دعوة الحق - المقْري والمقَّري.. تحقيق علمي في ضبط كلمة المقْري والمقَّري

سمح الزمان بجلسة قصيرة ممتعة مع الأستاذ الجليل الدكتور أمجد الطرابلسي عضو مجمع اللغة العربية بدمشق والأستاذ بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس...
وكان حديثا طريفا ممتعا تناول شؤونا وشجونا... وأثناءه لفت نظر الدكتور المحترم أنني حينما أتحدث عن أبي العباس المقري صاحب نفح الطيب أنطق بكلمة "المقري" بفتح الميم وسكون القاف..! مع أن المعروف الجاري على الألسنة والأقلام خلاف ذلك...!
وقد أجملت إجابتي إذ ذاك حسب ما سمحت به تلك الجلسة القصيرة الممتعة.. وأعود اليوم إلى هذا الموضوع.. ولعل في ذلك فائدة.! يذكر الرحالة ابن حوقل مدينة مقرة. ويجعلها بين مدينتي ميلة ... والمسيلة... وقد عرف ابن حوقل الشمال الإفريقي والأندلس وصقلية أثناء رحلته الواسعة التي قام بها في النصف الأول من القرن الرابع الهجري(1).
ويذكرها أيضا الجغرافي اللغوي أبو عبيد البكري المتوفى سنة 487 هـ في كتابه "المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب" مرتين ... والمستغرب أن طابع الكتاب جعل شدة على القاف عند ذكر مدينة مقرة.. ص51. وأهمل ذلك عند ذكر وادي مقرة ص 144 ..
أما ياقوت الحموي فقد ذكرها في كتابه "معجم البلدان" ... قائلا: "مقرة بالفتح ثم السكون...! وتخفيف الراء، كأنه إن كان عربيا من الاستنقاع؛ نقول مقرت السمكة في الماء والملح مقرا إذا أنقعتها فيه ... ومقرة مدينة بالمغرب في بر البربر قريبة من قلعة بني حماد بينها وبين طبنة ثمانية فراسخ ... كان بها مسلحة للسلطان ... ضابطة للطريق .. ينسب إليها عبد الله بن محمد بن الحسن المقري ... ذكره السلفي في تعاليقه...(2).
فياقوت الحموي المتوفى سنة 626 هـ عرف هذه المدينة معرفة سماع واطلاع ... وضبطها كما ضبط أسماء مدن أخرى في المشرق والمغرب، وهو بهذا الضبط يكون - فيما نعلم - أقدم نص عندنا معروف نجد فيه اسم مقرة... كما نجد ضبطها... والنسبة إليها ...!
والشخصية العلمية التي انتسبت إلى هذه المدينة خلال القرن الثامن الهجري، وكان لها طنين ورنين في بلاد المغرب العربي والأندلس والمشرق، هي شخصية أبي عبد الله محمد بن محمد ابن أحمد المقري، من أسرة المقري المعروفة في تلمسان منذ انتقالها من مقرة...
وانتقل أبو عبد الله المقري هذا إلى مدينة فاس وجعله أبو عنان المريني قاضي الجماعة بها وبنى له المدرسة العنانية ليكون المدرس بها...!
والمقري هذا اتصل به جماعة من أقطاب العصر... في المغرب العربي، والأندلس، والمشرق، كابن خلدون، وابن الخطيب، وأبي الوليد ابن الأحمر، وابن قيم الجوزية في دمشق .. وأبي حيان في مصر.. وبذلك نجد له ترجمة حافلة .. وشهرة واسعة ...عند أهل المشرق والمغرب ... وتوفي بفاس سنة 759 هـ ونقل جثمانه إلى مدينة تلمسان وبها دفن ...!
وهنا تبتدئ قصة المَقْري والمَقَّري ... فالمَقْري هكذا عرف في حياته. كما عرف في أقلام الذين خالطوه أو اتصلوا به مباشرة باسم محمد المَقْري التلمساني .. بفتح الميم وتسكين القاف..!
والدليل على ذلك:
1) أن ابن خلدون المتوفى في سنة 808 هـ وهو ممن اتصل بالمَقْري وأخذ عنه وصاحبه ... وعرف مدينة مَقْرة ... وذكرها في كتابه "العبر" مرارا(3) ضبط بقلمه كلمة "المَقْري" بفتح الميم وسكون القاف وكسر الراء...! كما جاء ذلك في النسخة الخطية التي طبعت عليها النسخة المطبوعة من كتاب "التعربف بابن خلدون ورحلته غربا وشرق" بتعليق الأستاذ البحاثة المحقق محمد بن تاويت الطنجي(4).
2) أن أبا الوليد إسماعيل ابن الأحمر المؤرخ النسابة المتوفى بفاس سنة 808 هـ أو سنة 810 هـ. وهو ممن اتصلوا بالمَقْري في حياته بفاس ... ضبط في فهرسته كلمة "المَقْري" بفتح الميم وسكون القاف... كما نقل ذلك عنه الشيخ أحمد بابا التنبكتي في كتابه "نيل الابتهاج" (5).
3) أن ابن مرزوق الحفيد المتوفى سنة842 هـ وهو وإن لم يتصل بأبي عبد الله المَقْري... ولكنه اتصل بتلامذته في تلمسان وغيرها اتصالا وثيقا ألف كتابا في ترجمة المَقْري سماه:
"النور البدري، في التعريف بالفقيه المَقْري" (6)
4) أن أبا عبد الله محمد بن عبد الملك القيسي المعروف بالمنتوري الرحالة المحدث صاحب الفهرسة المفيدة المتوفي سنة 834هـ ذكر في فهرسته المخطوطة بالخزانة الملكية عدد 1578 كتاب الحقائق والرقائق لأبي عيد الله المَقْري ... وضبط كلمة المَقْري بسكون القاف ...!
والنسخة المذكورة من الفهرسة هي بقلم ناسخها علي بن قاسم بن علي البياضي الأنصاري، وقد كتبها بمدينة (بلش) حرسها الله في 26 جمادى الأولى عام 873 هـ كما في آخر الفهرسة.
بعد هؤلاء صرنا نسمع نغمة أخرى عند مؤلفين آخرين ... فالشيخ عبد الرحمن الثعالبي دفين الجزائر المتوفى سنة 875 هـ ... (7) والشيخ أبو العباس الونشريشي دفين فاس المتوفى سنة 914هـ... (8) ينقل عنهما الشيخ أحمد بابا السوداني المتوفى سنة 1036 هـ في كتابه "نيل الابتهاج" أنهما ضبطا كلمة المَقَّري بفتح الميم، وتشديد القاف المفتوحة...(9) وينقل عن الإمام زروق المتوفى سنة 899 هـ أنه ضبطها كما يضبطها ابن خلدون، وابن الأحمر وابن مرزوق، ويعني بفتح الميم وسكون القاف...! (10)
وظهرت بتلمسان من أسرة المقري شخصية علمية ثانية اشتهرت بين الناس، وهي شخصية سعيد ابن أحمد المَقَّري المتوفى سنة 1010 هـ فصرنا نجد
في ترجمته أمثال ما ننقله عن المؤرخ أبي العباس ابن القاضي في كتابه "درة الحجال" حيث يقول: (11)
"نسبة إلى مَقَّرة...! بفتح القاف المشددة ...! مدينة بين الزاب والقيروان .. كذا ضبط نسبهم الونشريشي كما تقدم ... إذ الونشريشي أعلم الناس بنسبهم ..!!
ونبغت الشخصية الثالثة من أسرة المَقَّري ... وهي شخصية أبي العباس المَقَّري صاحب كتاب نفح الطيب المتوفى بالقاهرة سنة 1041هـ فوجد الخلاف قد نضج في ألسنة العلماء وأقلامهم ...!
طائفة تقول وتكتب المَقْري.... وطائفة أخرى تقول وتكتب المَقَّري ...وعوض أن يرجع إلى الأصول القديمة .. وهو الحافظ المطلع الواعية المتبحر... ويعرف المستند الذي استند إليه المتأخرون في ضبط كلمة "المَقَّري" بتشديد القاف... بعد أن كان المتقدمون يسكنون القاف اعتمادا على نص ياقوت الحموي ... جارى الواقع الذي وجدوه ...! إن لم نقل أيده ودعمه ...!
وقال في كتابه نفح الطيب :
"هما لغتان...!!! " (12)
كما قال عن الكتاب الذي ألفه ابن مرزوق الحفيد في ترجمة جد المقري... وسماه: " النور البدري في التعريف بالفقيه المقري) ما نصه:
"وهذا بناء منه على مذهبه ...! أنه بفتح الميم وسكون القاف ...! كما صرح في شرح الألفية عند قوله:
"ووضعوا لبعض الأجناس علم" .(13)
ثم صارت المسألة عند الذين كتبوا في هذا الموضوع من أهل المشرق والمغرب - وما أكثرهم - مجرد نقل لهاتين ... "اللغتين(14) ..!! " بل وقع ما هو طريف في الموضوع... وذلك أننا صرنا نسمع من يحاول التفرقة في النسب، بين أبي عبد الله المَقْري قاضي فاس المتوفى سنة 759 هـ فيسميه هكذا المقْري بفتح الميم سكون القاف ...! وبين حفيده أبي العباس المَقَّري صاحب نفح الطيب المتوفى سنة 1041 هـ فيسميه المَقَّري بفتح الميم وتشديد القاف...! مع أن الأسرة كلها تنتسب إلى مدينة واحدة وهي مدينة مقْرة...
فكيف يكون الجد مقْريا ... والحفيد مقَّريا.
وكما رأينا الحفيد ابن مرزوق يؤلف في المقري الجد كتابه: "النور البدري في التعريف بالفقيه المقري". رأينا المؤرخ أبا عبد الله محمد الصغير اليفرني مؤلف كتابي الصفوة ... والنزهة... المتوفى بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري..(15) يؤلف كتابا في أبي العباس المقري صاحب نفح الطيب يسميه: "الوشي العبقري في ضبط الإمام المقري(16)"
هذا صلب الموضوع ... - فيما نعلم - وهناك هوامش وذيول ..! طويناها ليلا نعطي المسألة أكثر مما تستحق ...!
غير أنه ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أن "مقرة" كانت معروفة بالقاف المعقودة ...! ومازالت معروفة بهذا الاسم إلى الآن ...فيما بلغنا.
فإذا ثبت هذا، فإن النسبة إلى مقرة تكون قد بدأت هكذا: المقْري ... ثم تحولت إلى المقّري ...! ثم إلى القري ...
ولله في خلقه شؤون ....
_____________________
(1) كتاب صورة الأرض لأبن حوقل ص 67 .ط . بيروت
(2) معجم البلدان . ج .5 .ص 175 . ط .بيروت وعبد الله المقري في صلة الصلة لإبن الزبير ص : 5 . ط . الرباط 1937 .
(3) أنظر الجزء السابع من طبعة بيروت ص 324 .و ص 326 .
(4) أنظر ذلك ص : 450 .
(5) ص : 249 .ط . مصر سنة 1351 هـ
(6) البستان. ص : 164 . ط الجزائر سنة 1908م
(7) تعريف الخلف ، ج 1، ص : 63 . ط . الجزائر سنة 1907 .
(8) المصدر السابق ج 1 ص : 58 .
(9) أنظر ص : 249 من نيل الابتهاج .
(10) أنظر ص : 250 من نيل الابتهاج .
(11) أنظر 2 . ص : 473 . ط .الرباط 1936 م .
(12) أنظر ج 5، ص : 205 .ط . بيروت سنة 1968 .
(13) نفس المصدر السابق .
(14) أنظر سلافة العصر في آخر ترجمة المقري ص 591 .
(15) أنظر المقصد الأول خاتمة كتاب التقاط الدرر للقادري "مخطوط".
(16) فهرس الفهارس ج 2 . ص : 15 .


دعوة الحق، العدد 137.




الادب المغربي.jpg
 
أعلى