نقد سليمان بختي - رأس بيروت المقطوع

تأسَّست مكتبة «رأس بيروت» سنة 1949 من القرن المنصرم على يد الدكتور أنطون غطاس كرم، أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت. وتسلّمت إدارتها زوجته فيلومين لحود بمعاونة السيد عبد الأحد بركات عبدو.

كان موقعها بداية قرب البوابة الطبية لمدخل الجامعة الأميركية الشرقي .وفي العام 1951 نقلت إلى شارع (BLISS-بلس) مقابل بوابة الجامعة المشتركة مع مدرسة الأنترناشونال كولدج (I C) واعتزلت زوجة الدكتور كرم العمل، واستمرّ عبدو في إدارتها منفرداً. في العام 1953 انتقلت ملكية المكتبة للأستاذ شفيق جحا، المؤرِّخ والتربوي، وفي أوائل السبعينات أصبح عبدو شريكاً فيها. وفي أثناء الحرب اللبنانية 1975 – 1990 انسحب عبدو، وهكذا عادت المكتبة بملكيّتها الكاملة للأستاذ جحا في سنة 1980. ومن ثَمَّ انتقلت إدارة المكتبة إلى فاديا شفيق جحا منذ ذلك الوقت وحتّى إقفالها في العام 2008.

لم تكن مكتبة «رأس بيروت» مكتبةً عادية، بل لعبت دوراً ثقافياً استثنائياً مميزاً في الحراك الثقافي في بيروت . وبكلمات الراحل د.أنيس صايغ كانت الضلع الثالث في مثلَّث إشعاع يضمّها مع الجامعة الأميركية ومطعم فيصل. فقد زوّدت الجامعات والمؤسَّسات وعشّاق الكتب والمهتمّين بالكتب من كافة أنحاء العالم . كما نشرت الكتب الأدبية والمدرسية مثل «الفكاهة عند العرب» لأنيس فريحة وغيرها.

وكانت نقطة التقاء لنخبة من الأدباء والشعراء والمثقَّفين والأكاديمييـــــــن والصحـــــــــافيين والسياسيين، ورجال الأعمال . كان المؤرخ الراحل كمال الصليبي يعتبرها «ملتقى ورابطة بين محبّي القراءة ورئة من رئات راس بيروت». وتقول فاديا جحا التي تولّت إدارة المكتبة لثلث قرن، بأن المكتبة كانت انعكاساً لمشاغل أصدقائها وروّادها الذين شاركوا في خلق طابعها المميَّز. وتسشتهد جحا بما قالته الأديبة إملي نصرالله غير مرّة بأن جَوّ المكتبة هو «جَوّ تلاقح الأفكار التي تلتقي أو تفترق محتفظة دائماً بخطوط عريضة من الحرّية واحترام الآخر».

شهدت مكتبة «رأس بيروت» انطلاقة مجلة «شعر» ومجلة «مواقف»، كما احتفلت بالعديد من الكتب المُمَيَّزة. ويعترف الشاعر شوقي أبي شقرا بدور المكتبة في تجربة مجلة «شعر»: «جريئة كانت في الزمن الباكر. استوعبت الثمار، وكانت مرجع القرّاء والمصدر الذي ينبع منه الاحترام والإحاطة بما كتبناه، ولم تستطع سواها القيام بالدور، وكانت سبّاقة الى شحيم حالة الشعر وعطر القصيدة حيث أنزلنا عبارات الطرب والدقة والبحث عن الباهر». والحال أنه نادراً ما عرفت أو واكبت مكتبة بعضاً مما عرفته وواكبته مكتبة «رأس بيروت» في موقعها وتاريخها ومناخها. فكم من نقاشات وسجالات تلاحقت وتتابعت من قاعة المحاضرات إلى حرم الجامعة إلى مطعم فيصل إلى المكتبة. وهناك لا تسأل فقط عن الكتاب، وتقتنيه، بل قد تلتقي كاتبه وناشره وناقده، وتكمل معهم السجال المفتوح في شبه صالون ثقافي مميَّز في طابعه وطقوسه. في مكتبة«رأس بيروت» عقد فرسان مجلة «شعر» يوسف الخال، وأدونيس، وشوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج، وفؤاد رفقة، ونذير العظمة العديد من لقاءاتهم وتدارسوا، وخطّطوا، وناقشوا. وفي المكتبة عينها تابع الشاعر خليل حاوي النقاش مع تلاميذه في قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة الأميركية. وفي المكتبة وُلِد اكثر من مشروع أو فكرة لندوة أو صيغة لتجمُّع أو حكاية صداقة أو قصة حب. وكانت محطّة لا بدّ منها لأي كاتب مهاجر أو عائد أو زائر لمعرفة آخرأخبار البلد وأخبار الأصحاب.

كان الدكتور الراحل هشام شرابي يحرص في كل زيارة لبيروت أن يزور مكتبة«رأس بيروت» ومقهى الروضة. وكان يعتبر المكتبة مؤسَّسة بيروت الثقافية لخدمة المجتمع المدني ونهضته. كانت مساحة لتعزيز التلاقي ومركزاً لنقل الرسائل والودائع للادباء والمثقَّفين. وكانت واجهتها حدثاً بحدّ ذاته. فكتب الواجهة هي باروميترالمقروئية في بيروت والعالم العربي. كان الروائي الراحل يوسف سلامة لا يعتبر أن كتابه قد صدر إذا لم يره في واجهة مكتبة «رأس بيروت».

تتذكَّر الناقدة خالدة سعيد أنها حين جاءت إلى المكتبة لأول مرة وجدت كتاب «قالت الأرض» لأدونيس في الواجهة، وعندما دخلت لتشتريه قال لها عبدو : «الكتاب ليس للبيع» فحاولت الاستفهام لتسمع صوتاً من الداخل: «يه! كيف وصلت إلى هنا؟ كيف عرفت؟»، كان أدونيس.

صمدت مكتبة «رأس بيروت» في زمن الحرب وفي زمن الإعمار. وأصدرت في العام 2003 كتاباً تذكارياً بعنوان «مكتبة رأس بيروت في خمسين عاماً» وضمّ أكثر من 91 شهادة وكلمة من شعراء وأدباء ومثقَّفين لبنانيين وعرب وأجانب. لم يدُر بخلد أحد أنه بعد 5 سنوات من تاريخه أي في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2008 ستقفل المكتبة أبوابها، وتتفرَّق الطيور، وتخسر المدينة جزءاً من سيرتها الثقافية، ومكاناً لتفاعل إنساني أنموذجي ولعلاقة حضارية راقية بين قارئ وكتاب ومدينة، وسيتفرَّق عشاق الكتب في دروب موحشة.

وخلال سنوات قليلة انتصبت الأبراج الإسمنتية العالية، وانكفأت المكتبات في الشارع. تبخَّرت، وغدَت مكتبة «رأس بيروت» ذكرى مستعادة في البال عن زمن نهضوي جميل في بيروت. ولكن المؤسف أن المدينة حين تودِّع مكتباتها الواحدة تلو الأخرى فستغدو مدينة بلا روح ، بلا حلم، بلا معرفة، بلا مستقبل.


خير جليس.jpg

 
أعلى