إبراهيم عطا الشاهد - المقاييس البلاغية عند ابن الرشيق في كتابه العمدة

يحتل علم البلاغة من المكانة السامية والمرتبة الرفيعة بين العلوم ما لا يستطيع أحد أن ينكره أو يشكك فيه.

وموضوع هذا العلم هو الفن الأدبي، إذ كان النظر إلى الأدب- بصفة عامة- على أنه تعبير جميل عن فكرة جميلة، وكانت علوم البلاغة هي الثمار التي أنتجتها تلك المحاولات لإحصاء مظاهر الجمال والروعة في التعبير الأدبي، وما يمكن في هذا التعببر من دقائق وأسرار.

فالبلاغة إذن لا يمكن فصلها عن موضوعها وهو الأدب الذي جاء القرآن الكريم في أعلى مراتبه، وهؤلاء العلماء الأقدمون ممن ألفوا في الفنون المختلفة، كانوا يدركون هذه الحقيقة إدراكاً تاماً ويعلمون تلك المنزلة لهذه الأصول وتلك الضوابط البلاغية، سواء قبل نضج هذه القواعد وانتظامها في سلوك العلوم أو بعد أن استقرت وأخذت صورتها النهائية، وتحددت معالمها، والناظر في مؤلفات هؤلاء الأقدمين يجدها غير بعيدة عن قواعد هذه العلوم أو شرحاً متناثراً لها.

ولعل التماس السبب في هذا سهل ميسور، فنواحي الفن الأدبي لا تكاد تنحصر إذ أن الفن وثيق الصلة باللغة وبمفرداتها، وبالنحو الذي تقوم به العبارة وتصح على هدي من قواعده، وبالتفسير الذي يستجلي ما يحويه القرآن الكريم من معان وأسرار، وبالفقه الذي يبحث عن الأحكام من خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي هي في أعلى مراتب الفن الأدبي، وكذا علم الأصول وعلم الكلام وغيرها من العلوم، فعالِم اللغة وعالِم النحو وعالِم التفسير أو الفقه أو الأصول أو الكلام وغيرهم، كل هؤلاء كتبوا في البلاغة العربية، وقدموا- من خلال بحوثهم- دروساً وأصولاً وقواعد تمس علم البلاغة في الصميم، ومن ثم فإن نسبة هذا العلم لعالم بعينه أو فترة بعينها هو ضرب من التسامح والتقريب وليس على سبيل الدقة والتحديد. فالمتتبع لتاريخ هذا العلم ينبغي أن يعود به إلى اليوم الذي اكتملت فيه اللغة العربية وأصبح لها كيان مستقل، وأضحت لغة قوم يعتزون بها ويتفاخرون.

فلو عدنا إلى العصر الجاهلي لوجدنا الشعراء يهتمون بتنقيح ألفاظهم وعباراتهم، ويعنون عناية فائقة بمراعاة المناسبات والأحوال في كل ما قالوا، ولا يرضون لأنفسهم أن توضع كلمة في مكان لا يليق بها، كما نجد النقاد الذين يحكمون على الأعمال الأدبية بدافع الهوى والذاتية، وإنما يبنون أحكامهم على أساس من قواعد وأصول أقروها، واعترف بها جمهورهم، وهي وإن تكن مكتوبة في كتاب يجمعها إلا أنهم يحفظونها بفطرتهم وسليقتهم.

وأكاد أقطع بأن القواعد البلاغية كأصول ومقاييس كانت واضحة في العقول العربية، وكانوا يعلمون متى يبسطون الكلام، ويطنبون القول، ومتى يكتفون بالكلام الموجز، واللمحة الدالة، ويعلمون متى يؤكدون القول، ومتى يرسلونه خلواً من التأكيد، ومتى يقدمون أو يؤخرون إلى غير ذلك من الأصول التي كانوا يدركونها إدراكاً تاماً.

أقول هذا وأكاد أجزم به في الوقت الذي كانت فيه أصول النحو وقواعده، غير موجودة في عقول العرب، أو لم تكن واضحة لهم، فلم يكونوا على علم بأسباب رفع هذا الاسم أو نصب الآخر، أو موقع هذا من الجملة إلى غير ذلك من قواعد هذا العلم، وكل ما يعرفونه من هذا أنهم يتكلمون بكلام صحيح مستقيم يؤدون به معانيهم وأغراضهم، وعندما نظر العلماء فيه- في بداية عصر التدوين- وجدوا كلاماً مضبوطاً له قياس، فضبطوا هذه الأقيسة والضوابط، ومن هنا فإني لست مع القائلين بأن علم النحو واللغة يسبقان في الوجود علم البلاغة، ويعللون ذلك بعلل وأسباب. أراها ضعيفة واهية(1).

تاريخ البلاغة- إذن- سلسلة طويلة، تبدأ حلقاتها منذ أن اكتملت اللغة العربية، ثم تعددت هذه الحلقات وتوالت في أطوار مختلفة وصور متباينة، ومرت بعوامل قوة وضعف إلى أن وقفت عند حدود ورسوم راضخة لم يضف إليها شيء.

في هذه الحلقات وتلك الأطوار، وفي مجال التأليف البلاغي، نجد كثيراً من العلماء الذين ساهموا في بناء صرح هذا العلم، والذين لمعت أسماؤهم لتضيء تاريخه، يأتي في مقدمتهم أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني(2) الذي طبقت شهرته الآفاق من خلال كتابه "العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده" وهو موضوع هذه الدراسة.

ألف ابن الرشيق كتاب العمدة وجعله في جزأين يضمان معاً مائة وستة أبواب، تناول فيها ما كتب عن صناعة الشعر ومسائله البلاغية عند المصنفين من قبله وعالجه وفقاً لخطة أبان عنها في مقدمة كتابه(3) "فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه ليكون" العمدة في محاسن الشعر وآدابه "إن شاء الله تعالى، وعولت في أكثره على قريحة نفسي، ونتيجة خاطري، خوف التكرار، ورجاء الانتصار إلا ما تعلق بالخبر، وضبطته الرواية، فإنه لا سبيل إلى تغيير شيء من لفظه ولا معناه، ليؤتى بالأمر على وجهه، فكل ما لم أسند إلى رجل معروف باسمه، ولا أحلت فيه على كتاب بعينه، فهو من ذلك، إلا أن يكون متداولاً بين العلماء لا يختص به واحداً منهم دون الآخر، وربما نحلته أحد العرب، وبعض أهل الأدب، تستراً بينهم، ووقوعاً دونهم، بعد أن قرنت كل شكل بشكله، ورددت كل فرع إلى أصله، وبينت للناشئ المبتدئ وجه الصواب فيه، وكشفت عنه وجه الارتياب به، حتى أعرف باطله من حقه، وأميز كذبه من صدقه."

ففيما يتصل بالشعر ونقده، اتسع بحث ابن الرشيق حتى شمل الشعر كله: صياغته، ومعانيه، وطرقه في التعبير، وأغراضه، وكل ما يتصل به من قريب أو بعيد، وهو في كل ذلك يحدد مدلول المصطلحات ويكشف عن وجوه الجمال وأسراره في النص الأدبي، منتفعاً بآراء السابقين مستخلصاً لرأيه منها، واضح الشخصية، محدد المنهج، مما جعله ينال إعجاب الباحثين فراحوا يشيدون بكتابه وينوهون به في القديم والحديث كابن خلدون الذي يقول: (4) "وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله".

وكالقفطي الذي يقول(5): "وهو أجّل كتبه وأظهرها، وأنه اشتمل على ما لم يشتمل عليه تصنيف من نوعه، وأحسن فيه غاية الإحسان".
ويقول الأستاذ أحمد أمين: (6) "وقد نقل ابن الرشيق في كتابه العمدة فن النقد من نقد شاعر خاص أو شعراء معينين- كما فعل صاحب الموازنة والوساطة- إلى نقد للشعر عامة".

وفيما يتصل بالبلاغة، تناول ابن الرشيق مباحث علم البيان وهي: حد البلاغة، حد البيان، المجاز، الاستعارة، التمثيل، المثل السائر، التشبيه، الإشارة، الكتابة.
وتناول من وسائل علم البديع: الجناس، الترديد، التصوير، المطابقة، المقابلة، التقسيم، الترصيع، التسهيم، التفسير، الاستطراد، التفريع، الالتفات، الاستثناء، المبالغة، الغلو، التشكك، التكرار، المذهب الكلامي، نفي الشيء بإيجابه، الاطراد، التمليط، الاتساع. أما علم المعاني فقد درس من موضوعاته: الإيجاز، التتميم، الإيغال.

هذا مع ملاحظة أن ابن الرشيق أدخل أنواعاً في الصور البلاغية ليس له بها كبير صلة، حيث تكلم عن الحشو والاستدعاء، وهما من عيوب الشعر ولا يصح أن يذكرا من بين أنواعها، كما تكلم عن الاشتراك والتغاير، وأولى بهما السرقات الشعرية خصوصاً وأنه ذكر للسرقات باباً في كتابه، كذلك تحدث عن التضمين والإجازة، وأحـق بهما العروض والقوافي.
ومن البين أن ابن الرشيق لم يتناول مسائل البلاغة وفقاً لهذا التصنيف الذي انتهى إليه علماء البلاغة المتأخرون، وهو تقسيم البلاغة إلى علوم ثلاثة هي البيان والبديع والمعاني، وإنما عالجها دون توزيع على تلك العلوم، وقد خص كل مسألة من مسائلها بباب كان له فيه دور أو موقف، وقبل أن أكشف عن هذا الدور أو ذاك الموقف أود الإشارة إلى أن آراء الباحثين ممن عرضوا قبلاً لابن الرشيق في مجال التأليف البلاغي- قد تضاربت وشابها القصور، فالدكتور بدوي طبانة يقول(7): في معرض نقده لكتاب العمدة، معقباً على ما ذكره ابن خلدون من أن أهل المشرق أقوم على فن البيان من أهل المغرب: "والذي يطلع على كتاب العمدة يظهر له بوضوح صدق ما ذهب إليه ابن خلدون، فإن ملكة الابتكار البلاغي تكاد معالمها تكون مفقودة في هذا الكتاب وإن كان لصاحبه شيء من الفضل فهو فيما جمعه من الروايات المأثورة، وما نقله من كلام غيره من علماء البيان ونقاد الشعر".

وقريب من هذا الرأي يذهب الدكتور محمد مندور فيقول: (8) "وتلا عبد القاهر مؤلفون بل وعاصره مؤلفون كأبي الحسن ابن الرشيق القيرواني، المتوفى سنة 463هـ أو سنة 456هـ، صاحب العمدة الذي جمع في كتابه الكثير من أخبار الأدب العربي والنقد العربي وعلوم اللغة دون أن يتضح للمؤلف منهج خاص وشخصية متميزة".

أما عبد الرءوف مخلوف فيقول في سياق عرضه النقدي لكتاب العمدة: (9) "تدور مباحث كتاب العمدة حول النقد والبلاغة، وله في ذلك الباع الذي لا يطاول".

ويرى الدكتور شوقي ضيف أن(10) "قيمة العمدة في تاريخ البلاغة ترجع إلى دقة جمعه للآراء المتقابلة في فنونها المختلفة".

ويقول الدكتور حفني شرف(11): "إن لابن الرشيق من الأيادي البيضاء على البلاغة ما لا يجحده سابق ولا لاحق، وما يعد ثروة للأدب والمتأدبين والبلاغيين".

وبعد، فهل كادت ملكة الابتكار البلاغي تنضب فعلاً لدى ابن رشيق، وأن جهوده في هذا الميدان اقتصرت فقط على ما جمعه من آراء غيره من علماء البلاغة دون أن يتضح له منهج خاص وشخصية متميزة؟ أم كانت له أياد بيضاء على البلاغة وباع لا يطاول؟ وبعبارة أخرى، ما مقاييس البلاغة عند ابن الرشيق؟ وكيف تناولها في كتاب العمدة؟

يمكن القول بأن مسائل البلاغة التي اشتمل عليها كتاب العمدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مسائل نقلها ابن الرشيق ممن سبقه من علماء البلاغة دون تصرف فيما نقل، وتشمل البيان، التمثيل، التقسيم، الترصيع، المبالغة، المذهب الكلامي، التتميم، الإيجاز. وحسب ابن الرشيق من مسائل هذا القسم أنه نقلها نقلاً التزم فيه الأمانة العلمية، يؤكد ذلك على سبيل المثال ما رواه في باب التكرار حيث يقول(12): "وقد نقلت هذا الباب نقلاً عن كتاب ابن المعتز إلا ما لا خفاء به على أحد من أهل التمييز".

ولا شك أن هذا هو أقصى ما يبتغي العلماء حين يطالبون الباحث أو المؤلف بذكر المصدر والمرجع ونسبة الرأي إلى قائله ما لم يكن هو صاحبه.

القسم الثاني: مسائل نقلها ابن الرشيق ممن سبقه لكنه لم يكتفِ بنقلها فقط، وإنما ناقش ما نقل، وقبِل منه ما قبِل، ورفض ما رفض، صادراً في كل ذلك عن بصر وبيان لوجهة نظره ومذهبه فيما يأخذ ويدع، ويندرج تحت هذا القسم أيضاً ما قام به من تقسيم لبعض الألوان البلاغية تقسيماً جديداً، وما عمد إليه أحياناً من تغيير مسميات بعضها مما ورد لدى غيره، وما أبان عنه من فروق بين ألوان عدة طالما اختلطت حدودها، هذا مع التنبيه على أصل التسمية، وتتجلى مسائل هذا القسم في: المجاز، المثل السائر، التشبيه، الإشارة، الكناية، التصدير، الطباق، المقابلة، التقسيم، التسهيم، التفسير، الاستطراد، الالتفات، الاستثناء، الغلو، التشكك، التكرار.

ويلحظ الدارس لهذين القسمين أن السمة الغالبة على تناول موضوعاتهما هي النقل، ويبدو أن ذلك هو ما حدا ببعض الدارسين إلى وسم كتاب "العمدة" بافتقاده لملكة الابتكار البلاغي، أو أن مؤلفه- كما يرى الدكتور محمد مندور- "جمع فيه الكثير من أخبار الأدب العربي والنقد العربي وعلوم اللغة دون أن يتضح له منهج خاص وشخصية متميزة". ولعل ما ساعد على ترسيخ هذا المفهوم ما صرح به ابن الرشيق نفسه في مقدمة الكتاب بقوله: "فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه ليكون "العمدة في محاسن الشعر وآدابه".

والحق أنه لو لم يكن لابن الرشيق غير جهد الجمع لكفاه ذلك ميزة، إذ يكفي أن كتابه من هذه الزاوية يعد من أهم المراجع التي يعتمدها الباحثون في علم البلاغة عند العرب والطالبون لفنونها التي يزخر هذا الكتاب بالكثير منها، كما يجدون فيه إشارات واضحة إلى الكتاب والمؤلفين في البلاغة، وما استطاعوا أن يخرجوه من ألقابها ومصطلحاتها، بيد أن ابن الرشيق لم يقتصر على النقل أو الجمع فقط كما ذكرنا وكما سنرى بعد قليل.

أما القسم الثالث: فهو مسائل يعزي الفضل في اكتشافها اسماً واصطلاحاً حيث نجده لم يسندها إلى غيره، وهي: التفريع، نفي الشيء بإيجابه، الاطراد، التمليط، الاتساع.

والمتأمل هذه الأقسام الثلاثة يجد أن ابن الرشيق قد نص عليها في خطته التي أشرنا إليها من قبل، حيث يندرج القسم الأول منها تحت قوله: "فجمعت أحسن ما قاله كل واحد منهم في كتابه ليكون العمدة في محاسن الشعر وآدابه إن شاء الله تعالى، وعولت في أكثره على قريحة نفسي، ونتيجة خاطري، خوف التكرار، ورجاء الاختصار، إلا ما تعلق بالخبر، وضبطته الرواية فإنه لا سبيل إلى تغيير شيء من لفظه ولا معناه، ليؤتى بالأمر على وجهه"، ويدخل القسم الثاني تحت قوله: وربما نحلته أحد العرب وبعض أهل الأدب، تستراً بينهم، ووقوعاً دونهم، بعد أن قرنت كل شكل بشكله، ورددت كل فرع إلى أصله، وبينت للناشئ المبتدئ وجه الصواب فيه، وكشفت عنه لبس الارتياب به، حتى أعرف باطله من حقه، وأميز كذبه من صدقه"، وينطبق على القسم الثالث قوله: "فكل ما لم أسنده إلى رجل معروف باسمه ولا أحلت فيه على كتاب بعينه فهو من ذلك".

ولما كان من غير المنطق هنا تناول تفاصيل كل قسم على حدة، لأن ذلك سيؤدي إلى التكرار، حيث إن المبحث البلاغي الواحد قد تتداخل فيه الأقسام الثلاثة، فإننا نؤثر معالجة كل مبحث على حده، فذلك أدعى إلى تبيان الدور البلاغي لابن الرشيق، سواء ما اقتصر فيه على الجمع فقط، أو ما أضافه إلى الجمع من ملاحظات لا تخلو من طرافة، أو ما ابتكره من ألوان بلاغية.


أولاً: مباحث علم البيان:

1. البلاغة:
خصص ابن الرشيق مبحثاً للبلاغة، نقل فيه الأقوال المأثورة عن السابقين في تعريف البلاغة، لاسيما التعاريف التي أحصاها عن الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" وقد ختم هذا المبحث بقوله: (13) "وقد تكرر في هذا الباب من أقاويل العلماء ما لم يخف عني، ولا غفلته، لكن اغتفرت ذلك لاختلاف العبارات، ومدار هذا الباب كله على أن البلاغة وضع الكلام موضعه من طول أو إيجاز، مع حسن العبارة، ومن جيد ما حفظته قول بعضهم: البلاغة شد الكلام معانيه وإن قصر، وحسن الـتأليف وإن طال". وبذا يتضح لنا أنه لم يزد شيئاً على ما قاله غيره في هذا الباب.


2. البيان:

كذلك خصص ابن الرشيق باباً لم يزد فيه عن النقل عن أبي الحسن الرماني تعريفه للبيان، وهو قوله: (14) "البيان هو إحضار المعنى للنفس بسرعة إدراك، وقيل ذلك لئلا يلتبس بالدلالة لأنها إحضار المعنى للنفس وإن كان بإبطاء".

وقوله(15): "البيان الكشف عن المعنى حتى تدركه النفس من غير عقلة وإنما قيل ذلك لأنه قد يأتي التعقيد في الكلام الذي يدل، ولا يستحق اسم البيان".

ويتبع ابن الرشيق هذا النقل بأسئلة من أقوال الخلفاء الراشدين معقباً عليها بقوله: "وهذا قليل من كثير يستدل به عليه، ولو تقصيت ما وقع من ألفاظ التابعين، وما تقدمت به من شعراء الجاهلية والإسلام لأفنيت العمر دون ذلك، وقد استفرغ أبو عثمان الجاحظ- وهو علامة وقته- الجهد وصنع كتاباً لا يبلغ جودة وفضلاً، ثم ما ادعى إحاطة بهذا الفن لكثرته وإن كلام الناس لا يحيط به إلا الله عز وجل".


3. المجاز:

وفي باب المجاز ينقل لنا معنى المجاز كما رواه الحاتمي قائلاً: (16) "ومعنى المجاز طريق القول ومأخذه، وهو مصدر "جزت مجازاً" كما تقول "قمت مقاماً وقلت مقالاً" حكى ذلك الحاتمي، ويتبع ذلك بقول ابن قتيبة: "لو كان المجاز كذباً لكان أكثر كلامنا باطلاً، لأنا نقول: نبت البقل، وطالت الشجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجيل، ورخص السعر. ونقول: كان هذا الفعل منك في وقت كذا، والفعل لم يكن وإنما يكون، ونقول: كان الله، وكان بمعنى حدث، والله قبل كل شيء".

ويقرر ابن الرشيق أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وأحسن موقعاً في القلوب والأسماع، وقاعداً الحقائق من جميع الألفاظ ثم لم يكن محالاً محضاً فهو مجاز، لاحتماله وجوه التأويل، فصار التشبيه والاستعارة وغيرهما من محاسن الكلام داخلة تحت المجاز، إلا أنهم خصوا به- يعني اسم المجاز- باباً بعينه، وذلك أن يسمي الشيء باسم ما قاربه أو كان منه بسبب، كما قال جرير بن عطيه:
إذا سقط السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غِضابا

أراد بالسماء المطر لقربه من السماء، وقال "رعيناه" والمطر لا يرعى، ولكن أراد النبت الذي يكون عنه، فهذا كله مجاز، وكذلك قول العتابي:

يا ليلة لي بجوارين ساهرةً
حتى تكلم في الصبح العصافير


فجعل الليل ساهرة على المجاز، وإنما يسير فيها، وجعل للعصافير كلاماً، ولا كلام لها على الحقيقة، ويورد آيات من القرآن، من بينها قول الله تعالى: {واسأل القرية التي كنا فيها}، وقد اعتبر علماء البلاغة المتأخرون المثالين الأول والثالث من المجاز المرسل، والمثال الثاني، وهو "ليلة ساهرة" من المجاز العقلي، وهو يعزو دخول التشبيه تحت اسم المجاز إلى أن المتشابهين في أكثر الأشياء إنما يتشابهان بالمقاربة على المسامحة والاصطلاح، لا على الحقيقة.

معروف أن البلاغيين بعده، جعلوا المجاز علماً على الاستعارة والكناية والمجاز المرسل والمجاز العقلي، وأخرجوا التشبيه لأن ركنيه وهما المشبه والمشبه به حقيقيان.

من ذلك يتبين لنا أن ابن الرشيق لم يعرف المجاز بمعناه الاصطلاحي كما عرفه المتأخرون، ولم يتضح عنده، حيث أدخل فيه أمثلة من الاستعارة والكناية والتشبيه، ولكن على كل حال، وكما يرى الدكتور شوقي ضيف(17) "هذه أول نظرة دقيقة للباب، فقد كانت كلمة المجاز تلقانا قبله منذ الجاحظ دون تحديد دقيق لما تصدق عليه من صور البيان".


4. الاستعارة:

عد ابن الرشيق الاستعارة من البديع متابعاً في ذلك ابن المعتز وعقد لها باباً، استهله ببيان منزلتها قائلاً: (18) "الاستعارة أفضل أنواع المجاز، وليس في حلى الشعر أعجب منها وهي من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها، ونزلت موضعها"، وقد نقل في هذا الباب تعريفات الاستعارة لدى القاضي الجرجاني وابن وكيع المصري وابن جني والرماني، وهو يعجب برأي ابن جني خاصة الذي يقول فيه: "الاستعارة لا تكون إلا للمبالغة وإلا فهي حقيقة" ويرتضي هذا الرأي مذهبا له فيقول: "وكلام ابن جني أيضا حسن في موضعه لأن الشيء إذا أعطى وصف نفسه لم يسم استعارة إلا أنه لا يحب للشاعر أن يبعد الاستعارة جدا حتى ينافر، ولا أن يقربها كثيرا حتى يحقق، ولكن خير الأمور أوساطها"، وهو يكشف السر في استعارة لفظ الشيء لغيره بقوله: "والاستعارة إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتداراً ودالة، ليس ضرورة، لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم، وليس ذلك في لغة أحد من الأمم غيرهم، فإنما استعاروا مجازاً واتساعاً، ألا ترى أن للشيء عندهم أسماء كثيرة، وهم يستعيرون له مع ذلك؟"

ويؤخذ على ابن الرشيق في هذا القول ثلاثة أمور:

الأول: ادعاؤه أن الاستعارة تأتي في الكلام توسعاً وإظهاراً للاقتدار والدالة، والصواب أنها ضرورة لابد منها.

الثاني: زعمه أن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم، وهذا لم يقل به أحد حتى من أولئك الذين تعصبوا للعرب ضد الشعوبية وزعيمهم الجاحظ الذي يقول(19): "إن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة".

الثالث: ذكره أن ذلك ليس في لغة أحد من الأمم غير العرب، فإن قصد بذلك كثرة الألفاظ عن المعاني فقد أخطأ لأن اللغات سواء في أن ألفاظها محصورة، والمعاني النفسية أو الكونية لا حصر لها، وإن كان يعني أن اللغة العربية انفردت بالاستعارة فقد أخطأ أيضاً، لأن أرسطو قرر منذ القدم أن الاستعارة أهم شيء في الشعر والنثر".

والسمة الواضحة لدى ابن الرشيق في باب الاستعارة هي عدم عنايته بالتعاريف والحدود، فهو يعرض للاستعارة عرضاً أدبياً ويبسط القول فيها، ويضرب لها أمثلة من القرآن والسنة والشعر القديم والحديث مع عنايته بالمقارنة بين الاستعارات في بعض الأحيان والمفاضلة بينها.


5. التمثيل:

كذلك عقد للتمثيل باباً قرر فيه أنه ضرب من الاستعارة، وقد تبع في دلالته قدامة، وقال(20): "إن بعضهم يسميه المماثلة، وهو إما يقصد أبا هلال أو خاله أبا أحمد اللذين سمياه بهذا الاسم، وهو أن تمثل شيئاً بشيء فيه إشارة، ومعناه اختصار قولك: مثل كذا وكذا وكذا". وقد نبه على أن التمثيل والاستعارة من التشبيه إلا أنها بغير آلته، وعلى غير أسلوبه، وأول من اخترع هذا اللون امرؤ القيس في قوله:

وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي
بسهميك في أعشار قلبٍ مقتل

فمثل عينيها بسهمي الميسر- يعني المعلى، وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء- فصار جميع أعشار قلبه للسهمين اللذين مثل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجذور، فتمت له جهات الاستعارة والتمثيل.


6. المثل السائر:

لذلك خصص باباً يقول فيه(21): "المثل السائر في كلام العرب كثير نظماً ونثراً، وأفضله أوجزه، وأحكمه أصدقه، ويضرب لذلك أمثلة منها قوله:

كل إلى أجل والدهر ذو دول
والحرص مخيبة والرزق مقسوم

ومنها قولهم: "على أهلها جنت براقش" الذي يضرب للرجل يهلك قومه بسببه، ومعروف أن علماء البلاغة يدخلون المثل السائر في التمثيل أو الاستعارة التمثيلية(22)، يذهب ابن الرشيق إلى أن الأمثال في الشعر إنما هي نبذ تستحسن، ونكت تستظرف مع القلة، وفي الندرة، فأما إذا كثرت فهي دالة على الكلفة، وأنها وزنت في الشعر لتكون أشرد له، وأخف للنطق به، فمتى لم يتزن كان الإتيان بها قريباً من تركها". ويعجب مما حكاه الحاتمي قائلاً: "وقد حكى الحاتمي أشياء لا أدري كيف وجهها، وزعم أن حماداً الرواية سئل: بأي شيء فضل النابغة؟ فقال: إن النابغة إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت به، مثل قوله:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً
وليس وراء الله للمرء مذهبُ

بل لو تمثلت بنصف بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: "وليس وراء الله للمرء مذهب"، بل لو تمثلت بربع بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: "أي الرجال المهذب؟".

ويبدي ابن الرشيق رأيه في ذلك قائلاً: "ولا أعرف كيف يجعل حماد هذا ربع بيت، وفيه زيادة سببين وهما أربعة أحرف؟ إلا أن يريد التقريب، فهذا من الاحتياج، لأنه لا يتمثل به على أنه شعر إلا احتاج إلى ما قبله، واستغنى ما قبله عنه، ألا ترى أنه لو قال: "ولست بمستبق أخاً لا تلمه" أنه يكون مثلاً كافياً، ثم لا يتعلق قوله: "على شعث" بشيء من المثل الثاني، وإن بقي موزوناً، فإن رده على الصدر تعلق به، وبقي المثل الثاني مكسوراً".


7. التشبيه:

وفي باب التشبيه يضيف تعريفاً إلى تعريفات السابقين للتشبيه فيقول(23): "التشبيه صفة الشيء بما قاربه وشاكله، من جهة واحدة أو جهات كثيرة، لا من جميع جهاته، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه، ألا ترى أن قولهم "خد كالورد" إنما أرادوا حمرة أوراق الورد وطراوتها، لا ما سوى ذلك من صفرة وسطه وخضرة كمائمه، فوقوع التشبيه إنما هو أبداً على الأعراض لا على الجواهر، لأن الجواهر في الأصل كلها واحد، اختلفت أنواعها أو اتفقت". ثم ينقل عن الرماني تقسيمه للتشبيه إلى تشبيه حسن، وهو الذي يخرج الأغمض إلى الأوضح فيفيد بياناً، وتشبيه قبيح وهو ما كان على خلاف ذلك، ويحكي عنه أنه أنشد لذي الرمة:

كأنه كوكب في إثر عفريت
مسوم في سواد الليل منقضب

ثم قال: قد اجتمع الثور والكوكب في السرعة إلا أن انقضاض الكوكب أسرع، واستدل بهذا على جودة التشبيه، ويعقب ابن الرشيق على ذلك مستدركاً على الشاعر ومبينا ما أغفله المفسر، وعارضاً لوجهة نظره وما يراه بقوله: وأنا أرى أن فيه دركاً على الشاعر، وإغفالاً من الشيخ المفسر، وذلك أن الثور مطلوب والكوكب طالب، فشبهه به في السرعة والبياض، ولو شبهه بالعفريت وشبه الكلب وراءه بالكوكب لكان أحسن وأوضح، لكنه لم يتمكن له المعنى الذي أراده من فوت الثور الذي شبه به راحلته، وأما ما أغفله الشيخ فإن الشاعر إنما رغب في تشبيه الثور بالكوكب، واحتمل عكس التشبيه بأن جعل المطلوب طالباً لبياضه فإن الثور لهق لا محالة، وأما السرعة التي زعم فإن العفريت لو وصفه به وشبهه بسرعته لما كان مقصراً ولا متوسطاً بل فوق ذلك".

وينقل عن قدامة ما ذهب إليه من أن أفضل التشبيه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما، حتى يدني بهما إلى حال الاتحاد، وضرب مثلاً لذلك بما أنشده لإمريء القيس:

له أيطلا ظبى وساقا نعامة
وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل

فهذا تشبيه أعضاء بأعضاء هي هي بعينها، وأفعال بأفعال هي هي بعينها إلا أنها من حيوان مختلف، ويعلق ابن الرشيق على ذلك بقوله: "والأمر كما قال في قرب التشبيه، إلا أن فضل الشاعر فيه غير كبير حينئذ، لأنه كتشبيه نفي لشيئ المشبه الذي ذكره الرماني في تشبيه الحقيقة، وإنما حسن التشبيه أن يقرب بين البعدين حتى تصير بينهما مناسبة واشتراك كما قال الأشجعي:

كأنّ أزيزَ الكير إزرام شَخْبِها
إذا امتاحها في مِحلب الحيِّ ماتحُ

فشبه ضرع العنز بالكير، وصوت الحلب بأزيزه، فقرب بين الأشياء البعيدة بتشبيه حتى تناسبت، ولو كان الوجه ما قال قدامة لكان الصواب أن يشبه الأشجعي ضرع عنزه بضرع بقرة أو خلف ناقة، لأنه إنما أراد كبره وكثرة ما فيه من اللبن، وكان يعدل عن ذكر الكير وأزيزه الذي دل به على عظم ما يكون من صفة كبر الضرع وكثرة لبنه".

هذا وقد فطن إلى أحوال طرفي التشبيه من ناحية الإفراد والتعدد وأورد أمثلة كثيرة لتشبيهات تعدد فيها طرفا التشبه، لا يزال علماء البلاغة يرددونها من بعده حتى العصر الحديث، يقول: "وأصل التشبيه مع دخول الكاف وأمثالها أو كأن وما شاكلها شيء بشيء في بيت واحد إلى أن صنع امرؤ القيس في صفة عقاب:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
لدى وكرها العناب والحشف البالي

فشبه شيئين بشيئين في بيت واحد. كذلك ينقل عن القاضي الجرجاني رأيه في التشبيه، وأنه يقع مرة بالصورة الصفة ومرة بالحالة والطريقة، ويعجب لنقده لبيت المتنبي:

بليت بلى الأطلال لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه

حيث قصد الجرجاني إلى أن المتنبي إنما أراد وقوفاً خارجاً عن المتعارف إذ يعلق عليه ابن الرشيق بقوله: "فهذا والله هو النقد العجيب الذي غفل الناس عنه بل عموا وصحوا".

8- الإشارة:
أفرد ابن الرشيق للإشارة باباً تناولها فيه، فبين أنها(24) بلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى، وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز، والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة، واختصار وتلويح يعرف مجملاً، ومعناه بعيد من ظاهر لفظه، ثم قسمها إلى عدة ألوان بلاغية هي: الوحي، التفخيم، الإيماء، التلويح، التمثيل، الرمز، اللمحة، اللغز، اللحن، "ويسميه المتأخرون المحاجاة لدلالة الحجا عليه"، الحذف، التورية، وقد أدخل ابن الرشيق في الإشارة التعريض في الكناية والتعمية، وهو في ذلك أدق من صاحب الصناعتين الذي أفرد عنها كثيراً من أقسام الكناية بينما كان ينبغي أن يسلكها فيها.


9. الكناية:

تناول ابن الرشيق مبحث الكناية عقب باب الإشارة وعالجه تحت اسم "التتبيع"، وأشار إلى أن التتبع نوع من الإشارة، وأن قوماً يسمونه التجاوز(25)، وهو "أن يريد الشاعر ذكر الشيء فيتجاوزه، ويذكر ما يتبعه في الصفة، وينوب عنه في الدلالة عليه، وأول من أشار إلى ذلك امرؤ القيس في قوله يصف امرأة:

ويُضْحِي فتيتُ المسكِ فَوقَ فراشِها
نؤوم الضُحَى لم تَنتَطِق عن تَفَضُلِ

فقوله يضحي فتيت المسك "تتبيع" وقوله "نؤوم الضحى "تتبيع ثان" وقوله "لم تنطق عن تفضل "تتبيع ثالث" وإنما أراد أن يصفها بالترفه والنعمة، وقلة الامتهان في الخدمة، وإنها شريفة مكفية المئونة، فجاء بما يتبع الصفة ويدل عليها أفضل دلالة.


ثانياً: مباحث علم البديع

1. الجناس:

عرض ابن الرشيق للجناس فذكر أقسامه عند القاضي الجرجاني وأبي الحسن الرماني، وذلك من مثل: الجناس المطلق والمستوفى والناقص والمضاف والمصحف والمزاوج والمشاكلة، وذكر أمثلة كثيرة لكل نوع، متوقفاً عند قبول الأعشى(26):
ان تسد الحوص فلم تعدهم
وعامر ساد بني عامر

قائلاً: فاختلفوا فيه، فذهب الجرجاني إلى أنه مجانسة لأن أحدهما رجل، والآخر قبيلة، وقال غيره: بل معناهما واحد، وأنا على خلاف رأي الجرجاني، لأن الشاعر قال "بني عامر"، وأضاف "بني" إليه، ولو قال ساد عامراً يعني القبيلة لكان تجنيساً غير مدفوع.


2. الترديد:

وأفرد للترديد باباً عرّفه فيه بقوله(27): وهو أن يأتي الشاعر بلفظة متعلقة بمعنى ثم يردها بعينها متعلقة بمعنى آخر في البيت نفسه أو في قسيم منه، وذلك نحو قول زهير:
من يلق يوماً على علاته هرماً
يلقَ السماحة منه والندى خلقاً

فعلق "يلق" بهرم ثم علقها بالسماحة، ومعروف أن هذا النوع سماه أبو هلال- من قبل- باسم المجاورة(28)، وقد ذكر ابن الرشيق أن العلماء مجمعون على تقديم أبي حية النميري، وتسلم فضيلة هذا الباب إليه في قوله:
ألا حيِّ من أجل الحبيب المغانيا
لبسن البلى مما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يوماً وليلة
تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا

والترديد الذي انفرد فيه بالإحسان عندهم قوله: "لبسن البلى مما لبسن اللياليا"، وكذلك قوله: "إذا ما تقاضى المرء يوما وليلة"، ثم قال "تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا" لأن الهاء كناية عن المرء وإن اختلف اللفظ. وكعادة ابن الرشيق يضرب أمثلة كثيرة متوقفاً عند بعضها، مبدياً فيه وجهة نظره، ومن ذلك أن قوماً حملوا على امرىء القيس قوله:

فثوباً لبست وثوباً أجر

على أنه تكرار لا ترديد فيه، فنرى ابن الرشيق يعلق عليه بقوله: "وهذا هو الخطأ البيّن، وأي ترديد يكون أحسن من هذا؟ وقد أفاد الثاني غير إفادة الأول حسب ما شرطوا".


3. التصدير:

كذلك تحدث عن التصدير، مشيراً إلى أن ابن المعتز قد سماه رد العجز على الصدور، وقد فرق بينه وبين الترديد بقوله(29): "والتصدير قريب من الترديد، والفرق بينهما أن التصدير مخصوص بالقوافي ترد على الصدور، فلا تجد تصديراً إلا كذلك حيث وقع من كتب المؤلفين، وإن لم يذكروا فيه فرقاً، والترديد يقع في أضعاف البيت"، ويأتي بأمثلة كثيرة كشواهد على التصدير، يعترض من بينها على ما أنشده ابن المعتز لأبي نواس:
دقَّت ورقّضت مذقةٌ من مائها
والعيشُ بين رقيقتين رقيقُ

فيقول ابن الرشيق: "وهو عندي بعيد من إحكام الصنعة التي يدخل بها في هذا الباب لأن أكثر العادة أن تعاد اللفظة بنفسها.


4. المطابقة:

وتناول أيضاً المطابقة، ونقل تعريفاتها لدى السابقين منبهاً على أن قدامة سماها التكافؤ، وفرق بينها وبين الجناس قائلاً(30): "وإذا دخل التجنيس نفي عد طباقاً، وكذلك الطباق يصير بالنفي تجليساً" وبين أسباب اختلاطهما بقوله: "من ذلك أن يقع في الكلام شيء مما يستعمل للضدين كقولهم: "جلل" بمعنى "صغير، و"جلل" بمعنى عظيم، فإن باطنه مطابقة، وإن كان ظاهره تجنيساً، وكذلك "الجون" الأبيض، و"الجون" الأسود، وما أشبه ذلك، وكذلك إن دخل النفي كما قدمت، قال البحتري:
يفيض لي من حيث لا أعلم الهوى
ويسري إلي الشوق من حيث لا أعلم

فهذا مجانس في ظاهره، وهو في باطنه مطابق، لأن قولهم "لا أعلم" كقوله "أجهل"، ومثل قول الآخر:
لعمري لئن طال الفضيل بن ديسم
مع الظل ما إن رأيه بطويل

كأنه قال: إن رأيه قصير، وقد جاء في القرآن: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".


5. المقابلة:

وفي باب المقابلة ينقل تعريفات السابقين(31)، مشيراً إلى أقسامها عندهم، ذاكراً أمثلة عديدة لكل قسم.


6. التقسيم:

وهو يسلك نفس المسلك في باب التقسيم(32) ويزيد بأن قدامة يسمى التقطيع المسجوع- وهو نوع من التقسيم- ترصيعاً، فيقول: "ومن أنواع التقسيم التقطيع، أنشد الجرجاني للنابغة الذبياني:

ولله عيناً من رأى أهل قبَّةً
أضرَّ لمن عادى وأكثر نافعاً
وأعظم أحلاماً وأكبر سيداً
وأفضل مشفوعاً إليه وشافعا

وإذا كان تقطيع الأجزاء مسجوعاً أو شبيهاً بالمسجوع فذلك هو الترصيع عند قدامة"، وإذا كان له بما أنشده قدامة لأبي المثلم يرثي صخر الغي:

رباه مرقبة، مناع مغلبة
ركابُ سلهبةٍ، قطاع أقران


7. التسهيم:

كذلك عالج التسهيم في مبحث منفرد قائلاً: (33) "وقدامه يسميه التوشيح "، وقيل: إن الذي سماه تسهيماً على بن هارون المنجم، وأما ابن وكيع فسماه المطمع، وقد نوعه ابن الرشيق أنواعاً منها ما يشبه المقابلة، ومنها ما هو شبيه بالتصدير، وأتى بشواهد لكل نوع، مختتماً هذا الباب ببيان أصل التسمية، وأنها من تسهيم البرود، وهو أن ترى ترتيب الألوان فتعلم إذا أتى أحدها ما يكون بعده، وأما تسميته توشيحاً فمن تعطف أثناء الوشاح بعضها على بعض وجمع طرفيه، ويمكن أن يكون من وشاح اللؤلؤ والخرز، وله فواصل معروفة الأماكن فلعلهم شبهوا هذا به".


8. التفسير:

وهو يعرف التفسير قائلاً: (34) "وهو أن يستوفي الشاعر ما ابتدأ به مجملاً، وقل ما يجيء هذا إلا في أكثر من بيت واحد، نحو قول الفرزدق، اختاره قدامة:

لقد جئت قوما لو لجأت إليهم
طريد دم أو حاملاً ثقل مغرم
لألفيت منهم معطياً ومطاعنا
وراءك شزراً بالوشيج المقوم

ويعلق ابن الرشيق على ذلك فيقول: "هذا جيد في معناه إلا أنه غريب مريب، لأنه فسر الآخر أولاً، والآخر آخراً، فجاء فيه بعض التقصير والإشكال".


9. الاستطراد:

وفي مبحث الاستطراد يبين لنا حد هذا اللون البديعي بقوله: (35) "وهو أن يرى الشاعر أنه في وصف شيء وهو إنما يريد غيره فإن قطع أو رجع إلى ما كان فيه فذلك استطراد، وإن تمادى فذلك خروج، وأكثر الناس يسمي الجمع استطراداً، والصواب ما بينته"، وينقل عن الحاتمي قوله: "وقد يقع من هذا الاستطراد ما يخرج به من ذم إلى مدح كقول زهير:

إن البخيل ملوم حيث كان ولـ
ـكن الجواد على علاته هرم

ويعلق عليه بقوله: " فسمي الخروج استطراداً كما نراه اتساعاً"، ثم يذكر أن من الاستطراد نوعاً يسمى الإدماج، ويرجع أصل هذه التسمية إلى المأمون.


10.- التفريع:

وقد جعله ابن الرشيق من الاستطراد، وحده كما ذكر(36) "أن يقصد الشاعر وصفاً ثم يفرع منه وصفاً آخر يزيد الموصوف تأكيداً كقول ابن المعتز:

كلامهُ أخدعُ من لحظه
ووعدهُ أكذبُ من طيفه

فبينما هو يصف خدع كلامه فرع منه خدع لحظه، ويصف كذب وعده فرع كذب طيفه. ويعد هذا الباب من اختراعات ابن الرشيق التي لم يسبقه إليها أحد.


11. الالتفات:

وينقل فيه ابن الرشيق عن قدامة وابن المعتز قائلاً: (37) وهو الاعتراض عند قوم، وسماه آخرون الاستدراك، حكاه قدامة وسبيله أن يكون الشاعر آخذا في معنى، ثم يعرض له غيره فيعدل عن الأول إلى الثاني فيأتي به، ثم يعود إلى الأول من غير أن يخل في شيء مما يشد الأول كقول كثير:

لو أن الباخلين وأنت منهم
رأوكِ تعلموا منكِ المِطالا

فقوله: وأنت منهم، اعتراض كلام في كلام، قال ذلك ابن المعتز: "وجعله باباً على حدته بعد باب الالتفات". ويورد ابن الرشيق قول عبد الله بن طاهر:

إن الثمانينَ، وبلغتها،
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

ويعلق عليه بقوله: فقوله "وبلغتها" التفات، وقد عده جماعة من الناس تتميماً، والالتفات أشكل وأولى بمعناه، ثم يفرق بين الالتفات والاستطراد قائلا: "ومنزلة الالتفات في وسط البيت كمنزلة الاستطراد في آخر البيت، وإن كان ضده في التحصيل، لأن الالتفات تأتي به عفواً وانتهازاً، ولم يكن لك في خلد فتقطع له كلامك، ثم تصله بعد إن شئت، والاستطراد تقصده في نفسك، وأنت تحيد عنه في لفظك حتى تصل به كلامك عند انقطاع آخره، أو تلقيه إلقاء وتعود إلى ما كنت فيه.


12. الاستثناء:

وفي باب الاستثناء يتابع أبا هلال العسكري وخاله أبا أحمد في تسمية توكيد المدح بما يشبه الذم "باسم الاستثناء" ويشير إلى تسمية ابن المعتز، ويورد شواهد عديدة لهذا النوع، متوقفاً عند بعضها قائلاً(38): ومن أصحاب التأليف من يعد في هذا الباب ما ناسب قول الشاعر:

فأصبحتُ مما كان بيني وبينها
سوى ذكرها كالقابض الماء باليدِ

وقال الربيع بن ضبيع الفزاري:

فنيتُ يفنى صنيعي ومنطقي = وكل امريء إلا أحاديثه فاني

ويبدي ابن الرشيق وجهة نظره في ذلك بأن؛ هذا ليس من ذلك الباب عنده، وإنما هو من باب الاحتراس والاحتياط.


13. المبالغة:

كذلك عرض للمبالغة (39) مبيناً أنها تأتي على ضروب كثيرة، والناس فيها مختلفون، منهم من يؤثرها، ومنهم من يعيبها، مشيراً إلى أن أحسن المبالغة وأغربها عند الحذاق التقصي، وترادف الصفات، وشفع تلك الإشارة بأمثلة توضح ذلك.


14. الغلو:

وفي باب الغلو نقل تعريفات السابقين كقدامة والقاضي الجرجاني والحاتمي (40) وساق أمثلة كثيرة كشواهد، توقف بالذات عند ما ساقه منها للمتنبي، وخاصة قوله عند وصف شعره:

إذا قلته لم يمتنعْ من وصوله = جدارٌ معلّى أو خِباءٌ مطنَّبُ

ونقده قائلاً: "ربما أفسد أبو الطيب إغراقه هكذا ونقص منه بما يظنه إصلاحاً وزيادة فيه، فما وجه الخباء المطنب بعد الجدار المنيف؟ بينما هو في الثريا صار في الثرى! وإنما أراد الحاضرة والبادية. هذا وقد نبه ابن الرشيق على أن أحسن الإغراق ما نطق فيه الشاعر أو المتكلم بكاد أو ما شاكلها ونحو كأن ولو ولولا وما أشبه ذلك ما لم يناسب أبيات أبي الطيب المتقدم ذكرها، وهذه ملاحظة طريفة من ابن الرشيق لا يزال البلاغيون من بعده يذكرونها عند تناولهم لهذا الفن البديعي في كتبهم.


15. التشكك:

كذلك درس ابن الرشيق التشكك، وهو ما أسماه ابن المعتز "تجاهل العارف"، وقد اعتبره ابن الرشيق(41) من ملح الشعر، وطرف الكلام، والغرض منه الدلالة على قرب المشابهين حتى لا يفرق بينهما ولا يميز أحدهما من الآخر، وذلك نحو قول زهير:

وما أدري وسوف أخال أدري = أقومٌ آلُ حِصنٍ أم نساءُ

فقد أظهر أنه لم يعلم أنهم رجال أم نساء، وهذا أملح من أن يقول: هم نساء، وأقرب إلى التصديق.


16. التكرار:

وهـو يعرض للتـكرار، جـاعلاً إياه من فنون البديع(42) مثلما فعل الباقلاني وأبو أحمد العسكري، ومخالفاً لأبي هلال الذي جعله فرعاً من فروع الإطناب لتوكيد الكلام، ويذكر أن للتكرار مواضع يحسن فيها، ومواضع يقبح فيها، وأنه أكثر ما يقع في الألفاظ دون المعاني، ثم يضرب أمثلة مستدركاً على من سبقه قائلاً: ومن تكرير المعاني قول امرئ القيس، وما رأيت أحداً نبه عليه:

فيا لك من ليل كأن نجومه = بكل مُغار الفتل شُدَّت بيذبل
كأنّ الثُريا علقت في مصامِها = بأمراسِ كتانٍ إلى صُم جندل

فالبيت الأول يغني عن الثاني، والثاني يغني عن الأول، ومعناهما واحد، لأن النجوم تشتمل على الثريا، كما أن يذبل يشتمل على صم الجندل، وقوله "شدت بكل مغار الفتل" مثل قوله "علقت بأمراس كتان".


17. المذهب الكلامي:

وفي باب المذهب الكلامي يشير ابن رشيق إلى تسمية ابن المعتزلة بذلك، وينقل عنه أمثلته نقلاً، قائلاً(43): "واضطرني إلى ذلك قلة الشواهد فيه".


18. نفي الشيء بإيجابه:

وهو من اختراع ابن رشيق حيث نراه لم يسنده إلى غيره كعادته، وقد أشار إلى أنه من المبالغة، وليس بها مختصاً، إلا أنه من محاسن الكلام، فإذا تأملته وجدت باطنه نفياً، وظاهره إيجابياً، وضرب لذلك أمثلة كثيرة منها قول زهير(44):

بأرض خَلاءٍ لا يُسَدُّ وصيدُها = عليَّ، ومعروفي بها غيرُ مُنكرِ

وعلق عليه بقوله: "أثبت لها في اللفظ وصيدا، وإنما أراد ليس لها وصيد فيسد علي". وهو يعول في جميع ما ذكر من أمثلة على ما جاء في تفسير قول الله عز وجل: {لا يسألون الناس إلحافاً}، فيقول قالوا: ليس يقع منهم سؤال فيقع إلحافاً، أي هم لا يسألون البتة".


19. الاطراد:

وهو من اختراع ابن رشيق أيضاً، وقد قصد به(45) "أن تُطرد أسماء آباء الممدوح من غير كلفة، كقول دريد بن الصمة:

قتلنا بعبد الله خير لداته = ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب


20. التلميط:

ومن فنون البديع التي تناولها أيضاً ابن رشيق- وتعد من اختراعاته- التلميط، ويعني به(46) "أن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيما، وهذا قسيما لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه"، ويضرب لذلك مثلاً فيقول: وفي الحكاية أن امرئ القيس قال للتوأم اليشكري: "إن كنت شاعراً كما تقول فملط أنصاف ما أقول فأجزها، قال: نعم، قال امرؤ القيس:

أحار ترى بريقاً هَبَّ وَهنا

فقال التوأم:

كنارِ مجوس تستعر استعارا

فقال امرؤ القيس:

أرقت له ونام أبو شريح

قال التوأم:

إذا ما قلت قد هدأ استطارا

ولا يزالان هكذا يصنع هذا قسيما، وهذا قسيما إلى آخر الأبيات؛ ثم يعرض لأصل التسمية فيقول: "إن اشتقاق التمليط من أحد شيئين: أولهما أن يكون من الملاطين، وهما جانبا السنام في مرد الكتفين فكأن كل قسيم ملاط، والآخر- وهو الأجود- أن يكون اشتقاقه من الملاط، وهو الطين يدخل في البناء يملط به الحائط ملطاً، أي: يدخل بين اللبن حتى يصير واحداً".


21. الاتساع:

كذلك يعد الاتساع من مبتكرات ابن رشيق، ويقصد به: (47) "أن يقول الشاعر بيتاً يتسع فيه التأويل، فيأتي كل واحد بمعنى وإنما يقع ذلك لاحتمال اللفظ، وقوته، واتساع المعنى، وقد ذكر له أمثلة كثيرة منها قول المفضل الضبي بين يدي الرشيد- والكسائي حاضر- في معنى قول الفرزدق:

أخذنا بآفاق السماءِ عليكم = لنا قمراها والنجوم الطوالع

"ويروى أن الأمين والمأمون سئلا ما معناه؟ فقالا: معناه في قوله "قمراها" تغليب المستعمل عندهم، لأن القمر أكثر استعمالاً عند العرب من الشمس، وكذلك قولهم "العمران" لما كان عمر أطول أياماً وأكثر تأثيراً، فقال الرشيد: هكذا أخبرنا هذا الشيخ، وأشار إلى الكمائن فقال المفضل: بل مراده بالقمرين جداك إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما، وبالنجوم الطوالع أنت وآباؤك الطيبون، فأعجب الرشيد بذلك ووصله، والفرزدق ما قصد إلى شيء من ذلك ولا أراده، ولا أعلم أن الرشيد بعد يكون أمير المؤمنين، وإنما أراد أن كل مشهور فاضل فهو لنا عليكم، ومنا لا منكم، فنحن أشرف بيتاً، وأظهر فضلاً، وأبعد صوتاً، إلا أن التي جاء بها المفضل ملحة أفادت مالا".


ثالثاً: مباحث علم المعاني

1. الإيجاز:

عقد ابن رشيق للإيجاز باباً نقل فيه عن الرماني(48) تقسيمه له قائلاً: "الإيجاز عند الرماني على ضربين: مطابق لفظه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه كقولك: "سل أهل القرية"، ومنه ما فيه حذف للاستغناء عنه في ذلك الموضع كقول الله عز وجل: "واسأل القرية" وعبر عن الإيجاز بأن قال: هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف، ويعجب ابن رشيق بما ذهب إليه الرماني إلا أنه يعقب عليه باتساع هذا الباب، وتعدد أنواعه، وأن لكل نوع تسمية سماها أهل هذه الصناعة، ثم يذكر أن الضرب الأول مما ذكره الرماني يسمونه "المساواة" ويضرب له مثالاً بقول الشاعر:

يا أيُّها المُتحلي غيرَ شيمته = إن التخلُّقَ يأتي دونهُ الخُلق
ولا يوَاتيك فيما ناب من حدثٍ = إلا أخو ثِقةٍ، فانظر بمن تثق

ثم يبدي فيه رأيه فيقول: "فهذا شعر لا يزيد لفظه على معناه، ولا معناه على لفظه شيئاً"، وأما الضرب الثاني مما ذكره الرماني، وهو قول الله عز وجل: {واسأل القرية} فيسمونه "الاكتفاء"، وهو داخل في باب المجاز، يحذفون بعض الكلام لدلالة الباقي عليه كقول الله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} كأنه قال: لكان هذا القرآن.


2. التتميم:

كذلك تحدث ابن رشيق عن التتميم مجارياً في هذه التسمية الحاتمي، قائلاً(49): "وهو التمام أيضاً- يقصد بذلك تسمية قدامه له، ومعنى التتميم "أن يحاول الشاعر معنى، فلا يدع شيئاً يتم به حسنه إلا أورده وأتى به: إما مبالغة، وإما احتياطيا واحتراسا من التقصير مثل بيت طرفه:

فسقى ديارك غيرَ مُفسدها = صَوبُ الربيعَ وديمةٌ تهمسِ

فقوله: "غير مفسدها" تتميم للمعنى، واحتراس للديار من الفساد بكثرة المطر.


3. الإيغال:

ويتناول الإيغال في باب منفصل، منبها على أنه ضرب من المبالغة، إلا أنه مختص بالقوافي لا يعدوها (50) ومشيراً إلى أن الحاتمي وأصحابه يسمونه " التبليغ " ويضرب له أمثلة منها قول الخنساء:

وإن صخراً لتلأتمُ الهداةُ به
كأنهُ علمٌ في رأسه نارُ

الذي يتوقف عنده قائلاً: "فبالغت في الوصف أشد مبالغة، وأوغلت إيغالاً شديداً بقولها: "في رأسه نار"، بعد إذ جعلته علماً، وهو الجبل العظيم".
ومعروف أن قدامة قد سبق إلى تعريف هذا النوع البلاغي بقوله(51): "هو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاماً من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنعة، ثم يأتي بها- القافية- لحاجة الشعر إليها فيزيد بمعناها في تجويد ما ذكره من المعنى في البيت".

هذا وقد فرق ابن رشيق بين الإيغال والتتميم بقوله: "وليس بين الإيغال والتتميم كبير فرق إلا أن هذا في القافية لا يعدوها، وذلك في حشو البيت". ويختتم هذا الباب كعادته في أكثر الأبواب- ببيان أصل التسمية فيقول: "الإيغال سرعة الدخول في الشيء، يقال أوغل في الأمر إذا دخل فيه بسرعة، فعلى القول الأول كان الشاعر أبعد في المبالغة وذهب فيها كل الذهاب، وعلى القول الثاني كأنه أسرع الدخول في المبالغة بمبادرته هذه القافية.

تلك هي المباحث البلاغية التي تناولها ابن رشيق في كتابه العمدة، وأبان عنها بوضوح، ومن عرضنا لها يتبين لنا أنه قرأ مؤلفات من سبقوه من أعلام البلاغة كالجاحظ وابن قتيبة والرماني وابن المعتز والقاضي الجرجاني، بيد أنه لم يكن مجرد قارئ لما كتبه غيره، ولم يكن مجرد وسيط في أكثر ما نقل من آثار المتقدمين، وإنما كان فوق ذلك بكثير، فقد كان بوتقة تصهر ما يلقى فيها غالباً، ثم تخرجه للناس شيئاً جديداً، حيث يسلط من عقله وذهنه على ما يتناول فيحيله خلقاً آخر، يرضى عما يتلقى أحياناً، ويرفض أحياناً، ويناقش ويعارض أحياناً ثالثة، فيذهب غير المذهب، ويرى غير الرأي، مما يؤكد وضوح شخصيته، فإذا أضفنا إلى ذلك إكثاره من الشواهد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام العرب شعراً ونثراً، مع حسن الاختيار وحسن التدقيق العلمي، فجمع بذلك إلى فن الرواية علم الدراية، وأضفنا إلى ذلك أيضاً ابتكاره لألوان بلاغية جديدة، وتفرقته بين ألوان طالما اختلطت حدودها- أدركنا أن ابن رشيق كانت له أياد بيضاء على البلاغة العربية لا تقل في صنيعها عما قدمت أيادي غيره من كبار البلاغيين.


د. إبراهيم عطا الشاهد


55.jpg
 
أعلى