دعوة الحق - المجالس الحديثية في عهد الدولة العلوية

تمهــيد:
لعل الفتور الذي لحق الحركـة العلمية أواخر الدولـة السعدية وخاصة بعد المنصور السعدي، والذي كـان مرده إلى إنتشار الفوضى وإستشراء الفتنة، ثم القضاء على الزاوية الدلائيـة أوائل ظهور الدولة العلوية على يـد المولى الرشيد، وترحيل علمائها وشيوخها إلى كل من فاس وتلمسان لم يستمر، إذ بمجرد إستقرار أحوال الدولة العلويـة وإستتباب الأمن في ربوعهـا، عادت الحركـة العلمية إلى نشاطها وقوتها، بفضل محبة المولى الرشيـد للعلماء، وتعهدهم ببره وعطفـه، حتى جعلهم من جلسائه وخواصه وأهل بطانته (1).
وقد إتخـذ الرشيد لنفسه مجلسا حافـلا بالعلماء والشيـوخ يحاورهم ويذاكرهم، وكـان في مقدمتهم أبو عبـد الله المرابط، بل كـأن يذهب إلى أبعـد من ذلك فيتردد على منازل بعض العلمـاء للقراءة عليهم (2) ، كمــا كان يحضـر مجالس الشيخ اليوسي بالقرويين وبذلك إنتشر العلم في عهده وإعتز أهله وظهرت عليهم أبهته (3).
وإذا كانت الحركة الفكريـة بوجه عام، عرفت إزدهارا متواصلا أيام العلويين، فإنها بلغت أوجها وإزدهارهـا في عهد بعض الملوك، الذيـن كانوا علماء وحفاظا ومحدثيـن، ولم تشغلهم شؤون الدولـة ومهامها عن طلب العلم والتعمق في الثقافـة، والتفرغ لمجالس العلماء وخاصة الحديثية، خـلال أوقات وشهور معينـة وهي رجب وشعبان ورمضان، وهؤلاء الملوك هم: السلطان محمـد الثالث والمولى سليمان والمولى الحسن الأول وإضرابهم.
ولذلك نشطت المجالس الحديثية في عهدهـم، وكانت مجالس حوار ومناظـرة ونقاش تضم كبـار العلماء والمحدثين، وإزدهرت حلقات الحديث في عهدهم سواء في القصـور أو في المساجـد والزوايا وغيرها، وإزداد طلبة الحديث وقوى الإقبال على حفظه ودراسته، وكثـر التأليف فيه، وإزدهرت الخزائن العلميـة بفضل ما أضيف إليهـا من شروح وحواشي وتعليقـات على صحيح البخاري، كمـا برز في أيامهم محدثـون كبار، تفرعوا لدراسة الجامع الصحيح والعنايـة به، وما زالت آثارهـم شاهدة عليهم، ومحافلهم ومجالسهـم خالدة مذكورة.
ومن التقاليـد المرعية لدى ملوك المغرب، أن يتخذوا من كبـار العلماء شيوخهـم لتعليمهم وتعليم أولادهم، والمذاكـرة معهم وإستشارتهم، وقـد يكون شيخ السلطان هو شيخ الجماعة، وغالبا ما يكـون شيخ السلطان هو شيخ مجلسه الحديثي ورئيسه، وهـو منصب رسمي ذو أهمية وإعتبار، لكونه يرأس مجالس السلطان ويتولى إلقـاء الدرس بحضرته، وقـد جرت العادة وخاصة في أيـام الدولـة العلوية، بعقد المجالس الحديثيـة خلال الشهـور المذكورة، حيث يعين الشيخ ورئيس المجلس بأمر السلطان، فئة من العلمـاء الممتازين لحضور المجلس مساء كل يوم طيلة الأشهر الثلاثـة بإستثناء يومـي الخميس والجمعـة لسرد أحاديث الصحيح، وإذا إرتأى الملك أن يتكلـم شيخه على أحـد الأحاديث المسرودة، طوى نسخـة البخاري التي بيـده فينبـري الشيخ للتعليق على ذلك الحديث، وقـد يناقـش من طرف الملك نفسه أو أحـد العلماء الحاضريـن، وقد يحتدم النقاش، ويكثر الجـدال والتدخـل، فيعين الملك أحد الحاضرين لتلخيص ما راج في المناقشـة وإعطـاء رأيه الخاص، أو يجعل حـدا لذلك النقاش بعودتـه إلى فتح نسخته، كما كـان من بين الحاضرين من هـو مخصص بالسرد لحسن صوتـه ومتانة عربيته، وليس له حـق التدخـل في تقرير معاني الأحاديث لكون مستواه العلمي لا يخـول له ذلك (4).
كذلك لم تكـن مجالس الحديث مقصورة على الملوك وحدهم، بل كانت عامـة منتشرة يعقدهـا خلفاء الملوك وأمراؤهـم وعمالهم وأعيان رعاياهم، ويستـدعون كبار الحفاظ والعلمـاء إلى منازلهم لسرد الحديث ودراسته إقتـداء بملوكهم وتخلقا بأخلاقهـم، هـذا علاوة على النشـاط الممتاز والمجالس الحديثيـة التي تشهدهـا رحاب المساجد الكبرى والأضرحـة الشهيرة والزوايا خـلال الشهور الثلاثـة. ولا سيمـا في رمضان، حيث يوقف العلمـاء دروسهم المعتـادة ويعوضونها بدروس حديثية، حول الكتب الستة وفي مقدمتهـا صحيح البخاري (5).

مجالـس محمد بن عبد الله:
إن أول ما يثيـر إنتباه الدارس لحيـاة هذا الملك العظيم، هـو حبه للعلم وإقبالـه عليه منـذ نعومـة أظفاره، وتكريمه للعلمـاء ومحبتهم ورعايتهم يؤيـد ذلك ويؤكده أنه بمجرد بيعتـه ودخولـه إلى فاس، كان أول ما فعل هـو إتصاله بالعلماء والفقهاء، والتعرف عليهـم واحدا واحدا. (6)
لقد وصف «نشر المثانـي» الملك محمد الثالث، بأنه سلطان العلماء وعالم السلاطين، لكونه كان في العلـم بحرا لا يجارى، وفي التحقيق والمعارف لا يمـارى، وقد جمع من درايـة العلم ما تقف العلماء دونه... فكملت به منة الله على العباد، وأحيـا به الله الدين في كل الأرض والبـــــــلاد (7).
ومنذ صـار ملكا أقبل على كتب الحديـث والسيرة، فأخـذ يدرسهـا ويدارسها العلماء، ولم يقتصـر على الموجود منها بالمغرب، فإستجلب من المشرق المسانـد كمسند الإمام أحمد ومسندي الشافعي وأبي حنيفـة، كما أمر بشرح كتاب المغاني (8).
وقد رتب لمجالسه أوقـاتا مضبوطـة لا تتقدم ولا تتأخر، حضـرا وسفرا، سلما وحربـا، كان يحذو في ذلك حذو أستاذه وقدوتـه أحمـد المنصور الذهبي.
كما قام بنقل العلماء إلى مراكـش من فاس ومكناس وسلا وغيرهما وفرقهـم على المساجد يدرسون بها ويعلمون الناس، ثم يحضرون مجلسه الحديثي يـوم الجمعة، ولم تكـن تلك المجالس تقتصـر على العلماء والمحدثيـن بل كـان يجالس الشعراء والكتاب والأدباء، ويقربهم ويذاكرهم ويناقشهم أمثـال، أحمد بن الونان، وأحمد الغزال والكاتب الإسحاقي وأحمد بن عثمان وغيرهم.
وكان مجلسه بعد صـلاة الجمعة بمقصورة الجامع، يحضره علمـاء مراكش وفقهاؤهـا وغيرهم من علماء المغرب والوافديـن عليه، ويجالسهم إكرامـا لهم وتنويها، ويذاكرهم في الحديث وفقهه والأدب وأيـام العرب، وكـان يحصل له النشاط التام بالمذاكـرة معهم في ذلك (9)، وإشتهر من علمـاء مجلسه الحديثي كثيرون، نذكر منهم من لازمـه ملازمـة مستمرة، وكـان لا يفارقه إطلاقـا، يسردون له كتب الحديث ويخوضون في معانيها ويؤلفـــــون له على مقتضــــى إشارتــــه (10) ، نذكر منهم:
أبا عبد الله محمـد بن أحمد الغربي الرباطي، وأبا عبد الله محمد بن المير السلاوي، وأبا عبد الله محمد الكامل الراشدي، وأبا زيـد عبد الرحمان بن عبد القادر بوخريص، وأبا زيد عبد الرحمان المنجرة والشيخ حمدون بلحاج وغيرهم (11).
وكانت هذه المجالس أسسا للمجالـس الحديثية عند ملوك العلويين، والتي سار عليهـا خلفه من بعده ونحوا نحوه وإستمروا عليها إلى اليوم، فهو مؤسسها في عهدهـم، وإليه يرجـع الفضل فيها، إذ أصبح مجلس الحديث من العوائد الرسمية، والسنن المرعيـة للدولة التي حافظ عليها الملوك من بعده (12).
وقد سجـل هذه الأيادي والصفـات المشرقة أحمد الغزال الفاسي قلائلا:

أتتنــا بك الأيـام عند مشيبهـــا * فعادت عروسـا باليهـا لهـا قدر
وعـادت رياض العلم عابقـة الشذا * تغـرد في أفنان أدواحها الطيــر
وشـدت ذرا الآداب فإعـتز أهلــه * وصـار لهم في كـل شائعة فخـر

كمـا وصف مجالسه العلمية الشيخ حمدون بن الحاج بقوله: (13)

بـه طلعت شمـوس لأهــل فاس * بأقصـى المغـرب للناظرينـــا
ولـم يحرف لهـا من قبـل ذكــر * ولا طرقـت بـآذان السامعينـــا
وجامعه تضمـن ما حوتـــــه * وجمعـه فيـه سؤال للراغبينـــا

مجلس أبي الربيــع سليمان:
كان هـذا السلطان نادرة من نوادر البيت العلوي في الإشتغال بالعلم وإيثـار أهله، كما كـان جليلا نبيلا علامـة حجة كاملا، لا يجالس إلا الفقهاء والعلمـاء، ولا يبرم أمرا من أمـور المملكة إلا بعد مشاورتهم، ولا يقبـل منهم إلا النص الصريح، ويبالغ في الثنـاء عليهم وتعظيمهم وصلتهم ومودتهـم، وتفقـد أحوالهم وأحوال كل مـن له صلة بهم.. (14).
وقد حصـر أغلب إهتمامـه العلمي على التفسير والحديث، ثم إنقطع للحديث وعكف عليه، وكـان له مجلس خاصة بقراءة الجامع الصحيح لأبي عبد الله البخاري وسماعه والمذاكـرة فيه، يطفح بكبـار المحدثين والعلمـاء أمثال الشيخ أبي الفيـض حمدون بلحاج، والشيخ التـاودي بن سودة، والشيخ أبي العـلاء العراقي (15).
وممـا يذكر من لطائف مجالسـه الحديثية، أنه كان بمجلس البخاري فعطس والقارئ يتلو يرحمك الله مـن حديث أبي هريرة قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلـم، إذا عطـس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال، وليقـل له أخـوه وصاحبه يرحمك الله... الحديث وقد سجل هـذه اللطيفة أبو الفيض حمدون بلحاج في بيتين ظريفيـن: (16)

عطسـت وراو الحديـث يقــول * يرحمــك الله قــول الرســول
فكـان الرســــول المشمـت إذ * عطسـت وذلك أعظـم ســـول
ومن شـدة إهتمام هـذا الملك بعلم الحديث، كثرة مشيختـه وإهتمامه بوصـل سنده بسند شيوخه، من ذلك الفهرس الذي جمعه له كاتبـه أبو القاسم الزياني، والذي ضم شيوخه الذيـن أخذ عنهم وسماه «جمهرة التيجان»، وفهرست اللؤلـؤ والمرجـان في ذكر الملوك وأشياخ مولانـا سليمان وقد تحدث صاحـب «الإستقصا» عن مجالسـه الحديثية التي إستمرت طوال عهده وتتأكـد في رمضان قال:
«وأمـا الدين والتقوى فذلك شعاره الذي إمتـاز به، ومذهبـه الذي يدين به، من أداء الفريضة لوقتهـا المختار حضرا وسفرا، وقيـام رمضان وإحياء لياليـه بالإشفاع، ينتقي لذلك الأسانيـد ومشايـخ القراء، ويجمـع أعيان العلمـاء لسرد الحديث الشريف وتفهمه، والمذاكرة فيه على مر الليالي والأيام، ويتأكد ذلك عنده في رمضان ويشاركهم بغزارة علمه وحسن ملكته، ويتناول راية السبق في فهم المسائـل التي يعجز عنها غيره فيصيب المفصل» (17).

مجـالس الحسن الأول:
لقد أظهـر الحسن الأول منذ أول عهده إهتمامـا عظيما بنشر العلم ورعاية العلمـاء وتعظيمهم، ولذلك كـان يبعث البعوث إلى الخارج لتلقي شتـى أنواع العلوم، كمـا كان يحضر مجالس العلم بنفسه ويناقش العلماء ويستشيرهـم في أمور الدولة (18).
ومن تشجيعه للعلم وأهلـه أجزاله لهم العطايا والمنح ، حتـى تسابق الناس في الباديـة والحاضرة على حفظ المتون وإتقان القراءات، وكانت كـل أسرة تنجب ولدا يحفظ متنـا أو يتقن علم القراءات، تكـرم وتعفى من الخدمـات والتكاليف، وتمنح ظهير التوقير والإحترام، زيـادة على منح الحافظ صلة مهمة.
وقد كانت عنايتـه بالحديث والمحدثين فائقـة، إذ إستمرت عادة المجالس الحديثيـة التي يحضرها بنفسه ويستدعي لها العلمـاء من كل حدب وصوب حيث يدرس الكتب الستة والموطأ في نحـو ستة وثلاثين مجلسا طوال عهد ملكه لا تنقطـع أبدا وفي ذلك يقول إبن زيـدان (19):
«وعلى هـذا كان العمـل جاريا من لدن الدولـة الرشيدية إلى أواسـط الدولـة اليوسفية، وكـان من العادة تقديم الطعام للعلمـاء إثر إنتهاء الدرس، وفي الختـام تلقي القصائـد تمجيدا وتعظيمـا للمناسبة، وفي عهـد المولى الحسن أجزلت لهم العطايا والهدايـا وزيدت في الميرات».
ومن شـدة إهتمـام هذا الملك بصحيح البخـاري وتعظيمه، أنه عندمـا بنى قصره بالرباط دشنه بحفل عظيـم ختم فيه صحيح البخاري بمحضـر رجـال الدولـة وعلمائها كما كان يقيم حفلات ختمـه وسرده، وتدريسه حاضرا ومسافـرا، كما فعل ذات مرة وقـد حل بالرباط خلال شهـر رمضان، فأتم بها صيامـه وأحيا العيد، وختم صحيح الإمـام البخاري بمحضر جم غفير من القضاة والعلماء والأعيان.
وكانت رآسـة مجالسه الحديثية للشيخ أبي عيسى المهدي بن سـودة المري المتوفي سنة 1294 ومـن بعده لشقيقه الشيخ أحمـد بن سـودة المـرى المتوفي سنة 1321 (20).

مجالـس عبد الحفيظ:
وفي عهد هـذا السلطان زادت العنايـة بالحديث وأهله، لكونه كـان عالما شغوفا بكتب الحديث وعلـوم السنة، تفرغ لها وإشتغل بهـا عندمـا كان خليفة للمولى عبد العزيز بمراكش.
ولذلك إستمر في عقد مجالـس الحديث التي كـان يجمع لها العلماء من كـل أنحاء البلاد، وخاصة علماء شنجيط الذيـن كان يضمهم إلى مجالسه العلمية، التي كـان يميزهـا الحوار والنقـاش والمناظرة، كما كـان يشارك فيها بنفسه مشاركـة تدل على إطلاعـه الواسع وفهمه العميـق وخاصـة في الدراسات الحديثية، ويتدخـل في النقـاش بالسؤال والتعقيب كما حصل له مرة مـع الشيخ أبي شعيب الدكالي، عندمـا كمان يتكلم على حديث في صحيح البخاري مستنبطـا منه سألـه عن بيت شعر ورد في الصحيح وفي قائله (21):
يذكرنــي حاميـم والرمـح شاجــر * فهلا تلـى حاميـم قبــل التقـــدم
وقد إمتازت المجالس الحديثية على عهـد المولى عبد الحفيظ، بما كانـت تزخر به من كبـار العلماء والمحدثين وفي مقدمتهم شيـخ الجماعة أبـو العباس أحمـد بن الخياط الزكاري، والشيخ أبو شعيب الدكالي، و الشيخ عبد الكبير الكتانـي وشيخ الجماعة بالرباط أحمد البطاوري والشيخ أبـو الفيض سيدي محمد الكتاني وسواهم (22)، كمـا تميزت بطابـع النقاش، وإحترام النزاع بين المحافظيـن من العلماء المتشبثيـن بظاهـر النصوص مثل أحمـد بن الخياط وأحمد بن الجيلالي وبين الجماعـة التي كانت تدعـو إلى السلفية والتجديـد، مثـل الشيـخ أبي شعيب الدكالي الـذي كـان يشايعـه السلطـان في بعض ما يذهب إليه (23).

مجالس محمـد الخامس:
لم تنقطـع هذه المجالس على عهـد السلطان أبي المحاسن يوسف، إذ إستمرت حافلـة بالعلمـاء وتولى رئاستها عالمـان جليلان هما: الشيخ أبو شعيب الدكالي، ثم خلفـه فيها الحافظ عبد الرحمان بن القرشي الفيلالي المتوفي سنة 1358.
غير أن هـذه المجالس عادت إلى الإزدهار والإنبعاث في عهد الملك محمـد الخامس، بسبب النهضـة التعليمية التي دعا إليهـا وتبناهـا، والحركة الإصلاحية التي كتان رائدهـا، وقد كانت تختلف أوقاتهـا أحيانـا وتتعطل أحيانـا للظروف الصعبة القاسية التي كانت يمـر بها المغرب، والتي كـان يرفضها الإستعمار بسبب سياسته وتعنته.
وكانت هـذه المجالس في أول عهدهـا تتكون من علماء المغرب الموظفيـن بالقصر الملكي، وبعض أعضاء مجلس الإستئناف الشرعي والمحكمة العليا وقليـل كمن كتاب مختلف الوزارات أو الموظفيـن خارجها كبعض أعيان القضاة ويرأسها، إمـا وزير العدل أو رئيس مجلس الإستئناف الشرعي.
وقد كـان شيخ هـذه المجالس الحديثية في عهـد محمد الخامس الحافـظ الشيخ أبـو شعيب الدكالي، فلمـا توفي تناوب على رئاستهـا الشيخ محمد العربي العلوي والشيخ المدنـي بن الحسني، كمـا كان من بين أعضائهـا العلامـة محمد الحجوي والعلامـة محمد السائد وغيرها (24).

مجالـس الحسن الثاني:
لقد أحس الحسن الثاني بضرورة إستيعاب تراثنا السامي وتعميم الفكر الإسلامي، فعمل على تفجير طاقاته وتحريك دواليبه وتيسيـر أساليبه، ومن هـذا المنطلق يلاحـظ الدارس بأن هـذا العهد، تميز بمعلمتين فكريتين رائدتين، كان لهمـا أكبر الأثر في الحياة الفكريـة ببلادنـا وهما:
ـ المجالـس الحديثية.
ـ ودار الحديث الحسنية.
لذلك حافظ الحسن الثاني على سنة المجالس الحديثة التي عرفها المغرب منذ القديم، إلا أنها تميزت في عهده بكونها تطورت وتجددت في شكلها وإطارها، وفي مفهومها ودلالتها، وفي موضوعاتها وشخصياتها، إذ بت فيها قبسا من روحه وعزيمته وطموحه.
ـ فلم تعد مقتصرة على شهر رمضان وحده، فقد كانت تقام أحيانا في بقية شهور السنة. إذ أصبح الملك يعقد مجلسا شهريا في مختلف مدن المملكة، كما وقع بمدينة طنجة حيث ألقى العلامة عبد الله كنون درسا حديثا للتعريف بمالك وموطإه, وبمكناس حيث ألقى المرحوم العميد عبد الواحد العلوي درسا أدبيا، وبمراكش حيث ألقى أستاذنا العميد الرحالي الفاروق درسا حديثيا موضوعه: «الدين النصيحة» كما أن أوقات تلك المجالس إختلفت في هذا العهد، فمرة تعقد بعد العصر إلى المغرب، وأخرى بعد صلاة العشاء وأحيانا بين العشاءين كما هو الشأن في المجالس الشهرية خارج العاصمة.
ـ أصبحت المجالس ندوة إسلامية واسعة، وفرصة لتلاقح الأفكار وتبادل الآراء، ولتعيين الروابط وإبراز معالم الوحدة التي تجمع بين القلوب، مهما تناءت الديار وبعدت المسافات.
ـ صارت المجالس تنقل مباشرة بواسطة مختلف وسائل الإعلام المرئية والناطقة والمكتوبة، وبذلك عمت فائدتها، وإتسع مجال الإهتمام بها، وفتحت عيون الناس من جديد ليتعرفوا على حقيقة دينهم.
ـ ولقد طفحت هذه المجالس وما زالت بنوابغ العلماء والمحدثين من المشرق إلى المغرب. الذين كانت لهم مشاركة فعالة وإسهام بدروسهم ومحاضراتهم.
وتعتبر هذه المجالس نبراسا مضيئا في طريق البعث الإسلامي، الذي تزعمه الحسن الثاني ودعا له وتبناه، من أجل أن يستعيد المسلم في ظلاله إنسانيته كرامته، ويسترجع هويتته وحقيقته، ويعطي للدين في المجتمع مكانته وسلطته.
ـ لقد خرج الحسن الثاني بالمجالس الحديثية من إطارها المحلي الضيق إلى إطار أوسع وأشمل.
حيث أخذ يستدعي لها طائفة من علماء المسلمين من مختلف البلاد من المشرق وغيره إلى جانب إخوانهم علماء المغرب، العلامة المرحوم الفاضل بن عاشور والشيخ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة من تونس والدكتور محمد عبد الحليم محمود والشيخ محمد متولي شعراوي، والشيخ أحمد عبد الرحيم عبد الله من مصر، والعلامة أبو الأعلى المودودي من الهند، والدكتور صبحي الصالح من لبنان.
ولم تعد هاته المجالس قاصرة على التفسير والحديث وحدهما، بل ضمت جوابنها الطارف والتليد في عالم الفكر والثقافة، من تفسير كتاب الله وتجلية معانيه، وشرح لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وبيان مقاصده، وبيان لفقه الحياة والواقع ووضع كثير من المفاهيم في موضعها الصحيح ووزنها بميزان الإسلام ومقارتنها بغيره من الأديان.
وأعظم ما تميزت به تلك المجالس هو ما توفر لها من جو الحرية (25) فيما يعرض من أفكار وآراء ونظريات في إختيار الموضوعات التي نذكر هنا بعضها لأهميتها وما تناولته من قضايا الساعة ورأي الإسلام فيها وإستنتاج الحلول والمقاصد منها وفي مقدمتها، درس جلالة الملك عن الأمانة وجلال قدرها في شريعة الإسلام، وشرح حديث كم من رجل لو أقسم على الله لأبره، وشرح حديث التضحية للشيخ الرحالي الفاروق.
ويعتبر الحسن الثاني أول ملوك الدولة العلوية الذي إختص بدرس مستقل في المجالس الحديثة، يلقيه بنفسه شأنه في ذلك شأن العلماء، يتناول فيه تفسير آية قرآنية أو حديثا نبويا بأسلوب فريد وطريقة مبتكرة تعتمد على الإجتهاد والإستنباط. وإظهار مزايا هذا الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان ومظاهر تجدده الدائم.


(1) الإستقصا 7-43 و 44، النبوغ 1/274.
(2) مدرسة الإمام البخاري في المغرب للكاتب 1/345.
(3) الاستقصا 7/44.
(4) الكتاب الذهبي، المركز الإجتماعي لعلماء جامعـة القرويين محمد السراج، ص 151.
(5) مدرسة الإمـام البخاري في المغرب للدكتور يوسف الكتاني 1/147.
(6) الاستقصا 1/5.
(7) الإتحاف، 3/140
(8) المصدر السابق، 3/150.
(9) الإتحاف 3/183
(10) الاستقصا 5/66
(11) الفتوحات الإهية، مقدمة المدني بن الحسني
(12) مدرسة الإمام البخاري في المغرب، 1/154
(13) الإتحاف، 3/340
(14) فهرس الفهارس 2/330 نقلا عن الإشراف لإبن الحاج
(15) فهرس الفهارس 2/129ـ 331.
(16) المصدر السابق 2/330.
(17) الاستقصا 1/170
(18) مدرسة الإمـام البخاري في المغرب 1
(19) الإتحاف 2/143، وما بعدها.
(20) الكتاب الذهبي، المركز الإجتماعي لعلماء جامعة القرويين محمد السراج ص 153.
(21) مدرسة الإمام البخاري في المغرب 1/163وما بعدهـا.
(22) الكتاب الذهبي ص 153-154.
(23) أنظر مقالنـا عن الدولة العلوية وعنايتها بالحديث الشريف ، دعوة الحق ، ع2، ص 15، 1397-1977.
(24) أنظر ذلك مفصلا في كتابنا مدرسة الإمام البخاري في المغرب 1/365.
(25) الدروس الحسنية عام 1395 ص 213 الحرية ومفهومها الإيجابي في الإسلام للدكتور صبحي الصالح



* العدد 227



55.jpg
 
أعلى