بلال الحساني - "نظرية الأدب المغربي ما بين الإقصاء والتقعيد"

على سبيل التقديم:
لا شك عندنا بالقطع واليقين، أن الأدب المغربي
ــ أو كما سمّاه البعض الأدب العربي في المغرب ــ هو أدب يمتد في عمق التاريخ المغربي، إذ ترجع نشأته كما أقرّ ذلك عدد من الدارسين والباحثين، إلى العصر الإدريسي، وبالأخص إلى القرن الهجري الثاني، وذلك عبر عدد من البوادر والإرهاصات، التي كان من أبرزها خطبة طارق بن زياد، التي تعتبر علامة فارقة في نشأة الأدب المغربي، وتطوره فيما بعد، وبدون أن نخوض ــ نحن ــ في الجِدَالِ الذي خاضه عدد من المؤرخين والباحثين في التراث الأدبي المغربي، في مدى نسبة الخطبة المشهورة لطارق بن زياد، أو عدم نسبتها إليه، نقول ــ قولة حق ــ في أن نص الخطبة هو لَنص أدبي بامتياز، سواء في بلاغته أو لغته أو تصميمه المتمثل في مراحل، اتخذها الكاتب كوسيلة قصد التذكير والترغيب، ثم الإقناع والتشجيع. هذا بالإضافة أيضا إلى مظاهر وقضايا أدبية أخرى، مثلت قاعدة الأساس لِمرحلة نشأة الأدب في منطقة المغرب الأقصى.

كما أنه لاشك أيضا، في أن الأدب المغربي كما كانت نشأته في العصر الإدريسي، فقد كان تطوره وازدهاره ثم رُقِـيِّهِ أيضا، في عصور أخرى توالت على بلاد مغربنا في القِدَم، بدءاً من العصر المرابطي، ثم العصر الموحدي، والعصر المريني، والعصر الوطاسي، والعصر السعدي، والعصر العلوي، وفي كلٍّ من هذه العصور كان الأدب يتلون بلونها، ويخضع في بعض الأحيان لتوجهاتها، مما كان له السبب في تباين درجة التطور والازدهار من عصر إلى آخر، ولا نعني في ذلك التفضيل فيما بين هذه العصور، إنما المقصود في ذلك، أنَّه لكل عصر خصوصية وطابع خاص، يتميز به عن غيره من العصور.


وفي عصرنا الحديث تعرض لهذا الأدب العريق، عدد من الدارسين، عبر عدد من المظاهر سواء من خلال التأريخ، أو التحقيق، أو البحث والدراسة، وفي كل من هذه المظاهر يَكْمُنُ هدف واحد يجمعها، هو جمع ولَـملمة تراثنا الأدبي القديم، ونحن إذا ما تمحصنا بعين فاحصةٍ، في دراسات ومؤلفات الدارسين الذين مثلوا هذه المظاهر على امتداد عصرنا الحديث، فسنجد بدايةً أن جل المؤلفات التي عُنيت بهذا الأدب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين أيضا، كانت مجرد نتف في الأدب المغربي، تـمثلت على الشكل العام في كتب التراجم والأدب والتاريخ والشروح وغيرها، كما سنجد ثانيا، أن جل المؤلفات التي عُنيت بتاريخ الأدب المغربي، بدءاً من العقد الرابع من القرن العشرين، قد أخذت منحى آخر لم تعرفه سابقاً، إذ تَمثَّلَ ذلك في بناء نظريةٍ جامعةٍ مؤطِّرةٍ لِهذا الأدب، من خلال اتخاذ طريقة التحقيب الأدبي، كوسيلة لتأريخ الأدب المغربي قياسا على العصور السياسية التي توالت على مغربنا الأقصى، ومن تم يبرز عندنا على أطوار العصر الحديث، مرحلتين في تناول الأدب المغربي، من خلال التأريخ والدراسة، تتوسطهما نقطة تحول تمثلت في تأليف كتاب "النبوغ المغربي في الأدب العربي" على يد الأستاذ عبد الله كنون، إذ كان له الفضل بذلك في إخراج تاريخ الأدب المغربي العريق من ظلمة الشتات والتيه والإنكار، إلى نور المعرفة والمقصد، فكان بذلك صاحب نظرية الأدب المغربي، بحيث إن تأليف "النبوغ" عندنا، هو مشروع تأسيسها، وبالتالي يكون الأستاذ عبد الله كنون بتأليفه كتاب "النبوغ"، المنطلق الأساس للمرحلة الثانية ــ التي أشرنا إليها سلفا ــ من العصر الحديث، في تأريخ ودراسة الأدب المغربي، والذي بدأت تباشيرها تظهر منذ العقد الرابع من القرن العشرين.

أولا ــ مصطلح "نظرية الأدب المغربي":
من المعلوم لدينا أن الأدب المغربي، هو كيان تاريخي متكامل، تتداخل فيه على أطوار العصور التي نشأ وتطور وازدهر فيها، عدة توجهات وتيارات تتـنوع ما بين فكرية وثقافية وسياسية أيضا، ومصطلح "نظرية الأدب المغربي" في ذلك، قد لا يتوافق في الظاهر مع ما وضعناه من تعريفٍ له، وقد أشار لذلك عدد من الباحثين والدارسين، من بينهم أساتذة أجلاء تَخرجنا على يدهم من كلية الآداب، وذلك بحجة أن مصطلح "نظرية"، إِنَّمَا يطلق على قضية علمية محضة، أو علمية ذات الطابع الأدبي مثل نظرية التلقي، نظرية التناص .. وغيرها، وتكون هذه القضية عموما، نظام من الأفكار قائم على براهين وحجج وظيفتها إثبات صحة هذه النظرية، ولا شك عندنا أن هذا التعريف، يتقاطع تَماما مع حقيقة الأدب المغربي في تاريخه، ذلك أن الأدب المغربي هو ليس بقضية أو ظاهرة قائمة على براهن، إنما هو كيان عريق قائم على حقائق تاريخية، وهذا لا يعني أن من استخدم مصطلح "نظرية الأدب المغربي"، قد قصد بذلك أن الأدب المغربي، هو قضية قائمة على براهن وحجج، إذ يتأكد لنا ذلك من خلال ما وضعه بعض الدارسين، من أبحاث تأخذ في عناوينها شاكلة مصطلح "نظرية الأدب المغربي"، والمقصود من النظرية عندهم، ليس ذلك الكيان الأدبي المغربي العريق في حد ذاته، إنَّما القصد عندهم من النظرية، كان تلك الوسيلة التي أطَّرت الأدب وجمعته، بالاعتماد على التحقيب الأدبي قياسا على العصور السياسية، ومِثالا على ذلك على سبيل التقريب، فالدكتور جعفر ابن الحاج السلمي عندما وضع كتابا تحت عنوان "فصول في نظرية الأدب المغربي والأسطورة"، لم يقصد منه تأريخ هذا الأدب، أو وضع تأطير لكيانه التاريخي، كما فعل ذلك سابقا الأستاذ عبد الله كنون والأستاذ محمد بن تاويت التطواني وغيرهم، إنَّما كان المقصود من ذلك على وجه خاص في الفصل الأول منه، تسليط الضوء على الوسيلة والطريقة التي اتخذها كل من الأستاذ عبد الله كنون، والأستاذ محمد ابن تاويت التطواني، والدكتور عباس الجراري، لتأريخ هذا الأدب، والتي اعتبرها الدكتور السلمي في حد ذاتها، نظرية تلونت واختلفت عند كل من هؤلاء الدارسين الأجلاء.


ونحن في بحثٍ أنجزناه مؤخرا تحت عنوان "الأدب المغربي في آثار الدارسين: عبد الله كنون؛ محمد ابن تاويت التطواني؛ وعباس الجراري"، اضطررنا إلى استعمال في إحدى فصوله، مصطلح "نظرية الأدب المغربي" عن قناعة واقتناع، إذ كان قصدنا في ذلك، يروم إلى تحديد طبيعة ونَهج تأريخ الأدب المغربي، عند كل من الدارسين الذين كانوا موضوع بحثنا، واعتبارا من أنَّ التحقيب الأدبي هو قضية بارزة ورائدة في التأريخ الأدبي، واعتبارا كذلك أن نَهج الأستاذين عبد الله كنون، ومحمد ابن تاويت التطواني، في تأريخ الأدب المغربي، كان بالاعتماد على وسيلة التحقيب، ارتأينا إلى نُعَنوِنَ المباحث التي اختصت بهذا الجانب من بحثنا، بنظرية الأدب المغربي عندا الدارسين ــ السالفِ ذكرهم ــ من بينهم أيضا الدكتور عباس الجراري، وإن كان نَهجه في تأريخ الأدب المغربي، يعتمد على الانطلاق من الظواهر والقضايا الأدبية والفكرية في التاريخ المغربي، عبر استنطاق النصوص والكشف عما في أغوارها من أسئلة وإشكالات، لكن رغم ذلك تظل طريقته في تأريخ هذا الأدب أيضا، قضية أشار إليها الدكتور شكري فيصل في كتابه "مناهج الدراسة الأدبية في الأدب العربي"، حينما قال: " أن الحكم بالرقي والانحطاط، والتقدم والجمود ليس هو الغرض الأصيل من الدرس الأدبي، وإنما الغرض الأصيل هو شرح الظواهر ودرس النصوص واستكناه ما وراء النصوص من دلائل نفسية تنبئ عن الفرد، ودلائل اجتماعية تشير إلى روح الجماعة، ومعرفة مكانة الثروة الأدبية لعصر من الأصالة والعمق، ومن التميز والجدة"1، وبالتالي فقد كان من البديهي أيضا، أن نُعَنون المبحث الخاص بالدكتور الجراري، والذي تعلق في بحثنا، بالوسيلة التي اتخذها الدكتور الجراري لتأريخ الأدب المغربي، بنظرية الأدب المغربي عنده، كما كان الحال أيضا عندا الأستاذين عبد الله كنون، ومحمد ابن تاويت التطواني.

وعموما، فمصطلح "نظرية الأدب المغرب"، قد يتبدّى للقارئ مِنَّا في الظاهر، على أنه مصطلح يشوبه خلل في التركيب، لكن الفاصل في ذلك يتجلى بوضوح، في المكان الذي يُوضَعُ فيه هذا المصطلح المركب، بحيث أن الصواب بالنسبة لنا، سواء عندَ تلفظنا به، أو قراءتنا له، هو ترسيخ فكرة أن نظرية الأدب المغربي، هي مجرد تسمية لطريقةٍ ومنهجٍ معين، اتخذه عدد من الدارسين في تأريخهم للأدب المغربي، ونحن في استعمالنا له في هذه الدراسة، لم نعني غير ذلك.

ثانيا ــ نظرية الأدب المغربي ما بين الإقصاء والتهميش:
عرف الأدب المغربي في بدايات العصر الحديث، نوع من التهميش والنكران على حدٍّ سواء
ــ كما أقرّ ذلك الدكتور الجراري ــ والذي لحقه كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه "الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه"، من طرف المشارقة في مصنفاتهم حول الأدب العربي، إذ نجده يقول: " أما الكتب المدرسية التي يزعم أصحابها أنهم يضعون بها تاريخا للأدب العربي، فإن قارئها لا يلبث أن يحس غيابا مطلقا لبعض الأقاليم العربية ولا سيما المغرب "،2 كما لم يسلم أيضا أدبنا ــ كما أقر ذلك أيضا الدكتور الجراري في نفس مقدمة كتابه المذكور ــ من موقف المستشرقين، "الذين شوهوا معالم الثقافة المغربية وطمسوها انطلاقا من موقع التفوق الحضاري والنظرة الاستعمارية"،3 ولا شك أن جل هذه المواقف التي اتُّخِذَت ضد الأدب المغربي في تاريخه العريق، من شأنها أن تهز غيرة أي باحث أو دارس غيور على تراثنا بِمَا له من أدب وفكر وثقافة، وهذا ما لَمسناه عند الأستاذ عبد الله كنون بتأليفه لكتاب "النبوغ المغربي في الأدب العربي"، والذي يعتبر علامة فارقة، ونقطة تحول في تأريخ الأدب المغربي، إذ بتأليفه تتأسس "نظرية الأدب المغربي"، لتعطي مرحلة جديدة في التأريخ الأدبي، مُنطلقةً بعد تأسيسها عند عدد من الدارسين، بصياغة سَلِسَة تتمثل في التحقيب الأدبي كوسيلة أساس في التأريخ.

وفيما قبل تأسيس نظرية الأدب المغربي، على يد الأستاذ عبد الله كنون، سنة 1938م، بتأليفه كتاب "النبوغ"، كان الأدب المغربي ــ إن صحّ التعبير ــ عبارة عن نتف مُشتت في كتب التاريخ، والأدب، والتراجم، وغيرها من المؤلفات ــ كما ذكرت ذلك سلفا ــ، والتي لَمَسَت هذا الأدب سواء بشكل عام، أو بشكل خاص، وبالتالي فإن هذا الأدب في هذه الفترة، عرف من التهميش والإقصاء ما لَم يكن في مصلحته أبداً، خصوصا في الفترة الحرجة، والتي كان فيها المستعمر الغاشم، ماسكاً بزمام أمور البلاد، إذ كانت ذريعته في ذلك، أن المغرب هو بلدٌ لا تاريخ لَه، وبالتالي لا هوية أدبية وثقافية له، ومسألة استعماره ــ بالنسبة له ــ هي من أجل إعماره، والرُّقِي به إلى البلدان المتقدمة، ولا شك عندنا أن هذا الادعاء الذي تَزَعَّمَهُ المستعمر، هو ليس سوى ادعاءٌ باطل وساقط من الصحة، لدينا نحن المغاربة.

وهذه الفترة التي كان فيها تأريخ الأدب المغربي في ضُعف وتقهقرٍ، كانت بعض المؤلفات الـمَاهدة تحاول ملامسة تاريخ الأدب المغربي، بشكل غير مسبوق عن المؤلفات الأخرى في هذه الفترة، من بينها على سبيل التمثيل؛ كتاب "تاريخ الشعر والشعراء بفاس" لأحمد النميشي، وكتاب "فواصل الجمان في أنباء وزراء وكتاب الزمان" لمحمد غريط، وكتاب "الأدب العربي في المغرب الأقصى" لمحمد بن عباس القباج، وعموما تظل هذه المؤلفات ــ مقارنة بكتاب "النبوغ" التي تأسست على إثره نظرية الأدب المغربي ــ مجرد محاولات طيبة، تميزت عن غيرها من المؤلفات، التي عنيت بتاريخ الأدب المغربي، بتلك الفترة من العصر الحديث، والتي تمثلت بالخصوص في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وفي جميع الأحوال فإن هذه الـمُدة، مثلت ــ عندنا ــ إرهصات وبوادر هامة، مهدت لقيام نظرية قائمة في ذاتها، جامعة لِموضوعها، على يد الأستاذ عبد الله كنون، الذي كان بذلك مُنَظِّرُهَا ورائدها على وجه خاص، في كتاب "النبوغ المغربي بالأدب العربي"، وعلى العموم في مؤلفاته الأخرى، التي عُنيت بتاريخ الأدب المغربي.

3/ ـ نظرية الأدب المغربي ما بين التأسيس والتقعيد:
مِما هو مفروغ لدينا
ــ كما أثرنا ذلك سلفا ــ أن الفضل في تأسيس نظرية الأدب المغربي، يعود بالقطع واليقين ــ عندنا ــ إلى الأستاذ عبد الله كنون، وذلك عند إقدامه على تأليف كتاب "النبوغ المغربي بالأدب العربي"، إذ وضع بذلك قاعدة متينة، أعطت للأدب المغربي مكانته الحقّة، التي لطالَما افتقر لَها في عدد من المؤلفات التي عنيت به، ففي أواخر العقد الثالث من القرن العشرين، حزّ في نفس الأستاذ كنون ألاَّ يجد سطرا واحدا عن الأدب المغربي في كتب تاريخ الأدب العربي مما كتبه أحمد حسن الزيات والإسكندري وغيرهما، فبادر إلى وضع كتابه "النبوغ" ليقف جنبا إلى جنب مع تلك الكتب التي تؤرخ للأدب العربي.

فالأستاذ كنون يرى أن الأدب المغربي ظل متجاهلا لدى طائفة كبيرة من المهتمين بتاريخ الأدب العربي، سواء من المشارقة أو غيرهم، فجاءت الحاجة لإخراج كتاب "النبوغ" قصد تصوير الحياة الفكرية والأدبية والسياسية للمغرب وتطورها عبر العصور، إذ نجده يشير إلى ذلك، مُوضِّحاً الغاية والداعي من التأليف، قائلاً: "لم أكن أهدف به إلى تمييز أدب المغرب بميزة ليست في الأدب العربي العام، ولا إلى تخصيصه ببحث مستقل يجعله في نظر المغاربة أو غيرهم.. وإنما مقصودي الأهم من تأليفه هو بيان اللبنة التي وضعها المغرب في صرح الأدب العربي الذي تعاونت على بنائه أقطار العروبة كلها"،4 كما نجده في جانب آخر قد أطَّرَ كتابه، مشيراً حين قال:"هذا كتاب جمعنا فيه بين العلم والأدب والتاريخ والسياسة، ورمينا بذلك إلى تصوير الحياة الفكرية لوطننا المغرب، وتطورها في العصور المختلفة من لدن قدوم الفاتح الأول إلى قريب من وقتنا هذا ..."،5 فمسألة الجمع فيه بين العلم والأدب والسياسة، تعطيهِ أهمية بالغة خصوصا فيما يتعلق بِمزجه بين الحياة الفكرية والسياسية، لأن ظروف تأليف الكتاب كما هو معلوم كانت في عهد الاستعمار، وهذا الطابع هو الذي جعل العديد من المفكرين والمبدعين المشارقة يتلقونه بترحيب كبير، فنجد في ذلك الأمير شكيب أرسلان الذي قال فيه: "إن من لم يقرأه فليس على طائل من تاريخ المغرب العلمي والأدبي والسياسي"،6 كما نجد أيضا الأستاذ حنا فاخوري في مقدمة الجزء الأول يقول فيه: "إن النبوغ المغربي في الأدب العربي كنز من كنوز العلم، ومصدر من أوثق مصادره، وموسوعة مغربية لا يقدرها حق قدرها إلا من لَمس النص في كتب الأدب"،7 كما لا شك عندنا أيضا أن ولادة النبوغ، كانت سببا في ولادة أخرى، ألا وهي نظرية الأدب المغربي، بحيث يعود الفضل ــ كما أسلفت الذكر ــ في تأسيسها إلى الأستاذ كنون من خلال هذا المؤلف، الذي لم يشهد المغرب مثله على الإطلاق، فنجد فيه قد جُمِعَت كل مقومات ومكونات الأدب المغربي، التي كانت متفرقة في كتب التاريخ والأدب والتراجم، التي أُلِّفت قبل تأليف "النبوغ".

وفيما بعد تأسيس هذه النظرية على يد أستاذنا كنون، تأتي مرحلة أخرى تمثلت بالخصوص، في تقعيد هذه النظرية من خلال تطويرها ثم تَجديدها أيضا، عبر يد ثلة من الدارسين، نذكر منهم على سبيل الـمِثال الأستاذ محمد ابن تاويت التطواني، من خلال كتابه "الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى"، والذي عرفت نظرية الأدب المغربي على يده نوعا من التطور، وإن وصفها البعض الآخر أنها عرفت انتكاسة أكثر مِما هو تطور، ثم أيضا الدكتور عباس الجراري الذي أسهمت جهوده في بلورة رؤية لأدب المغرب الأقصى، داخل نسق الأدب العربي، وكان ذلك بفضل انشغاله الدائم بهذا الأدب تدريسا وتأطيرا وتأليفا، حتى لُقِّبَ "بعميد الأدب المغربي"، وبذلك فقد عرفت نظرية الأدب المغربي عنده مظاهراً من النضج، وبواعثاً من التجديد لم يسبق أحد لَهما، إذ تمثل ذلك في عدد من إسهاماته الجريئة في تناوله للأدب المغربي، من أبرزها؛ اهتمامه في بداياته على وجه خاص بالأدب الشعبي، وجَعْلِهِ من اهتمامات الباحثين في الجامعة المغربية، ثم كذلك إعراضه عن الطريقة القديمة لتأريخ الأدب المغربي، التي كانت تعتمد بالأساس على التحقيب الأدبي، والْتِزامه بطريقة عبقرية تنطلق من ظواهر وقضايا أدبية وفكرية في التاريخ المغربي، قصد الوصول إلى الأجواء الأدبية والفكرية العامة لعصر من عصور المغرب قديما.

وعموما، فإشارتنا هذه لم تكن ــ عندنا في هذا الجانب من الدراسة ــ إلا على سبيل البسط والإيجاز، فقد حولنا بداية أن نرصد ظروف تأسيس نظرية الأدب المغربي، عند الأستاذ عبد الله كنون بتأليفه كتاب "النبوغ"، ثم عمدنا في التالي إلى تحديد مظاهر تقعيد هذه النظرية، من خلال تطويرها ثم وتجديدها على يد دَارِسَيْنِ، تَرَكَا بصمتهُمَا لامعةً في مجال تأريخ ودراسة الأدب المغربي.

وختاماً لهذه الدراسة المتواضعة، نخلص إلى أن الأدب المغربي في عراقته وتاريخه الـمَجيد، قد تعرض في عصرنا الحديث، إلى أشكال ومظاهر عدّة في التأريخ والدراسة، تنقسم عندنا ــ على الشكل العام ــ إلى مرحلتين هامتين، يتوسطهما حدث فارق في التاريخ المغربي المعاصر، إذ على إثرهِ انقلبت الـموازين، في رؤية وفكرة عدد من المشارقة والمستشرقين وغيرهم، عن حقيقة تاريخ الأدب المغربي في عصوره الممتدة إلى القرن الهجري الثاني، فهذه الحقيقة التي كانت مغمورة في رفوف المكتبات والزوايا، متفرقةً في ذلك على كتب الأدب والتاريخ والتراجم وغيرها، كانت هي الدافع والهاجس الذي أعطى الشجاعة والقوة للأستاذ عبد الله كنون، في أن يضع لهذا الأدب العريق قاعدة جامعة له، عبر اعتماد وسيلة التحقيب الأدبي قياسا على العصور السياسية، كوظيفة مُثلَى في التأريخ الأدبي عنده، لِتَتَأَسَسَ على إثرِ ذلك نظرية، كان الأدب المغربي ــ مِما عرفه من شتات وضياع ــ في أَمَسِّ الحاجة إليها، فولادتُها كانتفي عصرنا الحديث، نقطة تَحول ما بين الماضي، الذي كان فيه الأدب المغربي متوهجا في تواضعٍ، وباهتاً في السُمُوِّ، وبين الحاضر والمستقبل الذي بات فيه الأدب المغربي بدايةً عند الأستاذ عبد الله كنون، وفيما بعد، عند عدد من الدارسين، في توهجٍ وتألقٍ غير مسبوق، سواء داخل الوطن أو خارجه.

الهوامــــش:
1/ ـ شكري فيصل، "مناهج الدراسة الأدبية في الأدب العربي"، ص: 41.
2/ ـ عباس الجراري، "الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه"، ص: 7.
3/ ـ نفس المرجع، ص:7.
4/ ـ عبد الله كنون، "النبوغ المغربي في الأدب العربي"، الجزء الأول، ص :9.
5/ ـ نفس المرجع، ص: 5.
6/ ـ نفس المرجع، الجزء الثاني، ص: 17.
7/ ـ نفس المرجع، الجزء الأول، ص: 8.




55.jpg
 
أعلى