الحسين أيت مبارك - الاتجاهات الأدبية في العصر المرابطي

إن أول ما يتبادر إلى الذهن هو، لماذا الاتجاهات؟ وتعيينا على العهد المرابطي دون غيره؟ ولعل نظرة فاحصة إلى كتاب "المعجب" وإلى مناظرة الشقندي ومؤلفات المستشرقين وبعض المشارقة بعدهم، وما تعج به من اتهامات للمرابطين تروم التنقيص منهم كفيلة بفك غموض هذه التساؤلات والإجابة عنها، إذ تجعل من ضمن غاياتها شجب تلك الرؤية الجائرة التي تواضع هؤلاء على صياغتها ضد المرابطين والرد على ما نَضَحَتْ به مؤلفاتهم من مغالطات ولغو صراح.

يقول صاحب المعجب (1): "... فلم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظ عنده إلا من علم علم الفروع...". ولعلها إشارة من المراكشي إلى البدايات الأولى لتشكيل الدولة المرابطية لأننا سنستخلص بعد ذلك من بين أطواء كتابه قولة يشيد فيها بالمرابطين.
ويمعن المستشرق الهولندي دوزي(2) في التعريض بهم إذ جزم بكونهم لم يبدوا كبير عناية بأمر العلوم والفنون والشعر، وأردف بأنهم كانوا يعملون على تحطيم الروح الشعرية الأندلسية.
وتستفزنا في مناظرة الشقندي، والتي أجراها مع أبي يحيى بن المعلم الطنجي عبارة تفيد أن ليس للمغاربة ما يفخرون به، وإن تعلق الأمر بيوسف بن تاشفين، الذي لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه ما أجروا له ذكرا ولا رفعوا لملكه قدرا.
ولئن كانت هذه الاتجاهات تجحف بحق المرابطين، وتوحي بكثير من التحامل، فإننا نجد المراكشي يرد على نفسه بنفسه مما يكشف عن مفارقة طريفة في فكره حين تحدث عما اجتمع ليوسف بن تاشفين وابنه علي "من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار"(3) وعلى ما يعتور هذا القول من مبالغة، فمراكش كانت وقتذاك معلمة فكرية وحضارية تضاهي بغداد في قمة عزها.
ونود من خلال هذه المحاولة التجاسر لتشكيل رأي وأخذ صورة جاهزة وجاهرة بالحياة الأدبية واتجاهاتها على العهد المرابطي، وذلك من خلال التعلق بنواحي النصوص واستنطاقها، والتي أتاحت لنا إمكانية اجتزاء ثلاثة اتجاهات بارزة.
* الاتجاه الديني: وهو الذي استبد بالشعر المرابطي لأن الدين هو الأساس الذي قامت عليه الدولة فكان أن سار الأدب في ركابها.
* الاتجاه الرسمي: وفيه رد على مزاعم الشقندي بأن الأندلسين لم يمدحوا يوسفا ولا المرابطين في شخصه إلا بعد تدخل المعتمد بن عباد.
* الاتجاه الذاتي: وفيه رد على الاتهام بسطوة الفقه على الأشعار.
ولعل في عرضنا لهذه الاتجاهات تجسيدا لبغيتنا التي تتلخص في صياغة جواب عن المزاعم التي لحقت المرابطين على المستويات الفكرية والأدبية، ولاسيما في ضوء ما ذهب إليه مصطفى الشكعة(4) من أنه كان لزاما على الشعر أن ينتكس بصورة أو بأخرى حتى تفهمه العامة، فضلا عن أنها تتيح لنا إمكانية دراسة المتون بمنأى ومعزل عن القضايا التي استأثرت باهتمام النقاد واستهلكت حيزا من جهودهم مما كان من مخلفات الاستعمار، توخى منه الباحثون تأكيد الهوية المغربية، إلا أن هذا النمط من الدراسات سيستمر إلى ما بعد الاستقلال، وقد آن أوان ضرب الصفح عنها.
تقفنا المصادر على نثر تأليفي انعقد الإجماع على التنويه به، وبخاصة مؤلفات عياض الدينية، إلا أن أهم ما يمكن تسجيله هو عدم تأثير التيار المذهبي المرابطي في الشعر على النقيض من التيار المذهبي الموحدي فيما بعد.
ومما لا يدع سبيلا للمراء والمماحكة أن الرؤية الدينية المرابطية قد شملت العدوتين، وسحبت بظلالها على الشعر الأندلسي، فتحولت المضامين عن اللهو والمجون إلى مواضيع الجهاد ومحاربة الكفر من مثل قول المعتمد بن عباد يمدح يوسف بن تاشفين:
لولاك يا يوسف المتقي = رأينا الجزيرة للكفر دارا

إلى أن يقول:
ستلقى فعالك يوم الحسا = ب تنثر بالمسك منك انتثارا
وللشهداء ثناء عليك = بحسن مقامك ذاك النهارا

وستقطع خلال هذا الجزء إلى القاضي عياض الذي كانت إبداعاته أكثر برا في الإفصاح عن الاتجاه الديني من غيره سواء من خلال كتاباته النثرية (5) أو من خلال أشعاره(6) ولا نرى ضرورة التعريف بالقاضي عياض، إذ حسبنا ذكر قولة (لولا عياض لما ذكر المغرب) التي تداولتها ألسن الدارسين للتدليل على مكانته، كما أنه أراد الرحلة إلى أحد الأشياخ بالأندلس فقال له ابن سراج: (لهو أحوج إليك منك إليه)(7) واعتبره أبو محمد ابن جعفر أنبل من وصل إلى الأندلسيين من المغرب(8).
طرق عياض أغلب الأغراض الشعرية، وإن ظل مشدودا للمديح النبوي الذي أخلص في التعبير عن اهتماماته المذهبية والدينية، لذلك سيكون مدار تركيزنا على القصائد الخمس التي عرض لها الأستاذ حسن جلاب بالتحليل في مقاله (تكريم النبوة في شعر القاضي عياض)(9) أما مطالعها فهي على التوالي:
قف بالركاب فهذا الربع والدار = لاحت علينا من الأحباب أنوار
بشراك بشراك قد لاحت قبابهم = فانزل فقد نلت ما تهوى وتختار

أما القصيدة الثانية فمطلعها:
إليك مددت الكف أستمطر الفضلا = وأستكشف البلوى وأستعطف الطولا
دعوتك مضطرا فعجل إجابتي = بتفريج كرب طالما واصل الهولا

والثالثة مطلعها:
يا عين هذا السيد الأكبر = وهذه الروضة والمنبر
فشاهدي من حرم المصطفى = من نوره الساطع ما يبهر

والرابعة مطلعها:
هذا الذي وخدت شوقا له الإبل = هذا الحبيب الذي ما منه لي بدل

وأما الخامسة فمطلعها:
بشراك يا قلب هذا سيد الأمم = وهذه حضرة المختار في الحرم

ولا يعدو اصطفاؤنا لهذه القصائد أن يكون اصطفاء منهجيا، إذ لا نعدم التوجه الديني في كثير من شعره ولاسيما تائيته المثبتة بكتاب الشفا، فالقصائد الخمس فضلا عن تميزها الكمي تشكل أنموذجا رائعا لتآزر الموضوع والمضمون والمعجم، أما باقي أشعاره فيحق لنا أن نقول إنها ابتليت بالاجترار ويستبد بها الطابع التعليمي التربوي.
تكاد المطالع التي أشرنا إليها تتوحد إذ لا تحيد عن الوقوف على الربع النبوي والفرح بذلك أو الدعوة إلى البكاء عند بلوغه، ولا تختلف إلا في طرق التعبير عن ذلك.
وبعد هذه الوحدة التمهيدية يأتي الغرض المركزي ذو الصبغة الموضوعية: ويتعلق بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم أو استعراض شمائله كما في قول الشاعر:
هذا الشريف الذي سادت به مضر = هذا الذي تربه كالمسك معطار
هذا الشفيع الذي ترجى شفاعته = للمذنبين إذا ما اسودت النار

وكذلك في قوله:
كل مقام قد سما قدره = في هذه الحضرة فهو مستصغر
تجمع الفضل بها والندى = والجود والسؤدد والمنجر

ثم في قوله:
هذا الذي من قريش قد سما نسبا = أبا وأما فمعنى المجد مكتمل

وهناك غرض مركزي ذو صبغة ذاتية: ويتعلق الأمر بالتوسلات، وفي هذا الباب يطلب الشفاعة ويستغفر لذنوبه.
يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي = فحوض فضلك مورود بكل صد
يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي = فالعبد ضيف الله لم يضم

وكذلك في قوله:
يا رحمة الله ويا شافعا = والناس في حسرتهم حير
دخيرتي حبك يا مصطفى = فإنه أفضل ما يدخر

ثم أخيرا تشتمل القصائد على وحدة ختامية: وهي التي يختم فيها الشاعر بالصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم وآله:
وصل يا رب على المصطفى = = وآله ما جادت الأبحرُ

ثم كذلك في قوله:
ثم الصلاة على المختار من مضر = خير البرية من عرب ومن عجم

وأيضا في قوله:
صلى عليه إله العرش ما سجعت = ورق وما نفحت في الروض أزهار
وآله وعلى أصحابه السعدا = ما لاح نجم وما تنهل أمطار

وهذا التقسيم الذي اقتبسناه من تحليل قام به ذ. حسن جلاب هو الذي اصطلح عليه بالبناء المركب. وهناك بناء آخر وهو الذي اصطلح عليه بالبسيط وفيه تختفي الوحدتان أو إحداهما لصالح الأخرى، ويختفي أحد الغرضين لفائدة الآخر.
بهذا الفهم يكون الخطاب الشعري عند القاضي عياض محددا فيما يأتي:
أ- ما يتصل بالمقام النبوي.
ب- ما يتصل بالرسول صلى الله عليه وسلم ويمثل المرسل إليه.
ت- ما يتصل بالشاعر ويمثل المرسل.
ويطيل الشاعر في الغرض الموضوعي الذي ينطوي على المدح واللهج بذكر شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم معتمدا التكرار على نحو يحدث تراكما كميا.
أما على المستوى المعجمي – في هذه النصوص- فتنتظمه ثلاثة أقسام:
أ- معجم الأماكن المقدسة وهو في الغالب مركز حول مكة.
ب- معجم خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم يشمل نسبه وشمائله وفيه استثمار للسيرة.
ت- معجم التوسل وفيه اعتراف بالذنوب وطلب العفو والمغفرة.
وقد أكثر الشاعر الاسترفاد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويتضح ذلك من خلال التضمينات والاقتباسات التي يلوذ بها، كما هو الشأن في قوله:
فكن شفيعي لما قدمت من زلل = ومن خطايا فإن الرب غفار

قال تعال: "إن الله يغفر الذنوب جميعا"

وكذلك في قوله:
يا مستجيبا دعوة المبتلى = ودعوة المضطر إذ يجأر

إشارة إلى قوله تعالى: "أمن يجيب المضطر إذا دعاه" وقد ضمن أشعاره بعض الأحاديث النبوية كما هو الشأن في قوله:
ذخيرتي حبك يا مصطفى = فإنه أفضل ما يذخر

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أحبني ... كان معي في درجتي يوم القيامة".
وعلى ما ذكرناه، فإن قصائد شاعرنا يغلب عليها الطابع السردي التقريري ولئن كان شاعرنا من أوائل من مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بالمغرب بمعية ابن أبي الخصال، فإن أشعاره تخلو من التشابيه والاستعارات التي هي آية الشعرية على نحو تستحيل معه حكيا للسيرة النبوية فضلا عن غياب التفاعل بين المكونات النصية. ولعل التوجه الديني قد نال من حرية الإبداع وقيده بشروط عطلت بسببها فعالية الخيال، وضعفت محفزات القول التي مجالها النثر – حسب الأصمعي-.
وبصرف النظر إلى الاتجاه الثاني أمكننا القول إن مدح الخلفاء والأمراء يعكس توجها رسميا إذ انبرى الشعراء لمدح المرابطين إيمانا منهم بضرورة توحيد العدوتين لإنقاذ الإسلام بالأندلس (10) ذلك أن الأوضاع السياسية والاجتماعية على عهد الطوائف قد آلت إلى فساد كبير، ولاسيما في ضوء ما حاق بالسكان من ظلم وجور الحكام على نحو ما صور الفازازي قائلا:
الروم تضرب في البلاد وتغنم = والجور يأخذ ما بقي والمغرم
والمال يورد كله قشتالة = والجند تسقط والرعية تظلم
وذوو التعيين ليس فيهم مسلم = إلا معين في الفساد مسلم

ويقول شاعر آخر:
مما يزهدني في أرض أندلس = سماع معتصم فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها = كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد

فهذه الأبيات قمينة بإزالة كل دواعي الدهشة والذهول حين تقرع أسماعنا صرخات الشعراء تلتمس عون الأمير، من مثل قول عبد الحق بن عطية مستغيثا(11).
ونحو أمير المسلمين تطامحت = نواظر آمال وأيد رغائب
من الناس تستدعي حفيظة عدله = لصدمة جور في ميورق ناصب
لنا الله والملك الذي يرتجى به = من الزمن المرتاب رجعة تائب

نستشف مما سبق تبرم الشعراء من سياسة الطوائف ورغبتهم في انبجاس عهد بديل يسوده الأمان والعدل مما يقودنا إلى الجزم بتوافر دواعي اللواذ بالمرابطين وتنويه الشعراء بهم وتسجيل مآثرهم بشكل يعبد سبل التوجه الرسمي في الشعر كما سنوضح ذلك.
تشكل الدواوين أهم المصادر التي تحتفظ لنا بالأشعار الرسمية من مثل ديوان الأعمى التطيلي وابن خفاجة وابن حمديس، والمعتمد بن عباد، وابن الرقاف، وابن قزمان، إضافة إلى كتب التراجم والطبقات كالقلائد والذخيرة والخريدة والإحاطة، وكذلك كتب التاريخ كالبيان المغرب وأعمال الأعلام.
وخلافا لما كان عليه الوضع على عهد الطوائف، لم يتخذ المرابطون لأنفسهم شعراء رسميين ولم يجعلوا للشعر مجلسا خاصا، وكانوا مع ذلك يجزلون العطاء لمن يمدحهم دون أن يسعوا إلى ذلك، وقد نتج عن عدم تأثير التيار المذهبي في الشعر على عهدهم أن ركز الشعراء على الخصال المدحية المتداولة في الشعر العربي، كما لم يفت الشعراء أن يشبهوا أعمالهم بما صدر عن السلف الصالح بحثا عن المشروعية الإسلامية، نحو قول ابن الجد في يوسف:
أنظر إلى الصبح سيفا في يدي ملك = في الله من جنده التأييد والظفر
يرعى الرعايا بطرف ساهر يقظ = كما رعاها بطرف ساهر عمر

ويقول المعتمد بن عباد أيضا في يوسف بن تاشفين:

لولاك يا يوسف المتقي = رأينا الجزيرة للكفر دارا
ستلقي فعالك يوم الحسا = ب تنثر بالمسك منك انتثارا
وللشهداء ثناء عليك = بحسن مقامك ذاك النهارا

وقد سلك الشعراء النهج نفسه في مدح علي بن يوسف على أنه لم يكن ذا قدم راسخة في ميدان الحرب كما هو شأن أبيه في معركة الزلاقة. فهذا الأعمى التطيلي يمدحه بنونيته الشهيرة والتي بلغت نحوا من سبعين بيتا تحرر فيها من المطالع التقليدية:
طليعة جيشك الروح الأمين = وظل لواءك الفتح المبين
وبعض رضاك للآجال ودنيا = وشكر ندَاك للآمال دين
جلبت الخيل مشرقة الهوادي = تعز على قيادك أو تهون
فآرام الصريمة أو مهاها = وليس سوى الرماح لها قرون
سوابح في غمار من حديد = فما تدري أخيل أم سفين

وقد التزم الشعراء جانب الوقار وركزوا على الدين في أمداحهم وأشادوا بشجاعة المرابطين وجهادهم.
يقول ابن خفاجة في إبراهيم بن يوسف:
أرأيك أمضى أم حسامك أقطع = وسرآك أبهى أم حديثك أسمع
وكل له في جانب الملك مسلك = كريم وفي نفس الإمارة موقع

وأداروا أمداحهم على المضامين ذاتها حتى في مدحهم للنساء المرابطيات وأبرز قول في ذلك ما جاء على لسان الأعمى التطيلي في حواء بنت تاشفين، وقد لخص خصال المرابطين.
دنيا ولا ترف، دين ولا قشف = ملك ولا سرف، درك ولا طلب
بر ولا سقم، عيش ولا هرم = جد ولا نصب، ورد ولا قرب

ولم تكن عناية الولاة والحكام ورجال الدولة بالشعراء دون عناية الأمير يوسف وابنه علي، فقد عرف عن إبراهيم بن تافلويت رعايته لابن باجة الفيلسوف، وألف الفتح بن خاقان كتاب "قلائد العقبان...." لإبراهيم بن يوسف يقر فيه بأفعال المرابطين على الأدب الأندلسي.
وإذا كان - الشقندي- في حملته على المرابطين – قد أشاع أن الأندلسيين أعرضوا عن مدح يوسف ولم يقبلوا عليه حتى توسط المعتمد في ذلك، فإن الثقاة من المؤرخين يثبتون العكس. وحسبنا في هذا الصدد قول ابن عذارى في "البيان المغرب"(13) "بادر إليه قضاة الأندلس وفقهاؤها وزعماؤها ورؤساؤها وأدباؤها، وشعراؤها، فامتدحه الشعراء، فأجزل لهم العطاء".
وبالنزوع إلى تحديد الخصائص العامة للاتجاه الرسمي في الشعر على عهد المرابطين سجلنا مايلي:
على مستوى المضمون:
* التركيز على الأصل العربي للمرابطين: قال ابن وهبون.
نما في حمير ونمتك لخم = وتلك وشائج فيها التحام

* وقال ابن اصخب:
ذؤابة المجد قحطان كلهم = أبوهم حمير ذو المجد أو مضر

ولما كان الأمر كذلك، فبدهي أن يسحب عليهم الشعراء الصفات نفسها التي عهدناها في أمراء العرب ونلفيها في الشعر القديم، وذلك لتشابه الأصل والذوق والشروط، وهذه الصفات هي الشجاعة والكرم.
قال ابن خفاجة:
إذا استمطرت منه غمام رحمى = أو استنصرت في يوم عصيب
ملأت يديك يسراها يسير = ويمناها بمخترط خسيب
فإن الغيث في بيض الأيادي = وإن الفوت في الخصر النصيب

فجانس بين الصفتين بواسطة غيث وغوث وهي مجانسة ذات دلالة، فليس هناك أشجع وأكرم من أن يبذل الإنسان ماله وروحه.

ويقول ابن خفاجة أيضا:
إن جاد جاد هناك خاتم طي = أو صال صال ربيعة بن مكدم
وإن استجرت به استجرت بهضبة = مأوى الطريد بها وكنز المعدم

وفي عادة التلثم يقول ابن سارة:
وتلثموا صوتا لرقة أوجه = جعل السماح شعارها ودثارها

ولم يسلم الاتجاه الرسمي على عهد المرابطين من الصبغة الدينية، وذلك سيرا على سننهم المجتبى من هنا جاء تركيز الشعراء على نصرتهم للدين، وأشار ابن سوار إلى جهود يوسف في هذا المجال عندما قال راثيا:
اسمع أمير المؤمنين وناصر ال = دين الذي بنفوسنا نفديه
جوزيت خيرا عن رعيتك التي = لم ترض فيها غير ما يرضيه
في كل عام غزوة مبرورة = تردي عديد الروم أو تفنيه

وفي هذا الصدد يقول الأعمى التطيلي:
هم ثبتوا الدين إذ ضاقت مذاهبه = بأنفس صيغ منها الدين والحسب

وفي ظلال انتشار العدل يقول ابن رحيم ما دحا إبراهيم بن يوسف:
قسطت عدلك بين الناس فاعتدلوا = وللحاكمين تقسيط وتقسيم
لله فضلك ما يلقاك مكتتب = إلا انتنى وهو مسرور ومعلوم

وفي زهدهم بقول ابن عطية:
بادرت أجرك في الصيام مجاهدا = ما ضاع عندك للثغور دمام

أما وقد قام المرابطون بعدة معارك طاحنة مع الإسبان، فلم يتوان الشعراء في وصفها، عامدين إلى تكثيف المعجم الحربي، وتكرار الصور والمشاهد الحربية بقول ابن عطية.
في مأزق فيه الأسنة والظبا = برق، ونقع العاديات غمام
والضرب قد صبغ النصول كأنما = يجري على ماء الحديد ضرام
والطعن يبعث النجيع كأنما = يشق عن زهر الشقيق كِمام(14)

أما على مستوى الشكل في هذه القصائد فنلحظ مايلي:
1- بناء القصيدة: نوع الشعراء في مطالعهم ما بين دخول مباشر إلى الموضوع، وما بين مقدمات طللية أو غزلية أو خمرية، ويعتبر ابن خفاجة أكثر الشعراء التماسا للبناء التقليدي مما يعكس الأثر المشرقي في الشعر الأندلسي.
2- أما من حيث الحجم فخاصية الطول تبدو طاغية على قصائد هذا الاتجاه وهو ما يفسر حماس الشعراء وإقبالهم على مدح المرابطين والإسهاب في استعراض أفضالهم. وقد برز في هذا الاتجاه الشاعر الأعمى التطيلي الذي بلغت بعض قصائده أزيد من (200) بيت شعري.
3- ونلحظ تغليب القصائد الطوال على حساب شبه تغييب للنصوص القصيرة مع استبداد البحور الطويلة على اعتبار أن الأعاريض الطويلة الفخمة إنما تصلح لمقاصد الجد كما يذهب إلى ذلك حازم.
أما على مستوى القوافي فأغلب حروفها من الجهيرة كالراء والميم واللام والباء والنون والعين مما يقوي من الجانبين الموسيقي والدلالي للنص.
* أما الاتجاه الثالث فهو الاتجاه الذاتي الذي بعرضه نستكمل الجواب عن السؤال المطروح منذ بداية هذا البحث، ويجسد تنوع الإبداع على العهد المرابطي، ولعل هذا الاتجاه قد ساير أيضا طبيعة الدولة الدينية فلم يكن بالمبالغ فيه، ولا كان على قلته من النوع المكشوف الناضح بالرعونة على غرار ما كان على عهد الطوائف(15).
ومن نماذج هذا الاتجاه قول القاضي عياض:
رأت قمر السماء فأذكرتني = ليالي وصلها بالرقمتين
كلانا ناظر قمرا ولكن = رأيت بعينها ورأت بعيني

جماع القول إذن إن الشعراء على العهد المرابطي قد نوعوا القول في أغراض شتى. فعرفوا والشعر الديني ذو الصبغة التعليمية التربوية، والشعر الرسمي الذي استهلك في الغرض الموضوعي وهو المدح فخلع على الأمراء والملوك ألوانا من الخصال والأوصاف الجليلة.
كما أبدعوا أيضا في الشعر العاكس للنزوع الذاتي والخارج عن جدلية الشاعر والسلطة ولعل كل اتجاه من هذه الاتجاهات إنما يشكل جوابا للتساؤلات التي ألحت علينا منذ البدء، فالاتجاه الديني تجسيد لتوجه الدولة العام: أما الرسمي ففيه رد على مزاعم الشقندي فيما يشجب الذاتي فكرة استبداد الفقه بالأشعار.


الهوامش:
1- عبد الواحد المراكشي: "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" ص: 172.
2- ريتهرت دوزي، تاريخ مسلمي الأندلس، ج 2، ص: 239.
3- المعجب، ص: 164.
4- "الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه" مصطفى الشكعة، ص: 225.
5- له عدة كتب في الفقه والسيرة والتراجم منها، شارق الأنوار ...، ترتيب المدارك. بغية الرائد...، الغنية....، الشفا....، وله عدة رسائل أخوانية وخطب مثبتة بالقلائد وبكتاب "التعريف"لانبه محمد.
6- له أشعار كثيرة ومتنوعة، وسنقتصر على تلك التي مدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
7- التعريف، ص: 106.
8- نفسه، ص: 108.
9- الأستاذ حسن جلاب مجلة الموقف، ع 9، ص: 37، والمقال جزء من أطروحة الدولة المكونة من 3 أجزاء وهي مطبوعة.
10- هناك رسائل للغزالي وأخرى للطرطوشي في هذا الصدد يطلبان من يوسف أن يوحد العدوتين.
11- "نفح الطيب" ج 2، ص: 210-211.
12- "قلائد العقبات" ص: 223.
13- "البيان المغرب"، ابن عذاري ج 4، ص: 48.
14- ومهما يكن من أسد، فمدح المرابطين باللثام وبأصلهم الحميري، ومدح الأعمى التطيلي للنساء المرابطيات عناصر جزئية انضافت إلى هذا العهد.
15- تقول ولادة، غريمة ابن زيدون في أبيات وردت بالذخيرة ق 1، ج 1، ص: 380.
أنا والله أصلح للمعالي = وأمكن عاشقي من صحن خدي
وأمشي وأتيه تيها = وأعطي قبلتي من يشتهيها


الحسين أيت مبارك
 
أعلى