نقد وحيد الطويلة - روح الحديقة

جاءني في الموعد كعادته.

في كلّ مرة كان يأتي بوجه ضاجٍ بالحياة، يضحك ويحمل كتباً يهديني إيّاها: هذه يجب ألا تفوتك، أنت مولعٌ بالخيال لكنك حكّاء، يجب أن تكتب كتاباً بعنوان «نهر الحكايات».

هذه المرّة كان قادماً بوجه غائب، كأنه أودعه لدى خزانة المجهول، على وشك أن يفقد الحياة، لكنه يحمل كتباً، وبنبرة تائهة قال: «هذه أعزّ ما لديّ، قررت أن أوزِّع مكتبتي، اسمع، لا تقاطعني.. الموت قادم.» وقبل أن أسخر من يقينه البادي، وأحوِّل الموضوع إلى نكتة، أطلق سكيناً حاداً من فمه: و«قريباً...كلّ أصدقائي ماتوا، وأنا في أعمارهم نفسها أو يزيد، لم يبقَ لي من الأعزاء سوى كتبي أعطيها لعزيز ليحفظني عنده، ليعيدني مرّة أخرى إلى الحياة ولو بابتسامة، ولو برحمة.».

المترجم الفاتن والمثقَّف الصادق في كل شيء، عندما يذكر اسمه في محفل ما، فتلك دلالة على المثقَّف والإنسان، عندما ماتت ابنته في ريعان شبابها لملم كتبها ولوحاتها ليعرضها على الناس، ليستعيدها من يدي المغافل، أقام معرضاً ووقف على الباب يستقبل الناس. كان آخر من دخل، وفي كلّ لحظة كان يمدّ رأسه من الباب إلى الخارج، كأنه ينتظرها أن تجيء كعادتها بكتب تتأبَّطها. بعد المعرض، لملم الكتب واللوحات ووضعها في حضنه بكل الأسى والترقُّب.

مسكينة المكتبة، تظل ّروح من يقتنيها، حتى إذا غادر غادرها ألقها، وحالت ألوانها، كأن الكتب تبتسم وتضحك دلالة على أن أصحابها ما زالوا على قيد الحياة.

المكتبة روح صاحبها، يحافظ عليها ويدلِّلها، طالما تجري في عروقه الحياة وبذرة الأمل، لكأنه يتخلّص منها بأسى وافرٍ، حين يشعر أنه اقترب من خطّ الزوال.

الدكتورة شهرت العالم، ابنة الكبير محمود أمين العالم، لا تجد من تهديه مكتبة والدها، لم يتقدّم أحد لشرطها الوحيد بأن يحافظ عليها فقط. ابنة الدكتور حسين مؤنس المتخصّص في حقبة الأندلس لم تجد هيئة أو شخصاُ يقبل أن يقتني مكتبته. كأن المكتبات نفسها ترفض روحاً غير أرواح أصحابها، أحد شعراء الستينات الذي غزل ثوب حبيبته بالأزرق باع مكتبته الشهر الماضي لبائع كتبٍ بما لا يزيد عن خمسة آلاف دولار، حين أحسَّ أن الأوراق الباقية من عمره تتناقص يوماُ بعد يوم. هل هي الشجاعة؟ بل أشكّ، هو اليأس والتسليم بالقادم، حين أحسّ أن طائرأ ما لم يره من قبل يطوف فوق منامه، ويحوم حول سريره.

بعض الكتّاب في مصر ينامون نهاراً، لا يقربون المكتبات إلا في الليل، يقضونه بين أضابيرها يلاعبونها وتلاعبهم، يغازلونها وتغازلهم، حتى تطلع شمس الصباح، فيخلدون.

صديق آخر خائف مثلي من الموت، يشتري كتباً كلّ يوم جمعة تراه يعسّ في مكتبات وسط البلد في القاهرة، كأنه يقاوم الموت،يشهر الكتب الجديدة في وجهه، يرفض أن يستسلم أو يترك له فرصة للتسلّل إلى حديقته، يزرعها كل أسبوع بالكتب لتقف متحدّية في وجه الموت.

القاهرة ليست مدينة القراءة، خاصةً في العقود الأخيرة. مكتباتها تشبهها. الذين يقرأون هم فتات الناس. والذين يحفظون الكتب بين طيات قلوبهم ليسوا سوى أفراد.

في عصور الاضمحلال ترى العجائب، أثرياء القاهرة الجدد زيَّنوا بيوتهم بمكتبات لزوم الشيء، لا يقرأون، لكن للوجاهة طعمٌ آخر ومستلزمات أخرى حتى ولو لم تُستعمل. وحين يهرعون إلى بيوت جديدة يحملون كل شيء ويتناسون الكتب، مكتباتهم ملوَّنة وبخشب فاخر، لكن روحها في مكان آخر.

لا تتعجَّب، ميلاد حنا بحث عن جهة يهدي إليها مكتبته، حين جاءه طائر الرحيل وغيره وغيره. تناثرت كتب العشاق على الأرصفة، تكاد تنطق باليتم، تتلقفها أيدٍ يتيمة أيضاً بحنوٍّ بالغ، أصابع تنطق بالأسى على أرواح تركت أطفالها دون قلوب تحميها، اللهم إلا بعض الأناشيد والرايات القليلة ليحملها محبّون بأغانٍ خافتة.

أحمد شوقي كان ماكراً وواعياً بما يفعله الزمن، كان يعرف أن أشعاره سوف تندثر مع الوقت، أو لن تجد من يرتِّلها سوى بعض المُتَيّمين، وهم فئة في طريقها إلى الانقراض، لذا قال لتلميذه محمد عبد الوهاب: «غنِّني يا محمّد، غنِّني لأعيش»، يبحث عمَّن يحمل روحه خارج سور المكتبة المقبرة، ليضعه على لسان الناس إلى أبد الآبدين.

جلال كشك، الكاتب بنكهة إسلامية، عرف أنه سيموت حين هاتفه مسؤول الدفن وهو على سريره في المستشفى، يسأله عن الترتيبات التي يقترحها لجنازته، ورغم أنه بوغت إلا أنه كتب وصيَّته في مقال بعنوان: أنعي إليكم نفسي. طلب فيه فقط أن تُدفن كتبه إلى جواره ليقارع بها الملائكة حين يسألونه، شدّد على نسخ كثيرة من كتابه « ودخلت الخيل الأزهر» الذي دمغ فيه الحملة الفرنسية بالجهل والوحشية لاقتحامها الجامع.

نجيب محفوظ الهادىء على السطح، الذي يمور مكراً جميلاً من داخله، كان لا يحتفظ بكتاب، كان يقرأ الكتاب، ثم يوزعه، كأنه كان يخشى أن يُلقى شريداً على قارعة أي هاوٍ أو هاوية، كأنه كان يكتفي أنه معلّق على جدران كل المكتبات العربية.

في قصيدته الفاتنة التي غَنَّتها فيروز يناجي جوزيف حرب الأبواب كأنه يناجي المكتبات: «في باب غرقان بريحة الياسمين، في باب مشتاق، في باب حزين، في باب مهجور أهلو منسيّين، هالأرض كلّا بيوت، يا ربّ تَخلّيها مزيَّني البواب. ولا يحزن ولا بيت ولا يتسكَّر باب».

ضرب يوسف أبوريّة صاحب «ليلة عرس» على كتفي بقوة وقال: منّك لله، سحقتنا.

كنا قد قضينا ليلة معه، بعد إصابته بالمرض البطّال، القاتل الصامت. قبل أن أذهب أخذني جانباً، قال لي: «بعض كتبي التي أحبها». وقبل أن أجيب قال: «قد لا أراك مرة أخرى». ورغم أنني بُوغتُّ إلا أنني ضحكتُ في وجهه ومزحتُ: يا رجل لا تقلْ هذا، سأعود لأمحقك مرة أخرى. لكنني كنت مثل امرأة كافافيس التي غاب ابنها في اليَمّ، وراحت تشعل للعذراء شمعة طويلة ليعود ابنها. كنتُ مثل السيدة العذراء أعرف أنه لن يعود.

رجاءً: روحي اكتفت، ومكتبتي لم تعد تتَّسع.
خذوا كتبكم معكم.
لا ترسلوا لي كتبكم مرّةً أخرى.


خير جليس.jpg
 
أعلى