نقد مصطفى الحاج علي - المكونات المفهومية لمصطلحي الجماعة والحزب

المتتبع، بدقة، لمعنى ((الجماعة)) في اللغة العربية لابدّ من أن تستوقفه التعريفات التالية:
أولاً: جاء في ((لسان العرب)) لابن منظور أن ((الجماعة)) أصلها من الجَمع، والجَمع: ((اسم لجماعة الناس، والجَمع مصدر قولك: جمعت الشيء، والجَمع: المجتمعون، وجمعه: جموع. والجماعة والجميع والمجتمع والمجتمعة كالجميع. وقد استعملوا ذلك في غير الناس حتى قالوا جماعة الحيوانات وجماعة النبات. وجاء فيه أيضاً: جمعت الشيء إذا جئت به من هنا وههنا)).
ثانياً: جاء في ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي: ((الجَمع كالمنع: تأليف المتفرق ... )).
ثالثاً: جاء في ((معجم مقاييس اللغة)) لأحمد بن فارس بن زكريا، الجماعة أصلها من الجَمع و ((جمع: الجيم والميم والعين أصل واحد يدل على نظام الشيء. يقال: جمعت الشيء جمعاً)).
رابعاً: جاء في ((المُغرب في ترتيب المعرب)) لأبي الفتح المطرزي، الجَمع هو: ((خلاف التفريق وهو مصدر جمع ( ... ) (والجَمع)، أيضاً، لجماعة تسمية بالمصدر، يقال: رأيت جمعاً؟ من الناس وجموعاً)).
خامساً: جاء في ((مجمع البحرين)) لفخرالدين الطريحي: ((الجَمع مصدر قولك: جمعت الشيء)) وقد يكون اسماً لجماعة الناس، ومنه، أيضاً: ((اجمعت الرأي وعزمت عليه)).
تظهر هذه التعريفات أن ((الجماعة)) اجتماع لكن ليس مطلق اجتماع. فهي باعتبار جذمها (ج.م.ع) الذي يفيد ((نظام الشيء))، وباعتبار اصلها ((الجَمع)) الذي يفيد ((تأليف المتفرق)) أو ((خلاف التفريق))، أو ما يفيد العزم والإمضاء كأجمعت الرأي وعزمت عليه حسب ما جاء في ((مجمع البحرين))، أو هي ((طائفة من الناس يجمعها غرض واحد)) حسب الإفصاح والمعجم الوسيط، تبدو ((الجماعة)) بمثابة هيئة أو صورة معينة هي حصيلة فعل تأليفي أو توحيدي، أي هي صورة نتاج هذا الفعل، لا مجرد اجتماع صدفي أو عشوائي وليد أسباب طارئة وظروف عابرة. فالمقتضى لحضور الجماعة وتجسدها مقتضى جوهري، ويشكل هذا المقتضى فعل إجماع ذاتي وإمضاء داخلي لدى أفراد الجماعة بحيث يشكل كل من الإجماع والإمضاء نوعاً من الالتفاف حول هذا المقتضي والتمسك به. بكلام آخر، فإن الجماعة باعتبارها تلك الصورة الخاصة الناتجة عن فعل توحيدي معين في اتجاه غرض معين فهي لابدّ معلولة لهذا الفعل التوحيدي. وإذا كان المعلول لابد من أن يكون من سنخ العلة، فلابد من أن تمثل ((الجماعة)) بحضورها، ذلك البعد التوحيدي القائم أصلاً على العناصر الأولية المؤلفة والنابذة في آنٍ للافتراق والاختلاف. إذاً، من شروط ((الجماعة))، حتى تكون ((جماعة))، التماسك حول غرض جوهري معين، بحيث يشكل هذا الغرض القاسم المشترك المحرك والمبرر أصلاً لنظام عناصر الجماعة واجتماعها بعضها إلى البعض الآخر، فمع تصور زوال ذلك القاسم المشترك، أو ذلك الغرض الجامع والمؤلف، لا يمكن تصور استمرار الجماعة. فالغرض، أو المقتضى اللازم أو المؤلف يُعتبر من اللوازم الذاتية لتشكل ((الجماعة)) مفهوماً ومصداقاً. إن ((الجماعة)) بوصفها ((ضد المتفرق))، أو ((خلاف التفريق)) تشكل العنوان الأمثل للتوحد أو الاندماج في إطار موحد وفي عملية توحيدية مجالها الحيوي الجماعة نفسها في تجليات المصير والاستمرار والبقاء. وبالاتكاء على هذه الخلاصة لا يمكن إسقاط مفهوم الجماعة على مطلق تجمع كما ذهبنا ابتداءً. هذا في جانب، وفي جانب آخر، فإن الجماعة تكتسب، بهذا المفهوم، قدسية خاصة وتقديراً رفيعاً. فهي ليست مجرد اجتماع ((ميكانيكي)) لعناصرها، بل فعل توحيد يستند إلى تلاقي إرادات وعزائم وقناعات، وبالتالي، تشكل مهبطاً لروح عامة جامعة ومؤلفة. كما تشكل الجماعة حاجة تاريخية للمضي قدماً في عملية بناء الإنسان لذاته ولمجتمعه ولبيئته، وبالتالي، الإسهام في الإنجاز الحضاري للإنسان. من هنا، يبدو الخروج على الجماعة ليس مجرد انفصال عادي لا يمس وجود الجماعة ومصيرها ولا يخدش قيمها ومبادئها. فمجرد الخروج يعني أن الخارجين قد نقضوا وحدة الجماعة التي هي جوهر وجودهم وبالتالي نقضوا مقوّمات هذه الوحدة وعناصرها، أي وضعوا أنفسهم في مقابل المبادئ المؤلفة والموحدة التي قامت عليها أصلاً وهذا بدوره يعني أن الخروج يمس جوهر وجود الجماعة وبقائها. ولذا لا يمكن التساهل مع ما يهدد الوجود والبقاء والاستمرار، فالخروج على الجماعة هو بمثابة نفي للجماعة بحضورها الوجودي الضاربة جذوره في أعماق الوحدانية الخالصة. فالخروج إلغاء للجماعة وإيجاد مسارب لها في اتجاه الاستهلاك الصراعي والنزف في اتجاه الانحلال والزوال.
هذا المضمون التحليلي لمفهوم الجماعة لا يقتصر على التعريفات اللغوية بل ينسحب أيضاً على قسمٍ خاص من النصوص النبوية ويتجاوزها على نحوٍ هام ومتطور في نصوص أخرى بحيث تشكل في مجموعها تصوراً خاصاً لسمات الجماعة ولوازمها الذاتية ولعملها ومجالها الحيوي. وبالنظر إلى مجمل هذه النصوص نجد أن هناك نصوصاً تأمر بلزوم الجماعة وتنهى عن الفرقة وتحذر منها مثل قوله (ص): ((أيها الناس عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة)). ويبدو واضحاً، أن الجماعة وضعت في مقابل الفرقة، أي أن الجماعة، هنا، تظهر كحالة وحدوية يعني الخروج عليها تهشيماً لهذه الحالة وضرباً لها. فالأمر بلزوم الجماعة من قبيل الأمر والدعوة إلى الالتزام بالوحدة في سياق الالتزام بعملية التوحيد التي هي جوهر الإسلام نفسه. ومن الواضح، أن الإسلام لا يقر أي وحدة ولا يعترف، بالتالي، بمطلق اجتماع، وإنما يعتبر الوحدة الحقيقية هي تلك الناتجة عن الالتزام والتفاعل العميق مع الإسلام نفسه في كل تجلياته. من هنا، يبدو الخروج على الجماعة خروجاً على الوحدة والخروج على الوحدة خروجاً على الإسلام نفسه. فالجماعة هنا التي لها قدسية الالتزام والتي هي محل تقدير واحترام هي تلك الجماعة التي تبدو في حضورها تجسيداً لحضور الإسلام نفسه، وبالتالي، فالخروج عيها، أو الارتداد عنها يصبح خروجاً وارتداداً عن الإسلام نفسه، ضمن هذا السياق يمكن أن نجد نصوصاً واضحةً في السنة النبوية، وتلك النصوص تبرز في معظمها دعم الله عزوجل للجماعة في مقابل إنجرار الخارجين عليها مع تيار الشيطان، فدائماً: ((يد الله على الجماعة، والشيطان مع مَن خالف الجماعة يركض))، و ((يد الله على الجماعة فإذا اشتذّ الشاذ منهم، اختطفه الشيطان، كما يختطف الذئب الشاة الشاذة من الغنم)). ولا شك، أن حدود الدعم الإلهي وحجمه للجماعة يتوقف على مدى تجسيدها الحي للدعوة الإلهية، وبالتالي، فإن هذا الدعم ينكمش أو يتقلص أو يتوقف بحسب درجة ابتعاد الجماعة عن أن تكون المجال الحيوي الفعلي للدعوة. وبمجرد أن يكون الخروج على الجماعة دخولاً في سلك الشيطان، والشيطان يمثل دائماً الخط المنافي والسالب والهادم للدعوة الإلهية، يصبح واضحاً أن المقصود بالجماعة جماعة الإسلام في حضورها الإنساني الحي والفاعل، ذلك الحضور الجوهري والصميمي لا مجرد الحضور الشكلاني. وفي هذا الإطار، نجد نصاً صريحاً يؤيد ما ذهبنا إليه، فقد نقل عن الرسول (ص) القول بأن ((مَن خرج من الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ... )). فالخروج هنا، خروج على الإسلام نفسه، وليس خروجاً على تكتل الجماعة وأعضائها. فالخروج هنا، انتهاك لحرمة الإسلام، لا لحرمة الأفراد الذين أفرز نظامهم هيئة الجماعة. وهذا يعني أن قدسية الجماعة ومنزلتها مستمدتان من قدسية الإسلام نفسه ومنزلته، فالجماعة لابد من أن تساوي الإسلام في حضورها وإلا تفقد قدسيتها ومنزلتها، والجماعة التي يشكل الخروج عليها دخولاً في دائرة الكفر هي تلك التي تشكل المهبط الكلي للإسلام نفسه. من هنا، بات الالتزام، أيضاً، بالجماعة دخولاً في مسالك الرحمة وشعبها وخروجاً من أتون العذاب وقهره. فـ ((الجماعة رحمة والفرقة عذاب))، والرحمة هي أولاً وأخيراً رحمة الله، هي الإمداد الإلهي نفسه بالنعم، وإفاضته المستمرة بالعطاء ولا يمكن أن تستحق، في المفهوم الديني على الأقل، ـ الجماعة ـ نعم الله التي هي من إفاضات رحمته إلا إذا كانت ملتزمة بسلك الطاعة والالتزام والتقيد بالأوامر والنواهي الإلهية. وباعتبار الإسلام مقياس تشكل الجماعة والمائز النوعي لحضورها، ومن باب التطابق الفعلي القائم بينهما في المنظور النبوي، يمكن أن نقرأ النصوص الأخرى التي تقيم ضرباً من التلازم الجوهري بين الجماعة والحق. فقد سئل رسول الله (ص) عن جماعة أمته؟ فقال: جماعة أمتي أهل الحق وإن قلّوا. وقيل له (ص) ما جماعة أمتك؟ قال: مَن كان على الحق وإن كانوا عشرة. كما سئل أمير المؤمنين (ع) عن الجماعة، فقال: ((الجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلاً، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً)). فإدخال عنصر الحق إلى مفهوم الجماعة ينسجم تماماً مع التطابق التام الذي أقامته النصوص النبوية بين الإسلام والجماعة نفسها. فالإسلام هو الخط الفاصل بين الحق والباطل، وبالتالي الاندراج في الإسلام يعني الاندراج في دائرة الحق الذي تجسده حقائق الإسلام نفسه وبالمقابل، فإن الخروج على الإسلام، لابدّ من أن يعني الدخول في دائرة الكفر، أو في دائرة الباطل، وبهذا المعنى، فأهل الحق هم تلك الجماعة المجسدة فعلاً وقولاً، شكلاً ومضموناً، لقيم الحق، أي لقيم الإسلام، والتي يشكل وجودها تجسيداً حياً لهذه القيم، وبهذا الاعتبار لا يصبح للعنصر العددي دور مسهم في تشكل الجماعة وحضورها. فالجماعة بهذا المفهوم لا تعود خاضعة لمقياس الأكثرية والأقلية، وبالتالي لا تكون مفهوماً ديموقراطياً بمعنى أنه لا يخضع لسجال الأكثرية والأقلية في حركة الواقع الإنساني عموماً والسياسي خصوصاً. في ضوء هذه القاعدة يمكن أن نضع الأحاديث التي تحاول أن توحي بأن خيار الأكثرية والأقلية موجود في الإسلام موضع تساؤل ومحل علامات استفهام كبرى، أو موضع نظر جديد. فهناك تطابق تام في المعنى بين الجماعة والإسلام ومفهوم أهل الحق، وبالتالي، فإن التلازم العقلي والموضوعي بين هذه التصورات قائم، لكن نفتقد مثل هذا التلازم في المعنى بين الجماعة والإسلام ومفهوم الأكثرية أو مفهوم ((السواد الأعظم)) حسبما جاء في بعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، فليس ثمة مَن يستطيع الإدعاء بأن الأكثرية يمكن أن تمثل مقياساً للحق والباطل، وبالتالي، مقياساً للجماعة والإسلام نفسه في ضوء المعاني الآنفة. بل على العكس من ذلك تماماً، فإن المتتبع لمسار الخطاب القرآني الخاص بمسألة الأكثرية والأقلية لا يسعه إلا أن يتوقف عند تلك الإشارات المتتالية التي لا تقيم شأناً أو وزناً للأكثرية، بل إن القرآن الكريم في كثير من آياته يعتبر دائرة الباطل واللاعقلانية هي دائرة الأكثرية، بينما دائرة أهل الحق والعقلانية هم القلة. بل إن المتتبع الدقيق لمسار حركة النبوة في التاريخ لابدّ من أن يلحظ بأنه كانت دوماً حركة خاصة بالقلة من الناس إن لم نقل بالصفوة منهم. وليست عمليات العقاب الجماعي التي كانت تلحق بالأمم الغابرة والتي تحدث عنها القرآن وعدم نجاة، سوى القلة من الناس، منها، إلا دليلاً قاطعاً على التطابق المستمر بين القلة وأهل الحق والدعوات الإلهية في التاريخ.
فالأحاديث التي تنص على ضرورة لزوم الأكثرية في حال الاختلاف من قبيل: ((إن أمتي لن تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم)) يبدو وكأنها تقف في مواجهة الأحاديث التي نصّت على اعتبار الجماعة ((أهل الحق وإن قلوا)). فمقابل مفهوم ((أهل الحق))، تم وضع مفهوم ((السواد الأعظم))، وفي هذا الصدد تبدو ثمة محاولات مستترة للترويج لمفهوم الأكثرية من ضمن سياق الصراعات التي قامت باكراً في التاريخ الإسلامي والتي انتهت في أوقات لاحقة لنشوء ((جماعات)) متعددة ضمن الإطار الأعم للمجتمع الإسلامي، وبالرغم من ذلك، فإن التفسيرات التي أعطيت للسواد الأعظم حاولت أن توفق بينها وبين مفهوم ((أهل الحق)). فقد ذهب السيوطي في تفسيره للسواد الأعظم إلى اعتبارها ((جماعة الناس ومعظمهم الذين يجتمعون على سلوك النهج المستقيم ... )). في حين ذهب ابن مسعود صراحة إلى اعتبار ((السواد الأعظم)): ((مَن هو على الحق ولو واحداً))، إن مجرد محاولات صرف معنى ((السواد الأعظم)) في اتجاه مفهوم ((أهل الحق)) يؤكد ضمناً على حقيقتين أساسيتين: الحقيقة الأولى تنص على أن العلماء القدامى كانوا مقتنعين في قرارة أنفسهم إن مجرد الأكثرية لا تشكل مقياساً للحق والباطل. لذا تم تقييدها بضرورة ((سلوك النهج المستقيم)) أو صرفها صراحة في اتجاه مفهوم ((أهل الحق وإن قلوا)). والحقيقة الثانية تنص على عملية الاقتناع الداخلي وعملية الصرف في اتجاه مفهوم ((أهل الحق)) ما كانت لتتم لولا ثبوت النصوص التي ورد فيها التأكيد على أن الجماعة هم ((أهل الحق وإن قلوا)). وفي نفس الإطار، يمكن إدراج الأحاديث التي تقيم نوعاً من التطابق بين الجماعة والحاكم من قبيل القول التالي المنسوب إلى الرسول (ص): ((مَن رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه مَن فارق الجماعة شبراً فمات، مات ميتة جاهلية)). أو ما نسب إلى أبي عبدالله الحسين (ع) حيث قال: ((مَن فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى الله عزوجل أجذم)). فالحديث الأول صريح في اعتباره الخروج على الأمير خروجاً على الجماعة نفسها، في حين أن الحديث الثاني يعطف ((نكث صفقة الإمام)) على مفارقة الجماعة ويعتبرهما في النتيجة شيئاً واحداً. إن إقامة تلازم بين ((الجماعة)) و ((الإمامة)) أو ((الإمارة))، أي بين ((الجماعة)) والسلطة، لا يمكن أن يستقيم، وفي ضوء ما أسلفنا، خارج إطار الإمامة الشرعية التي تجسد الإسلام تجسيداً فعلياً في أقوالها وأفعالها في إجرائها للمسائل والأحكام وفي بتِّها للقضايا العامة وتدبيرها للسياسة الخاصة بشؤون الأمة. فالتماهي بين الإمامة والجماعة ليس مفهومياً فحسب وإنما على مستوى التجسيد العملي. فالجماعة لابدّ من أن تكون ((أهل الحق وإن قلوا))، والإمام الذي يفترض أن يقود الجماعة ويسهر على أن تبقى منضبطة في المسار الإسلامي لابدّ من أن يكون مجسداً هو أيضاً للإسلام متفاعلاً معه سابراً لأغواره القريبة والبعيدة. فالتجانس يفترض أن يبقى مستمراً، في خط الإسلام، بين الإمامة والجماعة، أو بين مركز السلطة الأول في مرحلة غياب السلطة الأم المتمثلة بالرسول (ص)، بل لابدّ من أن تكون الإمامة امتداداً لخط النبوة نفسها تهتدي بها وتسترشد خطاها. فوظيفة الإمامة ليست وظيفة سياسية بحتة، أو مجرد إملاء مركز إداري لتصريف شؤون الناس. فالوظيفة الأولى للإمامة التي شدَّد عليها جميع الفقهاء الأعلام وحتى الفلاسفة والمتكلمون تتمثل في الدرجة الأولى في حراسة الدين، فالإمام، أو الأمير، هو في الدرجة الأولى، حارس للدين. والحارسية تلزم الإمام بمهمتين رئيسيتين:
الأولى: دفاعية تتمثل في حماية الدين نفسه من الاختراق من الأفكار المنحرفة والعقائد الضالة والادعاءات الباطلة وباختصار حماية الدين من كل ما يمكن أن يمس جوهره بالخدش والتشويه والتحريف والتضليل .. من قريب أو من بعيد، فالإمام باختصار هو حارس النص الإلهي والمؤتمن عليه.
والثانية: هجومية، تتمثل في العمل على تطبيق أحكامه وإقامة حدوده وإنفاذ أوامره ونواهيه فضلاً عن نشر دعوته نفسها. ومن الواضح، إن هذه المهام تستلزم توفر شروط ومواصفات رئيسية وجوهرية في شخصية الإمام لكي يستطيع أن يؤديها على أكمل وجه وبنجاح فائق. ومن أولى هذه الشروط أن يكون الإمام نفسه محصناً من اختراق كل ما ينتهك المبادئ والقيم والأفكار والمعتقدات والتشريعات الدينية. وهذا يعني، ضمناً، أمرين:
الأول: أن يكون الإمام على درجة عالية من الحصانة الخلقية والروحية بحيث تكون نفسه في متناول يديه.
والثاني: يفترض أن يكون قد خرج من رحم الإسلام وانصهر في اتونه، بحيث باتا شيئاً واحداً، فبدون التفاعل العميق في شخصية الإمام، بينه وبين الدين لا يمكن تصور حراسة فاعلة وحماية حقيقية لهذا الدين.
باختصار شديد إن الإمامة هي منصب جدير بمن يمثل الحق. فإذا كان الخروج على الإمام يساوي في النتيجة الخروج على الجماعة فلابد من تماثل بين الإمام والجماعة في الواقع الموضوعي. ولا شك، إن هذا التماثل لابد من أن يكون في دائرة الحق. فالمحدد الرئيسي للجماعة هو الحق، أو قل تماثلها مع الحق، لا القيمة العددية لجهة الكثرة أو القلة، وكذلك الأمر بالنسبة للإمام. من هنا، فإذا كان ثمة جماعة لها الحق في اختيار الإمام وإفرازه أو تزكيته، فهي جماعة أهل الحق. فأهل الحق هم الجديرون فقط في اختيار الإمام الحق أو تزكيته. استناداً إلى هذه النتيجة، وإلى ما قد أسلفنا حتى الآن، لا يمكن أن نوافق مع مَن ذهب إلى اعتبار الجماعة في أكثريتها يمكن أن تشكل الهيئة الصالحة لاختيار الإمام، وبالتالي، إعطاء عامل القيمة العددية دوراً محدداً لطبيعة الجماعة والإجماع على غرار ما ذهب إليه الدكتور رضوان السيد في بحث له عن ((تكون مفهوم الأمة في الإسلام))، وذلك في معرض توصيفه لما حدث في السقيفة حيث سجل قائلاً: ((لقد احتجّ الأنصار بأنهم سكان المدينة الأصليون ومن حقهم أن يحكموا دارهم بأنفسهم. بينما احتج المهاجرون بأن مصلحة الإسلام المستقبلية تقتضي أن يلوا هم الإمامة. وتوجه كلا الطرفين للمسلمين طالبين تأييدهم فيما ذهبوا إليه. فوقفت الأكثرية إلى جانب المهاجرين وزعيمهم أبي بكر فولي الأمر، ويعني هذا أن السلطة للجماعة، لأكثريتها، لا جماعها)). فالاختيار، وفق رأي الدكتور السيد، ليس لعموم الجماعة وإنما لأكثريتها، والأكثرية هي التي تمثل الإجماع أيضاً لا اتفاق عموم أفراد الجماعة حول أمرٍ ما، وبالتالي، فنحن إزاء تطبيق معين لمبدأ الديموقراطية، هذا المبدأ الذي يقرر إخضاع الأكثرية للأقلية، وهذا ما يتناف تماماً مع طبيعة المحدد المبدئي للجماعة كما أثبتته النصوص النبوية، كما يتنافى مع الموقف القرآني من مسألة العلاقة بين الأكثرية والأقلية. والغريب أن الدكتور السيد في موقفه هذا لا يستند إلى أكثر من مجرد الواقعة نفسها لاستخلاص ما ذهب إليه، وبالتالي، فهو لم يتجشم البحث عن مرجع لهذا الموقف في النصوص، بالرغم من وضعه للنص في مرتبة رفيعة لجهة تشكل المفاهيم الإسلامية في إطارها الأعم، أو لجهة تشكل الجماعات الإسلامية نفسها. صحيح أن الدكتور السيد ادعى أن ((النصوص القرآنية والمأثورات النبوية، قد اختارات، مؤسسة الجماعة أو أمة الإجابة بعد النبي طريقاً للوصول إلى مؤسسة الأمة الشاملة. أنها إذن جماعة الله، بمعنى أنها الجماعة التي أوكل إليها الله تحقيق إرادته في العالم، تطبيق شريعته فيه، وهي بهذا تتساوى مع الرسول في عصمتها عن الخطأ في ارتباط إرادتها بإرادة الله))، لكن ما لم يدقق به الدكتور السيد هو طبيعة هذه الجماعة، ((جماعة الله))، التي من شأنها أن ((تتساوى مع الرسول في عصمتها عن الخطأ في ارتباط إرادتها بإرادة الله)). فهل الجماعة، منظور إليها في أكثريتها، هي ((جماعة الله)). كما ذهب، أم أن جماعة ((أهل الحق)) هي ((جماعة الله)) كما أثبتتها النصوص النبوية، وبالتالي، فهل أن محل تحقق العصمة هي الجماعة في أكثريتها، أم أن محل تحققها جماعة ((أهل الحق)) بمعزل عن القيمة العددية لهذه الجماعة؟. في هذا النص تبدو الجماعة بوصفها ((أمة الإجابة)) كأنها مقصودة في عمومها لا بصفتها الأكثرية ما لم نعتبر موقفه الأول بمثابة تطوير لموقفه الثاني، أو توضيح له. بيد أننا نجد له تعريفاً آخر للجماعة يأخذ بعين الاعتبار العناصر المقومة لها، فالجماعة، بنظر الدكتور السيد، هي: ((دار وأمة وإمام))، والآن هل يفترض هذا التعريف معطوفاً على رأيه السابق، أن تكون العناصر المقومة للجماعة معصومة أم لا؟ إن إمكان تصور عدم عصمة الإمام مع فرض عصمة الأمة لابد من أن يهز عصمة الجماعة ويصيبها بالارتباط، كما أن العكس صحيح في ضوء تصور الدكتور السيد. ولذا، فلكي يستقيم تصور العصمة للجماعة لابدّ من تصور العصمة للأمة والإمام معاً. إن الأمة المعصومة تقتضي إماماً معصوماً وإلا اهتزت عصمة الجماعة وتصدعت. ومن الواضح، إن عصمة الأمة تجعل عصمة الإمام تحصيل حاصل، بل لا يمكن تصور عصمة الأمة إلا مع عصمة الإمام وفي حالة رئيسة هي تلك الحالة التي يكون فيها التزام الأمة بالإمام التزماً كاملاً لا محيد عنه ولا خروج عليه فعصمة الإمام شرط ضروري لازم لكي تنضبط حركة الجماعة ي الإطار المعصوم وفي المسار الدقيق والسليم لحركة النص. فالإمام، كما قلنا سابقاً هو حارس الدين أو حارس النص والمؤتمن عليه وبه مناط أمور المسلمين وقيادتهم، وبالتالي، فإنه مع فرض ضرورة العصمة لابد من أن تكون فيمن ينوب عن الرسول ويحل مكانه، ومن ثم يؤدي كل وظائفه باستثناء وظيفة تلقي الوحي نظراً لانقطاعه مع خاتم النبوة محمد (ص)، ولأن به مناط التنفيذ المباشر لإرادة الله ضمن الجماعة الإسلامية وفي العالم. فكما أن الرسول (ص) هو محل الارتباط بين السماء والأرض، بين المتعالي والإنسان، بين المطلق والمحدود عن طريق الوحي، فإن الإمام يؤدي الارتباط نفسه لكن عن طريق النص. فمع ارتفاع النبوة من الأرض وانقطاع الوحي لا يبقى هناك سوى النص، ولا يمكن إنفاذ النص في الواقع الموضوعي، وتوفير السجال الصائب بينه وبين الإنسان، ومن ثم إطلاقه في سياق الصيرورة التاريخية، فضلاً عن حراسته من التلاعب وضمان استكشاف مكنوناته الحقيقية، وبالتالي، إصابة الواقع، إلا من خلال تصورين أساسيين:
الأول: أن تكون الجماعة التي هي محل هبوط النص والمعنية به مباشرة قد بلغت مرحلة متقدمة من الوعي والنضج الروحي والعقلي والأخلاقي فضلاً عن التفاعل العميق والواعي مع النص نفسه بما يكفل ارتفاع الجماعة إلى منزلة النص، وهذا ما لم يدعه أحد أنه حدث حتى الآن في التاريخ الإسلامي. وهذا يعني أن مهمة إنفاذ النص في التاريخ لا يمكن إيكالها إلى مجموع الأمة أو إلى الجماعة التي هي محل مهبط النص وتجسيده وليس أدل على ذلك من الأحاديث المأثورة عن الرسول (ص) والتي تكشف عن حالة التمزق التي ستصيب الجماعة الإسلامية في المستقبل. فقد جاء عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله (ص): ((إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على إثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)). وهذا النص يؤكد ضمناً على عدم بلوغ الأمة حالة العصمة سواء بعد وفاة الرسول أو في المستقبل وغلا ما كان لها أن تتمزق هذا التمزق الكبير والشاسع. ويؤكد، أيضاً، على أن الجماعة لا تنطبق على عموم الأمة وإنما على طائفة منها التي هي وحدها الناجية. ولا شك أن سبب نجاتها متعلق بانجذابها لحد الحق وتجسيدها له وإلا لا معنى لنجاتها. فالفرقة الناجية لا شك أنها جماعة ((أهل الحق)) لا مطلق جماعة سواء في عمومها أو أكثريتها.
والثاني: يفيد أنه مع انعدام توسيط الجماعة كمحل ربط بين النص وحركة الواقع الموضوعي في سياق الصيرورة التاريخية والتحولات الاجتماعية وغيرها، ومع انعدام تدخل الوحي مرة ثانية، ومن ثم انعدام التدخل الإلهي المباشر، فلا يبقى من خيار سوى خيار الإمام المعصوم بموجب نص أيضاً. فالإمام المعصوم هو النص متجسداً، ومن ثم هو الرجل الكفوء لمجاراة النص في حركة تطبيقه على الواقع. ذلك إن الإمام المعصوم لا يمكن أن يكون خياراً بشرياً، لأن الجماعة غير المعصومة لا يمكن أن تفرز إماماً معصوماً بالضرورة.
إذاً، لابدّ من عصمة الإمام لضمان استمرار عصمة النص في حركة تطبيقه التاريخية. واستمرار عصمة النص هي الشرط اللازم لاستمرار الجماعة في خط الحق والتطبيق الواقعي والموضوعي للخطاب الإلهي. من هنا يبدو التلازم في العصمة بين النص والإمام والجماعة ذاتياً، وإلا لا شيء يضمن عدم انحراف الجماعة عن المهمة التاريخية الموكولة إليها من ضمن سياق الدعوة الإلهية والانخراط عملياً فيها. وما يجدر التنبيه إليه هنا، إننا لا نقصد عصمة الجماعة في مصاديق أفرادها الذين تتشكل منهم، وإنما المقصود عصمة حركتها وحركة أفرادها من الانحراف والشطط والزلل في كل المجالات. فالإمام من خلال عصمته ومن خلال وظيفته يشكل صمام الأمان لهذه الحركة وضماناً لاستمرارها في الاتجاه الصحيح.
خلصنا، حتى الآن، إلى أن الجماعة في المنظور الإسلامي هم ((أهل الحق ولو قلّوا))، وإن صيرورة الجماعة من ((أهل الحق)) تستلزم عصمة إمامها لأن اندراجها في سياق الحق واتساقها معه لابدّ من أن يكونا حصيلة اندماج صحيح وسليم مع النص، هذا الاندراج لا يمكن توفره بعيداً عن عصمة الإمام. فالإمام المعصوم هو الشرط اللازم لاكتساب الجماعة صفة أهل الحق، وبالتالي، جماعة أهل الحق يمكن اختصارها بالإمام المعصوم، انطلاقاً من كون جماعة أهل الحق لا يمكنها أن تكون كذلك بدون وجود الإمام المعصوم. وعلى هذا فالمساواة في المفهوم والمصداق يمكن أن تقوم بين الإمام المعصوم والمصداق. وبناء عليه فإن النصوص التي لم تأخذ المعيار العددي بعين الاعتبار، والتي أقرت إمكان أن تكون جماعة أهل الحق واحداً أو أكثر بقليل لم تعد غريبة. بل، إن النصوص التي أمرت بلزوم الإمام المعصوم حتى ولو كان وحيداً، في الوقت التي أمرت نصوص أخرى بلزوم ((جماعة أهل الحق ولو قلوا))، تعتبر بمثابة دليل إضافي على إمكان التطابق الموضوعي بين الإثنين. ففي الحديث المأثور عن الرسول محمد (ص) والذي خاطب فيه عمار قائلاً: ((يا عمار، إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي ودع الناس، إنه لن يدلك على ردي ولن يخرجك من هدى)) يمكن استخراج التطابق الموضوعي بين الإمام المعصوم، مع فرض الإمام علي إماماً معصوماً، وهذا ما يثبته هذا النص، وبين جماعة أهل الحق. فوحدانية علي لم تقلل من حدة الدعوة إلى لزومه والالتزام بخطه حتى لو وقف فريداً في مواجهة الناس جميعهم، ومن الواضح، إن هذا النص يثبت أيضاً، وبشكل ضمني، أن لا اعتبار للقيمة العددية في ميزان الحق والباطل. بل إن الحديث الآخر للرسول (ص) والذي يقرر فيه أن ((علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار)) لا يدع مجالاً للشك بأن علياً هو بيضة القبان في ميزان اعتبار الجماعة، جماعة أهل الحق، أم جماعة أهل الفرقة والباطل، بل إن علياً هو رمز وعنوان ومصداق هذه الجماعة كيفما وجهنا دقة التحليل. وما يضفي على هذا الكلام مزيداً من المصداقية والواقعية والموضوعية هو نص الرسول محمد (ص) أيضاً على أن ((مَن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ... )) وذلك من ضمن سياق نص طويل. فلزوم آل محمد، أي أهل البيت، لزوم للسنة والجماعة وخارج دائرة هذا الالتزام لا يوجد إلا الخروج على السنة والجماعة. ومن الواضح، أن الحب المقصود في الحديث ليس تلك الرابطة العاطفية أو الوجدانية التي تشد كائناً إلى كائن آخر، لأن مجرد العاطفة لا تشكل سبباً موجباً وكافياً لانخراط الفرد في سلك السنة والجماعة، بل المقصود ذلك الحب الملتزم الذي يبدأ من الداخل على هيئة قناعات ومشاعر ويتدفق إلى الخارج في صورة التزامات وممارسات. فحب آل محمد لا يحقق لزوم السنة والجماعة ما لم يكن هذا الحب مدخلاً للانخراط في خط آل محمد وما لم يكن آل محمد أنفسهم ممثلين فعليين للسنة والجماعة.
إن هذا الارتباط العضوي بين الجماعة بوصفها ((أهل الحق)) وبين ((آل محمد)) أو ((أهل البيت)) بوصفهم مجسدي العصمة عن طريق تجسيدهم للحق، وبالتالي، بوصفهم امتداداً لخط النبوة أو الرسالة، يسمح لنا بإجراء مقابلة بين مصطلح الجماعة في الصورة التي انتهينا إلى إثباتها والتدليل عليها وبين مصطلح قرآني هام هو مصطلح ((حزب الله)). فمصطلح ((حزب الله)) بخلاف مصطلح الجماعة، فالأول نجد له وروداً وذكراً في القرآن الكريم وبالتحديد في سورتي المائدة والمجادلة، بينما لا نجد للثاني وروداً أو ذكراً، بل جلّ ما في الأمر، إن مصطلح الجماعة مصطلح سنني، هذا مع الإشارة إلى أن مصطلح ((حزب الله)) له ورود وذكر في الأحاديث المأثورة عن الرسول (ص) أو آل بيته (ع). وفي مطلق الأحوال، فإن المعنى اللغوي لكلمة حزب لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن معنى كلمة جماعة، فمصادر اللغة تذكر إن الحزب هو الجماعة من الناس الذين تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم على رأي واحد .. والحزب الطائفة من كل شيء، ومنه تسمية المقطع القرآني بالحزب .. ويقال: حزبهم الأمر، أي حل بهم ونابهم واشتد عليهم، فهو أمر حازب أي شديد ... ويقال أرض حزباء، أي غليظة تتجمع خشونتها ونتوءاتها. وما يمكن فهمه ((من هذه الاستعمالات وغيرها أن عناصر معنى الكلمة عندما تستعمل للناس، ثلاثة: التجمع المكثف، ووحدة الرأي، ومواجهة ما حزبهم أو يحزبهم من أمور .. فهي إذن اسم لحالة سياسية كاملة)). ومع إضافة اسم الجلالة إلى كلمة حزب، يصبح للعناصر المكونة معنى خاص فـ ((حزب الله)) ليس مطلق تجمع أو وحدة رأي في مواجهة أمر ملتبس أو غامض، فالتحزب هنا لله، مما يعني أن التجمع المكثف هو تجمع يبدأ بالله وينتهي إلى الله، ومن ثم فإن المضمون الجامع والموحد لعناصر الحزب مضمون إلهي، وأما المواجهة فهي مع النقيض تماماً لحزب الله، أي مع حزب الشيطان، فـ ((حزب الله)) هو تجمع إلهي خاص له مواصفاته الخاصة، فحزب الله في القرآن ليس اسماً لكل المسلمين بل اسم لمن تحققت فيهم هذه الصفات الخاصة. فلننظر إلى ما ينص عليه القرآن الكريم في هذا المجال، فقد ورد ((حزب الله) في القرآن الكريم في آيتين:
الأولى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومَن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).
الثانية: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون).
فالآية الأولى التي ورد فيها مصطلح ((حزب الله)) حددت ثلاثة عناصر مكونة لهذا المصطلح، هي:
أولاً: الولاء لله.
ثانياً: الولاء لرسوله.
ثالثاً: الولاء للذين آمنوا.
ومن ثم عرفت ((الذين آمنوا)) بأنهم (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)، ((وقد أجمع المفسرون ـ كما اعترف به القوشجي وهو من أئمة الأشاعرة في مبحث الإمامة من شرح التجريد ـ على أن هذه الآية إنما نزلت على علي (ع) حين تصدق راكعاً في الصلاة. وأخرج النسائي في صحيحه نزولها في علي عن عبدالله بن سلام، وأخرج نزولها فيه أيضاً صاحب الجمع بين الصحاح الستة في تفسير سورة المائدة. وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير نزولها في أمير المؤمنين. وبذلك، يمكن اعتبار العنصر الثالث المكون لحضور ((حزب الله)) والمجسد له هو الولاء لعلي (ع) ولآل البيت من خلاله، وتدعيماً لهذا الاستنتاج نورد الحديث التالي المرفوع إلى الإمام الرضا (ع) عن آبائه حيث قال: قال رسول الله (ص): ((مَن أحب أن يركب سفينة النجاة، ويستمسك بالعروة الوثقى، ويعتصم بحبل الله المتين فليوالِ علياً بعدي، وليعاد عدوه، وليأتم بالهداة من ولده، فإنهم خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي، وسادة أمتي، وقادة الأتقياء إلى الجنة، حزبهم حزبي، وحزبي حزب الله عزوجل، وحزب أعدائهم حزب الشيطان)). فإن الآية الآنفة بضميمة هذا الحديث إليها تثبت أن لا قيام لحزب الله بمعزل عن الالتزام بالولاية العامة التي لأهل البيت. فالمقوم الرئيسي واللازم الذاتي لوجود حزب الله إنما يتحدد بهذه الولاية والالتزام بها. بكلام آخر، فكما أن المقوم الرئيسي للجماعة، جماعة أهل الحق هي الإمام، كذلك الأمر بالنسبة لـ ((حزب الله))، فكلا المصطلحين يشتركان في هذه الخاصية المقومة لجوهرهما.
أما الآية الثانية فقد تعرضت بالذكر لجانب من مواصفات جماعة حزب الله حيث جاء فيها:
(لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه ويدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون).
أهم ما يمكن استخلاصه من مواصفات ((حزب الله)) من هذه الآية العناصر التالية:
أ ـ الإيمان بالله واليوم الآخر.
ب ـ عدم موادة من حاد الله ورسوله ولو كانوا من أقرب المقربين.
ج ـ تحصيلهم لدرجة من الإيمان تستلزم كتابته في قلوبهم وتأييدهم بروح من الله.
د ـ علاقة رضى متبادلة بينهم وبين الله عزوجل.
هـ ـ الاطمئنان إلى فوزهم بالجنة.
بهذا المقدار من المواصفات يبدو حزب الله تجمعاً غير عادي. فتظهر تلك الخاصية غير العادية في جماعة ((حزب الله)) على نحو أوضح في تحديد أمير المؤمنين علي (ع) لمواصفاتها. فقد نقل عنه قوله: ((طوبى لنفس أدّت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم، (أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون) ). فجماعة ((حزب الله)) جماعة إيمانية من النوع الفريد، فهي تلك الطائفة من الناس التي أخذت على عاتقها حمل الرسالة الإلهية بكل جدارة والتفوق في أداء حقوقها وواجباتها ومستلزماتها، وهي تلك الطائفة من الناس التي تعانقت مع الذات الإلهية في علاقة حب أخّاذ حتم عليها الانقطاع المتواصل إليها، فجماعة ((حزب الله)) هي جماعة تفجرت في أعماق أفرادها ينابيع الإيمان الحق واستحوذ على أفئدتها الإخلاص لربها، فكان إن ارتضته لنفسها إلهاً فتولهت به وارتضاها عبدة لنفسه فغمرها برحمته ولطفه، وأفاض عليها من التأييد والدعم، فكان إن كتب في قلبها الإيمان وأيدها بروح منه. إن ((حزب الله)) هو جماعة المؤمنين، من المسلمين، وهم بهذا الاعتبار، لا يمكن إلا أن يكونوا جماعة أهل الحق. فمن كانت مواصفاتهم تلك المواصفات لا يمكن إلا أن ينقطع الحق إليهم فينسبون له وينتسب إليهم. فالجماعة المؤهلة فعلاً لأن تتحمل مسؤولية الرسالة، مسؤولية حمل النص وتأويله وتفسيره، وبالتالي، تشكيل عقدة الربط المحكمة بينه وبين حركة الأمة في الواقع الموضوعي المتغير وفي التاريخ، هي جماعة أهل الحق وعلى نحو أخص جماعة ((حزب الله)) واحد، بينما هناك الكثير من الأحزاب في غير دائرة الله. وهذا ما نلحظه في القرآن الكريم نفسه، ((فكلمة حزب بمجرد أن تجمع تصبح في القرآن بمعنى أحزاب الكفر والنفاق .. وبهذا المقياس القرآني لا يصح التعبير عن الجماعات الإسلامية بالأحزاب الإسلامية، أو أحزاب الله، إلا على نحو مجازي ( ... )، وبلحاظ تعدد مناطق وجودها، وليس بمعنى تعدد الجماعة والحالة السياسية. وفي المقابل فإن أحزاب الكفر والنفاق متعددة.
وهذه الوحدة في حزب الله تعالى، والتعدد في أحزاب الكفر والنفاق، لها دلالاتها الاجتماعية والسياسية، فهي تدل على أن جماعة حزب الله جماعة واحدة واقعاً لأن محور تحزبهم واحد وهو الله تعالى، ومعركتهم التي يخوضونها مع الأحزاب واحدة)). كذلك الأمر خارج دائرة جماعة أهل الحق لا يوجد إلا جماعة أهل الباطل وأهل الباطل ينتسبون للشيطان بينما أهل الحق ينتسبون لله.
وهكذا يمكننا أن نخلص إلى القول، إن مصطلح الجماعة بمكوناته الرئيسية التي أسهمنا في تبيانها لا يعدو أن يكون ((حزب الله)) نفسه مع لحاظ المكونات الرئيسية له أيضاً.
لكن، ما يجب ملاحظته على سبيل الاستدراك، هنا، إنه كما أن مصطلح الجماعة يمكن أن يقتصر مصداقه على الإمام نفسه كذلك مصطلح ((حزب الله)). وبالتال، فإن المواصفات الآنفة التي أثبتناها بخصوص كلا المصطلحين لا تعني اقتصار انطباقهما على مَن حاز عليها أو اكتسبها، وإنما يجب أن ندرك إن مصطلح جماعة أهل الحق أو جماعة حزب الله ليست أمراً ناجزاً في المطلق، وإنما يمكن اعتباره أمراً متحققاً على نحو مخصوص في تلك النخبة المؤمنة لا سيما الإمام المعصوم المفترض الطاعة، بيد أن مواصفاتها تشكل اللبنات الرئيسية في مشروع طويل. فنحن أمام جماعة حزب الله، أمام مشروع جماعة لا أمام بناء مكتمل البناء، وبالتالي، فإن الانضواء في هذه الجماعة يتطلب شروطاً أولية هي تلك الشروط التي أقرتها الآية الأولى، بينما المواصفات الذاتية التي أقرتها الآية الثانية وحديث الإمام علي (ع)، فهي تشكل برنامج عمل تنفيذ مشروع جماعة حزب الله على المستوى الفردي وفي الجماعة. فجماعة حزب الله بتلك المواصفات الممتازة طموح عام وتجسد نادر. ومن الواضح، أيضاً، إن الشروط التي تفرضها كلتا الآيتين هي بمثابة شروط متكاملة ومترابطة يشكل المس بأي عنصر منها مساً بالشروط كلها ونقضاً لها. وفي مطلق الأحوال، يمكننا أن نسجل في النهاية، إن مفهوم الجماعة كما أقرته النصوص الإسلامية في مصادره الأصلية ينسجم تماماً مع مفهوم ((حزب الله))، بحيث إذا كان فعلاً هناك جماعة ((أوكل إليها الله تحقيق إرادته في العالم، وتطبيق شريعته فيه))، حسب ما ذهب إليه الدكتور السيد، فهي ((جماعة الحق ولو قلّوا))، بل قل جماعة حزب الله وذلك وفق السياق المفهومي المتطابق الذي أثبتناه لكل منهما. جماعة الله في الله لا يمكن تصورها خارج جماعة الحق، كما لا يمكن تصورها خارج دائرة ((حزب الله)) لأن خارج هاتين الدائرتين لا يمكن أن نجد سوى جماعة أهل الفرقة والباطل وجماعة حزب الشيطان.

* المصدر : المنطلق/العدد 59/1989م
 
أعلى