إسلام عبد الوهاب - بين طه حسين والمعري : تجديد الذكرى

«أبو العلاء المعرى» و«طه حسين» لا مفر من اقتران اسميهما سويا، وهما الأعميان اللذان أبصرا ما لا تتحمل العين أن تبصره، فإذا ما راق لهما ما أبصراه، صاغاه لنا بالقلم، فمنا من يصيب فهمهما ومنا من أخطأ وأنكر عليهما نفاذ بصيرتيهما، لكنهما رضيا، وخلدا.
«عرض لى أن أدرس حياة أبى العلاء، ذلك الذى أبغضته ونفرت منه، ولست أدرى لم حبب إلى البحث عن هذا الرجل؟ ولم كلفت به الكلف كله؟ ومع أن كتبه قد ضاع أكثرها، فقد خيل لى أنى أستطيع أن أجد فيما بقى منها ما يشفى غليلى. وقد سمعت الناس يتحدثون عن اللزوميات فلا يتفقون فيها على رأى، وسمعتهم يصفون أبا العلاء بالإسلام مرة وبالكفر مرة.. ورأيت بينى وبين الرجل تشابها فى هذه الآفة المحتومة، لحقت كلينا فى أول صباه، فأثرت فى حياته أثرا غير قليل. كل ذلك أغرانى بدرس أبى العلاء، وأنا أحمد هذا الإغراء وأغتبط به».
«حسين» صاحب الكلمات السابقة، سردها فى كتابه «تجديد ذكرى أبى العلاء»، والذى نشر فى عام 1914، ومن هنا بدأت رحلتهما سويا، فقد اصطحب المعرى حسين معه روحيا فى الكتب، وكان «حسين» يرى فى سابقه نفسه، ولا عجب أن نجد أن هناك حوادث مشتركة بينهما، اكتشفها «حسين» وهو يقرأ لـ«المعرى» فيزداد الارتباط، وتتوطد الصداقة والصلة.

أربعة كتب هى «تجديد ذكرى أبى العلاء»، و«شرح لزوم ما لا يلزم» و«شروح سقط الزند»، و«مع أبى العلاء فى سجنه» ما سطره «حسين» عن «المعرى»، ولم يمنع هذا أن تتجلى سيرة «المعرى» فى سيرة «حسين» الذاتية فى كتابه «الأيام» إما بالاشتراك فى الأحداث المتشابهة أو بالاستدلال ببيت شعر، أو شرح وجهة نظر، كان الاقتران وثيقا بلا شك.
أسرتهما أحبت الشعر، وهما أجاداه، اشتركا فى حب الوحدة والانعزال، وعزة النفس، والذكاء، ودقة الملاحظة، والرضا بضيق ذات اليد، والسفر والكتابة العميقة، بل الاتهام بالزندقة والرمى بالكفر، واختلفا فى أن «حسين» تزوج وأنجب طفلين، بينما زهد «المعرى» عن الزواج، «كان رقيق القلب، شديد الرحمة، كثير العطف على الضعيف.. كان كريما سخيا طيب النفس، يبذل المال إذا ملكه وليس ينتظر منه غير ذلك».
«كنت أحث أبا العلاء بأن تشاؤمه لا مصدر له فى حقيقة الأمر إلا العجز عن ذوق الحياة، والقصور عن الشعور بما يمكن أن يكون فيها من جمال وبهجة، ومن نعيم ولذة،. وكان أبو العلاء يقول لى: فإنك ترضى عما لا تعرف، وتعجب بما لا ترى».
«كان من اليسير على أبى العلاء أن يرتزق بشعره ولكنه لم يفعل، وآثر الفقر وضيق ذات اليد على الثروة يراق فى سبيلها ماء الوجه، ويحتمل فى تحصيلها ذل السؤال»، وكأن «حسين» وهو يكتب عن «المعرى» يكتب عن نفسه أيضا.
«أنا شديد الإشفاق عليه من نفسه، قبل كل شىء وقبل كل إنسان، فلم يظلمه أحد كما ظلم نفسه».
 
أعلى