عبدالرحمن بودرع - في المُصطَلَح المشترك

تقديم :
نتحدَّثُ في هذا المقالِ عن مَعْنى المُصطَلَح المُشترَك، ونشيرُ في هذا السياقِ، إلى قضيّة منهجيّة ما برحَت الدّراساتُ العربيّةُ الحديثَة في النّقد والأسلوبيّات والسيميائياتِ والتداولياتِ والتأويليّات، تقَع فيها، ذلكَ أنّك كلّما اطّلعْتَ على كثيرٍ ممّا يُكتَبُ اليومَ عن التّراث الاصطلاحيّ والتّراث البلاغيّ واللغويّ والتّراث الكلاميّ، فإنّك تجدُ الأحكامَ المُرسَلَةَ والمُصادراتِ العامّةَ لِما صُنّفَ في الفُنون والعلومِ من مصادرَ قَديمَةٍ، وإنّما مبعثُ تلكَ الأحكامِ العَجْلى رَغبة كثيرٍ من الباحثينَ المُعاصرينَ في التّخلُّصِ السّريعِ من أعباءِ الحديثِ المفصّل والتّحليل المدقّق لمناهج النّظر والتناوُل التي نهَجَها القُدماءُ في مصنّفاتهم، فيعمد هؤلاءِ إلى القَفزِ على كيانٍ ضخمٍ من قيم الزّمان والمَكان والمَعرفَة، للانتقالِ إلى الحديثِ عن الإشكالاتِ المعرفيّة المعاصرة، ولا أفهمُ من تلكَ المُصادَرَة وذلك القَفزِ المنهجيّ، إلاّ نيّةَ الاجتثاثِ، والادّعاءِ الضّمنيّ بأنّ القَضايا التي يبحثونَ فيها، لا تبدأ في الزّمان إلاّ اليومَ ولا في المَكانِ إلا حيثُ يَقفونَ، وأنّ الاجتهادَ المُعاصرَ استقرَّ على ضرورَة مُجاوَزَة البحث فيما كان الأوّلون فيه يَبحثونَ، أو مجاوزةِ الطّرُق والمناهجِ التي كانوا بها يبحَثونَ، وأنّه آن الأوان للانتقالِ إلى القَضايا والمَفاهيم التي أثارَها المفكّرون والفلاسفَةُ المُعاصرون، واصحابُ النظرياتِ والمناهج الحديثَة، انتقالاً كلّيّاً لا رجعةَ فيه، وأنّه ينبغي توحيد مَقاييس انتقاء القَضايا المَبحوثِ فيها وزوايا النّظَر المَبحوث منها والأدوات المنهجيّة المَبْحوثِ بها.
والحقيقةُ أنّه ينبغي التّوقُّفُ الطّويلُ قبلَ ثَقافَة القَفز والمُصادَرَة، وذلكَ من أجل دراسةِ مَقولاتِ التّراثِ وقضاياه وإشكالاتِه في سياقِها الذي كُتِبَت فيه أوّلاً، ثمّ في سياقٍ جديدٍ وهو قابليّة التّمديد: تَمديد القِيَم التي فيه إلى ما بعدَه، وقابليّةُ الإمدادِ: أي استمْداد ما فيه من كلّيّاتٍ، بسببِها يظلُّ العَمَلُ حياً مستمراً، حاملاً في ثناياه أسبابِ بَقائه. وهذا إنصافٌ لهذا الجسم المعرفيّ الضّخم الذي يستقرّ في الزّمان البّشري والامتداد المَكانيّ استقراراً قوياً خالصاً سائغاً غيرَ مَحْجوبٍ عن النّاظرينَ، لا يُنكرُ ذلكَ إلاّ مَنْ غالَطَ في الحَقائقِ نفسَه وأنكَرَ حسَّه. ومَثَلُ هؤلاءِ كَمَثَلِ مَن ردَّ عليْهم عبدُ القاهر الجُرجانيُّ في الدّلائل، ممّن زَهدوا في النّحو وذمّوا الاشتغالَ به، وطَعنوا على الشعرِ والشّعراءِ وعلى البلاغةِ والبُلَغاءِ؛ وسلسلةُ الإعراضِ عَمّا كُتبَ من نصوصٍ وما تَراكَم من مَعارفَ عبر التّاريخ، متَّصِلةُ الحَلقاتِ.
وإنّما وُطّئَ للحَديثِ عن المُصطَلَح بهذه التوطئة ليُعلَمَ أنّه لا ضيرَ في تداخُلِ المَعاني واجتماعِها في حيّزٍ اصطلاحيّ واحدٍ،وأنّ للعلماءِ والمفكّرينَ الحقَّ في استعمالِ المُصطَلَحِ الواحدِ ذي المَعاني المُختلفَة، إذا وَجَدوه مُناسباً لمَفاهيمهم مُناسبةً تامّةً، سواء أكانَ من قبلُ مُستعمَلاً أم لم يَكنْ، ويظلُّ السّياقُ مائزاً، فتداوُلُ الحُقولِ المُختلفةِ للمُصطلَح الواحدِ لَن ينتهي إلى إرباكِ الفكرِ أو إلى الخَلط؛ ما دامَ المُصطلَح مقيَّداً بقَرينةِ السّياقِ الذي يُستعمَلُ فيه.
في المُصطَلَح المُشترك:
1- التضمين
لا تختصُّ المفردات اللّغويّة وحدَها بظاهرة الاشتراكِ في الدَّلالة، ولكنّك تجدُ ذلكَ في المُصطلَحات أيضاً، وهذا ما يُمكنُ تسميتُه بالمُصطَلَح المُشتَرَك، وسأضربُ أمثلةً يسيرةً على المصطلَح المُشترك بين النقد والشعر والنحو والدّلالة الأصوليّة
الأنموذجُ الأوّلُ عن المُصطلَح المُشتركِ هو التّضمين، ولكلّ حقلٍ من حُقول المَعرفَةِ مَعْنىً ينصرفُ إليه لَفظُ التّضمين ويدلُّ عليه.
فالتضمينُ في النّحو خُروجٌ عن الأصل كتَضْمين الفعل معنى فعلٍ آخَر أو تَضمينِه مَعْنى حَرف [من الأدوات الدّالّة]، كَما في قوله تعالى: «ونَصَرْناهُ مِنَ القَوْمِ الذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا» [الأنبياء:77]، عَلى التَّضْمين، أي مَنَعْناه منهُم بالنّصر.
ولذلك عُدي ألَوْتُ إلى مفعولين -وهو في الأصلِ قاصرٌ أي لازمٌ- وذلك في قولهم لا آلوك نُصْحاً ولا آلوكَ جهداً لمّا ضُمِّنَ معنى لا أمنعك. ومن ذلكَ قولُه تعالى: «وما تَفعلوا مِنْ خَيرٍ فلَن تُكْفروهُ» [بالتاء في رواية ورش]، أي فلَن تُحْرَموه ولَن تُحْرَموا ثَوابَه، ولهذا عُدِّي إلى مَفْعولَيْن لا إلى مَفْعولٍ واحدٍ.
والفعلُ سَفه، لازمٌ فإذا تعدَّى فبتَضْمينِه مَعْنى أهلَكَ: «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفهَ نفْسَه» [البقرَة:130] : وقَد يجوزُ في النفس أن تكونَ منصوبةً لا على تضمين فعلٍ آخَرَ ولكنْ على التَّمييز المَنقولِ عن الفاعِل؛ وأصلُه: سَفِهَتْ نَفْسُه، أي خَفَّت وطاشَت فنُقلَ الإسنادُ من النّفسِ إلى صاحِبِها، على المَجاز العقليّ لوجودِ مُلابسَة بقصدِ المُبالَغَةِ في استغراقِ السّفاهةِ النّفْسَ كلَّها، ثمّ انتَصبَ الفاعلُ على التّمييز تَبييناً للإبهامِ في الإسنادِ المَجازيّ.
أمّا التّضمين بمَعْناه النّقدي، وخاصّةً في المتعلّقِ ببناءِ الشّعرِ فيدلُّ على صفةٍ مذمومةٍ في الشّعر، فالتّضمينُ فيه أن يَكونَ البَيتُ الواحدُ مُعلّقاً بالبَيتِ الثّاني لا يَتمُّ مَعناه إلاّ به. وإنما يُحمدُ البَيتُ إذا كانَ قائماً بنفسه [ذكَرَه النّقّاد ويُنظر ابن عبد ربّه في العِقْد الفَريد، باب من أخبار الشّعراء]
أمّا التّضمين بمَعْناه العامّ، مثلاً في الكتابَة والتّصنيفِ، فقَد يُفيدُ مَعنى التّطعيم والتّزويد… كَما ذكَرَ الجاحظُ في مقدّمة الحَيوان في معرِضِ حديثِه عن تأليف كتابِه: «وليسَ من الأبْوابِ بابٌ إلاّ وَقد يَدخُلُه نُتَفٌ من أبوابٍ أُخَرَ على قدْرِ ما يتَعلّق بها من الأسباب، ويَعرِضُ فيه من التّضمين…»، والتّضمين ههنا يحملُ دلالةً نصّيّة نقديّةً.
علاقَةُ طَرَفي التّضمين: المُضاف والمُضاف إليه:
أورَدَ المبرِّدُ في الكامل شعراً لعبيدِ بنِ أيّوبٍ العَنبريّ، أنشدَه ثعلبٌ:
فإني وتركي الإنسَ من بعد حبِّهم … وصَبْري عَمّن كُنتُ ما إنْ أزايِلُهْ
لَكَالصّقر جلى بعد ما صاد قنية … قديراً ومشوياً عبيطاً خَرادِلُه
أهابوا به فازداد بُعداً وصَدًّه … عن القُرب منهم ضوءُ برقٍ ووابلُهْ
ووقَفَ عند قول الشّاعر: «ضَوءُ بَرقٍ ووابِلُه»، وقال: أمّا التّضمينُ قَوله: “ضوءُ برق ووابلُه”، أرادَ صَدَّه عنهُم ضوءُ برقٍ ووابلُه، فأضاف الوابلَ من المَطر إلى البَرق. وإنّما الإضافةُ إلى الشَّيء عَلى جِهة التّضْمين، ولا يُضافُ الشّيءُ إلى الشّيء إلاّ وهو غيرُه أو بعضُه، فالذي هو غيرُه: غُلام زيدٍ ودار عمرو، والذي هو بعضُه: ثَوبُ خزٍّ، وخاتَمُ حَديدٍ، وإنمّا أضافَ الوابلَ إلى البَرق، وليس هو له، كما قُلت: دارُ زيدٍ، على جهة المُجاورة، وأنّهُما راجعان إلى السّحابة، وقد يُضاف ما كانَ كذا عَلى السّعةِ، كما قال الشاعر:
حَتّى أنخْتُ قَلوصي في دِياركُم … بخيرِ مَن يَحتَذي نَعْلاً وحافيها
فأضافَ الحافيَ إلى النَّعلِ، والتَّقديرُ: حافٍ منها.
والتّضمينُ في المَعْنى أيضاً أن تقتبسَ نصّاً وتُضمّنَه نصّاً آخَر، وقَد عرَّفَ النّويريّ حُسنَ التّضمينِ، في نهايَة الأرَب [باب الكتابَة وأصْناف الكُتّاب] فقال: «حُسنُ التّضمين، فَهو أن يُضمِّنَ المُتكلّمُ كلامَه كلمةً من آيةٍ أو حَديثٍ أو مَثَلٍ سائرٍ أو بَيتِ شعرٍ»، وجَعَلَه من عُلوم المَعاني.
وبابُ التَّضمين أوسعُ من أن يُحاطَ به.

تقديم :

نتحدَّثُ في هذا المقالِ عن مَعْنى المُصطَلَح المُشترَك، ونشيرُ في هذا السياقِ، إلى قضيّة منهجيّة ما برحَت الدّراساتُ العربيّةُ الحديثَة في النّقد والأسلوبيّات والسيميائياتِ والتداولياتِ والتأويليّات، تقَع فيها، ذلكَ أنّك كلّما اطّلعْتَ على كثيرٍ ممّا يُكتَبُ اليومَ عن التّراث الاصطلاحيّ والتّراث البلاغيّ واللغويّ والتّراث الكلاميّ، فإنّك تجدُ الأحكامَ المُرسَلَةَ والمُصادراتِ العامّةَ لِما صُنّفَ في الفُنون والعلومِ من مصادرَ قَديمَةٍ، وإنّما مبعثُ تلكَ الأحكامِ العَجْلى رَغبة كثيرٍ من الباحثينَ المُعاصرينَ في التّخلُّصِ السّريعِ من أعباءِ الحديثِ المفصّل والتّحليل المدقّق لمناهج النّظر والتناوُل التي نهَجَها القُدماءُ في مصنّفاتهم، فيعمد هؤلاءِ إلى القَفزِ على كيانٍ ضخمٍ من قيم الزّمان والمَكان والمَعرفَة، للانتقالِ إلى الحديثِ عن الإشكالاتِ المعرفيّة المعاصرة، ولا أفهمُ من تلكَ المُصادَرَة وذلك القَفزِ المنهجيّ، إلاّ نيّةَ الاجتثاثِ، والادّعاءِ الضّمنيّ بأنّ القَضايا التي يبحثونَ فيها، لا تبدأ في الزّمان إلاّ اليومَ ولا في المَكانِ إلا حيثُ يَقفونَ، وأنّ الاجتهادَ المُعاصرَ استقرَّ على ضرورَة مُجاوَزَة البحث فيما كان الأوّلون فيه يَبحثونَ، أو مجاوزةِ الطّرُق والمناهجِ التي كانوا بها يبحَثونَ، وأنّه آن الأوان للانتقالِ إلى القَضايا والمَفاهيم التي أثارَها المفكّرون والفلاسفَةُ المُعاصرون، وأصحابُ النظرياتِ والمناهج الحديثَة، انتقالاً كلّيّاً لارجعةَ فيه، وأنّه ينبغي توحيد مَقاييس انتقاء القَضايا المَبحوثِ فيها وزوايا النّظَر المَبحوث منها والأدوات المنهجيّة المَبْحوثِ بها.

والحقيقةُ أنّه ينبغي التّوقُّفُ الطّويلُ قبلَ ثَقافَة القَفز والمُصادَرَة، وذلكَ من أجل دراسةِ مَقولاتِ التّراثِ وقضاياه وإشكالاتِه في سياقِها الذي كُتِبَت فيه أوّلاً، ثمّ في سياقٍ جديدٍ وهو قابليّة التّمديد: تَمديد القِيَم التي فيه إلى ما بعدَه، وقابليّةُ الإمدادِ: أي استمْداد ما فيه من كلّيّاتٍ، بسببِها يظلُّ العَمَلُ حياً مستمراً، حاملاً في ثناياه أسبابِ بَقائه. وهذا إنصافٌ لهذا الجسم المعرفيّ الضّخم الذي يستقرّ في الزّمان البّشري والامتداد المَكانيّ استقراراً قوياً خالصاً سائغاً غيرَ مَحْجوبٍ عن النّاظرينَ، لا يُنكرُ ذلكَ إلاّ مَنْ غالَطَ في الحَقائقِ نفسَه وأنكَرَ حسَّه.

ومَثَلُ هؤلاءِ كَمَثَلِ مَن ردَّ عليْهم عبدُ القاهر الجُرجانيُّ في الدّلائل، ممّن زَهدوا في النّحو وذمّوا الاشتغالَ به، وطَعنوا على الشعرِ والشّعراءِ وعلى البلاغةِ والبُلَغاءِ؛ وسلسلةُ الإعراضِ عَمّا كُتبَ من نصوصٍ وما تَراكَم من مَعارفَ عبر التّاريخ، متَّصِلةُ الحَلقاتِ.وإنّما وُطّئَ للحَديثِ عن المُصطَلَح بهذه التوطئة ليُعلَمَ أنّه لا ضيرَ في تداخُلِ المَعاني واجتماعِها في حيّزٍ اصطلاحيّ واحدٍ،وأنّ للعلماءِ والمفكّرينَ الحقَّ في استعمالِ المُصطَلَحِ الواحدِ ذي المَعاني المُختلفَة، إذا وَجَدوه مُناسباً لمَفاهيمهم مُناسبةً تامّةً، سواء أكانَ من قبلُ مُستعمَلاً أم لم يَكنْ، ويظلُّ السّياقُ مائزاً، فتداوُلُ الحُقولِ المُختلفةِ للمُصطلَح الواحدِ لَن ينتهي إلى إرباكِ الفكرِ أو إلى الخَلط؛ ما دامَ المُصطلَح مقيَّداً بقَرينةِ السّياقِ الذي يُستعمَلُ فيه.


في المُصطَلَح المُشترك:

1- التضمين

لا تختصُّ المفردات اللّغويّة وحدَها بظاهرة الاشتراكِ في الدَّلالة، ولكنّك تجدُ ذلكَ في المُصطلَحات أيضاً، وهذا ما يُمكنُ تسميتُه بالمُصطَلَح المُشتَرَك، وسأضربُ أمثلةً يسيرةً على المصطلَح المُشترك بين النقد والشعر والنحو والدّلالة الأصوليّةالأنموذجُ الأوّلُ عن المُصطلَح المُشتركِ هو التّضمين، ولكلّ حقلٍ من حُقول المَعرفَةِ مَعْنىً ينصرفُ إليه لَفظُ التّضمين ويدلُّ عليه.فالتضمينُ في النّحو خُروجٌ عن الأصل كتَضْمين الفعل معنى فعلٍ آخَر أو تَضمينِه مَعْنى حَرف [من الأدوات الدّالّة]، كَما في قوله تعالى: «ونَصَرْناهُ مِنَ القَوْمِ الذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا» [الأنبياء:77]، عَلى التَّضْمين، أي مَنَعْناه منهُم بالنصر.

ولذلك عُدي ألَوْتُ إلى مفعولين -وهو في الأصلِ قاصرٌ أي لازمٌ- وذلك في قولهم لا آلوك نُصْحاً ولا آلوكَ جهداً لمّا ضُمِّنَ معنى لا أمنعك. ومن ذلكَ قولُه تعالى: «وما تَفعلوا مِنْ خَيرٍ فلَن تُكْفروهُ» [بالتاء في رواية ورش]، أي فلَن تُحْرَموه ولَن تُحْرَموا ثَوابَه، ولهذا عُدِّي إلى مَفْعولَيْن لا إلى مَفْعولٍ واحدٍ.

والفعلُ سَفه، لازمٌ فإذا تعدَّى فبتَضْمينِه مَعْنى أهلَكَ: «وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفهَ نفْسَه» [البقرَة:130] : وقَد يجوزُ في النفس أن تكونَ منصوبةً لا على تضمين فعلٍ آخَرَ ولكنْ على التَّمييز المَنقولِ عن الفاعِل؛ وأصلُه: سَفِهَتْ نَفْسُه، أي خَفَّت وطاشَت فنُقلَ الإسنادُ من النّفسِ إلى صاحِبِها، على المَجاز العقليّ لوجودِ مُلابسَة بقصدِ المُبالَغَةِ في استغراقِ السّفاهةِ النّفْسَ كلَّها، ثمّ انتَصبَ الفاعلُ على التّمييز تَبييناً للإبهامِ في الإسنادِ المَجازيّ.أمّا التّضمين بمَعْناه النّقدي، وخاصّةً في المتعلّقِ ببناءِ الشّعرِ فيدلُّ على صفةٍ مذمومةٍ في الشّعر، فالتّضمينُ فيه أن يَكونَ البَيتُ الواحدُ مُعلّقاً بالبَيتِ الثّاني لا يَتمُّ مَعناه إلا به.

وإنما يُحمدُ البَيتُ إذا كانَ قائماً بنفسه [ذكَرَه النّقّاد ويُنظر ابن عبد ربّه في العِقْد الفَريد، باب من أخبار الشّعراء]أمّا التّضمين بمَعْناه العامّ، مثلاً في الكتابَة والتّصنيفِ، فقَد يُفيدُ مَعنى التّطعيم والتّزويد… كَما ذكَرَ الجاحظُ في مقدّمة الحَيوان في معرِضِ حديثِه عن تأليف كتابِه: «وليسَ من الأبْوابِ بابٌ إلاّ وَقد يَدخُلُه نُتَفٌ من أبوابٍ أُخَرَ على قدْرِ ما يتَعلّق بها من الأسباب، ويَعرِضُ فيه من التّضمين…»، والتّضمين ههنا يحملُ دلالةً نصّيّة نقديّةً.

علاقَةُ طَرَفي التّضمين:

المضاف والمُضاف إليه: أورَدَ المبرِّدُ في الكامل شعراً لعبيدِ بنِ أيّوبٍ العَنبريّ، أنشدَه ثعلبٌ:

فإني وتركي الإنسَ من بعد حبِّهم … وصَبْري عَمّن كُنتُ ما إنْ أزايِلُهْ

لكالصَّقْر جلى بعد ما صاد قنية … قديراً ومشوياً عبيطاً خَرادِلُه

أهابوا به فازداد بُعداً وصَدًّه … عن القُرب منهم ضوءُ برقٍ ووابلُه

ووقَفَ عند قول الشّاعر: «ضَوءُ بَرقٍ ووابِلُه»، وقال: أمّا التّضمينُ قَوله: “ضوءُ برق ووابلُه”، أرادَ صَدَّه عنهُم ضوءُ برقٍ ووابلُه، فأضاف الوابلَ من المَطر إلى البَرق.

وإنّما الإضافةُ إلى الشَّيء عَلى جِهة التّضْمين، ولا يُضافُ الشّيءُ إلى الشّيء إلاّ وهو غيرُه أو بعضُه، فالذي هو غيرُه: غُلام زيدٍ ودار عمرو، والذي هو بعضُه: ثَوبُ خزٍّ، وخاتَمُ حَديدٍ، وإنمّا أضافَ الوابلَ إلى البَرق، وليس هو له، كما قُلت: دارُ زيدٍ، على جهة المُجاورة، وأنّهُما راجعان إلى السّحابة، وقد يُضاف ما كانَ كذا عَلى السّعةِ، كما قال الشاعر:

حَتّى أنخْتُ قَلوصي في دِياركُم … بخيرِ مَن يَحتَذي نَعْلاً وحافيها

فأضافَ الحافيَ إلى النَّعلِ، والتَّقديرُ: حافٍ منها.والتّضمينُ في المَعْنى أيضاً أن تقتبسَ نصّاً وتُضمّنَه نصّاً آخَر، وقَد عرَّفَ النّويريّ حُسنَ التّضمينِ، في نهايَة الأرَب [باب الكتابَة وأصْناف الكُتّاب] فقال: «حُسنُ التّضمين، فَهو أن يُضمِّنَ المُتكلّمُ كلامَه كلمةً من آيةٍ أو حَديثٍ أو مَثَلٍ سائرٍ أو بَيتِ شعرٍ»، وجَعَلَه من عُلوم المَعاني.

وبابُ التَّضمين أوسعُ من أن يُحاطَ به.

حلقَة 2

في المُصطلَح المُشترَك: الالتفات

المَعْنى اللّغوي للالتفات: الالتفاتُ الانصراف إلى الشيء وعَقْد العنايَة له، وقد يكونُ الالتفاتُ مُستحسَناً، كحُسن الالتفات إلى مَن يستحقُّ أن يُعْتَنى به ويُلتفَتَ إليه ويُشفَقَ عليه، وقد يكونُ غيرَ ذلكَ، كالخفّة غيرِ المحمودَة في المَرء وما يصاحبُ ذلكَ من كثرة الكلام وسرعة الجواب، وكثرة الالتفات والخلوّ من العلم، والعَجَلَة والخفّة والسَّفه والظُّلم والغَفْلَة [المستطرف في كل فن مُستظرَف للأبشيهي]

وذَكَر الجاحظُ أنّ من تمام آلة العاِلم أن يكونَ شديدَ الهَيْبة، رَزِين المَجْلس، وَقُوراً صَمُوتاً، بطيء الالتفات، قليلَ الإشارات، ساكنَ الحَرَكات، لا يَصخَب ولا يغْضب، ولا يُبهَرُ في كلامه...؛ فإنّ هذه كلّها من آفات العِيّ. [العقد الفَريد، باب تَحامُل الجاهل على العالِم]

وفي الاصطلاح عرَّفه ابن المعتزّ فقال: الالتفاتُ انصرافُ المتكلِّم عن الإخبار إلى المخاطَبَة [انظر: نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري]

وللنحويّينَ تعريفٌ للالتفات يتَّصلُ بالتّركيب، ويُسمّونَه الاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام، أو بين كَلامين مُتَّصلَيْن مَعنى، بجملة أو أكثر لا محلَّ لها من الإعراب، نحو قول الشّاعر:

تذكرت -والذكرى تهيجك زينبا /// وأصبح باقي وَصلِها قد تَقضَّبا

وحلَّ بفلج فالأباتر أهلُنا /// وشطت فحلت غمرة فمُثقَّبا

فالْتفَتَ الشاعرُ في البيتين.

ولكنّ البلاغيّين يفرّقونَ بين الالتفات والاعتراض، فالالتفاتُ كما عرَّفه أبو هلال العسكريّ في الصّناعَتَيْن، أن يَفرغَ المُتكلمُ من المعنى، فإذا ظننتَ أنّه يُريدُ أن يُجاوزَه يعودُ إليه ويلتفتُ إليه فيَذكُرُه بغيرِ ما تقَدَّم ذكرُه به. أخبرنا أبو وقد حدَّث الأصمعيّ عن التِفاتاتِ جَرير، منها قولُه:

أَتَنسى إِذ تُودِّعُنا سُلَيمى /// بِفَرْعِ بَشامَةٍ، سُقِيَ البَشامُ

قالَ الأصمعيُّ:

ألا تَراه مُقبلاً عَلى شعره. ثم الْتفَتَ إلى البَشام فدَعا له. وقوله:

طربَ الحَمامُ بذي الأركِ فشاقَني /// لا زلتَ في عَلَلٍ وأيكٍ ناضرِ

فالتَفَتَ إلى الحَمام فدَعا له.

ومنه قول الآخر:

لقد قتلتُ بني بكر بربِّهم /// حتى بَكَيْتُ وما يبْكي لهُمْ أحَد

فقوله: وما يَبكي لهم أحد، التفات، وقولُ حَسّان:

إنّ التي ناوَلتني فَردَدْتُها /// قُتِلَتْ، قُتِلْتَ فَهاتها لم تقتلِ

فقوله: قُتِلْتَ، التفاتٌ.

ونوعٌ آخَر من الالتفات: يكونُ فيه الشاعرُ آخِذاً في مَعنى وكأنه يَعترِضُه شَكّ أو ظنٌّ أنَّ رادّاً يَردُّ قَولَه، أو سائلاً يسأله عن سببه، فيعود راجعاً إلى ما قَدَّمَه، فإما أن يؤكّدَه، أو يذكُرَ سَببَه، أو يُزيلَ الشّكَّ عنه، ومثالُه قولُ المُعطّل الهُذَليّ:

تَبينُ صُلاةُ الحَربِ مِنّا وَمِنهُمُ /// إِذا ما الْتقَينا، والمُسالِمُ بادِنُ

فقوله: "والمسالم بادن" رُجوعٌ من المعنى الذي قدّمه، حتى بيّنَ أنّ عَلامةَ صُلاةِ الحَربِ مِن غيرهِم أنّ المُسالمَ بادنٌ، والمُحاربَ ضامرٌ.

***

وقريبٌ من الالتفاتِ عند البَلاغيّينَ فنٌّ آخَر هو الاعتراضُ؛ وليسَ الاعتراضُ عندهُم كالاعتراضِ عندَ النّحويّين،فقَد تقدَّم أنّ الاعتراضَ عندَ النّحاةُ يكونُ بالجملةِ تَقَعَ بين متلازمَيْن وهي منقطعةٌ عمّا قبلَها إعراباً مُتّصلةٌ مَعْنىً، وأمّا الاعتراضُ عند البلاغيّينَ فغيرُ ذلِكَ وهو قريبٌ ممّا سَمّاه قُدامَةُ بنُ جعفر في العُمْدَة في مَحاسن الشّعرِ وآدابه، بالاستدراك؛ وهذا وجه من وُجوه المُصطَلَح المُشتَرَك:

فالاعتراض عندَ البلاغيّينَ، هو اعتراضُ كلامٍ في كَلامٍ لم يَتمَّ، ثم يَرجعُ إليه فيُتمُّه، َكقول النّابغة الجَعْديّ:

ألا زَعَمَت بنو سَعدٍ بأني /// -ألا كَذَبوا- كبيرُ السّنِّ فانِّي

وقول كثير:

لو أنّ الباخلينَ -وأنتِ منهُم- /// رَأوكِ تَعَلّمُوا منكِ المطالا

وقولِ الآخَر:

فظَلَّتْ بيوم -دَعْ أخاك بمِثْلِه- /// على مشرعٍ يُروَى ولما يُصَرَّدِ

ففي قولِه: دَعْ أخاكَ بمِثْلِه، نوعٌ من أنواع الالتفات، اعترضَ به ولم يُتمَّ كلامَه السّابقَ.

وقول الآخر:

إن الثَّمانين – وبُلِّغْتَها - /// قد أحْوَجَتْ سَمْعي إلى تُرْجُمانِ

وقول البحتري:

ولقد عَلمتُ -وللشَّباب جَهالةٌ- /// أن الصِّبا بَعدَ الشَّباب تَصابي

فتبيَّنَ أنّ الالتفات، كالتّضمين والاعتراض، من المُصطلحاتِ المُشتركَة التي تدلُّ على أكثر من مَعْنى، وأنّه يتعيّنُ على المطَّلِع على المصطلَح، أن ينظرَ في الفنّ المُستعمَلِ فيه، قبل اعتماده وفهمِه وتأويلِه.

د. عبدالرحمن بودرع
 
أعلى