الله بن صاحب الصلاة:
?) توفي بعد الاحتفال بثلاث سنوات.
17) انظر «زاد المسافر»: 44.
18) «تاريخ المن بالإمامة»: 142 – 148.
19) نفس المصدر: 148.
20) نفس المصدر: 153-158.
تلألأ من نور الخلافة بارق
أضاءت به الآفاق والليل الغاسق(21)
6- قصيدة أبي عبد الله محمد بن غالب البلنسي الرصافي:
لو جئت نار الهدى من جانب الطور = قبست ما شئت من علم ومن نور (22)
7- قصيدة أبي جعفر بن سعيد العنسي:
تكلم فقد أصغـى إلى قولـك الدهـر = وما لسـواك اليوم نهـي ولا أمر (23)
• يوسف: ونأخذ المثال الثاني من حكم يوسف، فكما هو معروف وجد هذا الخليفة نفسه أمام مشاكل وثورات خارجية عويصة ومتلاحقة لا تنتهي ، أبطالها ابن مردنيش، وصهره ابن همشك وأباعهما ومساندهما من الأسباب وقد أصيب الخليفة إصابة قاتلة في إحدى هذه المعارك الخارجية بغرب الأندلس.
وقد قيلت قصائد عديدة في حركات هذين الثائرين مقدمة وجهة نظر الموحدين فيها نذكر منها:
1) قصيدة أبي الوليد إسماعيل الشلبي في وصف انتصاره مطلعها سنة 558هـ مطلعها:
عزمات منصور العزائم غالب = ضمنت فتوح مشارق ومغارب(24)
2) وله قصيدة ثانية في نفس الموضوع:
بأمرك أسمع الداعي المهيب = وسعدك يسر الفتح القريب(25)
3) قصيدة لابن حربون مطلعها:
لكم بعد حمد الله تهدى المحامد = وفي وصف علياكم تصاغ القلائد(26)
4) قصيدة ملحقة برسالة من انتصار سنة 560هـ مطلعها:
لقد بلغت جيادكـم مداهـا = ونالت ما أرادت من عداها(27)
5) قصيدة ابن سيد الإشبيلي في انتصار يوسف على ابن مردنيش بإشبيلية سنة 566هـ:
السعد يقدم والعزائم تصـدق = والنصر بينهما يخب ويعنق(28)
• المنصور: ونأخذ المثال الثالث من تتبع الشعراء لتحركات بني غانية ومواجهتهم للمنصور، في حروب كانت الغلبة فيها لهم أحيانا، وللخليفة أحيانا، ورغم جهوده في سبيل استئصال شأفتهم، فقد ظلوا يهددون مدن إفريقية: تونس، المهدية، صفاقس، القيروان، قفصة، ومدن المغرب الأوسط: كبجاية وتلمسان، وقد احتلوا بعضها، ودعوا فيها للمرابطين بني عمومتهم، وللدولة العباسية، وكان لابد من انتظار حكم الناصر ليدخل عليهم الأسطول الموحدي جزرهم الشرقية (البليار)، وقد اقتربت الدولة من الدخول من بداية النهاية.
أما القصائد التي قيلت في هذا الموضوع فتتجاوز العشرة، منها في فتح بجاية قصيدتان للجراوي:
1) مطلع الأولى:
لواؤك منصور وسعدك غالب = وحزبك للأعداء عنك محارب(29)
2) ومطلع الثانية:
بحد عزمك نال الدين ما طالبا = وأحجم الشرك عن إقدامه رهبا(30)
3) قصيده للجراوي في فتح قفصة، مطلعها:
فتـح يطاول نعتـه الأحقـابا = خضعت له فرق الضلال رقابا
4) قصيدة لأبي الربيع سليمان الموحدي في فتح قفصة، مطلعها:
هبت بنصرك الرياح الأربع = وجرت بسعدكم النجوم الطلع(32)
5) ومطلع قصيدة ثانية له في نفس الموضوع:
ضاءت بنورك إيابك الظلماء = وتباشرت بقدومك الأرجاء(33)
6) قصيدة الجراوي في فتح تونس، مطلعها:
عدوكم بخطوب الدهر مقصود = وأمركم باتصال النصر موعود(34)
7) ومن فتح القيروان قصيدة ابن مجبر، مطلعها:
أسائلكم لمـن جيـش لهـام = طلائعـه الملائكـة الكـرام(35)
* المظهر الثالث: تجاوز الشعراء الاهتمام بالأحداث السياسية العامة إلى تتبع الأحداث الاجتماعية عموما، سواء ما تعلق منها بحياة الناس أو بحياة الخليفة، ولاية العهد، تقديم يوسف على أخيه محمد، عصيان أخ المنصور وعمه، مرض الخليفة، تبادل التهاني بينه وبين إخواته وأصهاره... إلى غيره ذلك من الموضوعات التي تعد من صميم التاريخ، ونمثل لها بنماذج من تهنئة الخليفة بمناسبة شفائه من مرض ألم به.
1) فقد قال الجراوي في شفاء يوسف قصيدة مطلعها:
شملـت ببقائـكـم النعـم = وسمت برجائكـم الهمـم(36)
2) وقال في شفاء المنصور:
برء الإمام حياة الخلق كلهم = عم السرور به وانثالت النعم(37)
3) وقال في الناصر عند شفائه من مرض ألم به سنة 604هـ:
اطلع الدهر منك بـدرا منيـرا = مـلأ السبعـة الأقاليـم نورا(38)
* المظهر الرابع: مواكبة القصيدة للأحداث التاريخية، وروايتها لها بتفصيل، مع مراعاة ظروف الوزن والقافية، وما يتطلبه الشعر من صور داخلية.
وإذا كان المجال لا يسمح بتتبع الأحداث في كل قصيدة، فإنه يمكن تقديم أمثلة لذلك من خلال بعض النماذج:
فأهم ما روته كتب التاريخ (39) أن ابن إسحاق استغل الموت المفاجئ ليوسف بالأندلس، ووقوع خلافات حول ولاية ابنه يعقوب، وظهور تخربات، أحدهما مناصر للخليفة الجديد، والآخر لعمه، وثالث لأخيه، فهاجم بجاية بحرا، واحتلها في شعبان سنة 580هـ، وقد ذكر الجراوي الأحزاب في المطلع:
لواؤك منصـور وسعدك غالب = وحزبك للأعداء عنك محارب
وتحكي كذلك أن المنصور هرع إلى المدينة عن طريق البر والبحر:
تلاقى عليه البر والبحر ترتمي = سفين إلى استئصاله وكتائب
وأوضح رأي الموحدين في هذه الحركة، واعتبارها غير شرعية، وصاحبها ضال غاو خارج عن القانون:
أطاعوا غويا لم تقيده شرعـة = ولم تره وجه الصواب التجارب
وأنه لم يستفد من تجاربه السابقة مع الموحدين عندما اعتقد أنه سيحتل بجاية (الناصرية)، ويفلح في الحفاظ عليها:
تصامم عن وعـظ الزمـان بقلبـه = واعرض عن وجه الهدى وهو لاحب
تخيـل أن النــاصريـــة داره = يطاعـن عن ساحـاتها ويضـارب
وتذكر المصادر أن ابن إسحاق فر إلى الجنوب التونسي بمجرد سماعه بخبر وصول الجيش الموحدي، فقال الجراوي:
وما هارب منه ولو بلغ السهـى = بناج وهل ينجو من الله هارب(40)
وبهذا، تلخص القصيدة الأحداث التاريخية المهمة، ولا تغفل منها أي حدث كيفما كان.
وبعد، تلخص القصيدة الأحداث التاريخية المهمة، ولا تغفل منها أي حدث كيفما كان.
وبعد دخول المنصور إلى بجاية مظفرا طارد ابن إسحاق وتعقبه، فواجه جيشه المساند من طرف عناصر من الغز الموجودين بطرابلس ويرقة.
ومع ذلك، انهزم، وقتل قائده ابن إسحاق، فذكر الجراوي ذلك بتفصيل في قصيدة أخرى:
رأى الشقاء ابن اسحاق أحق به = من السعادة والمجدود مجدود
أما درى لا درى عقبـى عاداتكـم = كل مجد حسام الحق محسود
ألقى السلاح وولـى يبتغـي أمـدا= ينجيه وهو مروع القلب مفؤود
وهبه عاش أليس الموت أهون مـن = عيش يخالطه هم وتنكيد
أنحى الزمان على الأغزاز واجتهدت = في قطع دابرهم أحداثه السود
فهم على الترب صرعى مثله عددا إن كان يقضي بأن الترب معدود(41)
وهكذا، فإن كل قصيدة من قصيدة الجراوي لا تخلو من ذكر أهم الأحداث، وتفاصيل الحروب، ونتائجها، مع التركيز على مذاهب الدولة، ومدح الخليفة، وأحيانا ما تتضمن القصيدة بعض التفاصيل: كذكر يوم معركة «الأرك» عند الحديث عن إدفونش ملك الإسبان:
وكان يرى أقطار أندلس له = متى يوم لم يخطئ بأسهمه قطرا
فسلاه يوم الأربعاء عن المنى = فما يرتجي مما تملكه شبرا(42)
ولم يكن قصد الشعراء الأول هو التأريخ، فلهذه المهمة من يقوم بها، لذلك غابت عناصر أساسية في هذه القصائد:
- تقديم تواريخ الأحداث.
- مراعاة السرد التاريخي المطرد.
- ومقابل ذلك، حافظت على المقومات الشعرية من وزن وقافية، وصور شعرية بلاغية.
فجاءت جامعة بين التوجهين التأريخي والأدبي، وإن كانت شهادات الشعراء في هذا الباب لا تقل قيمة عن شهادة المؤرخين، لأنهم حضروا مثلهم الأحداث، وعبروا عنها بالأسلوب الذي يسعفهم ويناسبهم (الشعر)، ويسمح لنا هذا كله بإبداء الملاحظات التالية:
1) امتزاج الأدب بالتاريخ في المصادر التاريخية المغربية عامة، وفي مصادر التاريخ الموحدي على الخصوص، للأسباب التي حددناها من قبل ، ويمكن أن نقدم أمثلة لذلك:
فتاريخ «المن بالإمامة» لابن صاحب الصلاة (السفر الثاني) يشتمل على 45 قصيدة تكون 1419 بيتا، وهو قدر أكبر من مجموع ما وصلنا من شعر كبار الشعراء: كالجراوي، وابن حبوس، والرصافي... وغيرهم، إذن فهو ديوان شعر قبل أن يكون كتاب تاريخ.
ويشتمل «البيان المغرب» على 973 بيتا، و«المعجب» على 726 بيتا.
2) نتج عن هذا أن هذه المصادر لم تعد تهم المؤرخ وحده، و إنما تهم الأديب كذلك، وعلى نفس المستوى.
فقد ضاع ديوان الجراوي، ولم يصلنا عنه إلا ما ورد في «البيان المغرب»، فنهض بدور الديوان في الحفاظ عن هذا الشعر.
ولم يصلنا ديوان ابن حربون فوردت له 18 قصيدة في «تاريخ المن بالإمامة» تناهز 600 بيت.
ونقول نفس الشيء عن أغلب شعراء الدولة الموحدية، كابن حبوس، وأبي حفص الأغماتي، وابن سيد الإشبيلي، والشريف المرواني... كل هؤلاء ندين لكتب التاريخ بوصول أشعارهم.
3) ويدفعنا هذا إلى التساؤل:
ألا يجوز اعتبار الوثيقة الشعرية، وكتب التاريخ على عهد الموحدين على نفس الدرجة من الأهمية؟ فيلزم والحالة هذه، أن يتسلح الطالب والباحث المقبل على دراستها، والتعامل معها بما يلزم من أدوات إجرائية أساسية: كمعرفة العروض، والبلاغة، والغة، فضلا عن تكوينه التاريخي المعتاد، وهي وسائل وأدوات تمكنه من اكتشاف ما تتضمنه النصوص الشعرية من إشارات من شأنها أن تلقي الأضواء على الأحداث التاريخية التي يعتزم التعرف بها، وتحليلها، وتجنبه الوقوع في الأخطاء اللغوية والعروضية، التي تلاحظ على بعض تحقيقات المؤرخين لمصادر التاريخ المتضمنة للأشعار.
ويمكن أن يتحقق ذلك بتفتح شعب التاريخ على شعب اللغة العربية، وأن تكون مواد الثقافة العربية المقدمة لطلبة التاريخ مركزة، لا على شخصيات وإشكاليات تاريخية- كما جرى به العمل – وإنما على دراسة هذه العلوم المساعدة.

____________________
1) ندوة الوثيقة مقدمة من طرف شعبته التاريخ بكلية الآداب – مراكش.
2) دينامية النص: 130.
3) وردت في كتاب «الذخيرة»: قسم 1/ح2/944، وفي «الحلل الموشية» 141 – 142.
4) أوردها بن عثمان في «الجامعة اليوسفية، نماذج منها»: 63 – 71.
5) «ديوان ابن مرحل»، و«البذور الضاوية»: م خ ع الرباط: 361 د.
6) أولها:
7) La légende des siècles de (Victor Hugo).
8) سورة الأنعام – الآية: 224.
9) سورة يس – الآية: 69.
10) انظر قصائد في الموضوع عند البكري في كتابه «المغرب في ذكر إفريقية والمغرب» ط: الجزائر.
11) انظر كتابنا «الدولة الموحدية» ط: 2/1985 – ص: 50.
12) نفسه 75.
13) نفسه 75.
14) طبع مرتين بالدار البيضاء: (مطبعة النشر) 1983 و1985.
15) «الوافي»: لابن تاويت: 129.
16) «البيان المغرب» (قسم الموحدين): ص: 154-ط: 1.
21) «تاريخ المن بالإمامة»: 159 – 163.
22) «ديوان»: تحقيق إحسان عباس / ط: 1960 / ص: 77 – 86.
23) «الحلل الموشية»: 155 – 156.
24) «تاريخ المن بالإمامة»: 208 في 38 بيتا.
25) نفس المصدر: 211 في 44 بيتا.
26) نفس المصدر: 246 في 64 بيتا.
27) «تاريخ المن بالإمامة»: 283 في 36 بيتا
28) نفس المصدر: 254 في 36 بيتا.
29) «البيان المغرب»: (قسم الموحدين) 51 – ط: 1.
30) نفس المصدر: 154 في 21 بيتا.
31) نفس المصدر: 168 في 19 بيتا.
32) «الديوان»: 20 - 22 في 34 بيتا.
33) «الديوان»: 23 – 46 في 35 بيتا.
34) «البيان المغرب»: 164 في 18 بيتا.
35) نفس المصدر: 192 – 193 في 15 بيتا.
36) «الوافي»: 130 في 11 بيتا.
37) «البيان المغرب»: 188 في 19 بيتا.
38) نفس المصدر: 226 في 12 بيتا.
39) انظر «المعجب» و«البيان المغرب والأنيس المطرب».
40) «البيان المغرب» 51.
41) «البيان المغرب»: 164، نسبها فيه لابن مجبر.
42) نفس المصدر: 197.

* دعوة الحق - العدد 301 جمادى 1-جمادى 2 1414/ نونبر-دجنبر 1993



55.jpg
 
أعلى