أحمد العلمي - أحمد بن المامون البلغيثي وأبو شعيب الدكالي. بعض نقط اختلاف في الاتجاه الفكري والمذهبي

ويقع هذا المبحث في الفصل الثالث من الباب الثاني من الدراسة لديوان البلغيثي "تبسم ثغور الإشعار بتنسم عبير الأفكار". ويشمل غرض ...جاء بعض علماء عصره. بتصرف.

أما عن العلامة البلغيثي فهو أحمد بن المامون البلغيثي (1982 هـ -1865 م – 1348 هـ - 1929 م ). العلامة الأديب الشاعر ابن نقيب الشرفاء العلويين بفاس. والبلغيثي نسبة إلى جده أبي الغيث. وقد نشأ في بيت أصيل في الشرف والمجد ونباهة الذكر، وكان في وقته ذا شهرة واسعة طبقت الآفاق داخل المغرب وخارجه.
فالبلغيثي من العلماء الذين يمثلون بغزارة علمهم وأدبهم وتنوع ثقافاتهم الحصن الحصين للثقافة الإسلامية والعربية الحقة في المغرب بعد أن أخذ جيل تلاميذهم، أو هم في طبقتهم في الانقراض. وقد أجمع كل الذين ترجوا له لأنه كان نسيج وحده وفريد عصره بالمغرب. يقول عنه المرحوم محمد بن العباس القباج:
"علم كبير من جهابذة العلم المشهورين في المغرب، وأحد المتضلعين في الفقه الإسلامي تضلعا فائقا، ولا يوجد اليوم في المغرب من طبقته من يدانيه في استحضار الخلاف، والنصوص التي ترتكز عليها قواعد الإسلام حتى صار الآن بعد انقراض طبقته في فاس مرجعا للفتوى، وموئلا لحل معضلات النوازل ومشكلات القضايا"([1]).
ولا يزال بعض العلماء ممن لا يزالون على قيد الحياة من جيل تلاميذه الذين أخذوا عنه، وأفادوا من معارفه داخل المغرب وخارجه شديدي الاعتزاز والفخر بعمله وأدبه يتخذون القدوة والمثال في سعة المعرفة وكثر الاطلاع ويأسفون لأفول نجم أمثاله.
وكان العلامة الأديب أحمد بن المامون البلغيثي على جلالة قدره، ورفعة مكانته بين علماء وأدباء عصره منضويا للطرقة التجانية، وخاصة في بداية حياته وقبل نزول أبي شعيب الدكالي بالرباط، وانتشار دعوته في الآفاق شأنه في ذلك شأن العديد من علماء وأدباء عصره.
ويظهر أنه كان من المعتدلين في طريقته، فلم يفرد الطريقة التجانية بتأليف خاص، ولم يكتب فهارس في ترجمة شيوخ وأتباع هذه الطريقة على نحو ما نجد عند الغلاة في الطريقة. كما عند العلامة أحمد اسكيرج مثلا. بل انه لم يطل الحديث عن هذه الطريقة في مؤلفاته وأشعاره.
إلا أننا نعثر في ديوانه على بعض الرسائل النثرية، وبعض القصائد الشعرية القليلة تثبت تجانيته التي كان يجهر بها. كقوله في رسالة بعث بها إلى عالمين من علماء سوس، وهما الطاهر التمنرتي الافراني، والعربي السمكني وهما من أتباع هذه الطريقة. يقول في ختام هذه الرسالة :"بعناية شيخنا، ووسيلتنا إلى ربنا القطب، القطي المكتوم، الذي به مقام الختم مختوم، ومن بالانحياش إليه في أقرب مدة يصل العبد الجاني، العرف الأكبر أبو العباس مولاي أحمد التجاني" ([2]). ويقول عن حال الزاوية التجانية في ختام هذه الرسالة :" ثم إذا تشوفتم للأخبار، وتشوقتم للأنباء، فالزاوية الزاهرة الأحمدية كل يوم في ازدهاء، والسر –والحمد لله- في ازدياد، والسرور في انقياد، والحب من –كما تعهد- يزيد في الصفاء"([3]).
ويقول عن تنفيذ طلب العالمين المذكورين بالدعاء لهما أمام ضريح الشيخ التجاني :"وأما الغرض الذي أخبرتم بعدم المسامحة فيه، والعدول إلى ما ينافيه، في تخصيصكم بالدعاء بالمحل الأنور، والموضع الأطهر، فهذا دين نرى قضاءه واجبا، فرضا وحقا لازبا"([4]). ويختم هذه الرسالة بتوقيعه قائلا: "أخوكم في الله، وفي الطريقة المحمدية الأحمدية أحمد بن المامون البلغيثي"([5]).
ويؤرخها بثاني شوال عام 1317 هـ. ونراه في شعره كلما اشتدت به الأهوال، أو عصف به مكروه، أو عزم على سفر بعيد، بادر إلى نظم شعره في التضرع بشيخه والتوسل بجاهه والالتجاء لرحب رحابه طالبا المدد:
أبا العباس جئتك ذا اضطرار = ومالي غير بابك من قرار
أتيتك أرتجي فتحا قريبا = ومن ذنبي المخوف أخا فرار([6])
ومن ذلك قوله: "ولمل حصل لي ضعف بالبصر، وأدمنت التشفع لله في كشفه بأشرف مضر، كان من جملة الابتهال أني طلبت من صاحبنا الأديب الحاج إدريس السناني النيابة عني في قصيدة أتعلق فيها بشيخنا القطب المكتوم، ذي السر المختوم، أبي العباس مولاي أحمد التجاني. فنظم وامتثل، فسارعت لتشطيرها من غير مهل"([7]). وهذه القصيدة أكثر إيغالا، ومبالغة في تقديس جانب الشيخ، والرفع من مكانته، والتضرع به.
- هجاؤه بسبب الخلاف في الاتجاه الفكري والمذهبي وما كنا نتعرض لهذا الجانب من الهجاء في شعره لولا وجود ظاهرتين بارزتين عنده، وهما: طريقته (التجانية) وهجاؤه –على قلته- للشيخ أبي شعيب الدكالي، وغيره، وللمصلح الجزائري الشيخ عبد الحميد ابن باديس. مع الإشارة له بديوانه تفصح عن عدائه للدعوة الوهابية، ولمن ساعد على نشرها بالمغرب. مثل هذه الإشارات جعلتنا نتمهل قليلا ونحن ندرس هذا اللون من الهجاء في شعره لتوضح ماله من مواقف في هذا الاتجاه، وذلك لأهمية الموضوع على ضوء المرحلة التي عاشها البلغيثي، وما كان لذلك من تأثير بالغ في مختلف النواحي الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والأدبية فيما بعد.

أما عن أبي شعيب الدكالي فهو المحدث الكبير، ورائد الدعوة السلفية في مطلع هذا القرن بالمغرب، وهو من رجال السنة المناضلين عنها، الخبير بأصولها وفروعها، وكل ما يتعلق بقضاياها، عز نظيره، وقلما جاد الزمان بمثله. فقد قضى مدة بمصر ومكة المكرمة، واطلع اطلاعا واسعا على مختلف الحركات الإصلاحية في المرحلة الأخيرة التي وصلت إليها حركة الإصلاح الذي بدأه الإمام ابن تميمة في نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن، كما تشبع بأفكاره أهم المصلحين مثل الشيخ جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده الذي يرجع إليه الفضل الكبير في يقظة الإصلاح العامة التي شملت كل البلاد الإسلامية، والتي حملها تلامذته بعده مثل الشيخ محمد رضا، والمجاهد الكبير الأمير شكيب أرسلان، وعبد الله السنوسي وغيرهم.
عاد أبو شعيب الدكالي إلى المغرب، وأخذ يدرس كتب السنة دراسة بحث وتحليل معتمدا على حرية التفكير، واستعمال العقل في فهم النصوص، كما اهتم بدراسة الكتاب العزيز بيانا وتحليلا، معتمدا في ذلك كله على حرية التفكير، واستعمال العقل في فهم النصوص، وتوجيه الأنظار إلى محاربة البدع وتصفية الإسلام من الشوائب التي لحقت به، ودعا إلى الرجوع لما كان عليه السلف الصالح، ومحاربة التقليد والجمود والضلالات، والطرقية العمياء. وثافن دروسه جموع العلماء والطلاب، وأم الناس حلقاته من مختلف الأنحاء والجهات. وسرعان ما ضاء نجمه متألقا، واشتهر أمره عند العامة والخاصة، وانقادت إليه الرئاسة العلمية في وقت كانت البلاد في مسيس الحاجة إلى أمثاله المصلحين. وهكذا ما نشب أن تكونت حوله جماعة من مناصريه في دعوته، وطائفة –وهم كثيرون- حملوا دعوته، ونشروا مبادئها في الآفاق، وعملوا في جد ومثابرة على محاربة الخرافات والشعوذة، وتطهير الأفكار من البدع الضالة، ومعارضة المتطرفين من أهل الزوايا، ودعوتهم للأخذ بما في الكتاب والسنة. "وكان ما كان من صراع بين الشباب المتفتح والشيوخ، سواء في المغرب والجزائر الشقيقة أثناء العشرينات الميلادية والأربعينات الهجرية"([8]).
وقد ظهرت نتائج هذه الدعوة السلفية في المقالات العديدة التي كان ينشرها الشباب في الصحف، وخاصة صحافة الجزائر التي تكونت فيها هي الأخرى خلال هذه الفترة جمعية سلفية أسسها مصلح الجزائر الكبير الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهي جمعية العلماء. فكان لها أكبر الفضل في إحياء الفكرة الوطنية. كما ظهرت على يد هؤلاء الشبان المغاربة بعض المؤلفات التي تهاجم الطرقيين، وتنعتهم بالضلال والجهل، وترميهم بالكفر والإلحاد، والخروج عن مقومات الإسلام الأساسية (الكتاب والسنة)، وبالتضليل والغواية عن طريق الدين المستقيم. فكتب المكي الناصري كتاب إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة([9]) يقول فيه:"أعلم أن ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ينقسم إلى قسمين: قسم تقتضيه أصول الدين، وتتناوله أدلة الشرع الكريم، وهذا من الدين قطعا. وقسم لا تقتضيه أصول الدين، لا تتناوله أدلة الشرع. وهذا هو المسمى بالبدعة والضلالة، وهو المردود على صاحبه"([10]).
ومن هذه البدع اتخاذ القبور حرمات ومعابد، وابتداع أحكام جديدة في الدين، وخلق أذكار وأوراد يتبرأ منها الإسلام، وكتابه الكريم، وسنته السمحة، والإعراض بذلك عن تلاوة القرآن، والتغالي في مدح الرسول الذي نهى عنه، والمبالغات السخيفة في الاستغاثة بالاشيوخ، والاستمداد منهم بصيغ لو سمعها مشركو قريش لنسبوا أصحابها إلى الكفر والزندقة، والمروق من الدين، وهي أكثر وطأة من تلبية مشركي قريش([11])، ويظهر أن هذه الحملة الإصلاحية على أهل الطرق كانت عنيفة حتى وصلت إلى حد الشتائم، لأن السلفيين اعتبروا أن كل ما حل بالبلاد من اصمحلال وفساد مرجعه إلى ضلال هذه الطرقية" إذا تحققت أن كل ما أصابنا من أنواع الانحطاط والجمود، والفشل والافتراق، والتنازع والتباغض، والتحاسد والشقاق إنما هو من نتائج بدع المتصوفة المبطلين"([12])، وقد كان كتاب إظهار الحقيقة أول ما ألف في الموضوع، وقامت حوله ردود ومعارضات([13]). وأهم هؤلاء المعرضين أتباع الطريقة التجانية. ومن ردودهم أن ظهر لهم كتاب نهاية الانكسار لمؤلف يدعى الشرقي الذي رمى صاحب الإظهار بالكفر، وحمل عليه حملة شنيعة كما ظهرت للتجانيين تحفة المنصفين وتذكرة المخالفين لمن اسمه الغربي في الرد كذلك على مؤلف إظهار الحقيقة، فتصدى محمد ين اليمني الناصري –وهو من تلامذة أبي شعيب الدكالي- ليرد على هؤلاء الطرقيين، ويناصر أخاه صاحب الإظهار، فألف كتابه "ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار" شدد فيه النكير على مزاعم الطرقيين، وسفه أحلامهم، ورماهم بالخروج عن سيرة السلف الصالح([14]). وكان هذا الكتاب أكثر عنفا في الحملة على الطرقيين من سابقة. وخاصه. وخاصة بتلك المقالة القيمة التي ختم بها لمحمد الجزولي، وعنوانها:" لا طرق في الإسلام" ذيلها بعشرين سؤال، ووجهها إلى شيخ الطريقة التجانية بالرباط آنذاك، يقول في فاتحتها عن مساوئ هذه الطرق:" الطرق هي ما دعي فيه إلى أعمال وأقوال زائدة غير صالحة في نفسها، ولا مصلحة لغيرها، مستمدة من عالم الأذواق والإلهام ! لم يدع غليها محمد صلى الله عليه وسلم،ولا أحد من أصحابه نصا"([15]).كما ألف السيد عبد الحميد الرندي كتابه" تحقيق الانكسار لمدعي الانتصار على صاحب الإظهار" ([16]).وهكذا اشتدت المعركة بين الفريقين، وصمم السلفيون الذين سموا أنفسهم بحزب الإصلاح بأن يصفوا كل الطرق والطرقيين، وأن يقضوا على آخر جموعهم ([17]).وكان بعض الملوك العلويين يناصرون مثل هذه الدعوات الإصلاحية بدءا بالمولى سليمان، الذي ناصر الدعوة الوهابية، وحارب الطرقية،وكتب في ذلك وخطب. كما كان السلطان عبد الحفيظ من رجال العلم ألف كتابا في الرد على التجانية نشره بفاس، وعمل على الحد من أضاليلهم([18])،وسار على نهجه خلفه المولى يوسف الذي أمد بساعدته وموافقته دعوة الإصلاح، وساعد في التشديد على الطرقية وأهل البدع ([19]).
والواقع أن أخطار هذه الطوائف صارت تهدد المجتمع المغربي فيب عقيدته ، ومستقبل بلاده خاصة بعد أن ثبت علميا تدخل بعض رؤساء الزوايا في شؤون البلاد، وممالئتهم للمستعمر. وكانت لهم أساليب ماكرة" فقد حصلوا على مراكز عظمى في القلوب، واستعمروا متسعات كبيرة كانت فارغة في النفوس لما لهم من القدرة على تملك المشاعر والسيطرة على الإحساس والجدان بأساليب الخداع التي ستعملونها، وطرق التدليس التي يسلكونها([20])، يقصد السيطرة على مشاعر الناس، وجذبهم بقوة لإدماجهم معهم. ومما زاد في هذه الفترة في سلك هؤلاء الطرقيين، وانجرافهم مع تياراتهم" إنهم بدل اشتغالهم بمحاربة تلك البدعة الشنيعة في دروسهم، وخطبهم، ومواعظهم حتى لا تعم تلك البلوى بها... صاروا يعللون جوازها بعموم البلوى بها، ونحوه من التعليلات الواهية الموقعة في الهاوية([21]).
والآن وقد عرفنا المحيط الديني الذي عاش فيه البلغيثي، أنواع الصراع الذي دار بين السلفيين والطرقيين، وأوضحنا طرقية الشاعر ونوع عقليته المحافظة([22]) يحث لنا أن نتساءل عن موقفه من حركة السلفيين وزعماء الإصلاح سواء القدامى منهم أو المحدثين داخل المغرب أو خارجه في أتون من التطاحن والصراع بين الطرفين.
إن موقف البلغيثي من رائد الإصلاح وحامل لواء السلفية بالمغرب أبي شعيب الدكالي موقف فيه شيء من الغموض. ذلك أن الشعر الذي بين أيدينا في هذا الموضوع قليل جدا، بالإضافة إلى أنه عمد في آخر حياته إلى محو بعض الأبيات في نوع هذا الهجاء من ديوانه،ومع ذلك، ورغم قلة هذا الشعر وما احتوى عليه من تعمية إخفاء لمن نظم في حقه فهو يدل الدارس على موقف معين للشاعر. يبدو أنه لم يتح البلغيتي أن تعرف على أبي شعيب أوجالسه قبل نزوله بالرباط وقدومه من المشرق، وقبل أن تنعقد صداقتهما، وتتوطد عرى المحبة بينهما فيما بعد. إلا ما كان يصله عنه في ذلك، وفي محاربته للطرقية وأهل البدع، فما كان من البلغيتي ، وبدافع المنافسة العلمية أيضا إلا أن هجاء بهذا الأسلوب الساخر على عادته، فرماة بالاختلاف والكذب في ما يقوله ويدعيه، ونعته بالدهاء في الكيفية التي يستولى بها على عقلية مخاطبيه_ وحواسهم:
فليهنإ الغرب بإقبال من = حفظه للعلم عجيب غريب
لأنه أول فجر أضا = في الغرب من شرق بنور مريب
أبا شعيب فقتنا بالدها = وما الدها من مثلكم بالعجيب ([23])
وطبيعي أن يغلي صدر الشاعر حنقا وحقدا عليه لأنه كان يخالفه في الاتجاه الفكري والمذهبي الذي يمس ما سعتقده في طريقته.وربما كان ذلك لمزاحه الشيخ مكانة البلغيثي العلمية عند الخاصة والعامة ولاسيما وهو ذو الوجاهة السامية عند السلطان يوسع له في نجالسه. لذلك نرى البلغيتي يلح في هجائه له على صفة الكذب، فيجمع لذلك جميع صيغ المبالغة، ولا يكتفي بذلك حتى يطلق لفظ التصغير ويريد به التكثير:
فكذاب ومكذاب كذوب = كذيب ثم قل كذب شعيب
ومكذاب وكيذور وزد من = مولد فكرتي أيضا كذيب([24])
وربما كان أعنف هجاء البلغيتي في أبي شعيب تلك القصيدة البائية والتي يدور هجاؤه من حيث الأفكار في هذه القصيدة حول المناصب السامية التي أصبح أبو شعيب يشغلها في الدولة كوزارة العدل مثلا، فيري البلغيثي أن أبا شعيب غير أهل لها، وأنه يعتمد في ما يدعيه في مجالسه العلمية على التمويه، والتزوير للحقائق كي يظهر أمام الناس بمظهر الفحولة في العلم، ويبهرهم بدروسه حيث يريهم العجب العجاب. وذلك كله من دهائه وأساليبه الماكرة:
أبا شعيب([25]) وقول الحق طبعي ما = نراك أهلا لما قد نلت من رتب
إن كنت موهت والتمويه شأنك في = جميع ما تحتذي فلست تلعب بي
أف لمرتبة أصبحت سائسها = تسعى بها لا نتقاض الشرع باللعب
أف لمن قد حباك اليوم منصبها = لما حبا مغرما بالمزح والكذب
حاشا أحاديث تتلوها على فرض = يسوء يوم اللقا من قول خير نبي
تزيد فيها بآراء وتنقص ما = تريد كيما تريهم غاية العجب([26])
ولا حظ أنه في هذا الهجاء لم يثر ما يشكل جوهر الخلاف بين السلفية والطرقية، وذاك من سياسة التقية والحيطة التي كان يتخذها البلغيتي، ويعمل بها في مثل هذه المواقف الحرجة حتى لا يثير غضب الشيخ وتلاميذته. ولذلك ظل هؤلاء جميعا يقدرونه، ويقرون بعلمه وفضله وجلهم من تلامذته.
هذا كل ما ضمه دبوانه في هجائه لأبي شعيب. أما في غير ذلك فلا نجده يذكر أبا شعيب إلا ويثنى على علمه، وسعه اطلاعه، وعميق حفظه. وقد انعقدت-كما قلنا- صداقة حميمة بين الرجلين، وعرف كل منهما فضل الآخر. ولا أدل على ذلك ما في الديوان من مباسطات أدبية، ومراسلات، وإخوانيات دلت على ما كان يجمع بينهما من محبة. حتى لنرى أبا شعيب يعجب بشعر البلغيثي، فيحمل إليه بعض الأبيات من مختار حفظه في الحكمة، وينشدها أمامه طالبا منه أن يخمسها له أو يشطرها([27]). والواقع أن البلغيثي كان لبقا في معاملاته، حسن التصرف مع كل الفئات، وكان يعرف كيف يعطي لكل ما يناسبه حتى يرضي الجميع. ولعل ذلك يتجلى في قوله:
والبس لكل زمان وفق لبسته = وعاشرن بوفاق واعن بالناس([28])
وفي معسكر التجانييم يقف البلغيثي أمام المفتقرة ليقدم لهم بشعره هذه النصيحة التي تشيد بمبادئ الطريقة، يوصيهم بالصمود عليها، ويحثهم على التمسك بأهداب الإيمان بما يعتقدون، وأن يعضوا على ذلك بالنواجذ، ويمجد الشيخ التجاني، ويرمي السلفيين، ومن يناصرهم بالقساوة، والمروق في الدين وتحويل كل ما هو جدي معقول إلى ضلال وبهتان:
بني طريقتنا إن تبتغوا سيرا =على مناهج أزكى الخلق خير نبي
وتقتفوها بإرشاد أتى لكم = من شيخنا الختم عالي العلم والنسب
فلتسمعوا المحض من هذي النصائح إذ = حوت من الرشد ما ينجي من العطب
عضوا عليها اهتماما بالنواجذ كي = ينجاب عنكم ظلام الجهل في الطلب
ولا تميلوا لأقوام جلامــد في = طريقنا قد أحالوا الجد للعب ([29])
ومن ثم كان خير الهدى عنده هدي الشيخ التجاني. وإذا كانت كل طائفة لا تهتدي إلا بأقطابها وشيوخنا، فلا مجال لأن نسمع نصيحة هؤلاء الأغبياء( يعني السلفيين).
ما لهدي والله عند كل طائفة *** إلا بأحبارها لا عند كـل غبي
كمثل ذا الحبر من أدى الأمانة من *** علومه فهدى لأوضح اللحب([30])
مرة أخرى وخارج وطنه المغرب أسفرت طريقته عن وجهها واضحة أثناء رحلته الجزائرية التونسية (1346هـ=1927م) وذلك حينما وصل إلى مدينة قسنطينة وتجاهله علماؤها المنضوون تحت لواء السيخ عبد الحميد بين بادريس فلم يلق منهم ما كان يأمله ولم يقدم عليه إلا محرر جريدة الفلاح وفي ذلك يقول:
حللت قسنطينــــة أبتغي = لقا العلماء وأهل الصلاح
فلم أحظ منهم بما أرتجيــه = ولكن كفاني لقاء( الفلاح)([31])
ولما تيقن البلغيثي أن ابن باديس هو الذي دبر له هذه الإهانه، وحرض عليه علماء تلك المدينة نظرا لطرقيته قال في هجائه:
قالوا وقد جهلوا معنى الحقود أبن = أبن لنا عنه جهرا دون تلبيس
فقلت: قوموا اذهبوا كي تعرفوه إلى = باب الأديب الشهير بابن باديس([32])
وكان ابن باديس من كبار علماء الإصلاح والتجديد الديني في الجزائر، تولي رئاسة جمعية العلماء المسلمين، وأصدر عدة جرائد ومجلات من ضمنها مجلة الشهاب التي صدر منها في حياته خمسة عشر مجلداً، وتعد سجلا حافلا لتاريخ الجزائر ونهضتها الحديثة فيما بين الحربين الأولى والثانية([33]).وكانت متشددة في حملاتها على الطرقيين. ولهذا نرى البلغيثي خلال مقامه بقسنطينة يدافع- على عير عادته عن طرقيته، ويدعم موقفه من تجانيته، ويستمر في هجائه لابن باديس وأتباعه، ومجلته الشهاب، ويرمي الكل بالبدعة والغواية، والجهل والجمود بأسلوب أكثر حدة وعنفا ينم عن غضبه وسخطه. يقول ضمن قصيدة طويلة:
ومل علومي أخو بدعة = ملال الحصور حديث النكاح
وليس يضيرني مـا فتى =* تطفي( شهابه) مني الرياح
رياح تدمر كل جهول= وكل جحود لنور الصباح
ولست أراعي امرءا قد غدا = لتنقيص أسلافنا ذا ارتياح
يرى أنهم اخطؤوا في اجتهاد = وأن الصواب بما له لاح
فسحقا ومحقا لمن دينــه = على غير دين الهداة الصراح
وبعدا لمن عابني بالذي= به قد نصرت طريق الفلاح
نصرت الأئمة أهل الهدى = وكل ولي حليف صلاح([34]).
وأما موقفه العدائي للدعوة الوهابية، والعاملين على نشرها فصريح. فقد حاول الرد عليها غير ما مرة. ذلك أنه لما وصل إلى بسكرة من صحراء قسنطينة خلال هذه الرحلة المذكورة ألقى في بعض المجالس العلمية التي عقدها هناك دروسا في التفسير، والحديث النبوي، وقال في التعليق على ذلك: "وكنت في الدرسين، وفي المحافل أرد شبه الطائفة الوهابيى بالبراهين الواضحة، حيث عمت البلوي في هذا الوقت بضلالهم شرقا وغربا. فالله حسيب من أدخل علينا هذا الداء للأقطار المغربية"
ومن هذه المحافل التي أشار إليها حيث يجادل فيها قضية الدعوة الوهابية، وما جاءت به من مبادئ. ما وقع له "مع معتمد ملك الحجاز بالشام سابقا، ووكيل أمير المدينة إذاك الشيخ ياسين الرواف من مذكرات علمية، وبالأخص في مسألة الوهابيين. فاز فيها المترجم له (البلغيثي) فوزا كبيرا زاد في معناه عند الدمشقيين".
ونحن لا نعلم تفاصيل ذلك، وما سجلناه في هذا الموضوع لا يعدو هذه الإشارات التي وردت في ديوان أشعاره، وفي بعض مؤلفاته.
تلك أهم الجوانب في شعره الهجائي في هذا الاتجاه الذي خص به الدفاع عن اتجاهه الفكري، ومعتقده محاولا الذود عنه بشعره يهجو من يحاول النيل منه، او يهين كرامته بسببه، وقد أفاد القارئ لهذا الموضوع عنده صور بعض الجوانب لطبيعة المرحلة المعقدة التي عاشها الشاعر، والتي حاول فيهل المصلحون غرس المثل العليا في النفوس وتشذيب ما علق بالأذهان من الخرافات والأوهام، وذلك بالعودة إلى منبع الإسلام ك الكتاب والسنة قصد الحفاظ على دعائم الشخصية الإسلامية الحقة.
وإذا كان ما صدر عن البلغيثي في هذا الجانب من تجانيته السمحة البيضاء يعتبر –إلى حد- نقطة ضعف في سيرة حياته الفكرية والمذهبية. فإننا نجد له مواقف أخرى مشرفة ظهر فيها أحمد بن المأمون البلغيثي بشعره ونثره على السواء مصلحا ذا غيرة عليا على قضايا الدين والوطن مناصرا للحق في أبهى صوره، داعيا للوحدة والتآخي داخل المغرب وخارجه مساهما بإنتاجه العلمي الأدبي في دفع حركة البعث متسلحا بضميره الحي وأيمانه القوي ولإقدامه المعهود.
وبذلك حافظت شخصيته على قوتها في عصر الضعف، ونالت تقدير كل العلماء والأدباء في كل الوطن العربي آنذاك، وحظيت بالاحترام والإعزاز والإقرار بالفضل، بما في ذلك رواد السلفية أنفسهم.

هوامــش

[1] -الأدب العربي في المغرب الأقصى، ج1، ص 15.
[2] -ديوانه ج1 ص 561.
[3] - نفسه ج1 ص 562-563.
[4] نفسه ج1، ص565.
[5] -نفس المصدر والصفحة المذكورين
[6] -نفسه ج1 ، ص 453.
[7] -نفسه ج1 ، ص 455.
[8] - عبد الله الجراري في كتابة المحدث الحافظ ابو شعيب الدكالي، ص15.
[9] -وهو كتيب صغير طبع سنة 1343ه =1925م على نفقة المرحوم محمد بن العباس القباج الذي كتب مقدمته يحيي فيها حركة النهضة الجديدة.
[10] -إظهار الحقيقة ص 7.
[11] - لمصدر السابق ص 21-22.
[12] -نفسه ص 41.
[13] - الأدب العربي في المغرب الأقصى، ج2، ص 77.
[14] -ضرب نطاق الحصار، ص 88.
[15] -نفسه ص 157.
[16] -انظر الصفحة الأخيرة من غلاف الكتاب المذكور
[17] - المصدر والصفحة المذكوران
[18] انظر كتاب حديث المغرب في المشرق لعلال الفاسي، ص10 وما بعدها.
[19] -ضرب نطاق الحصار، ص80.
[20] -إظهار الحقيقة ص 22.
[21] - ضرب نطاق الحصار ص 64.
[22] -انظر مبحث " ثقافته" من هذه الدراسة.
[23] - ديوانه ج1، ص 145.
[24] نفسه ج1، ص 142.
[25] -في ديوانه " أبا فلان" وفي مجموع من التقاليد الخطية بالخزانة الصبيحية بسلا دون رقم " أبا شعيب"
[26] - ديوانه ج1، ص138.
[27] -انظر مثلا على ذلك ديوانه ج2، ص 83 ب.
[28] - نفسه ج1، صث557.
[29] ديوانه ج1، ص177-178.
[30] -المصدر والصفحة المذكوران.
[31] -ديوانه ج1، ص176.
[32] -نفسه ج1، ص 585.
[33] -أعلام الجزائر لعادل نويهض ص 82.
[34] -ديوانه ج1، ص 276-277.
 
أعلى