نقد محمد غلام - ست الشاي السوداني.. ونسة وسياسة

إذا أردت يوما أن تعرف آخر شؤون الساعة بالسودان أو أردت أن تفك بعض طلاسم ما يدور فيها من شؤون سياسية، أو أردت قصص جنوبها وشمالها وعادات الزواج والطلاق فيها أو أخبار فريقي الهلال والمريخ، فما عليك سوى أن تستريح على "بمبر" (مقعد بلدي) وتتناول "كركديه" أو "جبنة" (قهوة) من ست الشاي السوداني وتحسن الإصغاء.

وست الشاي ظاهرة في المجتمع السوداني يمتهنها آلاف السودانيات ممن أجبرهن النزوح من دارفور وجنوب السودان إلى أطراف الخرطوم على العمل "ستات شاي"، وأغلبهن مطلقات أو أرامل.

وفي "المقهى" بأحد شوارع المنشية، وهي ضاحية راقية بشرق الخرطوم، سيجيء أصناف الناس من موظفين دوليين وباعة متجولين ولاعبي كرة قدم مشهورين وعاطلين عن العمل ومتسكعين فقدوا وظائفهم لسبب من الأسباب وموظفين سابقين في دول الخليج العربية "رضوا من الغنيمة بالإياب".

ستقدم لهم التومة بعسالة (41 عاما) من جنوب كردفان من قبائل المسيرية العربية المشهورة كل ما طلبوه بأسعار رخيصة، من شاي سادة أو "جبنة" (قهوة خالصة) أو قهوة باللبن أو زنجبيل أو حرجل (شاي عشبي أزرق فاتح) أو حِلبة (عشب مطحون أصفر) أو كركديه، الذي يتفق الناس في السودان على أنه يخفض الضغط فيما لو كان ساخنا ويرفعه حين يكون باردا.

وإذا رغب أحدهم في الأكل فلدى التومة، لحمه، كبدة، عدس وتَقلية (مرق ببامية ناشفة) أو سلطة أسود (باذنجان) أو شيّة أو كسرة (وهي الأكلة الشعبية الأولى في السودان، وتحتاج إلى تقلية أو ملوخية).. وهلم جرا.


أسرار الزبائن

تحفظ التومة -وهي زوجة جندي متقاعد- أسرار زبائنها الذين طالما أفضى بعضهم لبعض بأسرار خاصة بجانبها في جلسات "ونسة" تستمر أحيانا نصف النهار، وتفخر بأنها لوحت بيدها يوما للرئيس عمر البشير حين مر من أمامها بسيارته دون حراسة.

وتتحدث التومة بمرارة عن "الأمن" الذي يقوم أحيانا بحملات لإزالة الراكوبة (العريش) الذي تنصبه في الشارع، رغم أنها تدفع للبلدية مقابلا للترخيص.

ويتحدث الناس هنا عن الانتخابات، وعلي خلف الله (64 عاما) الحاصل على شهادة الثانوية ومراجع الإعلانات السابق بجريدة القبس الكويتية لا يفتأ يردد محاسن البشير رغم أنه لم يصوت له "لأنه فائز وما يحتاج لي".

أما حامد إبراهيم (30 عاما) من الميرم، ولاية جنوب كردفان والوكيل السياسي لحزب الأمة الوطني برئاسة عبد الله مسار، المنشطر من حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي فسيحدثك عن رفضه القوي لقرار المحكمة الدولية بلاهاي بتقسيم أبيي بين العرب المسيرية وقبيلة الدينكا الأفريقية لأنه يحرمهم من الانتجاع في مراع خصبة.

الرياضة والزواج

وهنا سيحكي الكثيرون عن كأس أفريقيا ولقاء فريق المريخ مع الترجي التونسي يوم 24 من الشهر الجاري والهلال يوم 25 مع الإسماعيلي المصري، وعن راحتهم النفسية في هذا المكان بعيدا عن القيود والرسميات في المقاهي الراقية.

أما مصعب وهو سائق في الأمم المتحدة جاء لمراجعة رؤساء له في العمل تحلقوا حول التومة لأخذ قسط من الراحة وتناول الشاي فيبدو متحمسا للتصويت للبشير، "لأن شيئا تعرفه أحسن من شيء لا تعرفه".

من ناحيته يبدو الجنوبي جابريال جوزيف غير مكترث إطلاقا بشؤون السياسة، وسيقول لك وعيناه للأفق إنه مهموم بجمع 500 بقرة ليقدمها مهرا لخطيبته، على عادة قبائل الدينكا والنوير والشلق، وهي قبائل رعوية ترفض تزويج بناتها إلا بالبقر، رمز السيادة والوجاهة عندهم.

وستأتي هنا الصحفية لوسي جبارة، وهي منشطرة بين الشمال والجنوب وترفض أن تصنف جنوبية أو شمالية، فهي تختصر مساحة السودان الشاسعة، حيث إن والدها جنوبي من مريدي غرب جوبا وأمها من أقصى الشمال في حلفا على حدود مصر.

كل ذلك والتومة بعسالة لا تزال تصب وتصب وتتحدث بانشراح، فيبدو أن محصول اليوم وفير.





المقهى.jpg
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى