نقد ستفانو بيني - كتاب في الغابة

قضيت طفولتي في بلدة جبلية صغيرة. وعندما كنت لا أذهب إلى المدرسة كنت أقضي الوقت متجوِّلاً في الغابات، ألعب الكرة، وأقصد النهر.

ولكن، في بعض الأحيان، كنت أحسّ بالملل رغم كثرة الصحاب ممّن هم في سني. كان في بيتي الكثير من الكتب. كان جدّي فلاحاً وكان يقرأ كتباً حول النبيذ، وكانت جدتي متديِّنة ولم تكن تقرأ سوى الإنجيل. وذات يوم رأيت صديقاً لي ومعه كتاب بيده، وقال لي إن البلدة التي تقع على الجانب الآخر من الغابة فيها مكتبة صغيرة، أي مكان يمكنني أن أستعير منه الكتب، وأقرأها، ثم أعيدها.

مضيت نحوها مشياً على الأقدام، وكان عليّ أن أجتاز تلّاً، وغابة من أشجار الكستناء والبلوط والزان. كنت خبيراً بتلك الدروب، ومع ذلك فقد استغرقت فيها ما يقرب الساعتين. وصلت إلى البلدة، وسألت عن المكتبة. كانت في الواقع محلاًّ يبيع الصحف والقرطاسية، ولكنه كان يقوم بهذه الوظيفة المشكورة. وكانت صاحبة المحلّ سيدة تعرف جدّي وجدّتي، وقادتني إلى المحل من الداخل. وقفت أشاهدها مبهوتاً. كانت هناك غرفة كلّها رفوف مليئة لتمامها بالكتب. كانت صغيرة، ولكنها بدت لعيني أكبر مكتبة في العالم، كأنها محيط من الأدب. «أنت لست من هذه البلدة، ولكنك تستطيع أن تأخذ كتاباً» قالت السيدة. وأضافت «ولكن لن تأخذ أكثر من واحد، وعندما تردّه سوف يمكنك أن تأخذ واحداً غيره».

أصابني الدوار وضربتني الحيرة، وأنا ألمس الكتب، وأفتحها وأقرأ منها بضع صفحات. ثم اخترت كتاباً صغيراً أخضر اللون، أعجبني عنوانه: «حكايات المستحيل» لإدجار آلان بو.

بدأت أقرأه وأنا في طريق عودتي إلى البيت غبر الغابة، وسرعان ما أخافني. لنتخيّل الحال وأنا أنتهي من قراءته على الفراش على ضوء شمعة. كان يتحدث عن القلوب التي تنبض تحت الأرض، والقطط المدفونة حيّة، وعن جرائم غريبة. أحسست طوال الليل بأصوات غامضة ورأيت ظلالاً تتحرّك.

بعدها بيومين عدت إلى المكتبة، وقطعت هذه السكة الطويلة مرة أخرى، واخترت كتاباً جديداً لإدجار آلان بو. وفي أثناء العودة، كنت قد تهيّأت لخوفٍ جديد، وأصبحت أوراق الكستناء والبلوط والزان تجثم فوقي مهدّدة ومتوعِّدة. ولكن كانت هناك مفاجأة! كانت هذه القصص غريبة ولاذعة، بل كانت فكاهية، وجعلتني أضحك، وضحكت مستمتعاً بمغامرات فتى ليونزنج، وبلد «شيطان البرج» الغريب.

وهكذا عندما عدتُ إلى المكتبة اخترت كتاباً آخر من الكتب الخضراء للسيد (بو). وهذه المرة كانت الفكاهة والرعب متجاورين، فكانت تظهر أشياء غير عادية، وغير متوقَّعة، وحوش مبتسمة، وجرائم غير مألوفة، مثل مقتل أمونتيلادو وملك الطاعون. وفي المرة التالية اكتشفت أوجست دوبان، وللمرة الأولى أقرأ رواية بوليسية.

قلت لنفسي إن السيد بو هذا كاتب شيطاني، هو وسط بين مصاص الدماء والبهلوان، به شيء من الهذيان وبعض من العقلانية، ولا تستطيع أن تعرف بتاتاً ماذا يمكن أن تتوقَّع منه.

عدت مرات كثيرة إلى المكتبة حتى انتهيت من قراءة كلّ كتب بو. قالت لي السيدة وهي تضحك: «أيها الفتى، ربما حان الوقت حتى تغير، اقرأ كتاباً عن المغامرات..»، ونصحتني بقراءة «زانا البيضاء» لجاك لندن، وكان كتاباً رائعاً. ولكن لغز بو ظل يؤرقني. كيف يستطيع فنان أن يكتب بكل هذه الأساليب المختلفة، وأن يدهشك، ومع ذلك فله أسلوبه الخاص، وله أجواؤه المميزة؟ كم كانت لديه من قلوب وأرواح؟

وفي أثناء عودتي إلى البيت كنت أطيل التفكير وأفهمه. الغابة هي دائماً الغابة، ولكنَّ في داخلها العديد من الأشجار من كلّ صنف ونوع، أشجار كبيرة سامقة، وأشجار صغيرة قوية، وتستطيع أن تواجه الظلام المخيف، وتلتقي بومضات الشمس المتسللة عبر أوراق الشجر، وتستطيع أن تجد ثمار الفراولة والتوت، ويصبح خيالك مُهَيَّأ لتتخيَّل قزماً باسماً، أو ذئباً عملاقاً بارز الأنياب.

هناك كتّاب ليسوا سوى شجرة واحدة، شجرة جوز، أو شجرة بلوط جميلة. وهناك كتّاب زائفون مثل شجيرات متقزمة. ولكن هناك كتّاب مثل الغابات، تدخل فيها، فَتَتوه، ولا تعرف أبداً ما الذي تراه في خطوتك القادمة داخلها.

كان إدجار آلان بو غابة، بحراً، مدينة شبحية، كان فناناً يعرف كيف يسحرك بألف طريقة وطريقة، وأن يرعبك، وأن يبهجك. منذ ذلك الحين وأنا أفضِّل هؤلاء الكتاب الغامضين، الانتقائيين، المستعصين على الحل، وأولئك الذين يعلِّبهم النقد الراكد في علب أكاديمية.

ولهذا فإنني مدين لهذه المكتبة، ولهذه السيدة الرقيقة، ولإدجار آلان بو، ولتلك الجولات الطويلة من المشي في الغابة، مدين لهم بأول انفعال وجداني لقارئ، لم أنسه أبداً، وقد جعلني لا زلت أحب تلك الغابة التي ليس لها حدود، غابة الكتب.


خير جليس.jpg
 
أعلى