نقد محمد الشماع - جاليانو.. «فيلسوف» الساحرة المستديرة

1
المصادفة وحدها هى من جمعت بين موت جونتر جراس، الأديب الألمانى صاحب نوبل، وإدواردو جاليانو، أهم وأفضل من كتب عن فلسفة كرة القدم.

رحل الكاتب الأوروجوانى الكبير عن عمر يناهز الـ74 عامًا فى مدينة مونتيفيديو، بعد أن عانى لسنوات من مرض سرطان الرئة. وكان جاليانو دخل المستشفى بعد أن تدهورت حالته الصحية يوم الجمعة الماضية، ومع ذلك اعتبر موته مفاجأة.

وبرع جاليانو، المولود فى الثالث من سبتمبر 1940، فى شتى مجالات الأدب من الصحافة إلى كتابة القصة إلى كتابة المقالات، كما برع فى الرسم، حيث كان يزين بعض كتبه برسومه كما فى "كتاب العناق" وهو عبارة عن مجموعة من المقالات والابيات الشعرية التى تدور حول السياسة، وكان معروفا بتدوين الظلم الكبير الذى كان سائدًا فى أمريكا اللاتينية، وأيضا بحبه لحضارات المنطقة وتنوعها.

منذ أن نشر كاتب الأورجواى كتاب "أوردة أمريكا اللاتينية المفتوحة" عام 1971 تحول إلى أحد الكتاب الكلاسيكيين لليسار الأمريكى اللاتينى.

استطاع جاليانو أن يحلل فى هذا الكتاب تاريخ قارته اقتصاديًا وسياسيًا، بداية من الاستعمار الأوروبى وحتى سنوات السبعينيات، وما تلاها فى فترة الحرب الباردة، عندما كانت ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية فى عزها.

كان جاليانو فى الـ31 عامًا عندما نشر "أوردة أمريكا اللاتينية المفتوحة"، وبحسب الكاتب نفسه، لم يكن شديد التأهل لتناول هذا الموضوع، فيقول "لقد حاولت أن يكون عملاً فى الاقتصاد السياسى، لكننى لم أكن مستعداً لذلك" ويضيف "لا أندم على كتابته، لكنه كان محض مرحلة تجاوزتها".

أيديولوجيًا صُنف جاليانو كاتبا يساريا، لكنه لم يتورع أن ينتقد الاشتراكية فى أواخر حياته. تعرض للسجن بعد انقلاب عسكرى حدث فى عام 1973، وبعدها أجبر على المنفى، إلى الأرجنتين أولاً ثم إلى إسبانيا، ولكنه عاد إلى بلاده بعد أن عادت إليها الديمقراطية، عام 1985.

فى عام 2009، وخلال القمة الأمريكية، أهدى رئيس فنزويلا السابق هوجو تشافيز كتاب جاليانو لرئيس الولايات المتحدة باراك أوباما، ما أدى لارتفاع مبيعات الكتاب من رقم 60 ألف و280 فى قائمة الأمازون للأكثر مبيعاً إلى الكتاب العاشر، فى يوم واحد فقط.

حينها علق جاليانو بقوله الشهير "لا أوباما ولا تشافيز سيفهم النص، فتشافيز أهداه له بنية حسنة، لكن الكتاب مكتوب بلغة لا يجيدها أوباما. كانت إيماءة كريمة، لكنها وحشية".

كتابه الأعظم، هو "كرة القدم بين الشمس والظل"، قدم فيه الراحل رؤيته الفلسفية الإنسانية لهذه اللعبة الأكثر شعبية فى العالم، فهو يرى أن كرة القدم رحلة حزينة من المتعة إلى الواجب. يرى أيضا أنها مرآة العالم، تقدم ألف حكاية وحكاية. فيها المجد والاستغلال، والحب، والبؤس، وفيها يتبدى الصراع بين الحرية والخوف.

جاليانو مثلا يرى أن "حكم المباراة" هو الطاغية البغيض الذى يمارس ديكتاتورية دون معارضة ممكنة، وهو الجلاد المتكبر الذى يمارس سلطته المغلقة. يقول إنه ارتدى الأسود حدادًا على نفسه، فهو الشخص الوحيد المكروه فى المباراة.

المدير الفنى عنده يظن أن كرة القدم هى علم وأن الملعب مختبر، ولكن المسؤولين والمشرعين لا يطالبونه بامتلاك عبقرية أينشتاين وبعد نظر فرويد وحسب، بل قدرة غاندى على التحمل.

لجاليانو تأمل خاص بالنسبة للاعب كرة القدم، هو يرى أن رجال الأعمال يشترونه ويبيعونه مقابل الوعد بمزيد من الشهرة ومزيد من المال، ويعانى من أجل ذلك كل يوم عقوبة التدريب القاسية، ويخضع لقصف المسكنات وتسلل الكورتيزون الذى ينسبه الألم ويزيف حقيقة حالته الصحية. يأكل أطعمة غبية، ويسكر بالماء وحده، وينام وحيدا. وعلى الرغم من أن الشيخوخة تأتى للجميع بعد الستين، فهى عند لاعب الكرة فى الثلاثين.

حارس المرمى عنده، شهيد أو مهرج يتلقى الصفعات، ويقولون إن المكان الذى يطأه لا ينبت فيه العشب أبدا. هو يقول عنه إنه "وحيد. محكوم عليه بمشاهدة المباراة من بعيد، ينتظر وحيدًا إعدامه رميا بالرصاص بين العوارض الثلاث، كان فى السابق يرتدى الأسود، مثل الحكم، أما الآن، فلم يعد الحكم يتنكر بزى الغراب، وصار حارس المرمى يسلى وحدته بتخيلات ملونة".

رؤيته لحارس المرمى أنه مذنب دائما، وهو الذى يدفع الثمن حتى لو لم يكن مذنبا، فعندما يقترف لاعب كرة خطأ يستوجب ضربه جزاء، يتحمل هو العقوبة، يتركونه هناك، وحيدًا أمام جلاده، فى اتساع المرمى الخاوى".

المتعصب بالنسبة له هو المشجع فى مستشفى المجانين، إنه ينظر إلى المباراة وهو فى حالة صرع، ولكنه لا يراها، فما يهمه هو المدرجات، لأن ميدان معركته فى المدرجات، ومجرد وجود مشجع للنادى الآخر يشكل استفزازا لا يمكن المتعصب أن يتقبله.

لجاليانو كتب أخرى لا تقل أهمية عن كتاب "كرة القدم بين الشمس والظل"، مثل "أفواه الزمن"، و"أطفال الأيام"، وثلاثية "ذاكرة النار".

غاليانو صياد ماهر لكل المشاهد والصور التى ربما تدور أمامنا دون أن ننتبه لها، لكنها تفجر عنده طاقة الكتابة والإبداع، أما مرجعيته فهى خبرته فى الحياة، ممزوجة بما رآه وما سمعه من أفواه الناس، وما قرأه فى الصحف والمجلات وفى كتب التاريخ.

بوفاة جاليانو، يكون العالم قد خسر عالما فى فلسفة التاريخ والبشر.




الكرة.jpg
 
أعلى