دعوة الحق - مع مالك بن المرحل في إحدى موشحاته

تحررا من الوزن التقليدي بدأ التجديد في القافية فظهرت المخمسات في القصائد الدورية وهي أن يؤتى بخمسة أقسمة من وزن وقافية، ثم بخمسة أخرى من نفس الوزن مع اختلاف القافية وهكذا إلى نهاية القصيدة (1) ومثاله هذه المخمسة لابن جيان :
الله زاد محمدا تكريما = وحباه فضلا من لدنه عظيما
واختصه في المرسلين كريما = ذا رأفة بالمؤمنين رحيما
صلوا عليه وسلموا تسليما(2)
وطلبا للتنويع والانطلاق من القافية الواحدة، ظهر الشعر المسمط وأشهره المخمسات، والشرط في الشعر المسمط أن تتكرر قافية القسيمة الخامسة التي تسمى عمود القصيدة، أما الفرعية فللشاعر مطلق الحرية في اختيار عددها، ومن هذه المسمطة لتميم بن المعز :
دم العناق مطـــــــلول = ودين الحب ممطول
وسيف اللحظ مسلول = ومبدي الحب معزول
قبح يا أيها الكاتم(3)
فهل شروط المخمس في الشعر الدوري أو المسمط التي ذكرنا متوفرة في قصيدة الأديب مالك بن المرحل في المدح النبوي، أي أنها مخمسة كما جاء في النفح (4) وكما وردت عند الأستاذ عبد الله كنون(5)
اننا حين ننظر الى القصيدة على شكلها الذي وصلتنا عليه في المصدرين نجدها على الصفة الآتية:
ألف أجل الأنبياء نبــــــــيء = بضيائه شمس النهار تضيء
وبه يؤمل محسن ومسيء = فضلا من الله العظيم عظيما
صلوا عليه وسلموا تسليمـا
وبالمقارنة لا نحصل على مخمسة وفق الشروط السابقة في الدوري أو المسمط، فلا المخمسة موحدة القافية، ولا قافية القسيمة الخامسة منفردة ومختلفة عن الأقسمة الأربعة قبلها، وبذلك تفقد القصيدة شروط المخمسة في الشعر أو المسمط، إلا إذا كنا سنطلق هذه الصفة باعتبار عدد الأقسمة.
فما هو الشكل الأليق إذن لكتابة هذه القصيدة ؟ وضمن أي صنف من الشعر يمكن إدراجها ؟
الجواب عن السؤال الأول يأتي بكتابة الأقسمة الثلاثة الأولى من كل مخمسة متتابعة وختمها بالقسيمتين الأخيرتين ذات القافية الموحدة هكذا:
ألف أجل الأنبياء نبـــيء = بضيائه شمس النهار تضيء
وبه يؤمل محسن ومســـيء = فضلا من الله العظيم عظيما
صلوا عليه وسلموا تسليما = باء بدأ في أفق مكة كوكبــــا
ثم اعتلى فجلى سناه الغيهـــــا = حتـى أنار الدهر منه واخصبا
اذ كان فيض الخير منه عميمــــــا = صلوا عليه وسلموا تسليما.. الخ
أما الجواب عن السؤال الثاني، فيأتي بالنظر الى القصيدة من جديد حين لا يبقى أي شك في أنها موشح، كل بيت منه مكون من دور وقفل تختلف منه قوافي الأدوار وتتحدد قافية الأقفال، وبذلك لا نجد أي حرج في تطبيق قواعد الموشحة عليها حسبما استخلصه ابن سناء الملك في كتابه دار الطراز على اعتبار أنها موشح اقرع(6) .
فاذا تجاوزنا أوليات هذه الشروط الواجب توفرها في الموشح بمختلف أجزائه وانتقلنا الى الأوزان وجدناه يقسم الموشحات من ناحية وزنها الى قسمين: ما جاء على بحور الشعر، وما خالف أوزان العرب ولم يخضع لعروض الشعر التقليدي، فالقسم الأول يراه أشبه بالمخمسات ويعده مرذولا لا ينظمه في رأيه الا الضعاف من أصحاب صنعة التوشيح.
أما القسم الثاني فغرضه الغناء أكثر من الانشاد، وهو الكثير الشائع في الموشحات (7) ، فمن أي الأقسام تكون موشحة ابن المرحل هذه؟
حين نمعن النظر في هذا الموشح، نجده يسير على أوزان الشعر العربي ما في ذلك شك، متخذا من بحر الكامل اطارا له، أي أنه من القسم الأول حسب تقسيم ابن سناء الملك، فهل معنى ذلك أنه مجرد مخمسة أومن الصنف المرذول؟ وبالتالي هل كان ابن المرحل وشاحا ضعيفا؟.
أما كونها موشحة، فلا جدال في ذلك، اذ يرى مصطفى عوض الكريم أن الموشح في أبسط صورة يمكن أن نرمز لقوافيه بترتيب الحروف هكذا :
ا ا ا
ب ب
ح ح ح
ب ب
د د د
ب ب
(وهذه بالضبط صورة الموشح الذي بين أيدينا) وأمثلة كثيرة بين الموشحات (8) ، واحسان عباس بدوره يرى أن الثأثر بين الشعر والموشح كان متبادلا، وأن الموشح الشعري هو النقطة المتوسطة بين الموشحة الغنائية والقصيده(9).
أما عن فن التوشيح عند ابن المرحل، والى أي مدى وصل فيه، فجوابه نجده: أولا عن صاحب كتاب توشيح التوشيح (10) الذي يذكر ابن المرحل من وشاحي المغرب، حتى ولو لم يورد له موشحا واحدا.
ويتولاه ثانيا تلميذ ابن المرحل، القاضي ابن عبد الملك المراكشي حين يقول عنه: كان مكثرا من النظم مجيدا، واشتهر نظمه وذاع وكلفت به العامة والخاصة وصار رأسمال المستمعين والمغنين(11) .
وكان من الشهادتين تكمل الأخرى، فلا تدعا مجالا للشك في أن ابن المرحل كان وشاحا مشهورا على اعتبار أن الموشحات كانت من الكثرة والشهرة صارت معها رأسمال المستمعين والمغنين، وذلك كان غرض
القسم الثاني من الموشحات من ناحية الأوزان عند ابن سناء.
الى جانب ما سبق، لا نعدم من موشحات اعتمدت الأوزان الشعرية العربية لوشاحين مشهورين سلكوا فيها مسلك أديبنا الوشاح مالك بن المرحل ونهجوا سبيل نظمه كابن نباته في موشحه على البحر الوافر(12)
الي بكاسك الأشهى اليــــا = ولا تبخل بمسجدها عليــا
معتقة تدار على الندامـــــــى = كأن على ترائبها نظامــــــــا
من الراح التي محت الظلام = أضاءت وهي صاعدة الحميا
فقلت عصير عنقود الثريــــا
ولم يمنع صاحب فن التوشيح من ادراجها ضمن مختاراته (13) فاذا استحق الوشاح التلميذ وموشحه هذه العناية البالغة، فلا يجمل بنا نعت ابن المرحل بغير ما يناسب مكانة الأستاذ في هذا الباب.
كما نجد موشحات أخرى لوشاحين أندلسيين مشهورين أتت قوافيها حسب تلك الصورة التي وسمها الدكتور عوض الكريم سابقا بالبسيطة، من ذلك موشحه ابن الخطيب التي لم تغير طريقة كتابتها على صورة مخمس من نزع اسمها عنها وهي :
رب ليل ظفرت بالبدر = ونجوم السمـــــاء لم تدر
حفظ الله ليلنا ووعــــــى = أي شمل من الهوى جمعا
غفل الدهر والرقيب معا = ليت نهر النهار لم يجـــر
حكم الله لي على الفجــــر(14)
فحين نعيدها على شكل موشح تصبح هكذا:
رب ليل ظفرت بالبدر = ونجوم السماء لم تــــدر
حفظ الله ليلنا ورعــى = أي شمل من الهوى جمعا
غفل الدهر والرقيب معا = ليت نهر النهار لم يجر
حكم الله لي على الفجر
وهكذا الشأن مع موشحة ابن باجة المشهورة في ممدوحه ابن تافلويت :
جرر الذيل أيما جــــر وصل الشكر منك بالشكر
خضب الزند منك باللهب = من لجين قد حف بالذهب
تحت سلك كجوهر الحبب = مع أحوى وأعذب الشنب
أودعت كفه من السحر = جامد الما وذائب التبــر (15)
فكل من الموشحتين يحتفظ بقافية الأقفال الموحدة في القصيدة واختلاف في قوافي الأدوار.
ولعل أن يكون فيما قدمنا ما يزيل البخس الذي يعيشه أدباؤنا نتيجة الاهمال وأن يكون بمثابة لبنة من مجموع اللبنات التي تقدم للتعريف بالأدب المغربي والخروج به من كهوف النسيان ودهاليز التقادم.


(1) في الأدب الأندلسي: الدكتور جودت الركابي، ص: 292.
(2) نفح الطيب: المقري، ج 10، ص: 287.
(3) من التوشيح: الدكتور عوض الكريم،ص : 52.
(4)نفح الطيب: ج 10، ص : 305.
(5) ذكريات مشاهير رجال المغرب، كراس رقم 8.
(6) الموشح الأقرع أي الذي لا مطلع له.
(7) دار الطراز ص 33 نقلا عن ( فن التوشيح) و (في الأدب الأندلسي)
(8) فن التوشيح : الدكتور عوض الكريم ص 57.
(9) تاريخ الأدب الأندلسي عصر الطوائف و المرابطين ص ? 246.
(10) توشيح التوشيح لصلاح الدين الصفدي.
(11)مطبوعات كلية الآداب بالرباط سنة 1964.
(12)جمال الدين محمد بن نباته الجذامي ولد بالقاهرة 686/768 كان من الشعراء المشهورين و أديبا عالما .
(13) فن التوشيح، ص : 234 ( المختارات)
(14) فن التوشيح ص 213.
(15) فن الأدب الأندلسي : ص 319.

دعوة الحق - العددان 147 و148
 
أعلى